اكلي لحوم البشر

الرؤوس الموشومة

بقلم : اياد العطار

الرؤوس الموشومة
هل تعلم أن صادرات نيوزيلندا قبل قرن ونصف كانت تتضمن رؤوس البشر !

أظنكم جميعا سمعتم عن نيوزيلندا , تلك الأرض الساحرة القابعة في حضن المحيط الهادي , لكني أحسب بأن القليل منكم لديهم معلومات وافية عن تلك الجزيرة – بالأحرى مجموعة الجزر – وعن سكانها وتاريخها وسياستها الخ .. ومعكم حق , أنا أيضا لم أكن أعرف الكثير حتى قرأت عنها . وأقول معكم حق لأنها أرض معزولة تقع في أقاصي الأرض , يحيط بها الماء من جهاتها الأربع , وأقرب بلد كبير إليها هو أستراليا , والقرب هنا مجرد وصف وليس حقيقة , فالمسافة بينهما تزيد عن ألف وخمسمائة كيلومتر .. والظاهر أن سكان نيوزلندا راضون مستمتعون بعزلتهم وسط طبيعة بلادهم الساحرة وطقسها المعتدل , لذلك قلما نرى أسم بلدهم يتصدر عناوين الأخبار .. وذلك طبعا من حسن حظهم , فأنا على قناعة بأن البلدان التي لا يتردد أسمها كثيرا في نشرات الأخبار هي تلك السعيدة والمستقرة من جميع الجهات والأوجه , ويؤكد كلامي هذا أن شعب نيوزيلندا يصنف دوما من بين أسعد عشرة شعوب على وجه الأرض .

الرؤوس الموشومة
نيوزيلندا .. بلد جميل مسالم ..

لكن دعونا من الحسد , ولندق الخشب , لئلا يبتلي الله سكان الجزيرة الآمنة المسالمة بـ "عباقرة" كالذين ابتلانا بهم .. ولنعد لموضوعنا عن رؤوس الموكو , وهو موضوع يستلزم منا أن نخوض قليلا في تاريخ نيوزيلندا , فهو لم يكن ناصع وأبيض على الدوام , إذ تشوبه بعض الصفحات الحمراء الدامية .

نيوزيلندا تتألف من جزيرتين عملاقتين , هما الجزيرة الشمالية التي تضم العاصمة اليوم , والجزيرة الجنوبية , إضافة لمجموعة أخرى من الجزر الصغيرة المتناثرة هنا وهناك . ويقول العلماء بأن البشر وصلوا إلى نيوزيلندا حوالي القرن الثالث عشر للميلاد , هؤلاء الواصلون الأوائل كانوا من الشعوب البولينيزية التي بسطت نفوذها واستوطنت معظم جزر المحيط الهادئ ما بين أستراليا وهاواي , وهو عمل جبار يثير الدهشة , فكيف لشعوب بدائية بقوارب خشبية بسيطة أن تطوي هذه المساحات المائية العظيمة , كيف تنقلوا بين جزر تفصل بينها آلاف الأميال ؟ .. ومن أين كانوا يأتون بالمياه العذبة وسط هذا المحيط المترامي الأطراف ؟ .. أسئلة محيرة فعلا , لكنها ليست موضوع بحثنا , وعليه فلندع هؤلاء البحارة الأفذاذ يصارعون أمواج المحيط العاتية بقواربهم الصغيرة ولنلحق بأولئك الرواد الأوائل الذين حطوا بأقدامهم العارية على سواحل نيوزيلندا , والذين عرفوا لاحقا بأسم أقوام الـماوري (Māori ) , وتمتعوا بخيرات الجزيرة لعدة قرون قبل وصول الرجل الأبيض .

الرؤوس الموشومة
الماوري هم أول من استوطن نيوزيلندا ..

لقد كون الماوري مجتمعات صغيرة ذات طابع طبقي , غالبا ما تركزت بالقرب من الساحل , وكانت معيشتهم تعتمد على الصيد والتقاط ما تجود به  الطبيعة من ثمار وخضار , وكانت الأرض العذراء سخية جدا معهم بحيواناتها العجيبة التي لا مثيل لها على وجه الأرض , مثل طائر موا العملاق , الذي يشبه النعامة لكنه يفوقه حجما ولا يتملك أجنحة , والذي أصطاده الماوري إلى حد الانقراض في القرن السادس عشر .

لكن الماوري لم يسرفوا في اصطياد الموا فقط , بل في اصطياد أنفسهم أيضا , فعلى مدى قرون كان القتال محتدما بين القبائل حول مناطق النفوذ . وهذا القتال أتسم غالبا بطابع وحشي , فكان الماوري لا يتورعون عن أكل لحوم خصومهم .

الرؤوس الموشومة
الماوري يحرقون سفينة بويد بعد أن قتلوا ركابها من البيض ..

في عام 1642 وصل أول رجل أبيض إلى سواحل البلاد , وهو الهولندي أبل تاسمن . والهولنديون هم من أعطوا البلاد أسمها الحالي , أي نيوزيلندا , بمعنى زيلندا الجديدة , وذلك تيمنا بمقاطعة زيلندا في هولندا . اللقاء الأول بين الأوربيين والماوري لم يكن وديا , سفينة تاسمن ألقت مرساتها بالقرب من أحد الخلجان في الجزيرة الجنوبية , وأرسل تاسمن رجاله بالقوارب إلى البر ليجلبوا الماء العذب , هناك على الساحل باغتهم الماوري وقتلوا أربعة منهم ثم طاردوا الباقين إلى السفينة الأم , لكن الهولنديين أحبطوا الهجوم بإطلاق نيران مدفعيتهم على قوارب الماوري السريعة . وبسبب هذه الحادثة أطلق تاسمن على ذلك الخليج أسم (خليج القتلة) .

الكابتن كوك أعاد اكتشاف نيوزيلندا عام 1769 ثم أخذ المستوطنين البيض يتدفقون على الجزر , في البداية كانت العلاقة بين البيض والسكان جيدة وارتبطوا بعلاقات تجارية بسيطة قائمة على أساس المقايضة , لكن مع مطلع القرن التاسع عشر أصبحت العلاقة متشنجة بين الطرفين بسبب استيلاء البيض على الأراضي وتشييدهم المزيد من المستعمرات . كان هناك قتال ووقعت مذابح , أشهرها مذبحة بويد عام 1809 حيث هاجم الماوري الغاضبون سفينة انجليزية راسية في ميناء وانغاروا وقتلوا جميع من على متنها ما خلا خمسة أشخاص , فعلوا ذلك انتقاما لقيام قبطان السفينة بجلد أبن زعيم إحدى قبائلهم . هذه المذبحة بثت الرعب في قلوب البيض , لاسيما مع انتشار القصص حول التهام الماوري للحوم القتلى من البيض , كان الرعب شديدا لدرجة أن الرحلات إلى نيوزيلندا توقفت تماما لعدة سنوات .

الرؤوس الموشومة
أكل لحوم البشر كان شائعا بين شعوب جزر المحيط الهادئ .. هنا صورة حقيقية لسكان جزيرة فيجي الأصليين وهم يحضرون الجثث من اجل طبخها .. الصورة تعود لعام 1890 ..

لكن المستوطنون عادوا بعد بضعة سنوات بخطط جديدة قائمة على إذكاء روح المنافسة والنفخ في نار الأحقاد بين قبائل الماوري , ولم يكونوا بحاجة لبذل جهود كبيرة لتحقيق هذه الغاية , ذلك أن الأحقاد والمشاكل كانت موجودة أصلا ومتجذرة بين القبائل , لكنهم ساهموا في مد الأطراف المتنازعة بالأسلحة النارية الفتاكة , الأمر الذي أدى إلى مذابح ومجازر وحروب إبادة انخفض جراءها تعداد السكان الأصليين بمقدار الربع , وتمكن البيض من الاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضي بأسعار بخسة نتيجة قيام زعماء الماوري ببيعها للحصول على أسلحة يستخدمونها في صراعاتهم الداخلية .

الرؤوس الموشومة
رغم قسوتهم في الحرب فالماوري لم يكونوا برابرة .. الكثير من المستوطنين البيض الأوائل كانوا يفرون ليعيشوا في قرى الماوري ..

المشاكل بين البيض والماوري استمرت حتى بعد ضم البلاد للتاج البريطاني عام 1840 . كانت هناك حروب عديدة نتيجة استيلاء البيض على المزيد والمزيد من أراضي الماوري . لكن مع نهاية القرن التاسع عشر بدأت الأمور تهدأ وعم السلام البلاد , خصوصا مع حصول الماوري على حق المواطنة الكامل وتقديم تعويضات كبيرة لهم وإعادة مساحات شاسعة من الأراضي إليهم . واليوم يشكل الماوري حوالي 15 بالمائة من تعداد سكان نيوزيلندا ولهم أحزابهم ونوابهم في البرلمان .

الموكو

الرؤوس الموشومة
الموكو جزء من ثقافة الماوري .. كل خط ووشم له معنى ومغزى ..

مجتمعات الماوري تميزت بالطبقية , كان هناك زعماء ومحاربين وعبيد , والزعماء فقط وأفراد عائلاتهم كان يحق لهم الحصول على وشوم تعرف بأسم موكو , وهي تكون على شكل خطوط ونقوش ذات تموجات رائعة تمتد على كامل صفحة الوجه , وهي ليست عشوائية , بل أن كل خط فيها يحمل معنى ودلالة , فهذا الخط يعني بأن هذا الشخص هو من عائلة زعيم القبيلة , وذاك الخط يعني بأنه ينتمي للقبيلة الفلانية , والخط الآخر يتحدث عن مآثره وشجاعته الخ .. وعلى هذا الأساس فأن وشم الموكو كان مثابة جواز سفر لحامله , فعن طريقه يتم معرفة مقام الشخص وأهميته والاحترام الذي يجب أن يقدم له . وكانت هذه الوشوم تخضع لقوانين صارمة , فلا يسمح بها إلا لمن يستحقها من علية القوم , وتمنع النساء من وشم وجوههن باستثناء ذوات المقام الرفيع , كزوجة أو أبنه الزعيم , اللواتي كان يسمح لهم بأن يقمن بوشم الجزء السفلي من وجوههن .

الرؤوس الموشومة
لهم طريقة متقنة في تجفيف الرأس وحفظه .. الصورة لرأس حقيقي مجفف ومعروض في متحف ..

وكان من عادة الماوري أنه إذا مات شخص من أصحاب وشوم الموكو , أي الزعماء , يتم قطع الرأس والاحتفاظ به , وكانت لهم طريقة مميزة في تحضير الرؤوس من أجل الحفظ الطويل , فكانوا يقومون أولا بإخراج العين والدماغ ثم يسدون جميع فتحات الرأس من أنف وأذن وفم بواسطة الأربطة والصمغ , بعدها يوضع الرأس في قدر ويترك ليغلي على النار لساعات , ثم يجفف بتعريضه للدخان فوق نار موقدة , وأخيرا يضعونه في الشمس لعدة أيام حتى يجف تماما , ثم يطلى بزيت سمك القرش .

كانت هذه الطريقة أكثر فعالية في الحفاظ على معالم الوجه وملامحه من الطريقة التي تستخدمها القبائل البدائية في حوض الأمازون بالبرازيل والتي تعرف بأسم الرؤوس المقلصة , حيث يتم تقليص الوجه حتى ليبدو كأنه رأس دمية .

وكان الماوري يحتفظون بالرؤوس المجففة داخل صناديق خشبية مزينة ويتم أخراجها وعرضها في المناسبات الخاصة والطقوس الدينية . ويدعى الرأس المجفف (موكوموكايا) , وهو يحمل قيمة كبيرة لأفراد لقبيلة وعائلة الميت , إذ كانوا يعتقدون بأن هذه الرؤوس لها قوى سحرية خارقة تكاد تقارب تلك التي يمتلكها الأرباب .

الماوري لم يكونوا يحتفظون برؤوس زعمائهم فقط , بل برؤوس أعدائهم أيضا . فبعد كل حرب يتم جمع رؤوس الأعداء كغنائم حرب , أما الأجساد فكثيرا ما يتم أكلها . ولا تجمع سوى تلك الرؤوس التي لديها وشوم الموكو , أي رؤوس الزعماء , يتم تجفيفها ثم تعرض في مكان عام داخل القرية ويتم تحقيرها والسخرية منها .

الرؤوس الموشومة
كان محاربي الماوري قساة مع خصومهم ..

أحد المبشرين الأوربيين الذي عاش لفترة طويلة مع الماوري يصف مشهد تشفي وسخرية زعيم القبيلة من رأس خصمه الذي تم تجفيفه وعرضه في مكان اجتماع القبيلة . يقول بأن زعيم القبيلة وقف قبالة الرأس وخاطبه قائلا :

"لقد أردت الهرب .. أليس كذلك ؟ .. لكن هراوتي الحجرية أخذتك ! .. وبعد أن تم طبخك أصبحت طعاما لي ! ..
أين هو أباك ؟ .. لقد تم طبخه ..
أين هو أخاك ؟ .. لقد تم أكله ..
أين هي زوجتك ؟ .. ها هي تجلس هناك , زوجة لي ..
أين هم أولادك ؟ ..ها هم هناك , ظهورهم تنوء بحمل الطعام كعبيد لي .. " .

رؤوس الأعداء لم تكن مفيدة فقط لتخليد الانتصارات والانتقاص من الخصوم , كانت لها أيضا أهمية كبيرة لمساهمتها في عقد الصلح وإحلال السلام بين القبائل المتنازعة عن طريقة إعادة الرؤوس لأصحابها .

لاحقا اكتسبت هذه الرؤوس أهمية مضاعفة عندما لاحظ الماوري شدة ولع وشغف الأوربيين بها , فهؤلاء كانوا يرون فيها تحف نادرة ورائعة الجمال , وكانوا مستعدين لشرائها مقابل مبالغ طائلة , لكن ما حاجة الماوري للمال ؟ .. هم لا يريدون مال .. بل يريدون تلك العصي السحرية التي يستخدمها الرجل الأبيض لقتل أعداءه .. أي البنادق .. ومن هنا نشأت واحدة من أبشع أنواع التجارة وأكثرها بربرية … البنادق مقابل الرؤوس المقطوعة .

الرؤوس الموشومة
زعيم من الماوري ينادي من اجل بيع رأس في الميناء ..

كان الطلب كبيرا على الـ (موكوموكايا) في أوروبا وأمريكا , وكان جامعوا التحف ومدراء المتاحف مستعدون لبذل مبالغ طائلة لقاءها . ولهذا فأن ربابنة السفن التي كانت ترسوا في نيوزيلندا كانوا يطلبونها بشدة , ولم يكن يمانعون مبادلتها بالأسلحة النارية , لا بالعكس كانوا يشجعون على ذلك , فبالنهاية تلك الأسلحة كانت ستستعمل لقتل الماوري بعضهم بعضا .

لكن الماوري واجهوا صعوبة في إشباع الطلب المتزايد على الموكوموكايا , فالحصول على رؤوس الزعماء لم يكن أمرا سهلا ومتاحا دائما , كانت هناك أعداد صغيرة من الرؤوس لم تكن تلبي الطلب المتزايد عليها , ولأن الحاجة هي أم الاختراع , فقد عمد الماوري إلى طريقة جديدة لتوفير الرؤوس , فقاموا بوشم رؤوس العبيد وأسرى الحروب , ثم قطعوها وجففوها وقاموا ببيعها للأوربيين , طبعا لم تكن وشوم حقيقية وذات معنى كتلك التي يوشم بها الزعماء , كانت وشوم عشوائية بلا معنى , لكن الأوربيين لم يكن يهمهم معنى الوشوم أو هوية صاحبها بقدر اهتمامهم بالحصول على رأس بشرية مجففة يعودون بها إلى الديار ليبيعوها لقاء مبلغ محترم أو يعرضوها في منازلهم ويتفاخرون بها .

أحد المؤرخين كتب قائلا بأن التعطش لهذه الرؤوس وصل إلى درجة من الجنون بحيث أن محاربي الماوري كانوا يأتون بأسرى الحرب قبل قتلهم إلى ربابنة السفن , كانوا يدعون للقبطان حرية اختيار الرؤوس التي يريدها , ثم يعودون بالأسرى إلى القرية فيقومون بوشم الرؤوس المطلوبة ثم يقطعونها ويجففونها ويعودون ليسلمونها للقبطان . وطبعا أدى ذلك إلى زيادة الطلب على أسرى الحرب , فكانت القبائل تشن غارات سريعة على القرى والقبائل الأخرى فقط من اجل جمع الرؤوس .

الرؤوس الموشومة
الضابط الانجليزي روبلي مع مجموعته الخاصة من رؤوس الموكوموكايا ..

في عام 1831 تم حضر بيع الرؤوس في نيوزيلندا فأنخفض الطلب عليها بشكل كبير , لكنها أعداد قليلة كانت تباع من حين لآخر لجامعوا التحف مثل الضابط البريطاني هوراتيو روبلي الذي جمع  حوالي 35 – 40 رأس على مدى سنوات خدمته في نيوزيلندا , وقام ببيعها لاحقا إلى متحف تاريخ الطبيعة بأمريكا .

هناك اليوم مجموعات متفرقة من رؤوس الموكوموكايا موزعة حول العالم , وقد دأب الماوري على المطالبة بإعادة تلك الرؤوس باعتبار أن عرضها فيه إساءة وعدم احترام كبير لشعب الماوري , وفعلا أعيدت بعض الرؤوس إلى نيوزيلتدا حيث سلمت بعضها لأحفاد أصحاب الرؤوس فيما حفظت مجموعة أخرى في مخازن المتاحف من دون عرضها .

أخيرا .. إذا ما قيض لك يوما عزيزي القارئ أن تزور نيوزيلندا فلا تخشى على رأسك , فقوم الماوري تركوا قطع الرؤوس وأكل لحوم البشر منذ أمد طويل , ونيوزيلندا اليوم واحة للسلام والآمان والتطور .

المصادر :

New Zealand – Wikipedia,
Mokomokai – Wikipedia
New Zealand Mokomokai
MOKOMOKAI: PRESERVING THE PAST
Moa – Wikipedia

تاريخ النشر 06 / 07 /2015

guest
122 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى