عجائب و غرائب

تراثيات .. مع السندباد البحري في رحلته الرابعة

بقلم : اياد العطار

مثل جميع الأطفال، كنت أعشق مشاهدة الرسوم المتحركة في طفولتي وصباي، وقد كان لمسلسل “السندباد” مكانة خاصة في قلبي، إذ سحرتني أجوائه التراثية ومغامراته الشيقة وشخصياته الغريبة التي طالما تسألت عن حقيقتها .. علي بابا وعلاء الدين وياسمينة والعفاريت والغيلان والسحرة .. الخ، وقد أخبروني في حينها بأنها مجرد شخصيات خيالية مستلهمة من حكايات ألف ليلة وليلة. لكني اليوم، وبعد سنوات طويلة أمضيتها في القراءة، صرت أعتقد بأن تلك الحكايات الجميلة ليست مجرد خيال، بل هي صدى لأحداث ومغامرات حقيقية سنحاول في هذه السلسلة التي نروم كتابتها من “تراثيات” أن ننفض عنها غبار السنين وأن نبحث في جذورها وأصولها المنسية.

تراثيات .. مع السندباد البحري في رحلته الرابعة
أفلام كارتون السندباد

حكايات ألف ليلة وليلة غنية عن التعريف، فهي مجموعة من الحكايات التي قصتها شهرزاد على مسامع الملك شهريار لألف ليلة وليلة واحدة – قرابة الثلاثة سنوات – وذلك لتلهيه وتصرفه عن قتلها، فقد أعتاد هذا الملك الحزين على أن يتزوج كل ليلة بعذراء جميلة، وما أن يطلع الصباح حتى يأمر بقتلها، والسبب في مسلكه الغريب هذا هو إقدام زوجته الأولى التي كان يكن لها حبا جما على خيانته مع أحد العبيد، فعاقبهما بالقتل معا، وقرر من حينها أن ينتقم من جميع النساء، لم تنجو من سطوة غضبه وانتقامه سوى شهرزاد التي ألهته بقصصها الطريفة ونوادرها الظريفة فحازت على إعجابه وامتلكت قلبه وسحرت لبه وأنسته ما كان من شأن عقابه لعرائسه، وفي النهاية غدت أما لثلاثة أمراء صغار أنجبتهم منه خلال الليالي الألف التي قضتها معه في سرد حكاياتها الممتعة، تلك الحكايات التي قد لا يرى

تراثيات .. مع السندباد البحري في رحلته الرابعة
شهرزاد تروي حكاياتها لشهريار

البعض فيها سوى خيال خصب وأدب جامح، لكن القارئ الحاذق والواسع الاطلاع سيلمس فيها بلا شك انعكاسا لفلكلور وتراث شعوب الشرق الأوسط وخلاصة لتجارب ومشاهدات متراكمة للعديد من التجار والرحالة والربابنة والمغامرين الذين طرقت أقدامهم أراضي البلاد النائية البعيدة بحثا عن علم ينتفع به أو تجارة رابحة ثم عادوا ليقصوا على الناس أخبار العجائب والغرائب التي شاهدوها خلال رحلاتهم القصية تلك، فتحولت قصصهم وأحاديثهم الشيقة إلى متعة السمّار وفاكهة المجالس في ليالي بغداد والقاهرة ودمشق وغيرها من حواضر الشرق العظيمة. وقد تكون حكايات السندباد البحري ومغامراته العجيبة هي خير مثال على فلكلور الرحلات الذي أختلط فيه الواقع بالخيال، وأكاد أجزم في أنها بنيت أساسا على مشاهدات البحارة العرب والمسلمين الذين مخرت سفنهم عباب البحار صوب الهند والصين فاجتازوا في طريقهم العديد من الجزر المجهولة التي لم تطأها من قبلهم قدم المستكشفين ورواد البحار، وشاهدوا فيها الكثير من الشعوب المجهولة والقبائل المتوحشة والمخلوقات العجيبة المذهلة.

وما حدث للسندباد خلال رحلته الرابعة، هو عينة رائعة على ذلك المزيج السحري بين الواقع والخيال، فقد هبت عاصفة هوجاء على سفينته فأغرقتها، فتشبث هو وبعض الناجين القلائل بأشلاء وألواح السفينة المنهارة وتقاذفتهم الأمواج الهائجة وصولا إلى شاطئ جزيرة لم يروها سابقا، هناك وقعت أبصارهم على مجموعة من الأكواخ والأبنية فساروا نحوها يلتمسون المساعدة والعون .. وهنا لندع السندباد يقص علينا بنفسه ما جرى عليه في تلك الجزيرة المشئومة، يقول :

“فسرنا في تلك الجزيرة قاصدين تلك العمارة التي رأيناها من بعد ولم نزل سائرين إلى أن وقفنا على بابها. فبينما نحن واقفون هناك إذ خرج علينا من ذلك الباب جماعة عراة ولم يكلمونا وقد قبضوا علينا وأخذونا عند ملكهم فأمرنا بالجلوس فجلسنا وقد أحضروا لنا طعاماً لم نعرفه ولا في عمرنا رأينا مثله فلم تقبله نفسي ولم آكل منه شيئاً دون رفقتي وكان قلة أكلي منه لطفاً من الله تعالى حتى عشت إلى الآن. فلما أكل أصحابي من ذلك الطعام ذهلت عقولهم وصاروا يأكلون مثل المجانين وتغيرت أحوالهم وبعد ذلك أحضروا لهم دهن النارجيل فسقوهم منه ودهنوهم منه فلما شرب أصحابي من ذلك الدهن زاغت أعينهم من وجوههم وصاروا يأكلون من ذلك الطعام بخلاف أكلهم المعتاد فعند ذلك احترت في أمرهم وصرت أتأسف عليهم وقد صار عندي هم عظيم من شدة الخوف على نفسي من هؤلاء العرايا وقد تأملتهم فإذا هم قوم مجوس وملك مدينتهم غول وكل من وصل إلى بلادهم أو رأوه في الوادي أو الطرقات يجيئون به إلى ملكهم ويطعمونه من ذلك الطعام ويدهنونه بذلك الدهن فيتسع جوفه لأجل أن يأكل كثيراً ويذهل عقله وتنطمس فكرته ويصير مثل الإبل فيزيدون له الأكل والشرب من ذلك الطعام والدهن حتى يسمن ويغلظ فيذبحونه ويشوونه ويطعمونه لملكهم. وأما أصحاب الملك فيأكلون من لحم الإنسان بلا شوي ولا طبخ. فلما نظرت منهم ذلك الأمر صرت في غاية الكرب على نفسي وعلى أصحابي وقد صار أصحابي من فرط ما دهشت عقولهم لا يعلمون ما يفعل بهم وقد سلموهم إلى شخص فصار يأخذهم كل يوم ويخرج يرعاهم في تلك الجزيرة مثل البهائم وأما أنا فقد صرت من شدة الخوف والجوع ضعيفاً سقيم الجسم وصار لحمي يابساً على عظمي. فلما رأوني على هذه الحالة تركوني ونسوني ولم يتذكرني منهم أحد ولا خطرت لهم على بال إلى أن تحايلت يوماً من الأيام وخرجت من ذلك المكان ومشيت في تلك الجزيرة.”
– الليلة الخامسة والأربعين بعد الخمسمائة –

تراثيات .. مع السندباد البحري في رحلته الرابعة
جزيرة آكلي لحوم البشر

الغريب أن المستكشفين الأوربيين، من برتغاليين وهولنديين وأسبان، كتبوا في القرن السادس عشر، أي بعد قرون طويلة على رحلة السندباد، عن بعض الجزر النائية في المحيطين الهادي والأطلسي حيث كان السكان يلتهمون البشر، كجزيرة بابوا غينيا الجديدة وبعض جزر الكاريبي، ومثلما حدث مع مغامرات البحارة العرب التي وجدت طريقها إلى بطون الكتب التراثية، فقد تسللت مغامرات البحارة الأوربيون إلى الأعمال الأدبية الأوربية، خير مثال على ذلك هي رواية روبنسون كروزو الشهيرة التي نقرأ فيها عن تاجر انجليزي يلجأ إلى جزيرة منعزلة وسط المحيط بعد غرق سفينته، هناك يعيش وحيدا لسنوات ويشاهد بأم عينه كيف يقوم رجال القبائل البدائية بقتل البشر والتهامهم. وما شاهده كروزو على تلك الجزيرة الموحشة لم يكن مجرد خيال لأنه يستند على قصة حقيقية لبحار أسكتلندي يدعى ألكسندر سيلكيرك عاش بالفعل وحيدا على إحدى جزر المحيط الهادي لعدة سنوات. وكذلك فأن ما ذكره السندباد البحري عن جزيرة آكلي لحوم البشر ليس خيالا أيضا، لكنه شبح باهت لمغامرات وبطولات منسية خاضها ربابنة الشرق في لجج تلك البحار الهائجة.

بالعودة للسندباد وحكايته، فبعد فراره من جزيرة آكلي لحوم البشر انتهى أمره إلى جزيرة أخرى تتوسطها مدينة كبيرة عامرة بالخيرات، أهلها غاية في الكرم والطيبة، احتفوا بالسندباد ورحبوا به، فطاب له المكوث بينهم وتزوج بامرأة جميلة وغنية منهم عاش معها في سعادة وهناء لم ينغصها شيء حتى حل ذلك اليوم المنحوس الذي ماتت فيه زوجة جاره فذهب السندباد ليعزيه، وياليته لم يفعل .. يقول السندباد :

“فدخلت إليه – يقصد جاره – لأعزيه فرأيته في أسوأ حال وهو مهموم تعبان السر والخاطر فعند ذلك عزيته وسليته وقلت له لا تحزن على زوجتك الله يعوضك خيراً منها ويكون عمرك طويلاً إن شاء الله تعالى فبكى بكاء شديداً وقال يا صاحبي : كيف أتزوج بغيرها أو كيف يعوضني الله خيراً منها وأنا بقي من عمري يوم واحد فقلت له يا أخي ارجع لعقلك ولا تبشر على روحك بالموت فإنك طيب بخير وعافية فقال لي يا صاحبي وحياتك في غد تعدمني وما بقيت عمرك تنظرني فقلت له وكيف ذلك فقال لي في هذا النهار يدفنون زوجتي ويدفنوني معها في القبر فإنها عادتنا في بلادنا إذا ماتت المرأة يدفنون معها زوجها بالحياة وإن مات الرجل يدفنون معه زوجته بالحياة حتى لا يتلذذ فقلت له بالله إن هذه العادة رديئة جداً وما يقدر عليها أحد فبينما نحن في ذلك الحديث وإذا بغالب أهل المدينة قد حضروا وصاروا يعزون صاحبي في زوجته وفي نفسه وقد شرعوا في تجهيزها على جري عادتهم فأحضروا تابوتاً وحملوا فيه المرأة وذلك الرجل معهم وخرجوا بهما إلى خارج المدينة وأتوا إلى مكان في جانب الجبل على البحر وتقدموا إلى مكان ورفعوا عنه حجراً كبيراً فبان من تحت ذلك الحجر خرزة من الحجر مثل خرزة البئر فرموا تلك المرأة فيها وإذا هو جب كبير تحت الجبل ثم إنهم جاؤوا بذلك الرجل وربطوه تحت صدره في سلبة وأنزلوه في ذلك الجب وأنزلوا عنده كوز ماء عذب كبير وسبعة أرغفة من الزاد ولما أنزلوه فك نفسه من السلبة فسحبوا السلبة وغطوا فم البئر بذلك الحجر الكبير مثل ما كان وانصرفوا إلى حال سبيلهم وتركوا صاحبي عند زوجته “.
– الليلة السابعة والأربعون بعد الخمسمائة –

تراثيات .. مع السندباد البحري في رحلته الرابعة
مغارة الموتى

ذهل السندباد وتعجب لعادة ومسلك أهل تلك الجزيرة وعاش مرعوبا يرتجف جسده خوفا لأقل مرض أو عارض يصيب زوجته خشية أن تموت فيقبروه معها، ولسوء حظه وبؤس طالعه فقد تحققت مخاوفه وهواجسه السوداء فمرضت زوجته في أحد الأيام وتدهورت صحتها سريعا ثم أسلمت الروح لبارئها، فأتى سكان المدينة يعزون السندباد فيها وفي نفسه!، ثم قاموا بغسلها والبسوها أفخر ثيابها وأغلى مجوهراتها، وحين فرغوا من ذلك كله ساروا بالجنازة إلى مغارة الموتى حاملين السندباد معهم وهو يبكي بحرقة نادبا حظه وناعيا نفسه ومتوسلا العطف والرحمة، لكن لا حياة لمن تنادي، فأصحاب الأمس القريب والجيران والخلان أعاروه أذنا صماء ولم يبالوا لصرخاته وتوسلاته التي ذهبت أدراج الرياح، ربطوه بالحبال وأعطوه آنية ماء مع سبعة أرغفة خبز، ثم دلوه إلى جوف المغارة مع جثة زوجته، وأخيرا سدوا باب المغارة بصخرة كبيرة وانصرفوا إلى حال سبيلهم.

السندباد وصف ما شاهده داخل تلك المغارة قائلا :

“رأيت في تلك المغارة أمواتاً كثيرة ورائحتها منتنة كريهة فلمت نفسي على فعلتي وقلت: والله إني أستحق جميع ما يجري لي وما يقع لي ثم إني صرت لا أعرف الليل من النهار وصرت أتقوت باليسير ولا آكل حتى يكاد أن يقطعني الجوع ولا أشرب حتى يشتد بي العطش وأنا خائف أن يفرغ ما عندي من الزاد والماء وقلت لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أي شيء بلاني بالزواج في هذه المدينة”
– الليلة الثامنة والأربعون بعد الخمسمائة –

وعلى هذه الحال لبث السندباد في تلك المغارة المخيفة لعدة أيام حتى كاد أن ينفذ ماءه وطعامه وأوشك على التلف، وفيما هو ينتظر الموت، إذ شاهد فجأة تحرك الصخرة الكبيرة التي على باب المغارة، وإذا بالقوم قد جلبوا جنازة جديدة، هذه المرة رجل ميت ومعه زوجته التي أنزلوها بالحبال إلى جوف المغارة وهي تنوح وتولول، فأغتنم السندباد الجائع تلك الفرصة، سار على أطراف أصابعه وهو يحمل بيده عظمة كبيرة أستلها من رفات أحد الموتى، أقترب من المرأة الخائفة بهدوء ثم باغتها من حيث لا تشعر بضربة قوية على أم رأسها فقتلها واستولى على ماءها وخبزها، وصار ذلك ديدنه، كلما دفنوا جنازة جديدة يقوم بقتل من ينزلوه مع الميت ويستولي على طعامه وماءه، أستمر على ذلك لمدة طويلة حتى عثر في أحد الأيام على نفق صغير حفرته الحيوانات القمامة الباحثة عن الجثث إلى داخل المغارة، فسلك في ذلك النفق ونجا بحياته وقفل عائدا إلى بغداد ليروي للناس مشاهداته ومغامراته العجيبة.

تراثيات .. مع السندباد البحري في رحلته الرابعة
الأضحية البشرية تتهيأ لدخول القبر مع الملك

ولعل أكثر ما يثير الأهتمام في قصة مغارة الموتى، هي تلك الطقوس الجنائزية الغريبة التي ذكرها السندباد، والتي أعتقد بأنها استندت إلى عادات وتقاليد منقرضة مارستها بعض الشعوب التي سكنت مئات الجزر الممتدة من جنوب الصين وصولا إلى أستراليا، أي منطقة جنوب شرق آسيا ، والتي اندثرت معظمها، أي تلك العادات والتقاليد القديمة، بتحول سكان تلك الجزر إلى البوذية والإسلام والمسيحية. كما أن طقوس التضحية البشرية التي مارستها بعض الأمم الشرقية القديمة، والمقابر المتخمة بالهياكل العظمية التي عثر سارقو المقابر عليها خلال العصور الوسطى، تركت حتما بصمتها وأثرها في فلكلور الشرق، وأحسب بأن مغارة الموتى التي وصفها السندباد في قصته ما هي إلا سرداب أو حفرة الموت السومرية التي غطت أرضيتها هياكل عشرات الأضحية البشرية، ففي قبر الملكة شبعاد وحدها عثر المنقبون على هياكل عظمية تعود لخمسة جنود وثمان وستون جارية أجبروا على تناول السم ليرافقوا الملكة الى العالم الآخر. أضف إلى ذلك، فأن عادة التضحية بالأزواج في حال موت أحدهما، ربما استلهمها الراوي من عادة الساتي (Sati ) لدى الهندوس والتي مازالت تمارس في الهند – على نطاق ضيق وبصورة غير قانونية – حتى يومنا هذا، فخلال هذا الطقس الجنائزي تقوم الزوجة الهندوسية بحرق نفسها مع جثمان زوجها الميت، والأصل في هذه الممارسة أن تتطوع الزوجة لدخول المحرقة مع جثة زوجها، لكنها قد تجبر على ذلك في بعض الأحيان، خصوصا في القرى والأرياف الهندية النائية، كما أن الضغوط النفسية التي تمارس على الأرملة يكون لها حتما تأثير كبير على قرارها، وقد تطرقنا سابقا إلى هذه الممارسة في مقال مفصل، لكن لأننا نتكلم عن التراث، فقد أحببت أن أنقل للقارئ الكريم ما ذكره الرحالة الشهير أبن بطوطه حول مشاهداته العينية لممارسة الساتي عند زيارته للهند في القرن الرابع عشر الميلادي، حيث كتب يقول :

“ولما أنصرفت عن هذا الشيخ رأيت الناس يهرعون من عسكرنا ، ومعهم بعض أصحابنا ، فسألتهم : ما الخبر ؟ فأخبروني أن كافرا – يقصد أحد الهندوس – من الهنود مات ، وأججت النار لحرقه ، وامرأته تحرق نفسها معه . ولما احترقا جاء أصحابي وأخبروا أنها عانقت الميت حتى احترقت معه ، وبعد ذلك كنت في تلك البلاد أرى المرأة من كفار الهنود متزينة ، راكبة والناس يتبعونها من مسلم وكافر ، والأطبال والأبواق بين يديها ، ومعها البراهمة – رجال الدين الهندوس – ، وهم كبراء الهنود ، وإذا كان ذلك ببلاد السلطان استأذنوا السلطان في حرقها فيؤذن لهم ، فيحرقونها”.

وكتب أيضا في ذكر ثلاث نسوة أردن حرق أنفسهن مع أزواجهن القتلى :

تراثيات .. مع السندباد البحري في رحلته الرابعة
أرملة هندية تحترق مع جثة زوجها

“ولما تعاهدت النسوة الثلاث اللاتي ذكرناهن على إحراق أنفسهن أقمن قبل ذلك ثلاثة أيام في غناء وطرب وأكل وشرب كأنهن يودعن الدنيا ؛ ويأتي الهن النساء من كل جهة ، وفي صبيحة اليوم الرابع اتيت كل واحدة منهن بفرس ، فركبته ، وهي متزينة متعطرة وفي يمناها جوزة نارجيل تلعب بها ، وفي يسراها مرآة تنظر فيها وجهها ، والبراهمة يحفون بها ، وأقاربها معها ، وبين يديها الأطبال والأبواق والأنفار، وكل إنسان من الكفار يقول لها : ابلغي السلام الى أبي أو أخي أو أمي أو صاحبي ، وهي تقول : نعم ! وتضحك لهم .
وركبت مع أصحابي لأرى كيفية صنعهن في الأحتراق ، فسرنا معهن نحو ثلاثة أميال ، وأنتهينا الى موضع مظلم كثير المياه والأشجار ، متكاثف الظلال ، وبين أشجاره أربع قباب في كل قبة صنم من الحجارة ، وبين القباب صهريج ماء قد تكاثفت عليه الظلال ، وتزاحمت الأشجار ، فلا تخللها الشمس ، فكان ذلك الموضع بقعة من بقع جهنم ، أعاذنا الله منها ، ولما وصلن الى تلك القباب نزلن الى الصهريج ، وانغمسن فيه ، وجردن ما عليهن من ثياب وحلي ، فتصدقن به ، وأٌتيت كل واحدة منهن بثوب قطن خشن غير مخيط ، فربط بعضه على وسطها ، وبعضه على رأسها وكتفيها ، والنيران قد أضرمت على قرب من ذلك الصهريج في موضع منخفض ، وصب عليها روغن كنجت (كنجد) وهو زيت الجلجلان فزاد من إشتعالها ، وهناك نحو خمسة عشر رجلا بأيديهم حزم من الحطب الرقيق ، ومعهم نحو عشرة بأيديهم خشب كبار ، وأهل الأطبال والأبواق وقوف ينتظرون مجيء المرأة ، وقد حجبت النار بملحفة يمسكها الرجال بأيديهم لئلا يدهشها النظر اليها ، فرأيت إحداهن لما وصلت الى تلك الملحفة نزعتها من أيدي الرجال بعنف ، وقالت لهم : مارا ميترساني أزاطش (آتش) من ميدانم أواطش است رهاكني مارا ؛ وهي تضحك ، ومعنى هذا الكلام : أبالنار تخوفونني ؟ أنا أعلم أنها نار محرقة . ثم جمعت يديها على رأسها خدمة للنار ، ورمت بنفسها فيها . وعند ذلك ضربت الأطبال والأنفار والأبواق ورمى الرجال ما بأيديهم من الحطب عليها ، وجعل الآخرون تلك الخشب من فوقها لئلا تتحرك ، وأرتفعت الأصوات ، وكثر الضجيج ، ولما رأيت ذلك كدت أسقط عن فرسي لولا أصحابي الذين تداركوني بالماء فغسلوا وجهي وأنصرفت”.

وإذا كنا نتحدث عن الطقوس الجنائزية التي تتضمن تضحية بشرية، فلا بد من التطرق أيضا إلى ما ذكره الرحالة العربي أبن فضلان خلال رحلته إلى بلاد الرس – روسيا أو اسكندنافيا – عن ما شاهده هناك من رسوم وعادات الفايكنغ في التضحية بالنساء والجواري خلال جنازة أزواجهن أو أسيادهن، حيث يتم قتلهن أولا على يد عجوز شمطاء تدعى “ملك الموت” ثم يوضعن مع جثة صاحب الجنازة في سفينة يدفعونها إلى البحر ويضرمون النار فيها – للتفصيل راجع مقالتنا حول رحلة أبن فضلان -.

مصادر :

– ألف ليلة وليلة
– رحلة أبن بطوطة

هذه القصة نشرت لأول مرة بالعربية في موقع كـابوس بتاريخ 12 /04 /2011

guest
74 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى