أدب الرعب والعام

مَوْئِلٌ في اضْمِحْلال

بانَ كل ما تخفينه بسرائرك، فقد صار يأمن، ولا الغيوم التي أحببتها ظلت تتراهن من منكما سيبكي أولاً، لم أعد أفهم، قبل شهر من الآن كنتِ بعودتي تسعدين، ولكلامكِ معي تنتظرين، تعدين الساعات بكل حنين، تجلسين على ذلك الكرسي الرديء وبكل فخر تنظرين إلى عتبة بابنا العتيق.

حتى جاء يوم صدرت صوت طرقات ملأت فؤادكِ بالحياة، وأدخل فتسرعين إلي، وتقبليني من الجبين، وتنقشين ملامح القلق وكأنها آخر مرة ألتقيك ثم تقولين وأنتِ بغيابي تخافين.

“أين كنت يا صغيري؟ تأخرت كثيراً فقد صار كلي بكلك حائراً”

أمسكت تلك اليدين، وقبلتها بكل تأنيب للضمير:

“أنا آسف يا أمي، لقد أعطوني عملاً إضافياً”

مشيت للداخل، وأنا أستشعر الأمان، وأستنشق عبير الحنان، جلست حيث كنتِ تجلسين، وأنا أنظر إليك وأنتِ تبتسمين، لم أرغب في إزعاجكِ، ولكن إنه الجوع كما تعلمين.

“أمي أنا جائع”

ذعرتِ وكأنكِ ارتكبتِ مصيبة، وسرعان ما جريتِ للمطبخ بكل عجلة.

“حاضر، الطعام جاهز”

أرخيت كتفاي التي باتت تئِنان، ورحت أسترخي على تلك الأخشاب المُهْتَرِئة، انتظرتُ بضع ثوان، ولكن حدث ما لم يكن بالحسبان، لم تعودي أو تزيني الوقت بالكلام، نهضت باستغراب ودخلت باحثاً عنكِ كنتِ تقفين وللموقد تحدقان وبعينين خاويتين، ناديتك بهدوء:

“أمي ماذا تفعلين؟”

لم تجيبيني، تقدمت بضع خطوات ليتضح لي ما كنتِ به تفكرين، لم يكن هناك أي طعام على تلك النيران المشتعلة، فركضت نحوها لأسكت لهيبها وصرخت مذعوراً، وأنا أراك غير مهتمة:

“أمي ما الذي يجري؟ هل أنتِ بخير؟”

نظرتِ إلي، وسرعان ما تركتِ السرحان وعدتِ لعالمي:

“أنا آسفة يا بني، لا أعرف ماذا جرى، أنا واثقة بأنني أعددت الطعام”

لم أفهم في البداية، وسرعان ما أخرجتني ورحتِ تبدئِين بطهي ما أشتهيه، مرت الأيام وصرتِ حديث الأفكار، ماذا جرى؟ متى حدث كل هذا!، استمررتِ بالنسيان، ذات مرة وضعتِ السجاد فوق الكنبات، ورششتِ الملح للنباتات، خفت كثيرًا وأخذتك للمستشفى مسرعاً، وهناك حدث ما لم أفكر بحدوثه يوماً، قال الطبيب بأنكِ أصبتِ بالزهايمر، لم أفهم أو بالأحرى لم أرد أن أتقبل، فزمجرت به عالياً:

“ماذا تقصد بهذا الكلام؟، ألا ترى بأنها لم تتجاوز عقدها السادس بعد؟”

أصر الطبيب بأنها أعراض تظهر بشكل بطيء وغير ملحوظ، فقد عاشت ظروفاً أوصلتها لهذه الظروف، اقترح الطبيب أن أسلمها لدار العجائز وكبار السن، حين أخبرته بأني ابنها الوحيد، وأنا لا أوجَد معها طيلة اليوم تقريباً، وهي بحاجة إلى المساعدة.

كدت أقلب المكان وأشيع الدما، لولا نظراتكِ الحزينة التي كسرت قلبي، وأوصلته لحالة التفكير بما قاله الطبيب بكل دقة.

عدنا إلى المنزل حاولتِ تخفيف التوتر، ولكن سرعان ما نسيتِ من أنا.

حرة بأمري وبأي الخيارين سأمضي؟، هل أضعكِ بمكان لن أراكِ به إلا بضع مرات، أم أبقيكِ بجانبي لتتألمي؟.

خرجت صباحاً مودعاً إياكِ، ولا يزال تفكيري بكِ مشغولاً، وفي ساعات العمل رن هاتفي على عجل، فتحت تلك المكالمة وسرعان ما جاءني الخبر بغتة..

“لورنس، أمك تتجول في الزقاق، وهي تصرخ بأنها أضاعت طفلها حديث الولادة”

أقفلت المكالمة بعد أن طلبت منها أن تعيدها للمنزل حتى أصل لهم، جريت مسرعاً والأفكار تخربش مكنوني وصرت أحاور ذاتي بكل إصرار:

“أقسم بأني سأضعها بدار العجزة، سأتخلى عنها فقط لتكن هي بأمان، وسأحرم نفسي منها”

لم أر الإشارة ربما بسبب العجلة، صدمتني سيارة ضخمة، مر الوقت ببطء شديد، وصرت أعد اللّحظات، متى ستأتي سيارة الإسعاف؟.

وأنا ممدد على الأرض والدماء صبغت شعري الذي مع نور الشمس قد تراهن أيهما أشد اصفراراً، ووشمت أثر عجلات السيارات على جسدي الأبيض الأشبه بحبات ثلج الشتاء، أغلقت عيوني الخضراء، وأنا أسرح بمدى بؤس هذا العالم وجبروته المليء بالطغاة.

بعد بضع ساعات فتحت عيوني ببعض التشوهات، وأنا أرى أمي تصرخ على الأطباء، بينما أنقل لغرفة العمليات.

استيقظت بعدها بأيام، وأنا أحدق بالمكان، كانت الرائحة كريهة معقمات وكحول خفيفة، غرفة بيضاء ناصعة، وأجهزة تئن بطنين يؤذي الأذنين، سرعان ما أدركت وضعي حين سمعت شعرت بيد لامست يداي، نهضت فزعاً حين تذكرت أمي، أقسم بأن الممرضة التي كانت تقيس ضغطي كادت تصاب بسكتة قلبية، فقد صرخت فزعة:

“يا إلهي لقد أفزعتني، آه لقد استيقظ”

وسرعان ما ركضت مسرعة، وأحضرت الأطباء، الذين أخبروني بأني احتجت إلى عملية زراعة أعضاء، وأنني بخير حالي، ابتلعت ريقي ونهضت من مكاني، وفصلت الأجهزة عني، وقلت بصوت مبحوح وكأني أعرف الجواب لهذا السؤال “من تبرع لي؟”
نظر الأطباء بعضهم لبعض متوترين، ولم يستطيعوا الجواب، وتقدم أحدهم وقال “لتجلس أولا، وسنخبرك”

فهمت فحوى الكلام قبل أن ينطقوا به، ركضت مسرعاً والدموع من عيني تنهمر كأنهار، وأنا أنادي بصوتي المبحوح بقوة تكاد تمزق حبالي الصوتية:

“أمي، أمي، أين أنت؟ لا تزالين حية صحيحاً!، إنهم يكذبون، لم تتركيني؟”

فجأة وبدون سابق إنذار، أبصرت امرأة قاربت الستين بشعر ملتهب بالبياض، وبعيون خضراء المروج منها تغار، وبنمش زين تلك البشرة الشاحبة، تحدق بي بابتسامة لتبرز أسنانها اللؤلؤية، نعم إنها أمي، ركضت لها مسرعاً، وأغمضت عيوني وأنا أحضنها لأستنشق عبيرها براحة.

كان القرار صعباً، هل أضعك بدار العجزة حيث ستبقين بأمان، أم أبقيك بجانبي حتى أشبع من الحنان؟ تركت عملي وبعت منزلي، واشتريت سيارة زينت المقعد الذي بجانب السائق وجعلته مريحاً، هناك حيث تجلسين أنتِ حالياً، يتردد الناس حين أقف لإيصالهم، ولكنهم سرعان ما يركبون عندما أخبرهم بأنكِ أمي، ولا أستطيع ترككِ.

Krawre

العراق - للمزيد من القصص حسابي على الواتباد Krawre-sama
guest
6 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى