أدب الرعب والعام

ما الذي حدث في منزل وحيد ؟

بقلم : نوار – سوريا

حيث قالت لها و هم يتناولون طعام الغداء

وصل وحيد إلى منزله تتبعه سيارة نقل للأثاث ، نزل من سيارته و دخل المنزل ، استقبلته زوجته فبادرها بالقول  :
–  خمني ماذا جلبت معي ؟؟
أجابته بعدم اهتمام  :
–   ماذا ؟
–  اليوم كان هناك مزاداً لبيع أثاث أحد الأثرياء الذي توفي منذ فترة مخلفاً وراءه ديوناً و التزامات مما اضطر ورثته إلى عرض أثاث منزله للبيع .
قالت زوجته باستياء واضح  :
–  ألا تمل من حضور هكذا مزادات !!
–  و لكن أغراض هذا الثري تستحق المشاهدة فمعظمها من الخارج .
–  و ماذا جلبت هذه المرة ؟
–  مرآة .. قالها بأسلوب من ينتظر التصفيق على إنجازه لكن لم يأتِ الرد كما توقع .. فقد صاحت زوجته قائلة  :
–  مرآة !!! و ما حاجتنا للمرآة ؟!
–  إنها مرآة أثرية جلبها صاحبها من باريس و يقال أن عمرها عشرات السنين ، و قد تنقلت في بيوت عدة شخصيات معروفة من بينها …قاطعته زوجته قائلة:
–  ما هذا السرد التاريخي كيف استطعت حفظه .. المهم ماذا أفعل بها ؟ لقد ملأت المنزل بتلك الأغراض .
–  أنا أريدها في غرفتي ..
جاء هذا الرد من ابنتهما يارا التي نزلت الدرج مسرعة نحو والديها و قد سمعت الجزء الأخير من محادثتهما
–  وما حاجتك بها ؟ سألت أمها
قالت يارا : لطالما أحببت المرايا ، و التفتت إلى والدها و سألته  :
–  أين هي ؟
–  أوه لقد نسيتها في الخارج .. أمك و جدالها هما السبب .

و ذهب لإحضارها ، و ساعده في ذلك سائق سيارة النقل  ..

كانت المرآة كبيرة تظهر المرء من رأسه إلى أسفل قدميه ، و مزينة بإطار ذهبي مزخرف بنقوش دقيقة وجميلة ، تلتقي في الأعلى لتشكل رأس نمر مفتوح الفم  .
صاحت يارا عندما رأتها  :
–  يا إلهي .. إنها تشبه المرآة السحرية في قصة ( Snow White )
و أخذت تدور حولها بفرح ..
قالت الأم موجهة سؤالها لزوجها  :
–  و بكم اشتريت تحفتك الأثرية هذه ؟
أجاب وحيد مبتسماً  :
– لا تقلقي لم أدفع بها الكثير ، فقد كان اهتمام من حضروا المزاد منصباً على باقي التحف و الأغراض الثمينة ، و هكذا حصلت عليها بسهولة .
–  أريد أن أفهم ما الذي أعجبك بهذه المرآة ؟!!
تدخلت يارا قائلة :
– أمي أرجوك لا تتعبي أبي بالمناقشة ، لقد جلبها و انتهى الأمر ، ثم أنني فرحة بها ، فالمرآة التي بغرفتي صغيرة و لا تريني نفسي بشكل كامل  .
نظرت الأم إلى ابنتها باستسلام لكن حتى تكون صاحبة الكلمة الأخيرة في المناقشة قالت لوحيد :
–  اصعد بها  إلى غرفة يارا فأنا لا أريد رؤيتها هنا ، و أنت يارا ساعدي والدك  بنقلها … بسرعة .

نفذ وحيد و يارا كلامها بسرعة قبل أن تغير رأيها و تلقيها خارج المنزل ..

كانت يارا فتاةً في السادسة عشر من عمرها ، ذات عيون بنية و شعر أسود طويل ، مرحة و تفضل اللهو على القيام بواجباتها ، و كثيراً ما كانت تقع مشاحنات بينها و بين والدتها بسبب هذا .

وقفت تتأمل نفسها في المرآة و هي تبتسم ثم قالت بمرح  :
مرآتي .. مرآتي
من هي الأجمل .. أنا أم تلك الشقية Snow white ؟
و أخذت تضحك …

منذ أن جاء وحيد بالمرآة و ابنته يارا لا تبرح غرفتها إلا لتناول الطعام ، أو للذهاب إلى المدرسة ، كانت تقضي ساعات أمام المرآة تجرب و تقيس كل ثيابها ، و تصنع عدة تسريحات في شعرها ، و أحياناً تقف و تكلم المرآة ، و كأن صورتها في المرآة شخص آخر غيرها .. كانت كما لو أن المرآة قد سحرتها .
هذا الأمر لم يعجب والدة يارا ، حيث قالت لها و هم يتناولون طعام الغداء
–  يارا .. سلوكك في الفترة الأخيرة لا يعجبني ، فأنت تظلين أغلب وقتك في الغرفة و لا تخرجين منها منذ أن جلب والدك تلك المرآة البغيضة
–  أمي لا تتكلمي عن المرآة بهذه الطريقة
–  و لماذا تدافعين عنها و كأنها واحدةٌ من صديقاتك المشاكسات ؟!
–  أمي صديقاتي لسن مشاكسات أنت لا …
تدخل وحيد في النقاش قائلاً :
–  سمعت أن هناك مزاداً ستعرض فيه تحفاً نادرة
استشاطت الأم غضباً و قالت :
–  ألن ننتهي من مزاداتك ؟ في المرة السابقة جلبت مرآة سخيفة هذه المرة ماذا ستجلب فرشاة أسنان ؟!!
ضحك وحيد قائلاً :
– لاااا … إلا فرشاة الأسنان ، لا يمكن الاستفادة منها ، فإنها ترمى في القمامة بموت صاحبها ..
على كل حال كنت أمزح ، لم أسمع بأي مزاد جديد ، قلت ذلك حتى أنهي جدالكما و ألطف الجو قليلاً .. ثم أكمل بصوت منخفض : لكن هذا لا يعني أنني لو سمعت بمزاد جديد لن أذهب إليه ، لم تسمعه زوجته لكن يارا سمعته فأطلقت ضحكة قصيرة أثارت دهشة والدتها ثم نهضت صاعدة إلى غرفتها ..

قال وحيد لزوجته بينما كان يحتسي قدحاً من الشاي ضاحكاً :
–  تعرفين ماذا قال لي أحد الموجودين في المزاد عندما اشتريت المرآة ؟؟
–  ماذا قال ؟
– حذرني منها و قال لي أن أنتبه جيداً فقد سمع أنها مشؤومة  .
–  يا إلهي ، و كيف تجلبها إلى هنا ؟!!
–  أولاً هو قال لي هذا الكلام بعد أن حصلت عليها ، و ثانياً وهو الأهم هل تصدقين مثل هذا الكلام !! ماذا يعني مرآة مشؤومة !! كبري عقلك و انسي ما قلته لك .

عندما عادت يارا من المدرسة طلبت منها أمها أن تجهز نفسها لأنهم سيذهبون في هذه العطلة إلى منزل جدها في الريف ، غضبت يارا و قالت لأمها  :
–  لكنك تعرفين أني وعدت صديقاتي في هذه العطلة أن أخرج معهن في رحلة سيراً على الأقدام
قالت أمها :
 – اعتذري منهن ، أو فلتقمن بتأجيلها إلى العطلة القادمة
–  لا ..لماذا لا نؤجل نحن ذهابنا إلى بيت جدي ؟
– لا نستطيع ، فوالدي كان متعباً و ذهب لزيارة الطبيب ، يجب أن نذهب للإطمئنان عليه ، هذا واجب
–  واجب .. واجب .. مللت من الواجبات .
و ذهبت غاضبة إلى غرفتها و أخذت تفكر كيف ستقنع أمها بعدم ذهابها معهم .. بالتأكيد لن تسمح لها بالبقاء لوحدها في المنزل , أخذت تذرع الغرفة ذهاباً و إياباً  و هي تكاد تنفجر من الغضب ، ثم وقفت أمام المرآة و أصبحت تحدث صورتها المعكوسة فيها :
ماذا أفعل .. كيف سأقنع أمي .. لا أريد الذهاب إلى بيت جدي لا أريد ..
ثم وجهت الكلام إلى صورتها قائلة :
آه لو أنك تنطقين و تخبريني ماذا أفعل ؟؟
لم تكد يارا تنهي جملتها حتى سمعت ضحكة صادرة من المرآة ، دققت النظر أكثر فلاحظت أن صورتها في المرآة تنظر إليها كما لو أنها نظرات حقيقية ، بل أيضاً أخذت  تميل برأسها و تتحرك بحركات منفصلة عن حركات يارا ..
جمدت يارا في مكانها و فتحت عينيها على وسعهما من هول المفاجأة ، و كادت أن تصرخ منادية أمها ، لكن انعكاسها في المرآة قال لها  :
لا تخافي .. لقد ظهرت لك لأساعدك ، لن أؤذيك
بقيت يارا فاغرة فمها لعدة دقائق إلى أن استوعبت ما حدث معها و قالت أخيراً بتلعثم  :
–  من أنتِ ؟
– أنا أنتِ !
–  وكيف هذا ؟
–  أنا انعكاس صورتك في المرآة ، و أشبهك في كل شيء إلا الطباع فأنا عكسك .. ، قبل أي استفسار آخر دعيني أخرج من هنا فقد مللت الوقوف .
–  أدعك تخرجين ؟!!! كيف ؟
–  ما عليك إلا أن تطلبي ذلك من المرآة قولي أي جملة تعبر عن رغبتك في أن أخرج إليك
فكرت يارا قليلاً ثم قالت : يا نسختي التي في المرآة أخرجي إلي
وما أن انتهت من الكلام حتى بدأت المرآة بالإشعاع ، و من ثم خرجت منها فتاةٌ مطابقةٌ ليارا في كل شيء ومن ينظر إليها يحسبها هي  ..
أخذت يارا تنظر إلى شبيهتها بأنفاس مبهورة ، و مدت إليها يداً مرتجفة حتى تتأكد من أنها حقيقة و ليست شبحاً
ثم سألتها  :
–  من أين أتيت ؟
–  من عالم المرايا ، ذلك العالم الذي تلتقي فيه انعكاسات البشر في مراياهم ..
– وهل كل المرايا هكذا يخرج أشخاصٌ منها ؟!
–  كلا .. هذه المرآة سحرية ، سحرها مشعوذ منذ زمن بعيد حيث أراد الدخول إلى عالم المرايا
–  ولماذا ظهرت لي ؟
–  لم أكن أريد الظهور فأنا سعيدة في عالمي ، لكنك دائمة التحدث إلى نفسك في المرآة ، و الآن أنت من ناديتني ، أنتِ من تمنى أن أرد عليك و أساعدك ، فعلى ما يبدو أنك واقعة في مشكلة ..
–  أوه صحيح ، كنت قد وعدت صديقاتي أن أذهب معهن هذه العطلة في رحلة لكن أمي أخبرتني أنه يجب علينا الذهاب إلى بيت جدي و الاطمئنان عليه ، و أنا لا أريد الذهاب معهم .
–  تقصدين أنك مصرة على الذهاب مع صديقاتك
–  نعم
–  بسيطة .. سأذهب مع والديك بدلاً عنك إلى منزل جدك و بذلك ستذهبين أنت إلى حيث تريدين
قفزت يارا من شدة الفرح و قالت  :
–  فعلاً.. إنها فكرة عبقرية يا … صحيح ما اسمك
–  اسمي غريب بعض الشيء و ربما ستضحكين منه
– ما هو ؟ أعدك أني لن أضحك
–  اسمي قراقوشا  
كتمت يارا ضحكة كادت تفلت منها و قالت بصعوبة :
– قر قو شا .. قرقوشا ، بالفعل اسم غريب  
–  تستطيعين مناداتي قوشا ، هذا أسهل  
–  كما تريدين ، والآن يجب أن تذهبي قبل أن تدخل أمي فجأة و تراكِ ، و سنتفق فيما بعد على تفاصيل خطتنا
–  حسناً و لكن عديني ألا تخبري أحداً بما رأيتِ و سمعتِ و إلا … و رمقت يارا بنظرة وعيد ، جفلت منها يارا و قالت بخوف  :
–  بالطبع أعدك أني لن أخبر أحدا ً .

في اليوم التالي و أثناء تناولها الإفطار مع والديها ، تكلمت يارا مع والدتها و أخبرتها أنها ستذهب معهم لرؤية جدها ، و ستعتذر لصديقاتها عن الرحلة ، فرحت أمها لذلك لكنها أيضاً استغربت هذا التحول المفاجئ الذي طرأ على يارا فما تعرفه أنها عنيدة و لا تغير رأيها بسهولة .

بعد منتصف الليل نادت يارا على قراقوشا التي خرجت فوراً ، و استقبلتها يارا بالترحاب و كانت قد أعدت لها وجبة من الطعام و قالت لها :
–  أنت تأكلين من طعامنا أليس كذلك ؟
–  في الحقيقة أنا عندما أخرج من المرآة أكتسب صفات البشر ، يعني شكراً لك على الطعام .
و قامت يارا بإخبار  قراقوشا عن جديها و بيتهما ، و معلومات عن أقاربها ، و قالت لها أنها ربما تجد خالها وعائلته هناك و هي مؤلفة من خالها و زوجته و ابن خالها فريد الذي يعد نفسه لدخول كلية الطب ، و ابنة خالها الصغيرة و اسمها تالا ، و لكي تضمن سير خطتها كما تريد أطلعت قراقوشا على عدة صور للعائلة حتى لا يفتضح أمرها ، و من ثم ودعتها و خلدت إلى النوم و هي تحلم برحلة الغد  .

في الصباح تناولت يارا إفطارها مع أهلها ، ثم مضت مسرعةً إلى غرفتها و أوصدت الباب جيداً ، ثم و قفت أمام المرآة و نادت على قراقوشا ، و كانت قد أعدت لها ثياباً لكي تلبسها و من ثم صففت لها شعرها و قالت لها :
–  هيا قوشا يجب أن تنزلي الآن إلى الصالة و تنتظري والدي ريثما يجهزان و تذهبي معهما .. استمتعي بوقتك ولا تخذليني ..  
–  و أنت أيضاً استمتعي برحلتك مع صديقاتك .
خرجت قراقوشا من الغرفة و جلست في الصالة تنتظر ، و جاءت والدة يارا و تفاجأت من جلوس ابنتها بهدوء فقالت  :
–  يارا تنتهي من التحضير قبلنا ، و تجلس هادئة بانتظارنا ؟ ماذا حدث في الدنيا !!!
– لا بأس أمي ببعض التغيير .. لقد قررت اليوم أن أكون فتاة مطيعة .
سمع الأب جملتها و ضحك قائلاً : يارا صغيرتي دائماً مطيعة .
و انطلقا إلى بيت الجد .. كانت يارا تنظر إليهم من نافذتها ، و عندما تأكدت من ذهابهم انطلقت بفرح تجهز نفسها للرحلة المنتظرة ، و فعلاً قضت وقتاً طيباً مع صديقاتها من دون أي إحساس بالذنب تجاه أهلها و خداعها لهم  .
و عندما عادت في المساء قضت الوقت المتبقي في مشاهدة التلفاز ، و بعد ذلك ذهبت للنوم و هي تقول في نفسها :
ما أجمل الحرية و العيش من دون رقيب .. كم كانت فتاة مستهترة
و في اليوم الثاني من العطلة استيقظت يارا متأخرة ، و نهضت من فراشها بتكاسلٍ و أمضت فترة الظهيرة بالاستلقاء على الأريكة في الصالة ، و التقليب بعدة مجلات تتحدث عن آخر صيحات الموضة ، و حاولت ألا تعبث كثيراً في المنزل حتى لا تشعر أمها بوجود شخص في البيت في غيابهم  .

في المساء صعدت إلى غرفتها بانتظار عودة والديها ، و أخذت ترقب مجيئهم من النافذة ، و بدأ القلق يتسرب إلى قلبها خوفاً من انكشاف أمر قراقوشا ، لكن كل شيء تم على ما يرام وعاد أهلها إلى المنزل وصعدت قراقوشا إلى غرفة يارا التي ما إن رأتها حتى هبت واقفةً و أوصدت الباب جيداً وأمسكتها من يدها وأجلستها على السرير و قالت لها  :
–  هيا قوشا حدثيني عن كل شيء بالتفصيل الممل
ضحكت قراقوشا و قالت  :
–  أوه يارا شكراً لك .. لقد استمتعت كثيراً بهذه الرحلة ، لا أعرف لماذا لا تحبين الذهاب إلى الريف .
–  رحلة !! تسمين الذهاب إلى بيت جدي رحلة ؟!
–  بالطبع ، فهذه أول مرة أرى فيها الطبيعة و الأشجار و أشعر بهبوب النسيم ، يا الله كم كان الجو رائعاً !!
–  قولي لي كيف كان جدي ؟
–  بخير لقد نصحه الطبيب ببعض الراحة هذا كل ما في الأمر  .
–  حمداً لله ، من كان هناك ؟ هل حضر بيت خالي ؟
–  نعم ، و قد عرفتهم من الصور و من حديثك لي عنهم لقد استمتعت كثيراً بصحبة فريد
–  فريد ابن خالي !! ذلك الشاب المتعالي !
–  بالعكس ، إنه متواضع و ذكي جداً ، لكن طبيعتك مرحة و تحبين المزاح و هو إنسان جدي يحب الأحاديث الجدية والمفيدة ، هو الوحيد الذي شعر بأنني مختلفة فقد قال لي ليس من عادتك أن تنصتي إلى أحاديثي وتستمتعي بها
–   يا إلهي هل شك بشيء ؟؟
–  كيف له أن يشك و أنا نسخة طبق الأصل عنك ، أساساً لا أعرف لماذا لا يروق لك مثل هذا الشخص ، إنه إنسان طموح فضلاً عن أنه وسيم .
–  حدثيني بالمواقف التي جرت معك كلها ، و كل الكلام الذي قيل حتى أبدو أمام أهلي أنني أنا التي ذهبت معهم .
و هكذا حدثت قراقوشا يارا عن كل ما جرى معها ، و كل الأحاديث التي قيلت بالتفصيل ، و عند منتصف الليل ودعت يارا و قالت لها :
حذار أن تكسري المرآة لأنك حينها لن تعودي تريني ، و سأظل حبيسة عالم المرايا … و دخلت في المرآة و ذهبت إلى عالمها .

اعتادت يارا على وجود قراقوشا في حياتها ، و استفادت منها كثيراً ، فقد كانت تطلب منها أن تحل مكانها عندما تريد التنصل من واجبٍ أو عملٍ ما ، حتى أنها في بعض المرات كانت تطلب منها الذهاب إلى المدرسة بدلاً عنها ، و ذلك عندما يكون برنامج المدرسة مليئاً بالمواد التي لا تحبها ، لقد تمادت يارا كثيراً في اعتمادها على قراقوشا التي اعتادت بدورها على حياة البشر ، و على عائلة يارا و خصوصاً ابن خالها فريد …

و ذات مرة قالت والدة يارا لزوجها :
–  ألا تلاحظ معي أن طباع يارا تغيرت ، لقد أصبحت ملتزمة معي ، و لا تجادلني كثيرا ً ، و أي شيء أقوله تفعله بلا نقاش ، حتى أنها أصبحت تحب صحبة فريد و تحلم بدخول كلية الطب مثله !!
–  و لماذا أنت مستاءة ؟! كنتِ تشكين منها كل الوقت و الآن عندما أصبحت كما تريدين أجدك غير راضية
– لا .. ليس الأمر هكذا لكني فقط مستغربة !! تعرف ؟ لقد تغيرت منذ أن جلبت تلك المرآة إلى المنزل
–  إنها بركات المرآة …  و أخذ يضحك ثم قال : لا تدققي كثيراً ، فابنتنا في سن حرجة ، و قد تطرأ عليها عدة تغيرات فشخصيتها لم تتبلور بعد .
–  ربما معك حق
 – بما أنكِ ذكرتِ المرآة تذكرت شيئاً ، منذ يومين صادفت ذلك الرجل الذي حذرني منها .
–  ذلك الذي كان موجوداً في المزاد ؟
–  نعم ، قال لي كلاماً غريباً لم يدخل في عقلي
–  ما هو ؟
–  سألني إن لازلت بخير أنا و عائلتي ، و عندما استغربت سؤاله قال لي تلك المرآة مشؤومة و قد سمع عنها قبل أن يجلبها ذلك الثري من باريس ، فكل من امتلكها أصابه مكروه ، و قد تراكمت الديون على صاحبها الثري منذ أن جلبها إلى بيته ، و أخذ وضعه المالي يتدهور إلى أن أصيب بأزمة قلبية توفي على إثرها .
–  يا إلهي .. سمعت كل هذا الكلام و لازلت تحتفظ بها ؟!!
–  على رسلك ، سمعته نعم لكني لم أصدقه ، ماذا يعني أن تكون المرآة مشؤومة هل سمعت بمثل هذا الكلام من قبل !!
–  وصاحبها و ما حدث له !!
–  ما حدث له قضاء الله و قدره ، كلنا معرضون للإفلاس و للأزمات القلبية ، ما الغريب بالأمر ؟!
–  لكن ..
–  كفى نقاشاً بالموضوع ، لم أكن أعلم أنك تصدقين هكذا خرافات ، ليتني لم أخبرك بشيء .
و صمتت الأم و هي تفكر كيف ستقنعه بضرورة التخلص من المرآة .

في إحدى الأمسيات و بينما كانت قراقوشا تستعد للدخول إلى عالمها قالت لها يارا :
–  صحيح قوشا ..لم تحدثيني عن عالمك ، هل هو جميل ؟
–  إنه عالم من المرايا كل مرآة تعكس صورة صاحبها ، نستطيع التكلم مع بعضنا من خلف المرايا ، لكننا لا نستطيع الحركة خارجها ، لكن بما أن هذه المرآة مسحورة أنا فقط من أستطيع الخروج
–  أثرت فضولي .. و صمتت لبرهة و هي تفكر ثم قالت فجأة :
–  قوشا ، هل أستطيع زيارة عالمك ؟
–  نعم تستطيعين لكن يجب أن أستأذن المرآة أولاً

وقفت قراقوشا أمام المرآة و قامت تتمتم بكلمات غير مفهومة بدأت على إثرها المرآة بالإشعاع ثم أمسكت بيد يارا و قالت لها :
–  والآن ادخلي و سأنتظرك هنا حتى منتصف الليل ثم أناديك لكي تخرجي .
و دخلت يارا بأنفاس مبهورة و اختفت داخل المرآة ..
و بعد لحظات طرقت الأم الباب و نادت ابنتها لتناول طعام العشاء ..
نزلت قراقوشا مسرعة ، لم تأكل كثيراً فقد كانت مستغرقة بتأمل والدي يارا ، لقد كان وحيد أباً حنوناً متفهماً و مرحاً أيضاً ، هذا ما لمسته منه أثناء تقمصها الكثير لشخصية يارا ، و أمها كانت تبدو قاسية لكن قسوتها كانت لمصلحة ابنتها و في المقابل كانت تخفي خلف هذه القسوة حباً كبيراً ليارا وخوفاً شديداً عليها .. سألت نفسها لماذا تبدو يارا غير راضية كثيراً عن عائلتها ؟؟

نهضت ساهمة بعد انتهاء العشاء ، و ساعدت والدة يارا في إزالة الأطباق و غسلها ما أدهش الأم كثيراً حيث قالت :
–  منذ متى تساعديني في المطبخ ؟
وجدت قراقوشا نفسها تقول بتلقائية :
–  منذ اليوم ، فقد قررت أن أكون فتاة مثالية  
و أمضت مع والدي يارا وقتاً مرحاً بمشاهدة إحدى المسرحيات الكوميدية ..
و حان موعد النوم فنهضت قراقوشا و قبلت وحيد و زوجته  قائلة لهما :
تصبحين على خير أمي … تصبح على خير أبي
شعرت قراقوشا أنها في تلك اللحظة لم تكن تمثل بل فعلاً أحست أنها ابنتهما ..

صعدت إلى غرفة يارا و هي تفكر باستغراق ، و تجاوز الوقت منتصف الليل و لا زالت تفكر ، قالت في نفسها  :
كم يارا فتاة غبية ، تعيش في كنف عائلة تحبها و تدللها و لا ترفض لها طلباً و مع هذا فهي غير راضية عن حياتها . .
ثم فكرت بنفسها و قالت .. إلى متى أبقى على هذه الحال لا أخرج إلا عندما تحتاجني يارا لأسد مكانها عندما تريد القيام بإحدى أعمالها التافهة كالنوم أو اللهو مع الصديقات ..
و فريد .. لقد اعتدت على رؤيته و وجوده في حياتي ، كيف لي أن أنسى كل هذا و أعود إلى عالم المرايا الرتيب !
لقد اعتدت على حياة البشر .. ماذا أفعل ، و فوق هذا أنا مهددة بالبقاء في عالمي و عدم الخروج منه إن كسرت المرآة .. و نهضت فجأة و قالت تحدث نفسها بصوت مسموع :
المرآة … نعم خلاصي بكسر المرآة قبل أن تعود يارا ، و لتبقى  حبيسة عالم المرايا ، هي فتاةٌ لاهيةٌ بلا طموح ، ولا تستحق أن تعيش في كنف هذه العائلة ..

و قررت تنفيذ ما خطر لها في الحال فلقد غلبت روحها الشريرة على طيبتها ، فالفرصة تأتي مرة واحدة و لا تتكرر .
و هكذا ارتدت ثياب نوم يارا ، و اتجهت إلى المرآة و أوقعتها أرضاً محدثةً ضجةً كبيرةً جاء على إثرها والدي يارا مفزوعيَن ، و آثار النوم باديةً عليهما ، و وجدا قراقوشا التي حسباها يارا واقفةً في الغرفة و قد انتشرت حولها شظايا المرآة المكسورة ، و ما إن رأتهما حتى صاحت باكيةً :
– أمي … أبي .. لقد نهضت من نومي لأشرب الماء لكني تعثرت و سقطت المرآة .. أنا آسفة بابا لم أقصد كسرها
ربت وحيد على ظهر قراقوشا قائلاً :
– لا بأس يا ابنتي ، فداكِ ألف مرآة
و قالت الأم :
–   حمداً لله على سلامتك ، لا تهتمي ، أنا منذ البداية لم أحب هذه المرآة و ارتحت عندما كسرت  
احتضنت قراقوشا والدة يارا متظاهرةً بالحزن و الأسى ، لم يلحظ أي من وحيد أو زوجته الابتسامة الماكرة التي ارتسمت على شفاهها ، و لا علما أنها قالت في نفسها ..و داعاً يارا .. كم كنت فتاةً غبية .. إبقي أنتِ في عالم المرايا .. فأنا أستحق عالم البشر أكثر منك .. وداعاً .

 

تاريخ النشر : 2016-08-19

نوار

سوريا
guest
52 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى