أدب الرعب والعام

فتاة اسمها أحمد (الجزء الأول)

بقلم : محمد القصراوي – المغرب
للتواصل : [email protected]

فتاة اسمها أحمد (الجزء الأول)
أطلق “الحاج العربي” على المولود اسم “أحمد”

الولد.. و ما أدراك ما المكانة التي يحتلها الولد في مجتمعنا العربي منذ عهود طويلة !! حتى وإن قلت هذه المكانة التي بات يحتلها الولد اليوم، حتى وإن قلٌت معها تلك الرغبة التي كانت في القدم ضرورة ملحة في إنجاب ولد يتخذ موقع الحاكم والآمر والناهي داخل الأسرة وحامل النسب والخلف خارجها بعد موت الأب والأعمام .

هذا هو منطق تفكير الرجل العربي الذي مازالت بعد أبعاده متغلغلة في مجتمعنا العربي إلى حدود اليوم إلى درجة أن البيت الذي لا يؤثث ولا يتربع على عرشه الرجال كالبيت الذي إن تذره الرياح يسقط رماداً بسبب ضعف أعمدته وركائزه، هذه هي الخلاصة التي خرج بها “الحاج العربي” بعدما لاحظ منذ وقت طويل وتجارب عديدة أنه لا يخرج من صلبه إلا الإناث، حاول مرة ومرات عسى أن يفند ويخرق هذه القاعدة عسى أن يرزقه الله ولداً يتخذه قرة عينه وخليفته الذي يحمل اسمه ونسبه من بعده.

في داخله تربى ذلك الإحساس الذي يحس به أي رجل عربي شهم تجري في عروقه ذرة من العروبة في ضرورة تخليد نسبه فوق هذه الأرض إلى أن يبعثها الله ومن عليها. كم دعى ” العربي ” ربه سراً وعلانية بأن يرزق ولو ولداً واحداً، وكم تمنى ذلك لكن “الحاج العربي” يريد والله يفعل ما يريد، يرزقه الفتاة تلو الفتاة، لعل في قدر الله حكمة لا يعلمها إلا هو، هذا ما كان يردده الحاج بعد طول انتظار وبعد أن يحس بضيق الفرج ونفاذ الصبر.

شكك “العربي” في أقوال الطبيب الذي بين له أن الخلل كامن في صلبه هو لا في رحم زوجته، وكان قد قطع شكه هذا أن تزوج امرأة أخرى عسى أن تتحقق أمانيه، لكن هذه المرأة بدورها لم تنجب له إلا الفتيات وزادت من مأساته تعقيداً من تلك القاعدة أن لا يلد إلا الفتيات ترسيخاً.

ترى هل هي لعنة أو عقاب من الله ؟

هل هو قدري المكتوب علي فوق سبع سماوات بأن يمحى نسبي من هذه الأرض الطيبة ؟

كم كان إيمان “الحاج العربي” طوال هذه المدة قوياً، إيمان جعله يسلم بقدره هذا غير ذي مرة كان يرزق فيها بفتاة، لولا أن نظرات المجتمع وأقواله الحادة التي تتجاوز السيف في حدته بدأت تضعف من سمك حبل إيمانه القوي والمتين بقضاء الله وقدره الذي تشبت به “الحاج العربي” طول سنين.

هل أنا فعلاً لست سوى أبو البنات ؟

و إن ما زاد “الحاج العربي” لهفة وإلحاحاً في ضرورة إنجاب ولد بأي ثمن كان هي تلك النظرات الحادة وتلك الأقوال المسمومة التي لم تعد تقال همساً، بل باتت تقال حتى في حضوره ، بات يحس أن مكانته بدأت تنحدر.

فعلاً لقد تركت تلك النظرات وتلك الأقوال وقعاً في نفسه، وكانت السبب في إضعاف سمك حبل تسليمه بقدره المكتوب عليه، لكن ما أضعف هذا الحبل إلى أن صار رقيقاً جداً وتمزق عندما لاحظ عبارات الطمع البادية في أعين إخوانه الذي ينتظرون الفرصة في أخذ نصيبهم من الإرث الذي سوف يخلفه بعد موته .

تمزق ذلك الحبل وعزم “الحاج العربي” على أن يكون المولود الجديد الذي سيخرج من صلبه ولد مهما كانت العواقب والنتائج، أفصح “الحاج العربي” عن عزمه هذا مع زوجته التي عارضت وبشدة في البداية خشية أن تكون موافقتها لطلب زوجها فيه معارضة لمشيئة الله وقدره، لكن المسكينة استجابة بعد طول إلحاح، وعقدا الاتفاق الموسوم بعدم كشف السر تحت أي طائل كان على أن يكون المولود الجديد مولوداً ذكراً مهما كانت الظروف المصاعب.

مرت الشهور بعد ذلك الاتفاق السري ،وبعد طول مخاض عاشته زوجة “الحاج العربي” تمكنت بمعية “القابلة” التي تم إطلاعها هي الأخرى على معالم الخطة التي رسمها “الحاج العربي” الذي كان قد وضع ثقة عمياء في “الحاجة فطوم” بعدما أعلمها بسره الخطير الذي يجب أن لا يعلم به إلا ثلاثتهم (هو طبعاً ،وزوجته، والقابلة فطوم)، دون أن ننسى من لا يخفى عليه أي شيء .

لما كان وقت المخاض المنذر بازدياد المولود الثامن للحاج وقت المغرب، أمتلئ بهو المنزل وجنباته وغرفه بعائلته وجيرانه اللذين كانوا أغلبيتهم من النساء ، تلمع في أعينهن عبارات الترقب والانتظار وألسنتهن تردد بعض الدعاء يناجون فيه الله أن تمر عملية الولادة هذه بسلام .

بعد برهة، سمع بكاء طفل من الغرفة التي توجد فيها زوجة الحاج والقابلة “فطوم” بمفردهما، تبعتها “زغردة” تبينت أنها مصدرها فطوم، أبلغت الحاج الذي كان واقفاً وراء باب الغرفة بنبأ أن الطفل المولود ذكر، انشرحت أساريره بعد سماعه الخبر، قبل أن تردف القابلة “على سلامتك أسي الحاج، جاك عمارة الدار”.

ذهب الحاج مهرولاً لينشر على أسماع الحاضرين في الدار بأنه أخيراً رزق بولد، ارتفعت زغاريد النساء، و سجد “الحاج العربي” سجدتين شكر فيهما الله على هذه النعمة التي استجابة فيها لدعواته.

شهد حي “الدرازين” الذي يقطن فيه “الحاج العربي” بمناسبة ازدياد مولود ذكر حفلاً لم يشهده تاريخ هذا الحي من قبل، حيث امتد لقرابة الأسبوع قدمت فيه جميع أنواع المأكولات ورفعت فيه أرفع الأغاني والمعزوفات الأندلسية، فرحوا وابتهجوا من بين من تقاسموا الفرحة مع السيد الحاج بهذه المناسبة، في حين لم تلمس هذه الفرحة قلوب بعض إخوانه وبعض أفراد عائلته الذي كانوا يطمعون في إرث الحاج، لكن مسعاهم خيب مع قدوم هذا الولد.

لقد تحقق مراد “الحاج العربي” بأن قطع الطريق على كل من خولت له نفسه أن يأخذ من عرق الحاج وثروته التي جمعها طول سنين من العمل والجهد .

أطلق “الحاج العربي” على المولود – الذي لم يكن في الحقيقة سوى فتاة – اسم “أحمد”، حاول الحاج تربيته تربية تليق بابن أحد أهم رجال مدينة “مراكش” وشيوخها الكبار.

لم تعهد عملية تربية الطفل أحمد إلا لأمه التي لم تفارقه ولو لدقيقة خشية أن يكشف السر المكنون الذي يحمله معه أحمد .

بدأ الطفل أحمد يكبر وفق المنهج التربوي الذي رسم خطاه مسبقا “الحاج العربي”، بحيث عاش أحمد طفولة لم يكن يلعب ويتخالط فيها مع أطفال الحي إلا نادراً وتحت مراقبة أمه، كان يذهب بعد صلاة العصر إلى دور القرآن لحفظ ما تيسر من القرآن الكريم على يد فقيه خصص له “الحاج العربي” مبلغاً شهرياً من المال والزاد مقابل العناية الفائقة التي كان يحظى بها طفله الوحيد. وكان “الحاج العربي” يأخذه طفله الصغير إلى الحمام المخصص للرجال على رأس كل يوم أحد، هذا بالإضافة إلى ذلك الاحترام الذي كان يحظى به من لدن إخوته مع خدمته وتلبية جميع مطالبه، وويل لكل من عكر صفة مزاج رجل بيت السي “الحاج العربي” المستقبلي .

كبر أحمد ووصل إلى مرحلة بدأ أقرانه من الأطفال يختنون، ولما بقي وحيداً وبقيت الأنظار تتوجه إليه أحس “الحاج العربي” أنه في ورطة ومأزق حقيقي وخاصة عندما كثرت المطالب من كل صوب على ضرورة القيام بحفل يليق بمناسبة اختتان طفله الوحيد أحمد .

صارت هذه القضية، قضية ختان الطفل أحمد هي القضية التي باتت تِؤرق “الحاج العربي” منذ أيام وليال ،لقد صار يبحث عن مخرج من هذه الورطة التي واجهته ولم ويحسب لها حساب.

فهل سينجح “الحاج العربي” في أولى العقبات التي واجهت مغامرته الخطيرة التي خاضها وقرر المضي فيها رغم كل شيء ؟

تاريخ النشر : 2016-07-28

guest
20 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى