أدب الرعب والعام

مُظلم و بارد

كان الضباب يلُف المكان ، الرؤية صعبة و شبه معدومة . كان المشهد خياليا – غير واقعي وضبابي .

سطى الضباب و هيمن على أضواء المحلات في السابعة صباحاً . فجعلها مملة و بلا حياة ، صباح آخر باهت ، هي وحيدة تقف في الزاوية بانتظار الحافلة ، كانت تراقب . أين يعيش أولئك الناس من حولها و كيف هي حياتهم؟ لابد و أنهم مطحونون ، حياتهم تطفر بالأشغال و الأحداث المهمة عسكها تماما ، من المتجر للبيت والعكس ، أيام مملة لا تنتهي .

إنذار خفيض أعلن عن وصول الحافلة ، دلفت مسرعة ، مررت بطاقتها واصطدمت برجل ، رفعت يدها معتذرة:

” عفواً “

ابتسم الشاب ألا مشكلة ، و اختارت هي مقعداً قرب النافذة ، كانت تهوى مراقبة الشوارع و الناس ، تنظر وتراقب دون هدف ، و في العمق هناك بداخل رأسها كانت تغرق في أفكارها ، تنسج الكثير ، بعضه خيال ونصفه حقيقة . كان عقلها مشغولا على الدوام – إيجار المحال ، طلبات التسليم ، بأشياء تافهة كانت تفكر وتُضيع الدقائق و الثواني .

شعرت إيفا بعينين تراقبانها فرفعت رأسها بغتة ، وابتسمت ببلاهة للشاب الذي اصطدمت به . شعرت بالخجل فأشاحت بوجهها متفادية نظراته الثابتة .

وصلت إلى محطتها ، في وسط المدينة ، كان عليها المرور بزقاق واحد و عشرين لتصل الى متجر الألعاب في نهاية الشارع ، عدة خطوات بعد ذلك وشعرت بالأرض تميل من تحتها و تنحدر، تنخفض . ترتفع وتتموج . بدأت الأرض تتعرج أمامها ، وبات الزقاق أطول من اللازم و ينتهي إلى العُمق ، أُسدلت ظلال داكنة من حولها و أمامها ، كانت الصورة ضبابية – سوداء و قاتمة .

بات الهواء ثقيلاً ، أرخت إيفا وشاحها من على عنقها حتى تستطيع التنفس ، كأن الأوكسجين سُحب من الهواء و انعدم ، كانت تصارع من أجل أنفاسها وتلهث . كما كانت الفتاة ذات الفستان الكرزي أمامها مقيدة ومُثبتة على كرسي تُصارع الموت ، كانتا كِلاهما تُنازعان .

وجدت إيفا نفسها في غرفة مُظلمة . باردة و غذرة . بينما رجل ما قرب الفتاة يتحدث بصوت عميق ، صوت مُحيطي ، ليس بشريا أبداً .

بيد الرجل مِشرط صغير حاد ويلمع . يقطر دماء حمراء قانية ، يتجول بخفة في أنحاء الغرفة ، و يتغنى بألحان غريبة . يُردد و يدندن :

في الأصيل
كانت الشمس تحترق
عند شجرة التفاح التقيتك
كُنت طفلة ، كُنت نقية
كُنت تقطفين التفاح
لماذا أهديتي آدم واحدة ؟
يا لك من خاطئة

اقتربت إيفا خطوات إلى الأمام منهما ، أرادت أن تتأكد ، تتبين حقيقة ما ترى ، مدّت يدها و كانت ترتجف وتهتز ، في الواقع كان كُل جسدها يرتعد . اقتربت من الفتاة المقيدة على الكرسي ، أرادت أن توقف النزيف من على عنقها ، همت بلمس وجهها الشاحب ، تبادلتا النظرات لوهلة ، وأطلقت إيفا صرخة عظيمة – عالية:

” يا آنسة ، أنت بخير ؟ “

ركعت إيفا على الأرض ، بينما كانت هناك سيدة في مقتبل العمر تحاول مساعدتها في زقاق 21 .

” أين .. أنا “

رفعت المرأة حاجبيها و أجابت: ” أطراف لندن “

كان زقاق واحد و عشرين يمتد خاليا و كئيبا إلى تقاطع شارع البلاك غاردن ، بينما متجر الصغار تُضيء أضواءه الناصية الشمالية للشارع الرئيسي .

قالت إيفا :

” شعرت بدوار “

” كانت صرختك جحيمية ” غمغمت المرأة و هي تربت على كتفها : ” اشربي “

ناولتها قنينة ماء و أردفت ” أنت مصابة بالربو ؟ “

” فقط لا أحب الضباب .. إنه يخنقني .. أنا بخير ، شكراً لك “

ذهبت المرأة في حال سبيلها ، و سارت إيفا بخطوات مضطربة بينما لا تزال دندنة الرجل تطّن داخل رأسها .. لماذا أهديت آدم واحدة ؟ يا لك من خاطئة ..

كانت مشوشة ، أفكارها تُسرع كعجلات قطار فقد السيطرة و بلا مكابح ، لم تكن قادرة على التحكم أو الإمساك بأي حقيقة . ما حدث منذ قليل كان كابوس أسود ، أحلام يقظة في وسط الضباب . ظنت بأنها تحلُم ، يُخيل إليها و تهذي .

وصلت للمتجر ، كان الصبي الذي يساعدها في إدارة المحل غير موجود ، لذلك بدأت بتنظيف وترتيب الألعاب ، بعض طلبيات الألعاب يكون بها تلف . و بعضها يتلف بمرور الزمن ، كانت ترميها في المخزن و تجمعها من أجل صندوق التبرعات .

أبعدت إيفا حامل الكتب ، كان من الأرض حتى السقف ، أدارته فتحركت عجلاته بثقل ، و ظهر من خلفه باب المخزن ، حيث يتم تجميع الألعاب ، كانت تتراكم وتتكدس اللعب لعدة أعوام حتى تجيء الجمعيات الخيرية و تأخذها ، هو ليس مخزن بالفعل و إنما عبارة عن حوض سباحة قديم مُغلق ، يقع خلف المتجر مباشرة و داخل المبنى ، تجده إيفا مخيفا و مرعبا لذلك دائماً ما تتفادى الدخول إليه إلا للحوجة الماسة . تتجاهله و تعتبره غير موجود ، هو يُحيي بداخلها ذكرى قديمة ، تحمل الألم و الموت لها و لعائلتها .

عندما كانت صغيرة كانت تلهو هي و شقيقها في حديقة منزلهما ، كانا يلحقان بفراشة و يقفزان هنا وهناك كحال الأولاد ، ليسقط شقيقها في المسبح . ضرب الطفل بيديه الصغيرتين المياه لعدة دقائق وهو يصرخ ، بينما كانت هي تنادي أمها . خرجت روحه خلال دقائق قليلة . لم يستجب أحد ، لم ينقذه أحد .

لربما كان صوتها غير مسموع و غير واضح . لذلك صرخت الصغيرة ملئ حنجرتها –لا مغيث . الآن كُل المسابح عندها متشابهة ، تُخيفها و تكرهها . وعندما كبرت أدركت الحقيقة الضائعة خلف النسيان ، أنها لم تصرخ أبداً . أنها لم تنادي أبداً ، لم تستنجد بأي أحد ، من الصدمة تسمرت في مكانها دون حركة ، بعكس ما خُيل إليها . لم يخرج منها صوت ، هكذا أدركت الحقيقة بمرور الوقت .

من أجل هذه الذكرى القديمة كانت إيفا تتناسى ما يوجد خلف المتجر . تدفن الذكرى بألوان و بريق ألعاب الأولاد ، تلك القصص البراقة تُلهيها ، تُهدئها ، كانت كتهويدة ، هي تشفيها .

1

كان سوليفان مسترخيا على مكتبه ، بينما عُلقت ثلاثة صور لفتيات مُثبتة بدبابيس على البورد ، كان الفارق بين كل جريمة وأخرى عدة أشهر ، لا يربط بينهن أي رابط ، عدا الجمال الصارخ والفاتن ، و ثلاثتهن قُتلن في منازلهن . أيكون الجمال لعنة ؟

أما الأنثى الرابعة كانت موضوعة صورتها في الأسفل ، امرأة في نهاية العشرينات ، بشعر أسود مُجعد و مُبعثر على وجهها ، كانت متواضعة الجمال . اختفت قبل يومين بصورة غريبة ، حادثة فريدة ، أن تختفي شابة دون أثر و دون سبب يدعو للاختباء .

لا يعرف سوليفان حتى الآن ما هو الرابط بينها والثلاث الأخريات ، كانت هي مُختلفة ، لذلك اعتبرها سوليفان زلة للقاتل و كان يعلم أن نهايته هنا ، ما عليه سوى ان يجمع الخيوط ببعضها ، هو التقاها من قبل ، فتاة أكثر من عادية .

انتقل ببصره إلى الساعة المعلقة على الحائط وكانت عقاربها تعود للخلف ببطء و هو يحاول أن يُمسك ويتذكر البداية ، الحدث الخارق هناك بدأ كل شيء ، والقبض على قاتل الجميلات أو بإمكاننا أن نطلق عليه شرشبيل ، هكذا سمته إيفا لاحقاً ، كان سوليفان يتخيل عقارب الزمن تعود للوراء ببطء قاتل .

قبل أيام كان عليه أن يستجوب عدة أشخاص ، كانوا في برج ” لا بوم ” مكان مقتل ياسمينا آدمز ، تسكن تلك في برج قديم ، تم رصد جميع الأشخاص الذين توافدوا للبرج يوم مقتل الأخيرة ، عبر كاميرا مراقبة المدخل ، كانت الكاميرا التى ترصد ممر الطابق التاسع مُعطلة بطريقة مُحيرة و خبيثة .

كانت شقة ياسمينا القتيلة تقع في الطابق التاسع ، جاء التقني لمعالجة مشكلة الكاميرا و شرح سبب العطل للمحقق ، وضع الرجل السلم و إرتقى ، فأصدر السلم صوت تحت وزنه ، تلمس الكاميرا بيده و هتف :

” يا رب ، رحمتك “

علق سوليفان متحمساً : ” أدهشني “

” أي شيطان يفعل هذا ؟”

في الساعة الرابعة صباحاً انقطع التيار الكهربائي لعدة دقائق ، كانت كافية لينفذ القاتل فكرة شيطانية ، عقد سوليفان حاجبيه ، بينما أكمل التقني :

” إنها مطلية “

” يعني ؟ “

” الكاميرا تعمل و تبُث لكنها مطلية بمادة سوداء “

ذلك المجرم المُنفلت ، حجب الرؤية تماماً عن ممر الطابق التاسع ، ترك لنا الوهم – ترك فقط النقطة الحمراء التى تومض ، بعدها نفذ جريمته بكل أريحية .

” لا بأس “

كانت كاميرا مدخل برج لابوم تعمل ، صحيح أن هناك عدة دقائق مفقودة لحظة انقطاع الكهرباء ، لكنها صورت الجميع بما أن المصعد توقف . وضع سوليفان كُل رهانه على كاميرا المدخل و حصل على وجوه وأسماء لأصحاب الشقق و الزوار . ” إيفا كيندريك ” كانت في طليعة القائمة . لذا زيارتها في متجر ألعابها واجبة .

زُقاق 21 لا يتسع لعربة سوليفان لذلك أوقفها على مقربة ، قفز بخطوات خفيفة على الأرض الرطبة للزقاق ، كان الضباب يصنع تموجات ثخينة كالدُخان ، كان على مستوى القدمين فقط . يُخيل إليك بأنك تطفو من على الأرض – يوحي إليك بأنك تختنق . في نهاية الشارع أُضيئت لافتة مُتواضعة باللون الأرجواني ” ليتل توي ستور “

كانت واجهة المتجر الزجاجية مغطاة باللُعب ، الدببة والباندا بحجم كبير ، و كان هناك قسم خاص ” بالقصص المصورة ” .

عرف إيفا ، سبق و أن حصل على صورة لها مطبوعة من تقنيي التحقيق ، كانت تجلس خلف الكابين ، بدت ببشرة بيضاء شاحبة و شعر فاحم مُجعد ، كانت تخُط شيء ما ، هي مركزة تماما على ما تفعل ، هي في نهاية العشرينات وهو رجل في نهاية الأربعينات . على وشك أن يُزعج هدوئها و سكينتها . دفع سوليفان الباب الزجاجي و ألقى عليها التحية .

جمعت ما كانت تخُط سريعاً ، و قلبت الورقة على جانبها الآخر . انتابه الفضول حول ماهية ما تكتبه ، مدى الحرص و الإرتباك كانا كافيين بأنها ليست حسابات المتجر . تأمل ما حولها و لاحظ نُسخة من كوميكس X MEN على يمينها .

بعد أن ألقى عليها التحية . استهل حديثه بكلمات جريئة و مباشرة :

” ياسمينا آدمز ” … قال : ” وُجدت مقطوعة العنق تنزف ، مقيدة على كرسي وميتة “

” نعم “

كان صوت إيفا تتخلله بحة مميزة . مدوّخة و مُربكة – كأنه يتكسر برفق في الهواء ، صوتها هادئ و هشّ بشكل خاص ، هزت رأسها نافية و أردفت :

” لا أعرفها … لم أرها “

“أمس ، زُرتِ البرج في الصباح الباكر ” قال سوليفان ” احكي لي إيفا و قُصي علي . عن عملك في لابوم ذلك الصباح “

شردت إيفا ناحية الشارع تُفكر و أخبرته كيف أنه كان عندها طلبية تسليم ، لعبة لأحد الأسر في ذلك البرج . قالت :

” لكن الطلبية أُلغيت في اللحظة الأخيرة “

تبادلا النظرات لوهلة و كِلاهما عرف بأن قصتها ناقصة ، أشاحت ببصرها و ابتسم لها سوليفان ، ثم هم بالمغادرة و هو غير مقتنع بروايتها الناقصة و ربما الكاذبة . لكنه سيعود من أجلها . ترك رقمه ، وأشار نحو مجموعة للأقزام الزرقاء . كانت مرصوفة بعناية على أحد الأرفف الزجاجية و غمغم مبتسماً :

” سنافر جميلة “

قالت إيفا نصف الحقيقة أو ربما كانت تكذب ، تخفي شيء ما ، لذا طلب سوليفان من مساعده ماثيو :

” أريد أن أعرف تاريخها وحياتها ، أريد أن أعرف حتى لون ثيابها . من هي إيفا كيندريك ؟ “

” هذا لك “

طيلة أشهر يعمل ماثيو مساعداً لسوليفان ، متدرجاً ومتعاوناً ، كان ذكياً و لبقاً ، في نهاية العشرينات ، كان مجتهدا في عمله ، يثق به ويعتبره كابن .

لا يدري سوليفان أن ذلك كان حواره الأخير مع إيفا قبل اختفائها ، تبخرت من على وجه البسيطة دون أثر ، أبلغ عن تختفائها الصبي بول ، كان يساعدها في عمل المتجر ، يعمل معها و يدرس في الجامعة ، تحدث إليه سوليفان ، بدا الفتى غير متماسك و مُنكسرا لاختفاء إيفا .

قال:

” جئت في المساء كالعادة .. و كانت قد اختفت “

تهدج صوت الصبي و تنهد بعمق : ” هذا مؤسف ، لا يمكنني تخيل ما حدث لها ، أتمنى أن تكون بخير ، أتمنى أن تعود “

سأله سوليفان مجدداً عن روتين إيفا و كان عادياً مملاً ، تقضي الفترة الصباحية في المتجر ..

” كانت هادئة و مضطربة في آن ” قال بول ” لا تسمع لوجودها قربك أي ضجيج ، لكن عالمها من الداخل كان يزخم بالكثير “

سأله بفضول : ” مثل ماذا ؟ “

” كانت تهتم بالكثير من الأشياء خصوصاً في الفترة الأخيرة ، أشياء لها علاقة بالفيزياء “

” هل تملك إيفا اي مكتب شخصي هنا ” سأل سوليفان ” أيمكنني تفقد أشيائها ؟ “

” بالطبع “

اتجه سوليفان خلف الكابين ، كان مكتب إيفا مرتبا بعناية و كل شيء في مكانه . فتح الدرج :

” هذا يخصها ” قال بول : “هنا تضع كل ما يتعلق بالعمل زائد بعضٍ من أشيائها الشخصية “

جلس المحقق خلف الكابين الزجاجي و بدأ بتفقد الأشياء ، وجد ألوان باستيل ، بعضها مكتمل و بعضها أنصاف و بقايا ، تم التلوين بها حتى تآكلت ، و كان هناك عدة رسمات أغلبها تصلح لكوميكس . تمتم سوليفان :

” إنها بارعة “

” نعم … نعم إنها ترسم لمجلة أطفال ما .. مجلة مشهورة “

كان أكثر ما يلفت الإنتباه هنا هو هذا الرسم على ورقة آي فور عادية ، فغر المحقق فاه ، و جمد في مكانه دون حركة .

” متى رُسم هذا ؟ “

هز بول رأسه نافياً :

” لا أعرف .. لم أشاهده من قبل “

تناول سوليفان الرسم و هرول مسرعاً الى سيارته في آخر الزقاق ، كانت السماء قد بدأت ترسل هتوناً ناعماً ورقيقاً . هذا الرسم مسرح جريمة مكتمل ، كُل شيء موجود كل التفاصيل . حتى ياسمينا آدمز كانت هناك ، إبداع داكن – قوي . و تنافر صارخ ما بين الرسمة المصممة باللون الأسود و اللون الوحيد الكرزي لفستان ياسمينا و هي تتوسط الرسم على الكرسي ، بمعنى آخر – لم يكن رسما عاديا بل كان نقشا ، نُفذ بحرفية عالية ، بإبداع و دقة نُقش .

أخذ الرسم لمكتبه واستدعى زميله ماثيو :

” ألقي نظرة على هذا “

ناوله الورقة ، رفع ماثيو حاجبيه و ابتسم:

” غير معقول “

” الأكثر إدهاشاً هنا ” قال سوليفان ” لاحظ الاختلاف ، في التفاصيل و الترتيب “

لوح بيديه في الهواء :

” الغرفة التى قتلت فيها ياسمينا لا تبدو هكذا “

علق ماثيو :

” أتلك مناشف ؟ “

” و تبدو سوداء ، مُتسخة ” مرر أصابعه على الورقة : ” دماء! هذا مُذهل! “

كان الرسم عبارة عن لوحة مُصغرة لغرفة ، يوجد سجاد وطاولة و أريكة ، و كرسي مُقيدة عليه صبية . كانت ياسمينا ، إنها هي بلا شك . و في اليسار يظهر رجل ويعطينا ظهره لا يظهر وجهه أبداً ، ينظر للنافذة ، وينعكس وجه الرجل على زجاج النافذة غير واضح ، كان وجهه مُمّوها ، أو غير مُكتمل .

” أحدهم قاطعها ، شخص ما قاطعها أثناء الرسم ، لولا قليل فقط لعرفنا القاتل ، مذهل ما فعلت “

السؤال هو ” عّلق سوليفان و أشار بيده ” كيف استطاعت إيفا أن ترسم مسرح الجريمة ، بكل ما فيه ، قبل تنظيفه ، و بينما القاتل لا يزال في الداخل ؟ هل كانت هناك ؟ “

كانت عينا ماثيو تُشع فضولا واهتماما

” أريدك أن تصنع قائمة ماثيو ، بكل ما تحتويه هذه الرسمة ، سجل كل خط . حتى تلك المزهرية المنقوشة و أزهارها أريدها ، أحصر كل ما يوجد في هذا الرسم الشاذ والمُنحرف ، ثم أريد منك أن ترسلها بعد ذلك للفحص “

قال ماثيو :

” بخصوص حياة إيفا ، وجدت بعض الأشياء سول ، ماضي شنيع عاشته “

” احكي “

” مؤسف ما حدث لها و لعائلتها . عندما كانت بعمر الخمسة أعوام كانت تلعب الطفلة رفقة أخيها ، خارج المنزل ، شقيقها الصغير كان عمره ثلاثة سنوات ، سام كيندريك غرق في حوض السباحة ، كانت إيفا هناك شاهدت الصغير و هو يلفظ روحه في المياه ، أصيبت الطفلة بصدمة “

علق سوليفان :

” هذا إهمال واضح ، أكمل من فضلك “

” بقيت كيندريك مع والدتها حتى كبرت . لم تكمل دراسة المحاسبة ، أعتقد أنه بسبب مصاريف الجامعة أو أنها ليست شغوفة بالحسابات ، لها تهتمامات أخرى ، كالفن و الرسم و قصص الأولاد ، كان هذا هو عالمها الذي تريد ، ثم بعد شدّ و لين مع الحياة ، حاولت شق طريقها و افتتحت – متجر الصغار للألعاب – و هي تقضي جُل وقتها فيه ، حتى اختفائها “

” ليست مثل الأخريات اللائي قتلن ، هي مختلفة . لا تهوى الألبسة الفخمة و لا الكعوب العالية ، أين أنت إيفا ؟ “

2

كانت تُمسك اللون الكرزي بيدها اليمنى ، و اللون الأسود باليد الأخرى ، عبثاً تحاول أن تجعل مما رأت في زقاق واحد وعشرين صورة حية ، أرادت أن تمسك ما عاشت قبل أن يتلاشى من ذاكرتها و يصبح كالضباب ، الآن شبه انتهت من اللوحة الغريبة ، تبقى الوجه فقط ، تتذكره بوضوح ، في تلك الغرفة الخانقة و الضبابية كان منعكساً على الزجاج ، بارد و جامد كالموت ، القاتل كان يحمل الموت في جعبته ، كان النصل بيده يقطر دما أحمرا قاني و يلطخ السجاد على الأرض ، فضلت إيفا أن تجعل قطرات الدم تلك في الرسم باللون الأسود كحال كل الدماء الظاهرة في اللوحة .

بالرغم من ذلك . بقي الرسم ناقصا و كغير مكتمل ، كان وجهه ضبابيا و مموها .

جرس خفيض أعلن عن دخول شخص ما للمتجر ، جمعت إيفا ما كانت تخُط بحركة آلية و دفعت به إلى درج الكابين ، أهمل الغريب قسم القراءة و المجلات واتجه نحو قسم المجسمات ، حيث النسخ شبه الحية من الأبطال الخارقين .

أقتربت منه و قالت : ” كيف أساعدك ؟ “

قال الغريب بكلمات آلية واضحة :

” منذ صغري و أنا أكره السنافر . لم أحبها يوماً . خاصة سنفور المُغامر “

التقت نظراتها معه ، و صدرت عنها شهقة لا إرادية ، تراجعت للخلف : ” شرشبيل “

بخفة دفع الرجل باب المتجر و علق لافتة ” مُغلق “

” كُنت أقول السنافر . أجدها مثيرة للشفقة يا إيفا ، أجدها مُقززة – و نكرة ، مثلك تماما “

كان الرجل يقترب منها بخطوات حذرة و ببطء ، بينما هي تتراجع للخلف مضطربة .

” أنتِ طفيل مقيت لا يمكن القضاء عليه أو علاجه ، لا أعرف كيف تسللتي إلى ما أفعل . أنت أفسدتي ما أقوم به ، لكم أكره الفضوليين – المتطفلين “

” لا .. لا تقتلني أرجوك “

” لن تموتي اليوم ، ليس اليوم ولا حتى بعد ثلاثة أيام “

غرس أصابعه الخشنة في ذراعها ، و أمسكها بقبضة قوية ، سحبها إلى الجانب الآخر من الكابين و دفع بالحامل الزجاجي بعيدا ، بعدها فتح باب مخزن الألعاب . و بدأ الرجل يدندن :

كنت طفلة ، كنت نقية
لا يعلمون بأنك شيطان

” لا … لا … “

أيتها الخاطئة
لماذا جمعتي التفاح ؟

” لا تدخلني إلى هنا أرجوك … أخاف كثيرا هنا ، أخشى المسبح ، أقتلني أرجوك أقتلني الآن لكن لا تتركني هنا في الظلام “

دفعها أمامه و هو خلفها ، عبثاً كانت تحاول الإفلات

أيتها الخاطئة
لماذا لم تنادي أمك ؟

دافعت عن نفسها :

” صرخت و لم يخرج صوتي ، في ذلك المسبح مت مع سام ، لم أحيا بعدها أبداً “

” الآن ستصمتين للأبد “

أغلق باب المخزن بقدمه ، و اخرج شريط لاصق من جيبه و بدأ يلف يديها خلف ظهرها .

” لا أريد الموت . لن أخبر الشرطة ، أنا حتى لا أعرف اسمك ، أرجوك لا تقتلني أنا حتى لا أعرف أي شيئ عنك “

” لكنك رأيتني “

كانت شفتيها ترتعشان و ترمش بتتابع:

” لم أكن أقصد التطفل ، أنا كنت فقط أسير في الشارع و وجدت نفسي – “

كاذبة .. خاطئة ، ستموتين لسببين ” قال بطريقة تقريرية :” لأنك رأيتني أولاً في تلك الغرفة المشؤومة وأنا أقتل ياسمينا ، و لأنك لم تصرخي ثانياً ، و هذا أكثر من كاف بالنسبة لي ، و التقت ذنوب الماضي بالحاضر ، أجدني عادلاً تماماً معك “

كان عقل إيفا مشوشاً ، سيحاسبني .. سيقتلني بسبب صدمتي وصمتي ، كيف عرف بأنني رأيته؟

كان مخزن الألعاب شبه مظلم ، به إضاءة لمصباح عتيق مُتذبذبة ، ألصق فمها باللاصق و لفّ قدميها معاً ، ثم جرها على الأرض الباردة حتى وصل بها الى حوض السباحة القديم و الصدئ ، كان مليئا حتى النصف بالألعاب المعطوبة . أجبرها على الوقوف ، بينما لثمت أصابع قدميها العاريتين و المضطربتين حافة المسبح الباردة .

” لا اعرف كيف دخلت إلى تلك الغرفة ، و لا كيف اختفيت من أمامي بتلك السرعة ، أعرف الآن أنني أريدك أن تختفي “

دفع بها من فوق و تهاوت ساقطة للأسفل ، تألمت بصمت عند اؤتطامها باللعب ، و أنَّت من الألم لأن شيئا حادا انغرس في ظهرها .

نزل و لحق بها إاى الأسفل ، تطلبت عملية جرها لمنتصف المسبح مجهودا صعبا ، وأوصلها للمنتصف بالضبط ، بينما تسللت رائحة العفن خانقة الى أنف إيفا فسببت لها الغثيان و شعرت بدوار ، ذهبت بفكرها بعيداً و تأرجحت ، أرادت تهدئة نفسها ، محاولة فصل و إلهاء عقلها عن الواقع ، جائها صوت جلادها هادئا و عميقا ، مُحيطيا و مخيفا كما أول مرة سمعته عند الزقاق .

” في الأصيل كانت الشمس تحترق ، عند شجرة التفاح “

ثم سمعت صوت خطواته تبتعد و تدعس في أكوام اللعب ، كان يدعس عليها بقدميه الغذرتين كشرير لعين ، كان يسير ببطئ مبتعداً . ثمة صوت صرير حاد تناهى لمسمعها ، سكن الصوت قليلاً كأنه يصارع ويقاوم ، صرير .. ثم توقف … صرير مجدداً … تسائلت عما يفعل ؟

“يفتح الصنبور … يغمرالمسبح بالمياه ؟ …. يغمرني بالماء …. يُغرقني ..”

تلوَّت في مكانها محاولة الفكاك أو الهرب . و عبثاً تفعل ، أصدرت أنّات مريعة و صرخات مكتومة ، كانت أنفاسها تُسرع بينما دموع اليأس و الإحباط و الخوف تُغرق مقلتيها ، كان الجرح الذي في ظهرها ينضح بالدماء الحارة و ينزف ، تخيلت ذلك السائل الأحمر و هو يسيل على اللعب تحتها ، ثم يستمر بالجريان حتى يلتقي بالمياه التى ترتفع باتجاهها مُسرعة و غاضبة ، أرهفت السمع و لم تسمع أي صوت لمياه ، لابد و أنها ترتفع ببطء بالغ ، رمشت إيفا بتتابع محاولة حساب كم يتطلب ملؤ هذا المسبح الضخم ، بما أن خط المياه قديم و صدئ ربما ساعتين أو ثلاث … يوم ؟

اخيلت ذلك الباب الصغير هناك على يسارها مُغلق وموصد بإحكام ، بينما تم إخفاءه على الناحية الأخرى بالأرفف الزجاجية ، كانت رؤية هذا الباب مستحيلة ، حتى بول لم يعرف بوجوده إلا بعد عدة أشهر من عمله . ستموت ميتة بطيئة – شنيعة .

ليس لديها أصدقاء ، لا تتواصل مع والدتها ليس مرة كل شهر ، لا أحد حولها ، ولا حتى حبيب ، الآن أحست بالندم و أهمية وجود شخص ما ، إنسان حي من حولها .
فقط قصصها المصورة حولها و الدمى الخالية من الحياة ، هؤلاء هم أهلها و حياتها .

3

كانت عينا بول فارغتين ، كان يبدو عليه الإرهاق والتعب ، كانت عيناه الضيقتان تراقبان الساعة المُعلقة على الحائط في مكتب المحقق ، كانت الساعة ببندولها المُتدلي مُعطبة أو ربما فرغت بطاريتها . كانت الأشياء المُعطبة تصيبه بالتوتر و العصبية ، فقبض على يده دون أن يقصد ذلك .

كان مكتب سوليفان غارقا في كومة من الأوراق ، مما زاد من قلق بول ، كان قرب الساعة بورد ثُبتت فيه ثلاثة صور لنساء ، بينما صورة إيفا كانت في الأسفل . شعرها الأسود و المجعد احتضن وجهها الأبيض ، بينما بدت عينيها ودودتان و دافئتان ، كُتب فوق الصورة بالأحمر و بخط عريض ” مفقودة “

دقائق بعد ذلك و دلف المحقق سوليفان لمكتبه:

” بول ، كيف حالك ” صافحه ” طلبت رؤيتي بصورة عاجلة ، أخبرني و احكي لي هذا الأمر العاجل ، أجلس من فضلك “

كان الصبي يلف معطفه حوله ، مرتبكاً يضغط على كفيه ، شرع سوليفان يجمع الأوراق المبعثرة على مكتبه و قال بول :

” رأيت شيئا غير معقول و لا يصدق “

توقف سوليفان عما كان يفعل و أصغى بكل حواسه:

” آنسة إيفا في الأيام الاخيرة بدأت تسأل عن أشياء غريبة ، أشياء تتعلق بالفيزياء ، ظننتها هاوية في بادئ الأمر . كانت تسأل عن حركة الأجسام و الانتقال من مكان لآخر دون المرور بالحيز و دون عامل مساعد “

” هذا مستحيل و غير ممكن من ناحية علمية ، تعرف ذلك “

” مع ذلك ” قال بول و هو يمد شيئاً للمحقق ” تمكن العلم في السنوات الأخيرة من نقل فوتون “

” ماذا درست أنت ؟ “

” أدرس الفيزياء ” قال بول موضحا ” إنها سنتي الأخيرة ، هل بإمكانك تشغيل هذا القرص الصلب ؟ “

تناول سوليفان السي دي و أدخله على جهاز اللاب توب:

” تمكن علماء في الصين من نقل صندوق كامل من غرفة لأخرى ، لمسافة ستة أمتار . لكن فعلياً الصندوق لم يتحرك من مكانه ، لنسمي هذا التفاف على العلم و الواقع “

أضاءت شاشة الجهاز و اشتغل مقطع الفيديو:

قال سوليفان : ” زُقاق واحد و عشرين ؟ “

كان المقطع ينقل حركة مُسجلة عن زُقاق واحد وعشرين ، كانت الكاميرا تُغطي الصورة من ناصية المتجر حتى المكان الذي يصف فيه سوليفان سيارته . كان الضباب يلُف المكان ، و الرؤية متعثرة قليلاً ، ظهرت إيفا في بداية الزُقاق و هي تمشي باتجاه الكاميرا ، كانت تقترب ببطء شديد ، حتى خُيل إلى سوليفان أنها توقفت تماما عن الحركة .

” في حقيقة الأمر ، العلماء الصينيون ” قال الصبي ” لم يحركوا الصندوق من مكانه كما قلت ، بل نقلوا معلومات ذلك الصندوق و صنعوا نسخة طبق الأصل عنه و كأنه هو ، الآن سيد سوليفان ماذا نسمي هذا ؟ “

” فشل التجربة “

” نعم … أن الإنتقال من مكان الى آخر مستحيل “

أشار بول بيد ترتجف الى الشاشة و همس : ” راقب “

كانت إيفا تقف دون حراك . ثم و بحركة بطيئة وآلية مدت يدها نحو الفراغ ، نحو الكاميرا مباشرة – تقريباً ، دقيقة بعد ذلك و اختفت ، تماماً .

أجفل سوليفان ” أين هي … أين هي ؟ ” وضع يده على الجهاز ليتأكد من أن الفيديو لايزال يعمل ، و بالفعل كانت الدقائق والثواني تستمر في العد .

” لقد اختفت إيفا أمام أنظار الجميع لثلاث دقائق ، لم يلاحظ أحد و لم ينتبه ، ثم ها هي تعود و تظهر مُجدداً “

” مستحيل!! “

قال بول ساخراً :

” كأنها كانت في نُزهة “

انتهى المقطع بمجيء إمرأة ما ساعدت إيفا ..

” تعرضت لنوبة ” علّق بول ” أعتقد انها بسبب الطاقة الهائلة ، عملية كهذه بحاجة لطاقة عالية ، ربما تكفي لانشطار نووي . محظوظة أنها لا تزال قطعة واحدة “

تهاوي بول بإرهاق على الكرسي المريح ، بينما أمعن سوليفان النظر على الدقائق والثواني والتاريخ ، وكان هذا هو اليوم الموافق لمقتل ياسمينا . بل ونفس الساعة .

” أعتقد أنني أعرف أين اختفت خلال تلك الدقائق “

طرق على الباب و دخل ماثيو ، ألقى نظرة فاحصة على بول و قال :

” 32 غرضاً حوى رسم إيفا ، سجلت كل غرض و م أنسى شيء “

“شكراً لك ، شكراً “

تفحص سوليفان القائمة باهتمام ، ثم ثنى الورقة وأدخلها بين ثيابه .

” هل مفاتيح ليتل توي ستور معك؟ “

” بالطبع “

طلب سوليفان من الصبي أن يرافقه للمتجر لكنه اعتذر و قال بأن لديه امتحان في الغد ، فأخذ زميله ماثيو معه ، تذمر الأخير أثناء طريقهم للمتجر .

” لا يوجد شيء هناك عدا تلك الألعاب البغيضة “

” من يدري لربما نجد ما يفاجئنا ” أشار سوليفان بيده ” تلك الفتاة مليئة بالمفاجآت “

ابتسم سوليفان إبتسامة عريضة و مُربكة ثم أكمل:

” أتعلم لقد تبخرت تماما أمام الكاميرا ، طارت و ذهبت بعيداً ، أعتقد أنها رأت القاتل وجهاً لوجه ، الرسم يؤكد ذلك “

” مُبهر “

” جميعهم تعرَّف على الآخر ، كلهم رأوا بعضهم “

” من تقصد بجميعهم ؟ “

قال سوليفان بثبات :

” إيفا ، القاتل و ياسمينا آدمز ، لنزاح الستار لوهلة . ثلاث دقائق كانت كافية لكشف ثلاثتهم “

وصل الإثنان الى المتجر ، أراد ماثيو أن يجلب كوبي قهوة من المقهى المقابل للمحل . بينما دلف سوليفان ، راقبه و هو يبتعد ، كان المكان ساكن سكون الموت ، كانت الألعاب تبدو بظلالها كوحوش جبارة وصغيرة ، كان كل شيء جامدا ، أشعل الأضواء في الداخل فدبت الحياة في المتجر ، أمسك بهاتفه وأجرى اتصال سريع مع قسم الأدلة ، طلب أن يرسلوا له صورة للرسم ، أراد مراجعته مجدداً لربما يجد أي شيء .

برهة و طنّ هاتف سوليفان عن وصول الرسالة . فتح الصورة المرسلة ، و قام بتكبيرها واضعاً أصبعين على الشاشة ، كانت ياسمينا تتوسط الرسم بفستانها الكرزي الفخم . بينما يظهر فمها مفتوحا و الدماء تنضح من عنقها .

تطلب الأمر منه ثواني فقط ليلاحظ الشيء الموضوع على الطاولة قرب ياسمينا ، بعدها نقل بصره إلى القائمة أمامه ، بحث عنه ولم يجده ، النظارات ، لم ترد في القائمة ، قام بتكبير الصورة مجددا و رأى الكلمة الواضحة و المنقوشة ببراعة على حافة النظارات :

” هوغو “

تكة خفيضة فُتح على إثرها باب المتجر:

” ساخنة و مغمورة . لذيذة و مثالية . ذلك المقهى يصنع قهوة فاخرة “

” هل تحققت أن جميع الأغراض وردت في القائمة ؟ “

” بالتأكيد ، 32 غرض “

” أوتعلم ماثيو ، أعتقد بأنك تكذب “

” عفواً ؟ “

” أنت كاذب لعين “

كان ماثيو يقف باتجاه المجسمات الصغيرة يظهر جانبه الأيمن تجاه سوليفان ، اقترب منه الأخير ومشى تجاهه بخطوات ثابتة ، أراد ان يلمس الحقيقة و يتأكد ، ولسخرية القدر تذكر مسير إيفا على زقاق واحد وعشرين وهي تمد يدها لتلمس ياسمينا آدمز و تتأكد بأنها حقيقية .

مد سوليفان يده و انتزع نظارات ماثيو من عينيه:

” كيف تجرؤ “

” هوغو “

ظهرت الماركة منقوشة على جانبي النظارات : ” أيعقل أنك نسيت أن تضع النظارات ضمن القائمة ؟ بالتأكيد أنك لم تنسى ، من المؤكد أنك لا تنسى ، تعرف أنها دليل ، بحق الله “

” و من لا يعرف ؟ “

بدأ ماثيو يتحدث بنبرة باردة و جامدة ، كلماته واضحة . مُرعبة و موزونة قال مُلمحاً عن إيفا :

” تلك البغيضة كانت تجمع التفاح بالفعل ، يا لها من خاطئة ، تفاجأت بالرسم “

” بني – “

” لست ابن أحد ، لن أخبرك عن مكانها أبداً ، لن تجدها ، لن تلحق بها “

سدد له سوليفان لكمة وتبعها بأخرى ، طرحه أرضاً ، تشقلبا رأساً على عقب و بحركة خاطفة سحب ماثيو سلاح سوليفان من خصره ووجهه نحوه ، ابتعد عنه خطوات موجهاً السلاح بيدين ثابتتين .

سأله :

” لماذا تفعل هذا ؟”

” منذ أن رأيتها كرهتها ، أول مرة التقيت بها في الحافلة ، كنت في طريقي إلى المركز ، إصطدمت بي ، تلك الفتاة البائسة و المتطفلة . ترجلت في زُقاق 21 “

” ليست من نوعك الذي تهوى ، ماثيو علمتَ أنها ستكون سبب سقوطك “

” أردت التخلص منها بدلاً عن ياسمينا ، أردت تقييدها وربطها على ذلك الكرسي اللعين ، في الغرفة البغيضة ، إيفا تخيلتُني أنقض عليها بنصلي الحاد في الحافلة ، ليست نوعي الذي أهوى لذلك تركتها و شأنها ، و لاحقاً ملكت ألف سبب لقتلها “

” مثل ؟ “

إبتعد ماثيو لعدة خطوات .

” رأيتها معي في تلك الغرفة ، كانت تقف هناك و تُحدق بغباء ، كما قلت كانت تجمع التفاح ، جمعت كل الأجزاء و صنعت دليلا ، لسوف يسجُنني ، لسوف يقضي علي “

صوت سلاح أصم أذني سوليفان و شعر بألم ساحق وحريق يكوي بطنه ، تلوى في الأرض . و راقب قاتله وهو يرتدي نظاراته ثم يرحل مستقبلاً ضباب لندن وهوائها البارد .

دماء ساخنة بدأت تسيل . حاول أن يضغط على الجرح و بدأ ينزف بقوة ، شعر به ثقب عميق و غائر أصاب وسطه ، كان رجلا ذا جثة ضخمة و عظم قوي ، حاول سحب مفكرته من جيبه ووضعها على مكان الطلقة ، ثم نزع الكرافتة من عنقه و لف بها بطنه بإحكام و أحكم العٌقدة ، كان يلهث بتتابع ، عدة دقائق فقط و ستصل الشرطة و الإسعاف معاً . لابد أن أحدهم طلب النجدة .
كان متسطحاً على الأرضية عندما رآه بوضوح تام يختبئ هناك كشرير صغير . قزم تحت الكابين وفي نقطة أقرب للجدار ، عندها همس :

” شرشبيل ؟ ماذا تفعل عندك في الأسفل ؟ “

قبل عدة أيام لم يكن سوليفان يعرف من هو شرشبيل ، و لم يكن يعرف حتى ما هي السنافر ، ليس رجل في عمره ، جاء الى ” ليتيل توي استور ” في الصباح والتقى بإيفا عندها شرحت له و قالت بحماس طفولي :

” شرشبيل هو عدو السنافر ، يضايقها و ينفذ خطط شريرة عليها “

أعادت بضعة خصلات من شعرها للخلف و أخرجت شرشبيل من الدرج :

” أنظر أبقيه محبوس عندي هنا كي لا يضايق السنافر ، أحبسه عندي هنا لتشعر هي بالأمان ، لا أخرجه من الدرج أبداً ، إن أخرجته سيأكلهم ” همست إيفا كي لا يسمعها أحد : ” سيحصل على قوى سحرية “

” أنت تحبينهم ، السنافر”

” كثيراً “

ابتسمت إيفا ببراءة و قال سوليفان وهو يهم بالخروج:

” إنها جميلة “

إيفا كان معها حق ، حتى تشبيهها لجلادها وقبل أن تكون ضحيته برعت فيه ، كان ماثيو يتغذى على قتل الجميلات ، لا يستطيع الحصول عليهن في الحقيقة . ليس شابا خجولا مثله ، ليس بنظارته البغيضة تلك ولعثمته السيئة ، لا يملك أي فرصة بتكوين علاقة ، ناهيك عن التطلع الى الفاتنات ، كُن مُلفتات مُثيرات وبعيدات عن متناوله ، لربما ساعد في هذا ماضي طفولته . امرأة جميلة . ربما كانت أمه أو عمته . مسيطرة و مهيمنة ، أمرأة كان لها اليد العليا في تكوين شخصيته ، هيفاء . حسناء . لعوب من جنس حواء وظّن بأنه آدم . ظّن بأنه خُدع بالتفاحة الحمراء . لذلك كان قتلهم و تقييدهم هو نوع من الامتلاك لماثيو ، نوع من فرض السيطرة بالنسبة له ” انظروا أنا موجود ؟؟؟ ” ، ولضحيته نوع من التطهير من الخطايا والذنوب .

الألم الحاد أرجعه من ذكرى لقائه الاول بإيفا ، زحف نحو القزم الصغير الذي يُدعى شرشبيل و مد يده وتناوله .. كيف خرج من الدرج … و إيفا تُبقيه محبوسا كُل الوقت ؟ … إلا إذا … تعمدت إخراجه .

حاول الزحف على يديه ، إقترب من اللعبة ، مد يده وتناولها ، لمح جزء صغير من الزوايا السفلية لباب المخزن .

” يا رب رحمتك “

حاول الوقوف . استند على الكابين و نهض مترنحاً ، اتجه ناحية الأرفف الدوارة و سحبها بكل ما يملك من قوة ، فظهر الباب الصغير و هو موصد بسلسلة غليظة .. عاد الى درج الكابين خلفه ، حيث تضع إيفا أشيائها . سحبه بيدين ترتجفان ، تناول المفاتيح و تلطخت بالدم حالما قبض عليها ، ثم رجع للخلف و بدأ بفتح الأقفال ، رمى السلسلة على الأرض فأصدرت صوتاً صاخباً . خطى في الظلام و كان قد بدأ يفقد طاقته . نده بصوت هزيل . يائس :

” إيفا .. إيفا كيندريك …”

الظلام و السكون كانا سيدا الموقف ، كان يسمع أنفاسه فقط و صدى صوته يتردد .

” أعرف أنك هنا .. قولي .. أي شيء إيفا “

ترنح قليلاً و سقط بالقرب من المسبح القديم ، ضاقت عينيه و تأرجح عقله ما بين الحلم و اليقظة كان يقاوم بعقله لكن جسده تعطل و توقف عن إطاعته ، تناهت لمسامعه أصوات سيارات الشرطة و هي تصدح في البعيد ، شعر بها تبتعد و لا تقترب ، أحس بالثواني والدقائق تتوقف ، ثم غاب عن الوعي مُرغما . مُكرهاً وهو يكرر :

” إيفا .. إيف …”

4

في التاسعة صباحا أشرقت الشمس بلون برتقالي مُبهج يميل للأصفر ، كان الشارع الرئيسي مزدحماً بالمارة ، بينما توقف بضعة أشخاص على الجانب المقابل يحتسون القهوة ، كان معلقاً على ليتل توي ستور لافتة ” مُغلق ” ، لكن الرجل الذي جاء لم يكن مقتنعاً ، و أصرّ أن يطرق الباب الزجاجي بتتابع . حاول اختلاس الرؤيا من بين الألعاب ، كانت إيفا في الداخل ترتدي بنطال جينز و تيشيرت كلون السماء ، بينما غطى شعرها المجعد كتفيها العاريين . حالما رأت سوليفان ، أسرعت نحوه ، كان المحقق الأربعيني شاحباً و بالكاد يستطيع الوقوف . يستند على عكازة ، بالأمس فقد الكثير من الدم ، معجزة أنه استطاع المجيء في اليوم الموالي .

” تبدو بخير ، قليلاً “

” كان عليك رؤيتي عندما نجوت من تحطم مروحية عام 2009 ، كُسرت في أربعة أماكن و ها أنا ذا أنجو للمرة العاشرة “

” كنت سآتي لرؤيتك ، أنت رجل ماهر ، بارع و طيب “

لاحظ سوليفان الصناديق المُعدة بعناية فعرف أنها تنوي الرحيل ، ثمَّن على خيارها ، لا يمكنها البقاء هنا ، ليس وذلك المسبح الصدئ في الخلف ، سيظل يذكرها بجلادها و بشقيقها .

” شرشبيل بات بقبضتنا الآن ، لا يمكن أن يصل إليك أبداً ، اطمئني “

أومأت إيفا برأسها و أردف سوليفان : ” قال بأنه سيعترف بالثلاثة جرائم زائد محاولة قتلك “

” مقابل ؟ “

” أن يراك . و يتحدث إليك “

تأففت مستاءة و أكمل عرضه :

” لا بأس ، رجلنا يشعر بالفضول و سنرضيه ، خذي وقتك و فكري بقدر ما تشائين ، إن قررت التحدث تأكدي بأننا سنضع سلامتك أولاً ، لا يمكن أن يؤذيك ، ليس وهو مقيداً و ليس بوجودنا “

فكرت لبرهة ثم غيرت الموضوع عمداً مُشيرة الى إحدى المجموعات القصصية :

” ما رأيك أن تجرب هذا الكوميكس ؟ سيُعجبك . إنه العدد الأخير . وصل صباح اليوم “

” X MEN ؟ “

ابتسمت إيفا و أكمل سوليفان متشككاً :

” أعتقد أن الأبطال الخارقين موجودون ، لا ؟ “

رمته إيفا بنظرة مُشاكسة ، تأبط المجلة و قال وهو يهم بالمغادرة :

” شخص ما سرب مقطع الزُقاق ، أعتقد أنه بول . لابد وأنه مصاب بخيبة أمل عظيمة . رأيت التعليقات ، لا أحد صدقه . خاصة أصدقاؤه الفيزيائيون ، الضباب كان في صالحك ، لولا وجوده لكان الفيديو في غاية الدقة والوضوح “

النهاية ..

guest
34 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى