تجارب من واقع الحياة

ثلاثية حياتي..

بقلم : snow

ثلاثية حياتي..
الآن أستحق لقب خبير في الألم !!

بين الألم و الغرابة والطرافة ، هكذا مرت ثلاث سنوات استثنائية من حياتي ، مليئة بالأحداث الفظيعة غير المألوفة و التي لم أتوقع أبدا أن أمرّ بها في حياتي .. كنت رياضياً و سأكون دائما كذلك ، أعشق كرة القدم وأمارسها بانتظام ، كلّما تمر الأيام تتحسن مهاراتي بشكل كبير حتى أني و رغم مستواي الدراسي المتفوق أصبحت أعلّق آمالا كبيرة على هذه الرياضة و أرى فيها مستقبلا زاهرا ..

بلغت سنتي الثانية عشرة تقريبا و ازددت عشقا لكرة القدم ، قضيت السنة الدراسية في المراجعة وإنجاز الامتحانات حتى حلّت عطلة الصيف وطبعا سأخصصها للرياضة وتحديدا كرة القدم ولكنّ الفرحة لم تكتمل ، في اليوم الأول من العطلة كانت لديّ مباراة ، نهضت متحمسا كالعادة متفائلا آملا جني ثمار التدريب المتواصل .. كنت حقا مليئا بالطاقة و مندفعا ، ولم أعلم أن ذلك سيتحوّل إلى مصيبة وسيأتي بنتائج كارثية ..

في إحدى كرات المباراة اندفعت محاولا اختراق دفاع الخصم ونجحت في ذلك ، هممت بتسديد الكرة ففاجئني أحد المدافعين بدفعة قوية ، سقطت على الأرض وسقط هو فوقي .. نهضت بشكل عادي لأنني لم أدرك ما الذي حصل لي ، نظرت إلى يدي اليسرى فكانت الفاجعة .. لم أشعر بنفسي إلاّ ممددا في غرفة العمليات والألم يعتصرني ، كسر مزدوج في معصم اليد اليسرى استوجب عملية جراحية دقيقة ..

ألم شديد ، لكن ماذا يساوي ذلك أمام الألم النفسي؟ الجميع امتدح قدرتي التحملية ، لم أفزع و لم أبكِ حتى ، لأنني كنت حقا مصدوما ..  مرّت الأيام و أنا أراقب نفسي بحسرة ، أرى زملائي يستمتعون ويتحسنون بينما أنا أتدمر نفسيا وجسديا .. لم أفرح حتى بنتائج دراستي الطيبة.. لا بأس ، سأعود أقوى مما كنت.. و بالفعل تماثلت يدي للشفاء لكن في نهاية العطلة الصيفية ، ما أبشعها من أيام وما أقساها من تجربة ! عليّ أن أسترجع مستواي الرياضي وأنظر للمستقبل ..

 لم تكد تمرّ سنة على تلك الحادثة حتّى عدت إلى التدرّب ، في مساء أحد الأيام أنهيت واجباتي المدرسية و استعددت للالتحاق بتدريب الفريق ، دخلت الملعب و أجريت الحركات الإحمائية ثم بدأ التدريب ، التمرين كان تسديد الكرات من بعيد ، أنا في العادة أستخدم ساقي اليمنى ، لكن قررت التسديد باليسرى و ليتني لم أفعل ! انزلقت الكرة لكنني تمكنت من تسديدها.. شعرت بشيء غريب حدث في فخذي الأيسر لكنني لم أعر ذلك اهتماما و واصلت التدريب ..

عدت إلى المنزل واستلقيت في الفراش، هممت بالنهوض لغسل أسناني كالعادة والنوم لأنني كنت أشعر بالإرهاق ، خطوت خطوة فشعرت بتصلب شديد في القدم اليسرى و تحديدا في مستوى الفخذ ، اعتقدت أنّ ذلك بمفعول الإرهاق .. لكن هيهات ! استمرّ ذلك حتى صباح الغد ، حلّ المساء ولم أعد قادرا على المشي ! ألم فظيع جدا لا يمكن وصفه ! أخذت الأدوية والمسكّنات لكن بدون جدوى ..
مرت ليلة لم أكن قادرا فيها على النوم ، عذاب ..

عذاب بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، بعد يوم من البقاء في المنزل أخذني أبي إلى طبيب من معارفه ، كان طبيبا رائعا .. لكنّه كان متفائلا وصريحا .. قابلني بابتسامة ، تحدث معي ومزح ثم أخذ صورة الأشعّة وأخذ يدقق فيها ، لم يحاول حتى إخفاء ملامح القلق ، ثم نظر إليّ نظرة كادت توقف دقات قلبي .. تلك اللحظات شعرت أن قلبي توقف عن العمل لمدة ، ثم عاد مضطربا بعد أن علمت أن عضلات فخذي قد تمزقت تماما..

ماذا ؟ أتمازحني ؟ هل حصل ذلك مرة أخرى ؟! عذاب آخر وانتظار طويل يشعرك بأنك ستنفجر .. طبعا الألم كان أعظم من المرة السابقة بأضعاف..  لم يكن بإمكاني السير دون ألم ، استخدمت العكّازين لمدة شهر ونصف تقريبا ،  كنت سعيدا جدا عند عودتي للمشي و أسعد عند عودتي لممارسة كرة القدم ، لكن مستواي المتدنّي بسبب جسدي الذي ترهّل من كثرة الخمول جعلني أشعر بالإحباط لكنني مازلت أرغب في مواصلة لعب الكرة ..

يا لعنادي..  مرّت تلك الأيّام الخمسة والأربعون كأنها دهر وأنا أنتظر نهاية هذا الكابوس ، حتى تماثلت للشفاء ولكنني فقدت نكهة لعب كرة القدم فقضيت العطلة الصيفية في اللّعب وزيارة الأصدقاء ، كنت تقريبا في الرابعة عشر ة حينها ، انطلق عام دراسي جديد وعدت للرياضة تدريجيا لكنّ مستواي متدنٍّ وكلّه بسبب جسدي ! رغم تشجيع جميع المحيطين بي وأبرزهم المدربين الذين طالبوني بصقل مهاراتي من جديد إلاّ أنني كنت أفتقر إلى العزيمة والدافع ..

مع انتهاء عطلة الشتاء، لم أكن أحسب أنني على موعد مع أسوأ أيام حياتي ، يوم الاثنين التاسع من يناير ، في حصة الرياضة بالمعهد كنت ألعب كرة القدم مع زملائي ، كنت أشعر باندفاع من جديد .. مستمتعا ، استلمت الكرة وطفقت أجري لا ألوي على شيء ، كنت في سباق مع أحد زملائي ، مددت ساقي لركل الكرة و ..

مرة أخرى ! نعم، هذه المرة أدركت ذلك منذ البداية ، لقد كسرت قدمي !! تم نقلي للمستشفى وحينها شعرت بنقمة كبيرة ولا أدري نحو من، يا لهذه الحال المزرية ! أهكذا تساعدون المحتاجين ؟ أهكذا تعالجون المرضى المساكين ؟ أخبروني بأنّ قدمي لا تستحق علاجا مشددا أو حتى عمليّة ، فقط كسر بسيط وبعض الجبس الثقيل الذي شعرت حين وضعته أنني أحمل قطعة رخام ضخمة بقدمي .. لما عدت للمنزل كانت الأوجاع شديدة ، لم أتوقع أنني سأشعر بها يوما ما..

الطريف في الأمر أنّه راودتني كوابيس غريبة ، لقد حلمت أو بالأحرى رأيت ، لأنني كنت بين الحلم واليقظة ومن المستحيل أن أتمكن من النوم لأن الألم كان حقا هائلا ، حلمت أنني إرهابي ! نعم.. إرهابي قتل شرطيا ، نهضت فوجدت أمي بجانبي ، سألتها عن الشرطي إن كان حيا أم ميتا ، طبعا هي فهمت ولم تضحك بقدر ما شعرت بالأسى على حالي ! هذا كان التأثير الذي جعلني كالمجنون..  
استمرت الأوجاع فقرر أبي اصطحابي لذلك الطبيب الممتاز الذي كاد يقتلني بردة فعله من جديد ، لمن هذا كله من باب الجدّية ، هو رائع وأمين وكان سببا هاما في شفائي ، المهم .. كسر مضاعف في الكعب يستوجب عملية جراحية أخرى ، تم ذلك في جو من الفرحة و الاطمئنان بالنسبة للمحيطين بي ، والخوف بالنسبة لي..

الآن أستحق لقب خبير في الألم ، مرت الأيام ، شفيت ساقي وعدت أمارس حياتي بشكل طبيعي ، أنا الآن في الخامسة عشرة من عمري و قريبا سأبلغ السادسة عشرة ،  كنت أنوي العودة لممارسة كرة القدم لكنني دخلت في عالم الكرة الصفراء ، كرة المضرب أو التنس ، ما أجملها من رياضة ! رائعة كما أنني تحسنت وحققت تقدما هائلا فيها، و خطواتي تتحول من حبو طفل إلى خطوات عملاق .
لكنني دائما أشعر بعشق خفي لكرة القدم في داخلي .. كثير من أصدقاء و أقارب عائلتي فسروا الأمر أنني مصاب بعين ، أي محسود ، كل يفسّر ذلك بطريقته لكنني حقيقة لا أؤمن إلاّ بالقدر .

الغرض الأساسي من سردي للتجربة ليس مشاركة الأحداث واطلاع الناس عليها فقط ، بل لأنني اكتشفت أننا نحن البشر نخشى أشياء بشكل مبالغ فيه ونعطيها قيمة أكثر من اللازم ، فأنا كنت متخوفا دائما من حدوث ذلك معي ، وها قد حدث ! ليس مرّة أو اثنتين ، صحيح ذلك مؤلم لكنّه حقا لقّنني دروسا في الحياة لن أنساها، ساهم في بناء شخصيتي و قوّاها، كل شيء بسيط ، يمر بسرعة ليخلّف ذكرى انتهت . حتى الموت ! جميعنا نخشاه ولكنّه في الحقيقة ليس كما نصوّره نحن .. ونخشاه .

تاريخ النشر : 2016-04-08

guest
26 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى