تجارب ومواقف غريبة

الجني الذي ساعدنا

 
بقلم : محمد – السعودية
للتواصل : [email protected]

 

وإذا برجل يأتي من مسافة قريبة وقد خرج فجأة وبدون مقدمات

أحداث هذه القصة واقعية وحدثت لي شخصياً وبرفقتي اثنان من زملائي ونحن في سن العشرين ( أنا محمد وعمر و جميل ) في منطقة تبعد عن مدينة جده حوالي 40 كم وتقع بين مكة المكرمة وجدة وتدعى منطقة الجموم وهي عبارة عن مدينة صغيرة لها ضواحي مكونة من مزارع وبها استراحات يذهب لها سكان مكة وجدة لقضاء عطلة نهاية الاسبوع والاسترخاء وذلك لبعدها عن ضجيج وزحمة المدن ولوجود مزارع على مساحات شاسعة من الحبحب أو البطيخ وغيرها من الزراعات .

كان والد جميل يملك مزرعة ورثها عن والده فهو وعائلته من سكان المنطقة وكانوا وما يزالون محتفظين بمسكن العائلة ولكن يستخدمونه للترفيه فقط بعد ان نزحوا الى مدينه جدة ، وكان منزلهم يقع في ضاحية تسمى ( هدى الشام ) وقد سميت بهذا الاسم لأجوائها المعتدلة و طبيعتها الزراعية وأرضها الخصبة التي تشبه ارض الشام الحبيب ، وأيضاً لكونها تقع على طريق مسار قافلة الشام القديمة ( رحلة الشتاء إلى الشام ) وهي تبعد عن المدنية والطرق الإسفلتية ولتصل إليها عليك السير في طرق وعرة وغير مسفلته داخل المزارع على آثار من مر قبلك من السيارات مسافة 10 كم .

بداية قصتنا كانت في يوم خميس تحديداً ذهبنا من الصباح الباكر بعد صلاة الفجر برفقة عائلة جميل وأستقلينا سيارتين ، أنا وعمر بسيارة تويوتا جيب راف 4 وكانت جديدة الصنع ، و جميل وعائلته المكونة من امة وجدته أم أبيه واثنان من أخواته البنات الصغار أعمارهم بين 7 و 9 سنوات ، وجميعهم ركبوا في سيارة والد جميل نوع مازدا بكس التي تستخدم عادة للعوائل وكانت قديمة بعض الشيء .

وصلنا إلى استراحة بالطريق وبدأنا في إنزال الأمتعة من سيارة جميل والاستمتاع بالأجواء وألذ الطعام التي أعدته لنا جدة جميل ونقطف من خيرات المزرعة فواكه وخضار واستمتعنا بجمال الطبيعة و الهدوء والأجواء التي لم نتعود عليها في المدن ، وهطل قليلاً من المطر مما زاد المنطقة جمالا و متعة وزاد من رغبتنا في المكوث أكثر والاستمتاع بجمال المكان . وقبل صلاة العصر ذهبت الجدة داخل إحدى الغرف لتغفو قليلاً .. ومع لعبنا والتسلية نسوا أحفادها أمرها ، و قبل أذان المغرب بساعة استفاقت من نومها مفزوعة وهي تصرخ في وجه حفيدها جميل باللهجة العامية قائلة : ( ليش تركتوني نايمة للحين يا ولد وليش ما حركتم وما حمليتم العفش ( تعني الامتعة ) … هالحين قوموا نغادر المكان ) .

رد عليها جميل : يا جدتي باقي على المغرب اكثر من ساعة .

ردت قائلة بكل حزم : الان نغادر ولا تكثر كلام ..

سألها جميل : ليش يا جدتي حنا جالسين مبسوطين ومستنانسين ..!

فردت مبرره : ما تشوف الطريق يا ولدي مو مسفت وما فيه انارة اخاف تضيع في المزارع وما تدل الطريق ..

وتقصد الطريق المؤدي إلى مدينة الجموم ، وبالفعل نزولا عند رغبتها وبالأخص أنها من أهالي المنطقة واعلم منا بها ، بدأنا في تحميل ما معنا من أمتعة في سيارة جميل فتأخرنا قليلاً في حزم الأمتعة وانطلقنا نحو وجهتنا قبل آذان المغرب بحوالي ثلث ساعة تقريباً يتقدمنا جميل بسيارته داخل المزارع وكانت الأرض مبلله وزلقة بعض الشيء وكلما تقدمنا كلما زاد تأثر الطريق بمياه الأمطار فخفف جميل من سرعته خوفاً من الإنزلاقات ولوجود منعطفات في الطريق . وكنا نأمل أن نصل إلى الطريق المسفلت (المعبد بالزفت والقار) قبل أذان المغرب ، لكن الوقت لم يسعفنا فدخل وقت صلاة المغرب ونحن لم نتجاوز نصف الطريق ، فأشرنا لجميل للتوقف ، فأنحرف بسيارته عن الطريق وتوقف على طرف إحدى المزارع المهجورة التي لا يوجد بها سوء بعض الأشجار الصغيرة الفطرية التي تنبت من مياه الأمطار ، فتقدمنا إلى نافذته وطلبته التوقف لأداء صلاة المغرب .. وإذا بالجدة تصرخ من خلفه وبصوت حاد : ( لا لا حركو حركو هذه المنطقة مهي امان !! .. ) .

ودخل جميل معها في جدال قائلاً نصلي يا جدتي المغرب حضر وهي تصر على أكمال الطريق دون توقف وتعيد نفس الكلام ( هنا مهو امان !! .. امش يا ولد ) .

وأثناء الحوار كان الليل قد بداء يخيم على المنطقة فامتثلنا لكلام الجدة وقلت له يا جميل اسمع كلام جدتك وخلنا نمشي ، وفعلاً انطلق جميل ولكن بشيء من العصبية ضغط على الوقود بسرعة فبدأت إطارات سيارته في الغرز داخل الطين وحدث ما كنا نخشاه فقد وقع جميل بسيارته المازدا المحملة بعائلة والأمتعة في الطين فقد كان الحمولة زائدة بداخلها وكلما حاول الخروج من الطين كلما هبطت السيارة أكثر حتى غرزت جميع إطاراتها الأربع في الطين واخذ يحاول جاهداً الخروج من المأزق وجدته ووالدته تصرخان عليه مما زاد من توتره وعدم سيطرته على الموقف .

توقفنا محاولين إخراج السيارة وجرها بمساعدة الرافعة الموجودة في سيارتنا الجيب ولكن بعد فوات الأوان بسبب ثقل السيارة وما بداخلها زاد من سوء الموقف ، فبدائنا بتفريغ حمولة السيارة من أمتعة وركاب و البحث عن مساعدة فلم نجد أي شخص أو مكان نستعين به في الخروج من هذه الورطة ، تخيل عزيزي القارئ محيط 5 كم متر من المزارع بعضها مزروع والبعض مهجور .. فبدأت ابحث عن أغصان الشجر القريب منا لنضعها أسفل إطار السيارة لتسهيل تثبيتها وخروجها فلم أجد أي غصن واحد يصلح ، واستمررت في البحث بالإضاءة الكاشفة ( الكشاف ) لأكثر من ساعة فلم أجد سوى أشجار صغيرة لا يتجاوز طولها المتر تنبت متفرقة أو مجتمعة ولا اعرف اسمها وأغصانها ضعيفة لا تصلح لهذه العملية ولا يمكن بأي حال من الأحوال ترك جميل ومعه عائله والذهاب بالسيارة الأخرى للبحث عن مساعدة . فقررنا تكرار المحاولة وعدم مفارقة بعضنا البعض .

وأثناء بحثي وعمر وجميل يتناقشون ويحاولون الحفر تحت الأطارات … وإذا برجل يأتي من مسافة قريبة حوالي 20 متر وقد خرج فجأة وبدون مقدمات من أين الله اعلم ؟ .. وتقدم نحونا فكنت أول من أستقبله ، وسأصفه لكم لان منظره لم يفارقني منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا وكأن القصة حدثت لي بالأمس على الرغم من مرور أكثر من 10 سنوات عليها .. فهو رجل تقريباً في العقد الرابع من عمره ، نحيل جداً ، اخف مني وزناً فقد كنت وقتها ازن 60 كغ ، شعره أشعث يميل إلى الشيب ومع الإضاءات كان شعره يلمع ، وبشرته بيضاء جداً كأنه مغطى بالدقيق ووجهه شاحب ونحيل وكأنه جلد على عظم وعيناه وهي أكثر ما لفتت انتباهي وجعلتني لا أتفوه بكلمة تشبه أعين القطط ، بيضاء كلها ، ولا يوجد بها سواد ومائلة من الداخل إلى الأسفل ومن الخارج إلى الأعلى تماماً كأعين القطط السوداء .

تقدم نحونا الرجل قائلاً باللهجة المصرية الصعيدية : ايه عايزين حاجة  .

فقال له عمر : نعم يا أخي نحن في ورطة بالله لو تقدر تساعدنا ..

فنزل تحت السيارة واخذ يحفر تحت الإطارات ونحن ننظر إليه وخلال دقائق كان قد جهز الإطارات الأمامية لوضع قطعة من الخشب تحتها ، نفس الفكرة التي فكرنا بها ، فقلت له هل لديك لوح خشبي نضعه تحت الإطارات ، فلم يرد علي واتجه نحو الشجيرات القريبة منا والتي كنت قد بحث حولها أكثر من مرة ولم أجد شيء ، فقلت له لن تجد شي فقد سبقتك وبحثت ولم أجد شيء ، فادخل يده تحت الشجرة – والله ثم والله – وأخذ يسحب شيئاً فشيئاً ذلك اللوح الخشبي الذي طوله 3 أمتار وهو من نوع معروف لدى عمال البناء يستخدم في السقالات ، فنظرت حولي موجهاً الكشاف لأتأكد من وجود مبنى قريب فلم أجد إلا مزارع في مزارع .. منطقة لا يوجد بها مباني نهائياً ، فقلت له من أين جئت بهذا ؟ .. فقال لي بالحرف الواحد : ( مش شغلك ) ، فسكتت ولم أجادله فكل ما يهمني هو الخروج من هذا المأزق ، فحمل اللوح لوحده رغم ثقله وأمسكه من المنتصف ووضعه فوق ركبته وكسرة نصفين !! .. سبحان الله نظرت إلى ذلك الرجل الهزيل وكيف أنه يحمل لوح يزن 40 كغ ويكسره بهذه السهولة ، لا اعلم ولكن ما يهمني الان هو الخروج ولا شيء غيره ، ثم وضع كل نصف تحت الإطارات الأمامية وقال : ( خلو السواق يمشي وتعالو نزء – أي ندفع – العربية من ورا ) . وفعلا ركب جميل وبدء في التحرك بالسيارة ونحن ندفع حتى خرجت السيارة بحمد الله من الحفر التي كانت قد تسببت بها .

فوقف جميل على الطريق وأخذنا نعيد تحميل الأمتعة وإركاب عائلته ، فذهب عمر إلى ذلك الرجل الذي ساعدنا ، وقد كان عمر ضخم البنية فهو لاعب كمال أجسام طويل القامة يزيد عن متر و80 سم جسمه مدجج بالعضلات يزن 3 أضعاف وزن ذلك الرجل ، فأخرج 100 ريال يريد أن يعطيها له مكافئة له على مساعدتنا ، فإذا بالرجل يمسك بيده من المرفق ويدفعه دفعه اختل فيها توازنه فسقط على الأرض وقال له : ( خلاص امشو من هنه مش عايز منكو حاجة ) .

نظرت إلى عمر وقد نزل عليه الصمت و هرب الدم من وجهه وشحب وجهه وكأنه رأى شيء أفزعه ، فذهبت إليه وقلت له ما بك قم لنمشي .. فلم يتمكن من النهوض واخذت اساعده حتى ركبنا سياراتنا وتقدمنا نحن بالسير هذه المرة وطوال مدة سيرنا ولأكثر من نصف ساعة ساد صمت رهيب فلم نتفوه بكلمة واحده لبعضنا أنا وعمر وكأننا أصابنا البكم حتى خرجنا من المنطقة وبدأنا نرى إضاءات الطريق الرئيسي ، سألته ما بك يا عمر ليش ساكت ؟ ..

فبدء يتمتم ويحرك شفتاه قائلاً : الحمد لله الحمد لله الحمد لله ..

فتبسمت قائلاً : شفت الجني كيف ساعدنا ! .. وأنا والله لا اعنيها إنما قلتها له مازحاً ، فرد علي بصرامة ( اسكت اسكت ) واخذ يتكلم وقد اختنق بعبرته قائلاً : والله ما عاد اجي لهدا الشام لو اعطيتوني وزني ذهب ..

قلت له : ما بك يا رجل هذا وأنت الشديد الي بيننا تقول هالكلام ..

 فقال لي : انت تمزح ولا متأكد إن الذي ساعدنا جني ..

فقلت له : لا والله انا شكيت في الامر لكن لم اركز مع الرجل فالموضوع ليس في بالي وكنت اريد الخروج بأي طريقة من المأزق .

قال لى : والله لقد نظرت إلى عيني الرجل وأنا اعطيه الفلوس فأذا بها كأعين القطط كلها بيضاء وامسك ذراعي فوقف شعر جسمي كله وبقوة لم يمسكني بها إنسان قط ودفعني دفعة شعرت وكأن سيارة صدمتني حتى إني لم أتمكن من التفوه بكلمة وشعرت أن أذني أصابها الصمم لا اسمع إلا طنين ولم أسمعك وأنت تحدثني إلا الآن ..

فقلت له : من أين احضر ذلك اللوح الخشبي ؟! ..

فقال : لا اعلم الم تبحث أنت ؟ .

قلت له : بحثت أكثر من مرة ولم أجد أي شي .

فقال : ( الحمد لله اننا خرجنا بالسلامة .. بالله عليك لا عاد تفتح هالموضوع تراني خائف بشكل لا تتخيله اسكت حتى نصل بيوتنا في جده ) .

فقلت له : لهذا السبب كانت جدة جميل معصبة علينا .

فرد على قائلاً : والله لو ما تخرس لانزلك من السيارة ..

ومن ذلك اليوم حتى الآن لم نذهب إلى تلك المنطقة ولمشاغل الحياة افترقنا عن زميلنا جميل ولم نعد نراه خاصة وانه تم تعيينه كمدرس في منطقة الليث ونحن نعمل في مدينة جده .

 

تاريخ النشر : 2015-08-04

guest
43 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى