أدب الرعب والعام

كل الأيام على ذات الطريق

في يوم ما، كان بينهما ود لا ينقطع، كلمات وأشعار دون حبر. في تاريخهما تخمة أحاسيس جميلة، وفي ذاكرتهما يومان لا ينسيان، يوم التقيا أول مرة، ويوم رحلا آخر مرة. كان رجل كلمة، وكانت هي فتاة غير عادية. أحب هو الأشعار ولم تر هي فيها غير الظاهر والحروف، فإذا غاص هو داخلها، لم تره هي محقاً في ذلك، بل متظاهراً، وظلت تظن هذا حتى يوم فراقهما الأخير.

كان الحب بينهما نادراً، ليس من النوع المليء بالمشاعر القوية الجرافة، بل من النوع الذي تمحو أفعاله كلماته، فقسوة منه عليها بكلمة، وغصة نفس منها على تلك الكلمة، تذهبان بعناق أو بسمة أو وردة، وليس بكلمة مثل ما أتتا. 

كان يوم فراقهما حزيناً مشمساً، وصفعته هي بلسانها، فأحس بحرقة وحرارة داخله تفوق حرارة شمس يونيو المهيبة فوق رأسهما، أما هي فباردة كالثلج وهي ترص الكلمات رصاً كما الإنسان الآلي، وقد ظل يظن أنه لا بد من تدربها على ما قالته ذلك اليوم، فقد احتار في أمرها، فمرات ومرات ومرات أعاد السؤال داخله: كيف لها أن تخبره بكل بساطة أنها ستسافر إلى إنجلترا لبعثة طبية! كيف لها أن تخبره ذاك بكل سكون وهدوء العالم! وكأن الذي يحدث ليس عبثاً! ليس حقيقة! أهي مجنونة! أم هو المجنون!

يخفيها القدر عنه لسنوات، وتظل هي ظاهرة في قلبه لذات السنوات، فلا يحب ولا يتزوج ولا يلمس ولا يرى غيرها في أفكاره، كذا كان، بائس مثير للشفقة في نظره ونظر من يعلم بما يخفيه. 

 راسلته ذات يوم من رقم قديم يحفظه على هاتفه حتى بعد عشر سنوات من الغيبة! رسالة باردة تحمل نبرة رحيلها بالضبط “سأعود في يناير المقبل. لنتقابل في الثالث.. السابعة مساءً.. في المكان إياه” 

كاد يجن، أن تعود؟ هو الذي أوهم نفسه بنسيانها؟ لماذا تعود؟ هل هي التي تعود؟ هل الرقم مخطئ؟

وصار يسأل ويتصل بكل من يعرفها حتى عرف لماذا تعود.. ولما عرف، ولما عاد لبيته بعد أن عرف، وبعد أن اختلى بنفسه، نظر للمرآة، ورغم كل شيء، دمعت عيناه، وبكى. 

في يناير، في الثالث منه، في السابعة مساءً، في مكانهما المحبب، تقول له بعد لقيا باردة منها ومنه، وتحايا ساكنة سكون المياه الآسنة:

_ هبني صرت لك، هل…

يقاطعها بغضب وكأن الروح هبت فيه من جديد:

_ كنتِ لي! 

تهز رأسها:

_ كنت، لكن ما الذي صار؟ ذكّرني، كيف اختلفت سبلنا؟

كان أمامهما نهر، ويقفان على جسر. يقول وهو يطالع انعكاسه على صفحة النهر:

_ بعد كل ذلك الوقت، أراهن أنكِ لا تعرفينه، ذلك الذي سأل: كيف السبيل إلى وصالك؟

_ أعرفه، الإمام سعيد. 

ينظر لها بدهشة لم يتمكن من إخفائها:

_ كنتِ تكرهين الكلمة! كيف تعرفين! 

_ وأنت كنت تعشقها. 

_ ما الذي صار؟

_ تبدل الحال، أحببتها، الكلمة….. 

ثم تتنهد وتنظر لأفق برتقالي جميل، فتكمل:

_ الكلمة جميلة.. الكلمة رائعة. مشاعر العالم كله في حروف. 

_ واحترقتُ حتى أجعلكِ تحبينها، تلك الكلمة. 

تهز رأسها موافقة:

_ نعم فعلت، لا زلت أذكر كتب الأشعار التي أهديتني إياها كي أقرأ ولم أفعل… حينها على الأقل. 

_ لم تتحدثي بكذب، لم أنجح في سحبكِ معي إلى العالم الساحر، الآن وقد صار الذي بيننا فراقاً، فكيف ذهبتِ إلى طريق رفضتِ المسير معي عليه! 

تتجنب النظر إليه:

_ الذي حدث. 

_ وما هو؟

تتنهد بضيق:

_ المرء يتغير. 

_ وأنا لم أفعل! 

_ ستفعل يوماً. 

_ أقصد.. الآن وقد صار طريقنا واحداً، أنتشاركه سوياً؟

_ أتحسبني قضيتُ ثلث عُمر خارج البلاد حتى أعود بذات الأحلام؟ ذات الرؤى؟ ذات الانفعالات؟ أعود ذات الشخص؟

_ أتغير حبكِ لي؟

تصمت ولا ترد. يعاود سؤالاً جديداً:

_ هل أحببتِ آخر؟

تنظر له غاضبة:

_ كف عن التظاهر بأنك لا تدري! أنت تعلم لماذا عدت من بلاد الفرنجة. 

يكتم دموعاً ويمحو أفكاراً ويبني سداً صلباً أمام مشاعره:

_ لا أعلم، أخبريني. 

تخرج لفافة تبغ من جيبها وتهم بإشعالها. تسحب منها وبطريقة الهواة الذين ليس لهم باع في التدخين، تهف الأبيض الذي يذوب أمام منظر النهر في الأفق. تقول بعد أن فعلت:

_ هذا طريف. 

لا يتعجب من تدخينها، ويسأل:

_ لماذا؟

_ ذلك انتقام مني، أنت، أقرب شخص لي، الرفيق الوحيد، الأول والأخير، تخادعني، تريد اللعب على أوتار مشاعري، تريد أن تجعلني أتذكر السبب، تريد أن تجعلني أتذكر مصيبتي، أأنا محقة؟

ينظر لها بصمت غير مجيب، وتكمل هي:

_ أذلك انتقامك مني لأني تركت لك عالمك؟

ثم تدمع عيناها، وببطء، تنهال الدموع وتكمل هي بنشيج تقاومه:

_ لأني قوية وذلك لن يؤثر بي.. أبداً. 

ثم تنهال في بكاء بصوت مكتوم، أما هو، فيترك دموعه تفيض، ويعيد لأفكاره الحياة، ويهدم سد مشاعره، فيحتضنها:

_ سأعيد السؤال، أنتشارك الطريق سوياً؟

تبعده عنها فتنظر له بكل عجب الدنيا:

_ حتى بعد هذا؟ حتى الآن؟

_ الآن.. ليس بعد ساعات، ليس غداً.. الآن. 

…. 

في مايو من ذات العام، وأمام قبر مفتوح، وبجسد على كتفه وكتف رجل آخر، دمعت عيناه لمرة أخيرة. دخلا القبر فأشار الرجل لاتجاه وقال:

_ الله أكبر. 

وجها الجثة لذلك الاتجاه على جانبها الأيمن، وقاما عنها وهما في قمة تناقض المشاعر والمظهر، فواحد لأول مرة يدخل قبراً، وجهه أحمر مثل ثمرة طماطم فاسدة، وآخر  تلك وظيفته، ورأى من الجثث المئات، لا يهتم بمقدار أقل ما يمكن بالذي يحدث. واحد فقد زوجته الطبيبة التي عادت منذ أشهر قليلة فقط لتموت على أرض الوطن، وآخر يريد لليوم أن ينتهي سريعاً حتى يعود وينام ويستيقظ ليعيد حلقة يومه. 

يقول رجل المقابر:

_ نقرأ الفاتحة؟

فيرفع الآخر يده المرتجفة ويفعل مثل الذي سمع، وكذا يفعل التُربي، وما إن فعل، حتى كاد يخرج، لولا أن كلمات مزامله استوقفته:

_ شُخصَت بمرض لعين.. أخبروها أنها ستموت بعد أسابيع قليلة. 

ينظر له التُربي بعين لوم وعتاب:

_ امسح دموعك، أنت رجل! 

_ عادت حتى تعيش آخر أيامها في الوطن. تخيل تزوجنا في الثالث من يناير الماضي ليس إلا! 

_ امسحها، لا تمشي كل الأيام على ذات الطريق. 

 ينفعل فيرد:

_اليوم الأخير لي معها، والله لا أمسحها! 

يتنهد التُربي:

_ تزوج غيرها، الولّادات كثيرات. 

_ ولادات! 

_ هن كذلك، ولا شيء غير ذلك. 

_ هن كل شيء جميل في الحياة! 

_ وكل شيء قبيح أيضاً. 

يعلو صوته على التربي:

_ أتعي ما تقول أنت! 

_ لا تصرخ في القبر! 

_ لكن… 

يقاطعه التُربي:

_ امسح دموعك. 

ثم يهم بالخروج، وفي طريقه وعلى باب القبر، يسمع الزوج يهتف:

_ ألا تدعو لها بالرحمة؟ ألا تدعو لي بالخلاص؟ أن أموت فأقابلها؟

يهتف التربي بصوت عالٍ لأول مرة منذ سنوات بعد أن أغاظه الزوج:

_ الأولى نعم! أما لك فسأدعو ألا تمشي كل الأيام على ذات الطريق! 

تمت. 

البراء

مصر - للتواصل: [email protected] \\ مدونة الكاتب https://baraashafee.blogspot.com/
guest
15 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

مرحباً .. يبدوا أنّك تستخدم حاجب إعلانات ، نرجوا من حضرتك إيقاف تفعيله و إعادة تحديث الصفحة لمتابعة تصفّح الموقع ، لأن الإعلانات هي المدخل المادي الوحيد الضئيل لنا ، وهو ما يساعد على استمرارنا . شكراً لتفهمك