أدب الرعب والعام

لعنة بهية

لدي إجازة، وبسبب قلة المال فكرت في التجول في ربوع بلادي، فأخذت أفكر وأفكر، وأنا أداعب شعرات ذقني وأنظر إلى الفراغ، إلى أين أرحل؟!

تجوَّل السؤال في رأسي فجأة خَرَجَتِ الإجابة: “خيبر”.
تذكرت أن أحد أصدقائي يعمل مدرسًا هنالك. توكلت على الله، صعدت سيارتي وأدرت المحرك، دقائق وإذ بي على طريق المدينة السريع. وبعد أن قطعت 170 كيلومترًا تقريبًا وتجاوزت مستورة بعشرة كيلومترات، وإذا بي ألمح شبح شابٍ على جانب الطريق وسط الظلام يشير إليَّ.

توقفت لثوانٍ، وإذ بي وجهًا لوجه أمام شابٍّ مخيف، في العشرين من عمره، فتح الباب دون كلمة سلام وصعد السيارة. وبمجرد جلوسه بجواري، قال:

_أتعلم أنني كنت واقفًا على جانب الطريق منذ ثلاث ساعات، تكسرت يدي وأنا أشير! ولكن لم يتوقف أحد؟ أو حتى يسأل؟ ماذا حصل للناس في هذا الزمان؟!

طاف بنظره وكأنه يبحث عن شيء، وقال:

_ أعرِّفك بنفسي، أنا عمّار النحال، فأنا من قوم يجنون العسل ويرعون ذبابه.

نظرت إليه بريبة، وقلت بعد تردد:

_أهلًا وسهلًا، وتحركت.

ابتسم وقال:

_ أهلًا وسهلًا! أعتقد أنها جملة ترحيبية تستخدم عند مدخل المحلات.

في تلك اللحظة، حقيقةً، فكرت بإيقاف السيارة وطرده، لكن أعتقد أنه شعر بغضبي، فبادرني قائلًا:

_أعذرني فأنا كنت مسجونًا في قريتي منذ ولادتي حتى أصبح عمري عشرين عامًا، وها أنا أخرج إلى العالم، أتحب أن أخبرك بقصتي؟!

فابتسمت ابتسامة مصطنعة، وقلت:

_تفضل.

فقال:

إذن، سأبدأ حكايتي، ولكن قبل البدء..

فقاطعته قائلًا:

_ لا مؤاخذة؟ إلى أين أنت ذاهب؟

صاح فيَّ وقال:

_ من البداية قاطعتني؟ على كل حال أنا ذاهب حيث أنت ذاهب، المهم إذا وصلت محطتك سأترجل من مركبتك ولن ترى وجهي، تمام؟

وعودة إلى قصتي أو الفصل الأول لها، ستلاحظ الترديد المبالغ فيه لاسم هلال ابن عمي.

إن اسمه يستحق ذلك، فابن عمي هذا هو صديقي الوحيد، الذي كان السبب بعد الله في إنقاذي من حالة الوحشة ورحلة الضياع في صغري بسبب “ما قاله رجل أعمى، من كلام استوحاه من رجل آخر أصم أبكم”.
فبرغم أن سكان القرية ينظرون إلى ابن عمي أنه مخبول، إلا إنهم لا ينكرون أنه مميز.

إنني معجب به، فقد أوجد لنفسه طريقًا آخر، ومهنة مختلفة تُدِرُّ عليه المال الوفير. نعم، أعلم أنه مصاب في عقله، لديه اضطراب في شخصيته، لكن كنت مقتنعًا أن هذا الاضطراب نتاج التناقضات التي يراها (هو) فقط.
فكثيرًا ما كان يثرثر أمامي، بكلام غريب، مزيج بين الفلسفة والجنون، وسأسمعك شيئًا من كلامه..

” في قريتنا الناس يتعاملون بلطف مع بعضهم، إنهم ملائكة تمشي على الأرض. فلم أذكر أنني مشيت في قريتنا ليلًا أو نهارًا ورأيت معركة تدور رحاها، حيثما تلتفت لا تجد سوى أناسٍ ودودين يبتسمون، هذا الأمر لا يبدو لي مألوفًا،

ليس من السهل على شخص مثلي تصديق ذلك، إذ كيف يمكن للمرء في هذه الحياة أن يعيش بلا صراع، إن قومنا أناسٌ يعيشون خلف أقنعة، إنك لا ترى وجوههم.
إن كثيرًا من أنماط عيش سكان قريتنا قائم على أساس بناه الأجداد، إن التطور تجوَّلَ في شوارع وأزقة الكرة الأرضية كافة وتوقف عند حدود وادينا، لعلمه أنه لن يستطيع التغيير، أو حتى لديه القدرة أن يحدث فيه شرخًا”.

هل فهمت شيئًا من كلامه؟ إنه يرى أشياء لا نراها نحن!
مثال على ذلك: إن قومنا أناس ودودينَ يبتسمون، وإنهم يتعاملون بلطف مع بعضهم، إنهم ملائكة تمشي على الأرض.

هذا كلام مردود عليه، ففي كل يوم يشهد أهل القرية منازعات تبدأ بشتائم، وتتوسط برفع الأيادي إلى عنان السماء، وتنتهي بإراقة الدماء.

“وإن التطور تجوَّل في شوارع وأزقة الكرة الأرضية وتوقف عند حدود قريتنا، لعلمه أنه لن يستطيع التغيير أو حتى لديه القدرة أن يحدث فيه شرخًا”

كلامه هذا هراء.

ها أنا أحد سكان القرية، وكما ترى أحمل في يدي هاتفي المحمول، وأرتدي أرقى الماركات العالمية من رأسي حتى أخمص قدمي. فالجزمة التي أنتعلها وسروال الجينز الذي أرتديه، إضافة للتيشيرت الذي ألبسه، أوه كدت أنسى، ونظارة بورش ديزاين التي تحجب عيني العسليتين وتحميهما من لهيب الشمس، جميعها من إنتاج أشهر وأرقى الماركات العالمية، رغم أنني لم أغادر القرية منذ ولادتي.

قد تستغرب وتسأل متعجبًا.. هل يوجد مولات في قريتنا؟! بالطبع لا. لا يوجد في قريتنا سوى وادٍ طويل متعرج يشق الجبال، تحيط به أشجار السمر والسرح، إنه المكان أو المول الذي نتسكع فيه نحن الشباب، ونسميه (سمر آند سرح مول).

أعلم أن ابن عمي يشعر بالظلم، فأهل القرية لم يتركوه وشأنه، خاصة بعد أن قضى ستة أعوام في الغرب وعاد من دون شهادة، وزاد الوضعَ سوءًا إحضارهُ كلبًا صغير الحجم، كثير الحركة، حاد الصوت “صاحب أصل وفصل، من سلالة كلاب شيواوا”، كما يقول ليغيظ منتقديه.

وهنا لا يمكنني ظلم أهل قريتنا، خاصة أن أسلوب ابن عمي كان متمردًا على أسلوب معيشتهم الذي ألفوه من أجدادهم، فآباؤه الأولون لم يتخذوا كلبًا للزينة، ولم يعملوا في تربية الطيور.

على كل حال، ابن عمي لم يكتف يومًا عن محاولاته لإغوائي؛ كي أكون في صفه. رغم الفارق الكبير في العمر بيني وبينه، فهو ينظر إليّ على أنني صديقه الوحيد منذ صغري، لا أعلم لماذا؟!

أهو بسبب تعاطفه معي؛ لعدم سماح أهل القرية بخروجي خارج حدود القرية؟ أم أنه فيّ شيء مميز يراه بعينيه التي ترى ما لا يراه أهل القرية؟

نعم، إنني لا أقول هذا الكلام من باب الحشو، بل إن ابن عمي المسكين صعد جبلًا عاليًا حتى أصبح يرى ما لا نرى، ويسمع ما لا نسمع، وبسبب ذلك هو يشعر أنه غريب عن أهله وقومه؛ مما سبب له الخوف والقلق، لقد اكتشفت ذلك في أكثر من مناسبة.

قد تتساءل عن سبب هذه المقدمة الطويلة؟! معك الحق في ذلك، ولكن إذا عُرف السبب بطل العجب. فالسبب أن ابن عمي هذا طلب مني أن أكتب رواية، عدد صفحاتها لا تقل عن 160 صفحة عمّا حصل لي شخصيًّا من أحداث عجيبة وغريبة لا يصدقها العاقل، خاصة في هذا الزمان.

حاولت الاعتذار منه، أخبرته أنني لم أقرأ في حياتي غير رواية واحدة وليس لدي تحصيل علمي غير شهادة الثانوية بتقدير مقبول. لكن ابن عمي؛ الذي أُجلُّه كثيرًا وأحبه بجنون، لم يكترث لما أقول.

قلت له بغضب محاولًا إقناعه..

_ أتريد أن أتكلم بهذه الطريقة؟

“كان يرتدي سترة رثة فوق جسد نحيل وينتعل حذاءً باليًا”
“كانت لحيته كثيفة غير مهذبة، كان لونها ذهبيًّا بسبب صبغة الحناء”
“كانت هنالك شمعتان يتراقص ضوءهما في ركن الغرفة المزدحمة”
“ما زلت أذكر ثوبها الأبيض، يحليه وشاح أزرق مطرز بزهور حمراء”
“ألقت الشمس بأشعتها الذهبية على كروم العنب لتبدو وكأنها عناقيد من الزمرد”
“كان ضوء المصباح ينعكس على زجاج النافذة المبتلة من جراء المطر”

وبمجرد أن انتهيت، ابتسم ابتسامة عريضة، وقال:

_ها أنت تجيد كلام الروائيين.

فصرخت في وجهه:

_ من أين لي بكلام كهذا؟! إن بيئتي التي أعيش فيها خالية، ليس فيها شمعدان ولا كروم عنب، ونادرًا ما تزورها الأمطار، وأشعة شمسها حارقة، ومن العيب التطرق إلى أمور النساء.

من أين لي بكلام كهذا؟!! وبيئتي لونها واحد، وشجرها يختفي خلف الكثبان، وتريد أن أكتب 160 صفحة؟

انفجر ابن عمي ضاحكًا، ونظر إليّ، وقال:

_ 160 صفحة هي الحد الأدنى، تذكر ذلك.

وتابع حديثه:

_ بإمكانك فعل ذلك بالتحليق بعيدًا عن بيئتك هذه، ما أريده منك الابتعاد عن هنا، اصنع عالمك بالخيال. اسمعني.. لقد قضيتَ عشرين عامًا سجينًا في هذه القرية، إنها تجربة طويلة، إنها عمر بحاله، لو خرجت من كل يوم قضيته من تجربتك المرة بجملة واحدة سيصبح عندك كتاب بثلاثمائة وخمسة وأربعين صفحة.

أكتب، افعل ذلك من أجل نفسك كي تخرج بسلام من ماضيك إلى مستقبلك، ليس المهم أن يقرأ الناس ما كتبت، لقد قال امرؤ القيس الشعر قبل 1600 عام وهو الملك، لم يكن في حاجة أن يسمعه أحد أو يمدحه الناس، فعل ذلك لأن الله خلقه وابتلاه كي يغرد ويسمع من حوله.

غرّد، اشدُ، سيسمعك أحدٌ ما في يوم ما.

وهنا سأتوقف لنأخذ استراحة.. وأخذ ينشد بعضًا من شعر كثير عزة ويتمايل:

لا يعرف الحزن إلا كل من عشقا
وليس من قال إني عاشق صدقا
للعاشقين نحول يُعرفون به
من طول ما حالفوا الأحزان والأرقا

أخذت أنظر إليه بحذر، لكنني في قرارة نفسي كنت أتمنى أن يتابع قصته، وحصل ما كنت أتمنى.

فجأة توقف عن الغناء وقال:

_تتذكر أنني وصلت إلى أن ابن عمي قال لي ناصحًا:
اكتب قصتك، افعل ذلك من أجل نفسك كي تخرج بسلام من ماضيك إلى مستقبلك.

أقنعني ابن عمي بأسلوبه، فعلى الرغم من أن كلامه مبهم غريب، مزيجٌ بين الفلسفة والجنون، إلا أنني كنت أشعر بالاسترخاء، أسبح بين أمواج صوته وأغرق في تأمل كلماته.

أعتقد أن السبب هو أن ابن عمي – خلافًا لمن عرفت من البشر – عندما يتكلم معي لا ينظر إليّ لذا ينتابني شعور بأنني غير مُرَاقب، فأنا أرِدُ إلى حوضه متى أردت، وأنصرف عنه متى ما شئت.

المهم أنني عزمت أن أكتب رواية فقط من أجله، فأصبحت كل يوم أصعد جبلًا يشرف على قريتنا، أكتب من ست إلى عشر صفحات وأمزقها وأعود لمنزلي، بقيت على هذه الحال عشرة أيام، لم أستطع تجاوز إحدى عشرة صفحة، لقد أكملت قصتي في هذه الصفحات، وأتلفت ملزمتين، يعني مزقت مائة وثمانين صفحة.
فأخذت أفكر متعجبًا كيف استطاع هؤلاء الروائيون كتابة رواية من قصة لو حكاها الإنسان لن تتجاوز صفحة أو صفحتين!!

على كل حال خطرت على بالي فكرة، وهو أن أنتظر حتى أخرج من القرية، أخرج من عالمي إلى عالم آخر، وأبني روايتي خطوة بخطوة، طوبة طوبة، لقد رسمت مخططًا لفعل ذلك، وهو أن أبدأ روايتها بلساني قبل قلمي، لا تسألني لماذا؟!

فأنا نفسي لا أعلم، ولكن يُخيّل لي أنها هي الطريقة المثالية، قد يكون السبب هو أنني اكتشفت خلال محاولتي كتابة قصتي أنها معقدة، متشابكة، أنها تُسقى من روافد متعددة، وإن لم أعُد إلى تلك الروافد وأبحث عن منابعها الرئيسية لن تكتمل قصتي، والأهم من ذلك لن تكون لها روحٌ كما يقول ابن عمي.

لذا سأعرض لك تاريخ قريتنا..

ففي حقيقة الأمر لم تكن هذه القرية التي نسكنها الآن هي أرض الأجداد القدماء، بل أجدادنا القدماء لا نعلم عنهم شيئًا. هل كانوا يسكنون في الشمال أم الجنوب أم الشرق أو الغرب؟ لا نعلم، وكل ما وصل إلينا أن جدنا الذي سكن هذه القرية جاء وهو لم يتجاوز الأعوام الثلاثة من عمره مع رجل غريب قبل ثلاثمائة وستين عامًا إلى هنا.

كان يصطحب هذا الرجل معه إضافة إلى جدي زوجته وطفلة لم تتجاوز السنتين، لم تكن هذه الطفلة ابنته، فالرجل كان عقيمًا، كانت ابنة زوجته من رجل آخر. وجُلُّ ما عرفه جدي عندما بلغ الخامسة عشرة من عمره من ذلك الرجل، أن جماعة أحضروا مجموعة من الأطفال، كان هو أحدهم، إلى سوق إحدى القرى وقالوا إنهم وجدوهم يبكون في الصحراء. ومن المحتمل أن أهلهم أُبيدوا في غزو إحدى القبائل.

على كل حال قام هذا الرجل بتبني جدي، وسماه بـ(بدران) وعندما بلغ سن السادسة عشرة زوجوه ابنة زوجته، أقصد جدتنا “سالمة”.

والغريب في الأمر أننا لا نعرف لهذا الرجل أو زوجته نسبًا أو اسم قبيلة، كل ما وصل إلينا أنه كان يمتهن جَنْيَ العسل، ومن هنا نلاحظ أن الرافد الذي جاء منه جدي وجدتي منقطع مجهول المنبع.

ورث جدي من ذلك الرجل مهنة جني العسل، وبمساعدة جدتي أصبح لديهما نشاطات أخرى وهي الرعي والاحتطاب.

وكان لهذا الرجل – أقصد “جدي” – ثلاثة أبناء وسبع بنات، فورث أبناؤه النشاطات الثلاثة أو المهن الثلاث لوالديهم لتصبح حرفًا لهم. بينما تفرق بناته وأصبحنَ زوجات، منهن من سكنت قريبًا، ومنهن من تزوجت رجالًا ألفوا التنقل في الصحراء.

لذا بعد موت الأب أصبح لكل فرد من أولاده تخصص في نوع من العمل، ومع مرور الزمن أصبح للأولاد أولاد، ومع مرور الأيام خرجت العوائل الثلاث. وظلت كل عائلة متمسكة بمهنة أبيها، فالبعض يعمل في رعي الماعز والضأن، وعائلة تعمل في الاحتطاب، وعائلة تعمل في جني العسل أو كما يردد أهل القرية يرعون ذباب العسل.

أما بالنسبة لأولادهم الذين لم تكن لهم رغبة في العمل بمهن آبائهم، فكانوا يكملون الثانوية في مدرسة القرية الوحيدة، ثم يذهبون إلى المدن للعمل أو تكملة دراستهم الجامعية.

وبما أنني أتكلم عن تاريخ القرية فيجب علي ألا أتجاهل حدثين مرّا على أهل القرية، كان لهما تأثير في مجرى قصتي ولا يمكن لي أن أتجاوزهما.

أولهما يوم بهية

قيل إنه في عام 1850م وُلدت لـ(رزق) الراعي ابنةٌ فائقة الجمال، من ابنة خاله (سعدة) النحال، سمّاها (بهية)، وعندما بلغت السنة من عمرها مات أبوها فجأة، فلم يكن يشكو من علة، فقد كان بصحة جيدة.

صَدَمتْ وفاته زوجته ولم تتحمل أن تعيش الحياة من دونه، وقبل أن ينقضي آخر يوم لعزائه وجدها أهل القرية ميتة بالقرب من قبره.

ترعرعت المسكينة بهية في منزل خالها، لتشارك ابنة خالها هند الرضاعة. كبرت هند وبهية وكانتا من أجمل فتيات القرية، لكن بهية حظيت بدلال وتعاطف أهل القرية.

وهذا ما أشعل نيران الغيرة في صدر ابنة خالها هند؛ المعروفة بحدة مزاجها وأنانيتها وطموحها وقوة إرادتها، لم تتحمل هند أن تعيش في دارها وصيفة لا تراها العيون بسبب بهية، فقررت أن تكيد لها المكائد، وذلك بتسريب الشائعات عن طريق أكثر من لسان مريض حقود بأنها مصدر للشّر، فكما قتلت أبويها تسببت بأكثر من مشكلة لخالها ولجميع أهل داره، وأن شرها وصل إلى الجيران، فما دخلت بيتًا إلا وسقط فيه مريض، وما نظرت بعينيها لشخص إلا أصابته عاهة.

حتى سموها: (صويحبة الشر).

لتنطلق ألْسنٌ أخرى محبة للكلام، مرددة بجهل ومن دون بحث أو روية..

” من خرجت لدنيا وأحرقت والديها لا تستحق اسم بهية، إنها جنية ليست بإنسية”

كان هذا الكلام مؤلمًا لبهية، خاصة عندما رأت العيون التي كانت بحبٍّ تتعاطف معها، تتحاشى النظر إليها، وعندما خُطبت هند، ومن كان في سنها ويوم زواجهن واحتفال أهل القرية بهن وعندما رأت ثمار زواج صويحباتها يظهر على بطونهن، كل هذه الأحداث المتتالية أخبرت بهية أنها أصبحت الشاة السوداء في القطيع الأبيض. فأخذت تحفر بهدوء قبرها.

وفي صباح يوم عاصف، كان البرق يخترق السماء، والرعد يدوي، والمطر ينهمر بعنف، خرج أهل القرية من منازلهم عندما سمعوا صراخًا حادًّا يخترق آذانهم، وإذ بهم يرون بهية فوق رأس شجرة (سمر) تحيط بها الأغصان وقد أدمتها الأشواك، رافعة يدها إلى السماء تردد:

يا رب، يا من عرشه في السماء وعلى الماء، يا من لغضب ابتليت ولحب ابتليت.
اللهم أنت الملك لا اعتراض.
اللهم اعمِ عيونًا لم ترَ.
اللهم صمّ آذانًا لم تسمع.

حاول خال بهية وأهلها وسكان القرية، وخاصة من كان مساهمًا في فصل من فصول مأساتها، أن يسكت صوتها. فصوتُها الذي لا يتوقف لم تتحمله آذانهم، كان كأنه مطارق تهوي على رؤوسهم.

لكن جميع محاولاتهم من الصباح حتى غروب الشمس باءت بالفشل، فما زال صوتها الذي يشاركه عويل يتردد صداه في القرية، لم يستطع أحد الاقتراب منها بسبب الأغصان المليئة بالأشواك، إضافة لهيجانها، فقد أصبحت كأنثى حيوان مفترس تدافع عن جرائها.

أخيرًا، قرر شيخ القرية أن يكسر جذع الشجرة، فسقطت الشجرة كجبل هز الأرض تحت أقدام أهل القرية مما سبب لهم الهلع.

فتوقفوا صامتين مفزوعين يتأملون ماذا حدث وما الذي حصل؟!. كانوا موقنين أن هذه الهزة ليست بسبب الشجرة، فهنالك سبب آخر علمه من علمه وجهله من جهله.

لكن الشباب الطيبين من نسوة ورجال سارعوا إلى قص الأغصان حتى نزفت أيديهم وتسربلت بالدماء، لكن الوقت قد فات، فقد فارقت بهية الحياة.

وفي صباح اليوم التالي، توارت بهية تحت التراب، لكن صوتها ظل باقيًا يسمعه أهل القرية مع هزيز الريح؛ التي تتجول في الطرقات وتهز الشبابيك والأبواب، ومع خرير الماء المنحدر من سفوح الجبال، ومع حفيف أشجار السرح والسمر.

وقد زاد الأمر سوءًا عندما عمّ مرض غريب أرجاء القرية.

قال بعض العارفين إن علته أشواك شجرة السمر التي ماتت وجفّت أغصانها وتخلت على غير العادة عن أشواكها وتركتها ترعى في طرقات القرية بعد هذه الحادثة بأيام.

الحادثة الأخرى هي سنة الخوف

في عام 1957م، عمّ القرية مرض الجدري، الذي انتقل إلى القرية مع بعض الحجاج العائدين من الحج، فاجتاح القرية ليصاب بهذا الداء الكثير من سكان الوادي، وكان علي النحال وزوجته وابناهما التوأمان حمد وحماد من ضحاياه.

مات علي وزوجته سارة، ونجا ابناهما من هذا الوباء، لكنه لم يتركهما سليمين، بل أعمى أحدهما وأصمَّ الآخر وربط لسانه، فلم يعد يستطيع الكلام.

في ذلك الزمان، ألِف أهل القرية ومن حولها أن يغيروا كل اسم نجا من الجائحة باسم آخر، وفي ذلك اليوم – يوم تغيير أسماء من نجا من الجدري من سكان القرية – ذبحت الذبائح وأخذ القوم يتوافدون إلى منزل الشيخ وبرفقتهم من نجا من ذلك الداء، فتم في ذلك اليوم تغيير اسم ربيعة إلى رحمة، ومنى إلى سعيدة، وشداد إلى سلمان، ورباح إلى سعيد، وهكذا حتى وصلوا إلى الأخوين حمد وحماد.

فقام أحد المخمورين السكارى وقال متهكمًا: سموهما أبو عينين وأبو أذنين، فضحك الجهلاء.

حاول العقلاء تدارك الأمر، لكن حمد وحماد أصرا أن يحملا هذين الاسمين؛ لعلمهما أن هذين الاسمين جاءا من مخبول، فلم يكونا يريدان أن يغيرا اسمين اختارهما لهما أبواهما.

لكن ذهبت الرياح بما لا تشتهي السفن، فالناس ألِفتْ الاسمين اللذين أشار إليهما المخبول، ونسوا اسمهما الحقيقي. وهنا حدثت مشكلة، عندما تذكر أحد السيئين قصة بهية ودعائها “اللهم أنت الملك، لا اعتراض، اللهم اعمِ عيونًا لم ترَ، اللهم صمّ آذانًا لم تسمع”.

وحاول أن يربطها بما حصل لحمد وحماد، خاصة أن هند هي جدتهما لوالدهما، فقال لمن حوله: إن ما أصاب هذين الشابين لم يكن بسبب الجدري بل بسبب لعنة بهية.

تردد صدى هذا الكلام في القرية ووصل إلى حمد وحماد، فغضبا، فلم يكونا راضيين بأن تذكر جدتهما بسوء من أبناء عمومتهما، وأن يتطرقوا لقصة حدثت قبل 100 عام.

لذا هجرا القرية واتخذا الجبال مسكنًا لهما، وأصبحا لا يأتيان إلى القرية إلا في نهاية الأسبوع ببضاعتهم من العسل ويتركونه عند جدهم ويغادرون.

مرت الأيام، وتدخل القدر ليرسم طريقًا يجعل سكان القرية جميعهم – طيبهم وسيئهم – يقفون باحترام لهذين الشابين. ففي أحد الأيام وقبل أن يعلو النهار، وتعلو الشمس الهضاب، تصاعد صراخ طفل لدغته حية في يده، وبدأ السم يسري في جسمه، عمل أهله ما عليهم من مص السم، وأخذوه بسرعة لحكيم القرية، حاول حكيم القرية ولكن السم انتشر، وأخذت اليد بالتورم، فقرر الحكيم بتر اليد في محاولة يائسة لإنقاذ الطفل.
فجأة ظهر أبوعينين وأخوه، ونزعا الطفل من يد الحكيم، وأخذ يتمتم أبو أذنين ويرتفع صوت أبوعينين بتلاوة بعض الآيات، فأخذ الورم تدريجيًّا بالاختفاء، وعادت اليد إلى طبيعتها، وقام الطفل من مكانه يعدو إلى أحضان أبيه الذي كان يبكي في حرقة؛ خوفًا من فقدان طفله إلى الأبد، لم تكن هذه القصة كافية لتنسي أهل القرية لعنة الجدة، بل جاءت أحداث أخرى متتابعة.

لكن ضربتهم القوية وبشارتهم التي رفعت أسهم مصداقيتهم على طول الوادي وعرضه هي بشارتهم بعودة (فهاد) الذي كان غائبًا عن القرية لأربعين عامًا، وحدث ما تنبأوا به.

فبينما كانت الشمس تغرق في الأفق، لاحت مركبة منحدرة مع الوادي وتوقفت عند منزل أبي فهاد وخرجت منها أشباح لأناس.

فتحت بعض الأبواب وبعض النوافذ، وهي تبحث عن معرفة زائر الظلام، فمن غير عادة أهل القرى، بل أهل الصحراء أن يقبل عليهم زائر في المساء، فُرِكتْ العيون بقوة لتتبين من هم، لكن تلك الأشباح دخلت مسرعة للدار.

أخيرًا جاء من يبشر تلك العيون، وهو يلهث من شدة الركض، وقال:

_ إنه فهاد وزوجته يرافقهما أبناؤهم الخمسة.

عندها نسي سكان القرية تلك اللعنة إلى الأبد خوفًا، لقد نظروا لهما على أنهما رجلان صالحان.

فهما يعالجان من لدغته حية أو من لسعة عقرب، وهما من يدلّان على مكان من ضاعت له ماعز أو ضأن، ومن سرى بعيره وتاه في الظلام. وهما من بشَّرا بمولود جديد وعن قدوم زائر للقرية غريب.

نعم لم تكن جميع تنبؤاتهم صحيحة مئة في المئة، لكن توقعاتهم التي أخطأت طريقها ولم تظهر على سطح الحقيقة غض أهل القرية عنها النظر، بل قدموا لها التعليل والأعذار، وما كتبه القدر فقط يغيره القدر.

لكن ما قالاه لأبي من كلام كان شيئًا آخر، تسبب في سجني وأرهق عقول أهل القرية، فالكل أصبح به مفتونًا، الكل يحلل وبطريقته يفسر، الكل من دون استثناء؛ رجالًا ونساءً شيبًا وشبابًا.

ففي أحد الأيام، وهذا الكلام منقول عن أمي، حيث قالت:

_ قبل مولدك بأربعة أعوام، غادر أبوك المنزل ضائقة أنفاسه بعد ولادتي الثانية بأختك بدرية.ولم يكن أبوك كارهًا أو معترضًا على ما وهبه الله، بل كان يتمنى أن يرزقه الله بولد يعينه، فأنت كما تعلم أن العمل في مهنة العسل شاق ومتعب.

على كل حال، صعد أبوك إلى سيارته وخرج إلى عمله حزينًا. فجأة في وسط الطريق، ظهر له أبوعينين الأعمى يرافقه أخوه أبو أذنين الأصم الأبكم.

استوقفاه، تمتم الأبكم وتكلم الأعمى، أقصد أبا عينين، وطلب من أبيك جالون العسل – وكان من عادة أبيك وأنت تعرف ذلك أنه لا يخرج إلى أي مكان من دون أن يحمل معه جالون العسل، فهو أحد مكونات غذائه وسكره الذي يحلي به – فقام أبوك بإعطاء الجالون لأبي عينين؛ الذي أخذه ومرره لأخيه أبي الأذنين.

فتح أبو الأذنين غطاء الجالون وأنزله الأرض ومدّ أصبعه وهو واقف.وهنا حدث شيء عجيب، أخذ العسل يخرج من فوهة الجالون على شكل خيط دقيق ويلتف حول أصبع أبي الأذنين.

فأخذ أبو الأذنين يتمتم بصوته المبهم، فقال الأعمى وهو يرتجف بصوت خشن:

_وصل إلى مسامعنا أنك رزقت بأنثى! وسيتبعها ثلاث أخريات، بعدها سترزق بولد.

وبمجرد انتهاء الأعمى من هذه البشارة.وارتفع صياح أبي أذنين، فالتفت أبو عينين إلى أبيك، وواصل حديثه قائلًا بصوت غلف بتحذير:

ذكر بعد إناث ثلاث سيطل.
ونجم من عتمة الليل سيهل.
يحمل على ظهره نجمه.
حذارِ أن يخرج الغلام خلف الأسوار، حتى يتم عشرين عامًا.
فالوادي هو أرضه وموطئ قدمه.

وواصلت أمي قائلة:

_ منذ ذلك اليوم أنا وأبوك بل أهل القرية جميعًا أصبحنا ننتظر قدومك. خاصة أن المبشرات الأربع أخذت تتوافد أمام أَعيُننا، فقد جاءت أختك هدى، وتبعتها رقية، وجاءت أختك مها، وأخيرًا وصلتَ أنت يا وجه السعد.

في ذلك اليوم، جاء أبو العينين وأبو الأذنين يجرون خلفهم خمسة أكباش سمان، نحروها أمام دارنا ووزعوا لحمها على أهل القرية.

والآن يا أستاذ أكرَم سأتوقف وسأواصل حكايتي بعد أن نأخذ استراحة لمدة ربع ساعة، فقد جفَّ حلقي من كثرة الكلام.

مرت ربع الساعة كأنها يوم كامل، أخذت ألتفت إليه بين الحين والآخر مشجعًا إياه كي يعود لسرد قصته. فجأة التفت إليّ، وقال: إنه الفصل الأخير من القصة، هل أنت جاهز؟؟

فقلت بفرح: نعم جاهز.

طاف بنظره كعادته وتابع حديثه:

كان لهذه البشرى الوقع الكبير على أهل القرية، أحداث تتوالى أمام أعينهم، تنتهي بكلام مبهم خطير غلف بتحذير:

ذكر بعد إناث ثلاث سيطل.
ونجم من عتمة الليل سيهل.
يحمل على ظهره نجمه.
حذارِ أن يخرج الغلام خلف الأسوار، حتى يتم عشرين عامًا.
فالوادي هو أرضه وموطئ قدمه.

هذا التحذير أخاف أمي وأبي، بل أزعج أهل القرية جميعًا، فأخذوا يفكرون بعمق عن مغزى كلام أبي عينين وأخيه أبي أذنين، فهؤلاء يتكلمون ولكن لا يجيبون ولو سُئلوا يغضبون.

المهم أن الجميع أخذوا يعدون الأيام، وأصبحت أنا محط الأنظار.

كنت حزينًا. جميع أصدقائي يخرجون من القرية إلا أنا، كان الجميع ينظر لخروجي أنه خطر على نفسي وعلى القرية وأهلها، كانت هذه فكرة الجميع، ما عدا ابن عمي هلالًا الذي كان يهيج ويغضب عندما أرفض الخروج معه، فيردد بانفعال:

_كم أنت مسكين!! لقد ضحك الأعمى والأبكم الأصم على أبويك وعلى أهل القرية المغفلين.

ويتابع حديثه ساخرًا:

_يحبسونك في القرية عشرين عامًا؟ ولماذا؟! من أجل كلام هذين المشعوذين؟؟ إنهما دجالان. يا مغفل، العظماء لا يُسجنون، إنهم خلقوا كي يكونوا أحرارًا.

في حقيقة الأمر لم أكن أفهم ما كان يقصده ابن عمي بهذه الجملة الأخيرة. فكما يردد أهل القرية عنه بأنه:

“ببغاء يردد كلام الغرباء”.

على كل حال، زاد الوضع سوءًا عندما بلغت الثامنة عشرة بالتمام والكمال، يومها حضر أبو العينين وأخوه أبو الأذنين بصحبة أعيان القرية إلى منزلنا فاستقبلهما أبي بحفاوة. وبمجرد جلوسهما، قال شيخ القرية لأبي:

_ إن أبا العينين وأخاه أبا الأذنيين لديهما طلب يريدان أن يحدثاك به بوجودنا.

فقال أبي:

_على الرحب والسعة.

فالتفت الشيخ إلى الأعمى والأصم وتنحنح.

فقام أبو العينين وأخوه من مكانهما ووقفا، وبعد لحظةِ صمتٍ قال الأعمى بتلقين من الأبكم الأصم:

_ لدينا ثلاثة طلبات، ونرجو أن توافق عليها من دون مراجعة.

فقال أبي:

_طلبكما أمرٌ مطاع .

فقال الأعمى لأبي:

_ نِعم الرجل أنت. طلبنا أن يتزوج عمار من بنت سعد الحطاب.

ثانيًا: أن  يتم الزواج قبل نهاية الشهر بثلاثة أيام.

ثالثًا: مصاريف الزواج شاملة على حسابنا.

وبمجرد انتهائه التفت وأخذ يصرخ:

_ أين عمار؟!

لم أكن بعيدًا عنه، فقد كنت أصب القهوة فقلت:

_ لبيك.

فقال:

مدّ يمينك إلى عمك أبي الأذنين، فمددت يدي اليمين كما أمرني الأعمى لأخيه، فمسكني من معصمي وأخذ يتمتم.

فقال الأعمى موجهًا كلامه لي:  

_يا بني لا أعتقد – والعلم عند علام الغيوب سبحانه – أن نعيش أنا وأخي طويلًا. يا بني لن يطل عليّ وعلى أخي هذا شهر من السنة القادمة، لذا نريد أن نطلب منك طلبًا.

فقلت:

_ جوابي هو مثل جواب أبي.

فقال:

_ نِعم الأب ونِعم الابن، وتابع: طلبنا هذا أن تتقبل من الناس العزاء يوم مماتنا.

فقلت:

أطال الله أعمار……… فقاطعني الأعمى بوضع يده على فمي، والتفت إلى الشيخ وقال

_ الحاضر يعلم الغائب، إن جميع ما نملك من حطام هذه الدنيا هو ورث لنسل عمار. والآن إذا سمح لنا الشيخ وصاحب الدار بالمغادرة فإننا نطمع في ذلك.

فقال الشيخ: معذورين، وتبعهما أبي قائلًا: البيت بيتكما، لكن ماذا عن عشائنا؟ فقد نحرت الأكباش فرحًا بكما وبكبار قومنا؟

فقال الأعمى:

_فلتطعم أهل القرية ومن أراد البقاء، فأنا وأخي – لا محالة – راحلان.

وبهذه الزيارة وما رافقها من كلام، عاد لأهل القرية الموضوع القديم الجديد، وخرج أكثر من سؤال يحتاج لإجابة شافية.

لماذا تم اختيار بنت الحطاب لهذا الشرف؟!
لماذا حدد موعد الزواج بنهاية الشهر؟!
لماذا دفع الأعمى وأخوه مصاريف الزواج؟!
وكان السؤال الأخير: لماذا طلب الأعمى وأخوه أن أتقبل عزاءهما نيابة عن أهلهما؟! 

فانشغلت مجالس القرية، واشترك في التخمين الجميع، حتى الأطفال.

المهم أنني تزوجت بنت الحطاب، ولم يمر على زواجنا شهر حتى ظهرت أعراض الحمل، وعرف سكان القرية به، وجاء الأعمى وأخوه فرحين يحملان الهدايا من عسل ومال وأنعام، وأخذ أهل القرية يعدون الأيام والشهور، وعندما بلغ الحمل شهره التاسع أصبح أهل القرية يعدون الأيام، بل الساعات، وفي ليلة معتمة ارتقت الزهرة فوق القمر وضعت زوجتي حملها فاكتشفنا أنهما توأمان، خرج الأول ذكرًا، والآخر كان أنثى.

وقبل أن تكتمل فرحتنا، وإذ بالباب يُطرق بعنف، فقمت وفتحت الباب، وإذا به شيخ القرية يخبرني بأن الأعمى والأبكم قد ماتا.

فانشغلت بمراسم العزاء، وسُمي الولد كما طلب أهل القرية بنجم وأخته أيضًا – حسب طلب الجميع – بنجمة.

كانا طفلين جميلين من أجمل أطفال القرية، أخذت أرقبهما وهما يكبران شهرًا بعد شهر، وأنا أسأل نفسي وكذلك فعل جميع سكان القرية:

ماذا بعد؟! ما قصة هذين الطفلين؟!

فهما البشارة التي بشر بها الأعمى وأخوه قبل أربعة وعشرين عامًا. وبمجرد أن تجاوزت العشرين من عمري وتجهزت للرحيل من القرية، يومها كنت فرحًا جدًّا، أردد أخيرًا أصبحت حرًّا، وبينما كنت أجهز حقائبي، جاءت إليّ والدتي وخلفها والدة زوجتي تبكيان، فصرخت:

_ ماذا حصل؟!

هنا انهار الراوي، انهار عمار، وأخذ يجهش بالبكاء. صُدمتُ، انحرفت وخرجت عن الطريق العام وأوقفت السيارة، وسألته ماذا حصل؟! أخبرني ماذا بك؟!

نظر إليّ عمار وقال بحزن:

_ إن ابني نجم أعمى وأخته بكماء صماء.

لم أجد كلمة أو جملة أستطيع بها مواساته سوى العودة إلى الطريق العام، لم ينطق عمار بعدها ولو بكلمة واحدة، وعند أقرب محطة استأذن مني وترجل من السيارة.

وقفت في مكاني لمدة ساعة شارد الذهن أراقبه حتى اختفى. كنت أفكر هل ما حصل لعمار حقيقة، أم هي قصة من وحي خياله؟!

guest
3 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

مرحباً .. يبدوا أنّك تستخدم حاجب إعلانات ، نرجوا من حضرتك إيقاف تفعيله و إعادة تحديث الصفحة لمتابعة تصفّح الموقع ، لأن الإعلانات هي المدخل المادي الوحيد الضئيل لنا ، وهو ما يساعد على استمرارنا . شكراً لتفهمك