أدب الرعب والعام

السراب ( الجزء الأول )

بقلم : Roxana – Wonderland

السراب ( الجزء الأول )
كان شابا ذو أكتاف عريضة و جسم رشيق ملأته العضلات .

تكاد يداي أن تتصلبان ، لكن يجب أن أتابع … لا مجال للتراجع ، فإذا لم أكمل ما بدأت به فستذهب أفكاري بمهب الريح … يجب أن يكون متناسقاً و سلساً ، و في نفس الوقت يتصاعد و ينتهي على نحوٍ درامي …
” ايفا ! يستحسن بك أن تخلدي للنوم ”
لا بد من أن أتوصل إلى نهاية و إلا فلن أستطيع إعادته مرةً أخرى … أنا في عملية بحث ، و لن يهدأ لي بال حتى أجد ضالتي .. لقد سلبني هذا لبي منذ أسبوعين ..أسبوعين و أنا أحاول صياغة أفكاري ..
” ايفا ! هل تسمعينني؟ “
أشعر بالخدر و التشنج في أصابعي ، يكاد العرق يتسلل إلى السطح الأملس و يجرفني نحو الأنزلاق .. لكنني عقدت عزمي هذه المرة على أن أصل إلى النهاية ..
فكري بشيءٍ جديد … فكري .. مروج خضراء .. غابة شائكة و هادئة… أجل ! لقد عثرت على أرنبي الصغير !
لا.. إنه يهرب .. علي أن أحث الخطى خلفه قبل أن يضيع كما في السابق … أكاد أصل إليه ..
تبا ! ابتعد عن الحفرة و إلا… يا إلهي قدمي تنزلق !
و ها أنا أسقط في حفرة الجحيم المظلم عديمة النهاية …
“ا-ي-ف-ا .. كما تعلمين نحاول النوم “
فجأة ، انتبهت إلى صوت أخي الكبير ” ليو ” الذي جرفني إلى الواقع قاطعاً قطار أفكاري ..
انتفضت من مقعدي بسرعة ، و أغلقت غطاء البيانو ثم أسرعت و فتحت الباب .
” أنا آسفة ، لم أنتبه للوقت ! و لم أسمعك تصرخ بسبب البيانو.. ” لبرهة ، سمعته يتمتم بشيءٍ ما بصوت منخفض و غاضب ، ثم أجابني بوضوح و بنبرة طبيعية فيها شيء من التحاذق :
– نصيحة أخوية ، إن هناك خيطاً رفيعاً يفصل بين الهواية و الجنون ، و أظن أنك بدأت بعبوره ..
ثم انفجر ضاحكاً و سمعت صوت بابه و هو يغلق ، حسناً .. قد يكون كلامه مستفزاً قليلاً لكني لن أدع بضع كلمات تعكر صفو انتصاري ، ليس انتصاراً فعلياً في الواقع ، صحيح أني وصلت إلى تأليف الربع الأخير من مقطوعتي بعد أن عجزت عن تأليف البداية بصورة كاملة منذ أسبوعين ، و الآن لم يتبق إلا مقطعاً واحداً لكني توقفت من جديد .

علي أن أكملها لكي أضمن فوزي بالمسابقة ، لقد وضعت في هذا اللحن كل طاقتي ، و كل خبرتي و مهارتي التي أعجب بها أستاذي السيد ” دي لا كوست ” بسرعة و حظيت على اهتمامه منذ وصولنا هذا الشهر إلى( فلورنسا-ايطاليا) ، لقد نصحني بتأليف ألحان جديدة ، و أن أعتمد على مخيلتي كما في الرسم ، و قد بدأت بالفعل تأليف مقطوعتي التي كانت تيمناً بلوحة كنت أسميتها : فنان في بلاد العجائب ، لكن للأسف لم أستطع إكمالها بعد ، ربما كان ذلك بسبب توتري و خوفي من الفشل ، لذا توجهت نحو شرفتي .. لعل استنشاق الهواء النقي يبعد عني الأرق ، وقفت أتفرج على إطلالة منزل صديقتي بيانكا كان قبالتنا تماماً ، لقد تعرفت عليها مؤخراً ، إنها فتاة لطيفة جداً و تعمل بمجال التصوير ..

كان منزلها كبير ، و لاحظت فيه شيئاً غريباً مؤخراً ، فقد كان في الطابق العلوي غرفة بمحاذاة ارتفاع غرفتي تظل مضاءةً حتى ساعةٍ متأخرةٍ من الليل ، في بعض الأحيان عندما تكون أنوارها مطفأة أشعر و كأن أحداً ما يسترق النظر إلي ، و كانت الستائر تنسدل بسرعة إذا لاحظته..
الغريب بالأمر أنني على علم بأن لا أحد غيرها و والدها يسكنان في المنزل ، و أنهما يستعملان الطابق الأرضي و الطابق العلوي شبه متروك ، تساءلت ربما أحدهما أعجبه الإستماع إلى لحني ..

كان الليل حالكاً و السماء صافية على عكس ذهني الذي يحاول تحليل ما يرى أمامه…
هناك شخص ما بدا و كأنه يجر كيساً مملوءاً ، و كان الكيس طويلاً ، حاولت تمييز ملامحه لكن الأمر شبه مستحيل ، فالإنارة في حديقة بيت صديقتي في البقعة التي فيها الرجل كانت معدومة ، شعرت بقشعريرة في أسفل ظهري ..
يا إلهي ! ماذا يفعل شخص مع كيسٍ كهذا في منتصف الليل ؟!
أسرعت و دخلت غرفتي و أنا في حيرة من أمري ، نظرت من النافذة بحذر و إذا بالشخص قد ابتلعه الظلام ، و توارى بالظلال.. لم أرَ شيئاً آخر ..
قلت لنفسي لا داعي لتضخيم الأمور ، ربما كان السيد أليخاندرو يخرج قمامته ..
أطفأت نور مصباحي ، و رقدت في سريري
لعل غداً يكون أفضل من يومي هذا ..

استيقظت فزعةً في صباح اليوم التالي ، متسربلةً ببطانيتي الدافئة على صوت الجرس المثبت أعلى سريري ، نظراً لنومي الثقيل اضطر أخي لابتكار وسيلته المزعجة هذه لأيقاظي ، أظن أن مهنته قد أثرت عليه ، لقد جعلني أتبع نظاماً عسكرياً حتى في الإستيقاظ من النوم باكراً في أيام العطل .

نزلت من السلم أجر خطاي المتكاسلة نحو الأسفل ، لم تكن الشمس مشرقة بعد ، كانت أمي تقوم بإجراء اتصال حيث لوحت لي بيدها ثم وضعتها على سماعة الهاتف :
صباح الخير عزيزتي ..
و رجعت إلى محادثتها السريعة ..
– ماذا هناك يا أماه ؟ سألت أمي حين بدا على وجهي علامات الأرق ، بالكاد كنت أنظر إليها من وراء جفوني التي أثقلها النعاس .
– آسفة يا عزيزتي على إيقاظك مبكراً ، علي أن أسرع و إلا تأخرت عن العمل ، هلا أوصلتِ إيفان إلى الروضة من أجلي ؟بالمناسبة أسرعي و غيري ثيابك لتساعدي آدم في حمل أغراضه ، سيبقى عندنا لبعض الوقت..

لم يكن دماغي قادراً على تحليل المعطيات ، بالكاد كنت أبصر دربي..من سيبقى عندنا؟..إلى أين تذهب.؟.. و فجأة تذكرت
– انتظري ! من المفترض أن يوصله أخي ليوناردو….
لم أكد أنهي كلامي حتى و دعتني و ذهبت بسرعة إلى سيارتها ، وقفت لبرهة ثم استوعبت ما قالته أمي .. أجل آدم صديق أخي المفضل..الشخص الذي حث عائلتي على السفر إلى هنا بعد وفاة والدي و اختار لنا المنزل..
لكن ما الذي يفعله عندنا؟
صعدت إلى غرفتي ، و غيرت ملابسي ، و حين نزولي شاهدته جالساً على الأريكة في الصالة ، و في يده بعض الأوراق و بجانبه حقيبتان ، تساءلت في داخلي و أنا أشعر ببعض الغضب :
كيف تذهب أمي و تتركني وحدي مع شخصٍ غريب في المنزل؟ أصلاً كيف سمحت له بالمبيت عندنا ؟!

ذهبت و حضرت له فنجاناً من القهوة ، كان مستغرقاً في التأمل بأوراقه ، و قد قطب حاجبيه بنوع من التركيز ،
لكن سرعان ما تغيرت قسمات وجهه الشاب حين رآني
– مرحبا أيفا ! كيف حالك؟ مر وقت طويل منذ أن رأيتك آخر مرة أليس كذلك ؟ كانت نبرة صوته منفعلة زيادة بقليل عن اللزوم ، بينما كان يتحدث إلي بدا و كأنه يدرس تعابير وجهي و أنا أشاهده بفضول و هو يقحم أوراقه بسرعة بوسط بنده الممتلئ بالأوراق..
أجبته :
– بخير الحمد لله ، لا لم يكن وقتاً طويلاً ، فحسب ما أتذكر كنت تزورنا باستمرار ، آخر مرة كانت قبل سفرنا بيومين .
– أها.. صحيح ، كانت أمك سخية معي حين وافقت على بقائي هنا ، آمل ألا أكون ضيفاً ثقيلاً عليكم .. نظر إلي و علت وجهه ابتسامة عفوية
– لا على العكس ، تصرف كأنك في بيتك ، هات حقيبتك لآخذها إلى العلية .
مددت يدي لأخذ الحقيبة الأصغر لكنه أمسك بمعصمي بسرعة ، فاجأتني ردة فعله ، و نظرت إليه بتساؤل فقال : آسف ..أمم لا تتعبي نفسك ، سأحملهن بنفسي ، أرني الطريق و حسب .

أرشدته إلى العلية حيث وضع حقائبه هناك ، بينما توجهت لأخذ أخي الصغير إلى الروضة .
– هل تريدين أن أوصلكما ؟ سألني آدم بلطف
– لا شكراً ، لا داعي لهذا فهي على طريق كليتي
– حسنا خذي حذرك ، و اهتمي بنفسك جيدا ، كوني يقظة
ابتسمت قائلة :
– لا تقلق بشأن هذا.. وداعا .
لقد أثار فضولي سبب مكوث آدم عندنا ، فهو يعمل ضابطاً في الشرطة ، ربما جاء إلى هنا لسبب ما يتعلق بعمله .

انتظرت أنا و أخي الباص لمدة ربع ساعة ، كنت حينها مستغرقة في تأمل الشارع ، كان الجو ممطراً و شوارع منطقة توسكاني اتشحت بمياه الأمطار ، حيث انعكست صور الأشجار و البنايات على الشارع بشكل متموج كأنها لوحة مائية فريدة من نوعها ، و مما لفت انتباهي سيارة رياضية جميلة برتقالية اللون ، و أعتقد أنها كانت من نوع لامبرجيني مرت مسرعة و اتجهت بنفس طريقي ..

وصل الباص الذي أقلنا إلى الروضة أولاً ، و من ثم تابع سيره إلى كلية فيرنزه للفنون الجميلة
كنت أشعر بتوتر شديد و أنا جالسة في مقعدي أنتظر دوري للمشاركة في اختبار الأداء الذي سيؤهلني لدخول المسابقة ، كأن قلبي قد صعد إلى حنجرتي ، و أني على وشك تقيؤه ،
ندمت كثيراً لأني لم أحظَ بقسط كافٍ من النوم في الليلة السابقة ، و كانت هواجسي يشوبها بعض القلق ، فأنا أعلم أن عزفي جيد ، لكن المشكلة تكمن في عدم انتهائي في الوقت المناسب من تأليف بقية المقطوعة ، لكني كنت قد اطلعت على نتائج بعض الأختبارات ، و عرفت أن بعض المشاركين لم ينهوا معزوفاتهم حتى تم قبولهم ، مما أعطاني بعض الثقة

– ايفا دي لورينتس تقدمي إلى البيانو رجاءً ..
صدح صوت أحد أعضاء لجنة التحكيم عبر المايكرفون معلناً بدء دوري ، شققت طريقي بين المقاعد التي امتلأت بالطلاب المرفوضين ، و الخوف يعتريني .. نظرت إلى السيد ديلاكوست الذي كان جالساً في المقدمة فأومأ برأسه كنوعٍ من التشجيع و كأنه يقول لي : أنا أثق بك ..
جلست على البيانو و ما إن فتحت غطاءه حتى انجرفت إلى عالم آخر .. عزفت كما في ليلتي السابقة ، و سرعان ما نسيت خوفي و تعبي ، و شعرت بالرضا و الطمأنينة و أنا أرى وجوه الحاضرين منسجمة بسرور مع ألحاني التي تدفقت إلى مسامعهم بلطف و روية كنسيم هواء ربيعي ..

– حسنا آنسة دي لورينتس كان أداؤك مبهراً ، هذا يكفي لقد تم قبولك بسرور للمشاركة في المسابقة ، نتمنى لك التوفيق .
تنفست الصعداء بسماعي هذه الكلامات و انطلق تصفيق الحاضرين الحار ، صافحني السيد بيير و قال لي لا ضرورة للبقاء في الكلية إلى نهاية الدوام ، بعد أن هنأني بالتأهل إلى المسابقة .

في طريقي للخروج صادفت صديقتي بيانكا ، لقد أصرت علي كثيراً للذهاب في سيارتها ، و في طريقنا تبادلنا الأحاديث و طرحت عليها ما شاهدته في حديقتها الليلة السابقة .
– هاهاها لقد تغلب عليك خوفك ، لم يكن أي أحد في حديقتي ، أنتِ تحت وطأة الخوف من المسابقة .
– هذا غير صحيح ! لقد رأيته بأم عيني يسحب كيساً كبيراً
– لا تقلقي ، أستطيع أن أطمئنك أنه والدي ، فهو غالباً ما يتذكر تراكم القمامة في وقت متأخر و يهم لإخراجها . ابتسمت و نظرت إلي كما لو أنني طفلة في الثالثة تصر على وجود سانتا كلوز

أحسست بالإحراج من حماقة تفكيري ، و قلت لها :
– أمم… لقد كنت متعبة ، أنت محقة.. و ضحكت ضحكة جبانة لأغطي على إحراجي
– ما رأيك لو تبقي معي في منزلي لبعض الوقت حتى نحتفل بنصرك الصغير ؟ أريدك أن تشاهدي بعض الصور التي ألتقطها ، لا تقلقي أنا و أنت فقط ، والدي لن يعود حتى ساعة متأخرة من الليل .
وافقت على اقتراحها ، و حين اقترابنا من المنزل لاحظت اللامبرجيني البرتقالية مركونة بجانب المنزل
– واو أعشق هذه السيارة ! وحش الطرقات السريعة ، هل تعود لوالدك ؟ رأيتها هذا الصباح ..
بدت بيانكا في حيرة من أمرها و لم تكن أقل دهشة مني
– لا ، هي ليست لوالدي ، إنها لقريبي دانتي
لقد نسيت أن أخبرك أنه انتقل للعيش معنا منذ مدة لم أتوقع تواجده في المنزل..
– لمَ ؟
– لا .. لاشيء يذكر سوى أنه أخبرني أنه سيعود عصراً إلى البيت ..

مرت ساعات قضيناها بتبادل الدعابات و تناول الحلوى و تصفح ألبومها الجديد ، في هذه الأثناء لم أرَ قريبها في المنزل ، شعرت بالفضول تجاهه ..
– آسفة على تطفلي ، لكن لمَ قرر قريبك البقاء عندكم ؟
– لا تقولي هذا رجاءً ، فأنت صديقتي و أشعر بالارتياح معك ، لم تمض مدة طويلة منذ خروجه من السجن و أراد أن يقضي الوقت بعيداً عن بيته ، فربما تغيير الأجواء سيشعره بنوع من الارتياح و النقاهة .
انتفضت و قلت بانفعال :
– كان قريبك في السجن ! عادت شكوكي لتساورني من جديد..
انفجرت ضاحكة في وجهي ..
– أنت فتاة مسلية فعلاً ، لا شك في أنك قمت بربط الأحداث بطريقة خاطئة ، دانتي شاب لطيف جداً و ذكي للغاية .. قاطعتها قائلة :
– إذاً كيف انتهى به المطاف في السجن ؟
– حسناً لقد تفاجئ الجميع بسماع خبر دخوله السجن ، و كنا مصدومين للغاية ، لكنه أخبرنا لاحقاً أنه تم إلصاق تهمة ما به ، و على إثرها دخل السجن ، لم تكن لديهم أدلةً كافيةً ضده ، و بعد سنتين قرروا إطلاق سراحه ، إلا أنه يكره التحدث في هذا الموضوع .

اعتذرت لها عن اتهامي لقريبها لكن في داخلي لم يزداد الأمر إلا ريبة .
شاهدنا فلم في الصالة ، و سرعان ما غطت بيانكا في نوم عميق ، بعدها سمعت نباح كلبها توبي في الحديقة الخلفية ، كان صوته مزعجاً للغاية ، فقررت الذهاب و إعطاءه طعامه ،
وجدت حفرتان كبيرتان في الحديقة ، استغربت من وجودهما و قلت لنفسي ربما أحب السيد أليخاندرو زراعة شجيرات جديدة .. ذهبت لأتفقد توبي و وجدته عند طرف إحدى الحفر يقوم بالنباح و الحفر
– توقف أيها المشاكس عن إفساد الحديقة..
حاولت سحبه بقوة من سلسلته إلا أنه كان عنيداً للغاية إلى أن استسلمت للأمر ، و تركته يتم ما بدأ به …

استمر الكلب بالحفر و أنا أشاهده ، إلى أن توقف فجأة و بدأ يهز ذيله القصير و ينبح باتجاهي ، تقدمت منه بسرعة
– ها.. هل أنت راض الأن ؟ تعال و تناول طعامك
توقفت مصدومة ، كأنه ما عاد الهواء يصل إلى رئتي .. لم أصدق ما رأته عيناي ، و كأن جميع شراييني قد جمدت في عروقي ..
يا إلهي ماهذا ! إنها جثة ! جثة في منزل صديقتي ! أصابني صداع حاد حيث وقفت أعاين الجثة عن قرب ، حاولت كتم أنفاسي و أن أمنع نفسي من الصراخ ذعراً ، فلسبب ما تخيلت أنه والدي ، لم يكن الرأس ظاهراً و لم أحاول معرفة هويته ، فهول الموقف جعل ركبتاي ترتجفان بشدة و تهدداني بالانهيار ، لكن في نهاية المطاف استسلمت للدموع ، و تنهدت بصوت خفيف واضعةً يداي على فمي لكي لا أخرج صوتاً عالياً ..

سمعت أصوات خطى أقدام مسرعةً تتجه نحوي ، ما زاد في هلعي ، و أدركت أنه لا مجال للهروب ..
توقف أمامي شاب يبدو بعمر أخي تقريباً ، ذو أكتاف عريضة و جسم رشيق قد ملأته العضلات ، نظر إلي نظرة مرعبة لم أرَ لها مثيل .. يبدو أنه لم يتوقع وجودي هو الآخر انتبهت أنه كان يرتدي قفازات الحديقة ، و في يده مسحاة .
ابتسم بمكر :
– إذاً .. هل اعتقدتِ أنك ستعثرين على أرنبك الصغير في هذه الحفرة أيتها العازفة ؟
لم أكن قادرة على التفكير بعد ، من هذا؟ … كيف عرف أنني أعزف البيانو ؟! أصبت بالهلع و تقهقرت عدة خطوات للخلف ، و كأنه قرأ افكاري لذا خطى أمامي بخطوات سريعة ما إن بدأت بالتحرك بعد أن رمى المسحاة من يده .

أمسكت يده الكبيرة بكلتا يدي ، وثبتهما فوق رأسي ، بينما كمم فمي بيده الأخرى دافعاً إياي نحو الحائط بقوة ، ارتجفت كالسعفة في الريح العاصفة ، و جسمي الصغير يصارع بيأس للأفلات من قبضته ، حاولت عض يده لكن القفازات منعتني من ذلك ، فبدأت الركل بقوة .
– اسمعي يا فتاة ، أمامك فرصة وحيدة للنجاة ، لكن إذا استمريتي بعنادك هذا فلن تزيدي الامر إلا سوءاً .
فكرت بكلامه و أدركت أنه لا خيار لي غير الانصياع لما سيقوله ..لا جدوى من مقاومته .
– أحسنتِ ، و الآن أنت محظوظة إذ سأتركك لتعيشي بسلام بشرط أن تبقي فمك مغلقاً و أن لا تبوحي لأحد بما رأيته اليوم ، و إلا فلن تكون حالتك أفضل منه…

على الرغم من شدة رعبي إلا أنني وجهت نظرات جريئة نحوه ، إنه بدون شك يخاف من أن أبلغ الشرطة ، و بعد التفكير في احتمالاتي أجبته قائلة :
– و ماذا إن لم أوافق.. هل ستقتلني الأن؟ عاجلاً أم آجلاً سيكتشف أخي تأخري عن المنزل ، و أنا سبق و أن بعثت له برسالة نصية أخبره بها أني في بيت بيانكا ، إن لعبتك مكشوفة لن يتسنى لك الوقت بأخفاء جثتين و الأدلة عليهما ، و سيكتشف أمرك من دون شك .
– أنت محقة ، قد لا أستطيع قتلك الآن لكنني سأقتلك لاحقاً إذا اكتشفت أنك أفصحتِ عن أي شيء .. و لا تقلقي فأنا أعرف الكثير عنك ، و لدي وسائلي الخاصة في مراقبتك أينما حللت ، فأنصحك بالتصرف بحكمة و إلا ستدفعين الثمن غالياً ، قد أغير رأيي و أختار شخصاً من عائلتك ، فهل أنت مستعدة للتضحية بأحد منهم بعد وفاة و الدك ؟

عند سماعي لجملته الأخيرة وقفت مصعوقةً بلا حراك ، قد أستطيع النجاة لكن ماذا عن عائلتي ؟
خانتني دموعي قبل أن أبدأ بالبكاء ، لم أكن أريد إظهار ضعفي له ، فأنا لن أكون كذلك ما حييت .. لكن الفنان عواطفه مرهفة ، مع هذا فالدموع ليست ضعفاً ، نظرت إليه بتحدي و إصرار ، أحسست بتغير شيء في داخله ، عندها علمت أنه عزم على قتلي ، فليس من مصلحته بقائي على قيد الحياة ، أغمضت عينَي و بدأت أرتل صلاة خفية..صلاة الدموع.. انتظرت و انتظرت ، لم يحدث شيء .. حينها فتحت عينَي ، فأفلت يداي و تراجع إلى الوراء و قد علت وجهه ابتسامة غريبة -استهزاءً بي على الأرجح – لكني لم أهتم بهذا لأني كنت ممتنةً لربي لنجاتي من القتل .

كان تصرفه مفاجئاً لي ، لم أتوقع هذا على الأطلاق ، لكن سرعان ما خطر ببالي أنه قد يريد تعذيبي أكثر أو استخدامي في جريمة أخرى ..
– اذهبي الآن .. ما الذي تنتظرينه ؟!
ذهبت أعدو مسرعة إلى المنزل ، كان قلبي ينبض بسرعة جنونية حتى خشيت أن يؤثر هذا على صحتي ، دخلت البيت و توجهت إلى غرفتي مباشرةً ، كنت قد سمعت أصوات أمي و ليو و آدم في الصالة ، و لم أشأ أن يروني و أنا بهذه الحالة .
أوصدت باب غرفتي بإحكام و ألقيت بنفسي على السرير ،
مرت ساعة و أنا ابكي من دون انقطاع إلى أن حل تعبي و غطيت في نوم عميق ..

استيقظت من النوم في الساعة الثامنة مساءً ، حيث لا زالت الأحداث طازجة في ذهني ، جلست أعيد الأحداث مراراً و تكراراً ، أصبحت عالقة بين المطرقة و السندان ..
هل ألتزم الصمت كما أمرني ؟ أم من الأفضل إخبار الشرطة؟
إذا لم أخبر أحداً فهل سيحفزه هذا إلى ارتكاب جريمة أخرى ؟ ماذا لو كنت أنا أو أحد معارفي ضحيته التالية؟ إذا لأخبرت الشرطة عنه فهل سأكون و عائلتي في مأمن منه؟ و لكن كيف يستطيع إيذاء أحد إن ألقت الشرطة القبض عليه ؟! لكن هل بيانكا و والدها على علم بالموضوع ؟ كان هذا السؤال يؤرقني ، صحيح أنه لم يمض شهر على معرفتنا بهم لكني لم أتوقع الخيانة منهما ابداً ، فهم أناس لطفاء و كريمين ..

لكن هو قال أنه يعرف كل تحركاتي ، من أخبره عني ، هل هي بيانكا ، هل هي من ساعدته أم أنها ذكرتني أمامه بالصدفة ؟ لكن الكل يعلم أن بيانكا من النوع الكتوم و لا تحتفظ إلا بالقليل من الأصدقاء و هذا ما جعلني أطمئن لها .. أوه تعبت من التفكير ، لذا حسمت أمري .. لن أسمح له بتهديد حياتي و حياة غيري ، سواء كان يعمل لوحده أم هناك من يساعده ، سأخبر رجال الشرطة ، لكن قبل ذلك سأخبر أخي ليو و آدم فهما يعملان في سلك الشرطة و سيسهلان أمر القبض عليه .

وهكذ نهضت من فراشي ، وغسلت وجهي و نزلت السلم لإخبار عائلتي بما حصل ..
كانت عائلتي- المكونة من أمي و أخي الأكبر ليوناردو 25 عاماً ، و ايفان 4 أعوام – متحلقين حول المدفأة يستمعون إلى آدم و هو يروي إحدى قصصه البوليسية مع أخي بطريقته المرحة و المحببة حيث تعالت أصوات ضحكاتهم إلى خارح الغرفة ..
وقفت للحظات مترددة لكني حسمت أمري و أخيراً دخلت الصالة ولدي إحساس بأني وصلت إلى نقطة اللاعودة ، و علي إنهاء هذا .
جلست بينهم بعد أن رحبوا بي ثم عادوا لإكمال حديثهم ، و بدأت أفكر بطريقة ما لأزف لهم الخبر الدسم ..

كنت أنتظر أن ينتهي حديثهم حتى أبدأ ، و عندما هممت بفتح فمي لأتكلم ، التفتت أمي إلى آدم و سألته :
– حدثني عن والدتك فأنا لم أسمع عنها منذ زمن..كيف حالها ؟ هل تحسنت صحتها عند تلقيها العلاج في انكلترا ؟
– نعم لقد تحسنت أحوالنا منذ ذلك الوقت ، و هي الآن تنعم بصحة جيدة .
– أنا مسرورة جداً لسماع هذا ! أرجوك بلغها تحياتي فأنا مشتاقة لها كثيراً ..
– بالتأكيد ستكون سعيدة إذا استطاعت رؤيتك مجدداً ، سأحرص على مجيئها معي المرة القادمة ، كنت أظن أن علاجها مستحيل ، خصوصاً بعد أن مررنا بضائقة مالية كبيرة ، لكن الرب سهل الأمور علينا و أخرجنا من كلتي محنتينا .
تدخل ليو بالحوار قائلاً :
– أمم .. معك حق ، فعلى ما يبدو أنك بدأت باستخدام علاج جديد لمنع تساقط شعرك ، أنظر الى هذه الفروة السميكة !و أخذ يحاول إغاظة آدم و مد يده شاداً شعره ، فأبعد آدم يد ليو ضاحكاً و هو يقول :
– انتبه .. فأنا لازلت في طور العلاج .
ضحك ليو لكنه صمت فجأة ثم قال باستغراب :
ـ أين الساعة التي أهديتك إياها في عيد ميلادك ؟ لقد وعدتني بأنها لن تغادر معصمك كرمز على صداقتنا ، هل ضيعتها أيها المهمل؟!
وقبل أن يجيبه آدم تدخلت قائلة لأحسم هذه الثرثرة التي على ما يبدو لن تنتهي :
– أكره أن أقاطعكما ، لكن لدي شيئاً مهماً أود إخباركم به لذا رجاءً توقفوا عن هذا المزاح و اسمعوني ..

نظر الجميع إلي باستغراب وتوقفوا عن الحديث و قالت أمي :
– ماذا هنالك عزيزتي ايفا ؟
– هناك شكوك تساورني و تدور حول منزل جارنا أليخاندرو…
– ماذا به ؟ و ما هي هذه الشكوك ؟ أوضحي أكثر يا ابنتي ..!
– اليوم كنت في منزله مع بيانكا ، و تفاجأنا بوجود قريبها دانتي ، و ما إن نامت بيانكا حتى خرجت لتفقد الكلب بعد سماعي لنباحه ، و رأيت كيساً كبيراً تم وضعه في حفرة ، و أعتقد أنها كانت .. جثة !! لقد رأيت دانتي يقوم بدفن الكيس بالحديقة الخلفية لكن لحسن حظي انه لم ينتبه لوجودي ، فأسرعت و أتيت إلى المنزل .. أعتقد من الأفضل أن نبلغ الشرطة عنه قبل أن تحصل جريمة أخرى ..( لم أجرؤ على إخبارهم القصة كاملة بعد الاستنتاجات التي توصلت إليها ، لكني في نفس الوقت لم أستطع منع نفسي من أن أثبت له أنني لن أنصاع لتهديداته ، ففكرت بالتنويه للموضوع هكذا لعل بعض من هذه المقدمات تكون سبباً لكي يأخذوا حذرهم منه و يراقبوه )

عم الهدوء الغرفة .. كان الجميع مصدوماً بالأخبار لكن أمي كسرت حاجز الصمت مجدداً و قالت :
– لا بد من أن هناك سوء فهم يا عزيزتي ، لا تتسرعي بالاستنتاجات فجارنا أليخاندرو شخصٌ نبيل و من عائلةٍ محترمة ، و ابنته فتاة مهذبة ، كيف استطعت التفكير بهذا ؟! أما بالنسبة لقريبهم دانتي فأنا أرى أنه فتى نبيل حيث عرض علي المساعدة هذا الصباح حين رآني أعجز عن إدارة محرك سيارتي و قال لي أن المشكلة سببها البطارية ثم أخرج كابلاً من سيارته الجميلة و شحن بطاريتي ، شكرته كثيراً و قد عرض علي إيصالي بسيارته ، لكن لم يكن هناك داعٍ و مضى و أنا ممتنة له .. كان وسيماً جداً بالفعل فأنا لم أرَ شعراً ذهبياً كشعره ، و لا عينان كعينيه كأنه إله اغريقي ، كيف لك أن تتهمي شخصاً بريئاً كهذا !

يا إلهي كيف لي أن أقنعهم !! هل أنا الوحيدة التي تستطيع الرؤية من خلف قناعه هذا ؟!
– يجب أن تصدقوني ! أنا لا أمزح معكم ! لقد رأيته بأم عيني و هو يقوم بدفن الكيس ، ما هو تفسيركم لهذا ؟ هل أنا كاذبة في نظركم ؟!
هنا تأثروا بكلامي قليلاً ، و أجاب آدم بعد وقفة :
– حسنا يا أيفا إن معك حق في كل ما قلتيه ، لكن يجب أن أنوه لك أن بعض الإيطاليين يحبون صنع طبق خاص من السمك بحيث يطمرونه بالتربة – بعد لفه جيداً بالأكياس – كجزء من مراحل تحضير هذا الطبق ، ومع هذا فيجب إبلاغ الشرطة بما حصل ، فربما يستطيعون تأكيد تساؤلاتك و قد تكوني محقة في استنتاجك .
و صدقيني لن أتردد في إصدار مذكرة إلقاء قبض بحقه إذا تأكدت من صحة هذا الموضوع ، ففي هذه الظروف الحيطة و الحذر واجبان عليك .

أعطاني جوابه شعور جيداً ، لم أشعر بالأمان المطلق لكنه أزال جزءاً من همومي على الأقل ، لذلك قلت له :
– أشكرك على تصديقي..

طوال الليل ..لم أنفك عن التفكير بالموضوع ، بدأ الأمر بقتل الضحية و محاولة دفنها في الليل ، لكنه ربما تنبه لوجودي و قرر دفنها في الصباح بعد إخفائها في مكان ما ، كان يتوقع عودتي أنا و بيانكا حتى نهاية الدوام الرسمي ، و هذا سبب تفاجؤه برؤيتي ، أما بالنسبة لبيانكا فقد أرسلها لكي توصلني و تحكم التستر على الجريمة ، و قد نجح هذا بالفعل لكنهما أخطأا بالتقديرات ..
خمنت بيانكا من أنه انتهى من دفن الجثة فلم تتردد في دعوتي إلى منزلها – وكانت الدعوة حجة لرفع الشبهة عنهم و إزالة شكوكي – لكنها انصدمت حين شاهدت سيارته حيث أيقنت أنه لازال في المنزل يقوم بدفن الجثة ، و هنا تبدلت مهمتها و حاولت إلهائي بينما يقوم دانتي بالعملية ، لكن سرعان ما غلبها النعاس خصوصا بعد قضاء ليلتها السابقة بمساعدة دانتي في جريمته ..
يا ألهي ! اعتقدت أنها صديقة وفية .. كيف لها أن تخونني هكذا !

حل الصباح و ذهبت إلى الجامعة و كلي أمل أن تنجح الشرطة في العثور على الجثة و الإمساك بدانتي..فقد توجه كلاً من ليو و آدم لقسم الشرطة للتحقيق بالموضوع .
حل الصباح و ذهبت إلى الجامعة و كلي أمل أن تنجح الشرطة في العثور على الجثة و الإمساك بدانتي..فقد توجه كلاً من ليو و آدم لقسم الشرطة للتحقيق بالموضوع .
كنت أتجنب بيانكا طوال الوقت ، فلم يكن باستطاعتي التحدث إليها بعد كل ما حدث ، و ما أزعجتي بالفعل أني لا أزال أكن لها المشاعر ..!
جلست وحدي في الكافيتيريا لتناول الطعام ، بعد أن اعتدت على تناوله معها ، و بدأ الحزن بالتسلل إلي من جديد ، إذا أمسكوا بدانتي فهل سيأخذون بيانكا معهم على اعتبار أنها ساعدت القاتل؟
فجأة شعرت بأن أحدهم يقف ورائي ، استدرت و رأيت بيانكا فانتصبت في الحال و هممت بالرحيل ، لقد انتهت علاقتي بها ، الآن لن يجمعنا أي شيء بعد .. لكنها سحبتني من معصمي فصرخت بها و عيناي تملؤهما الدموع :
– اتركيني ..
– ماذا بك ؟! لقد اتصلت بك كثيراً البارحة بعد خروجك خلسة من منزلي ، لما لم تردي؟
– سئمت من ألاعيبكِ ! دعيني و شأني لو سمحتِ !
مشيت بخطى واسعة لعلها تتركني و ترحل فأنا لن أكون ألعوبة بيدها مجدداً لكنها لحقت بي فعدت للصراخ قائلةً :
– لم أعتقد أنك ستخونينني من أجل قاتل ! لن أسامحك أبداً .
كانت هذه كلماتي الأخيرة قبل خروجي من الكلية مسرعة تاركة بيانكا تحدق في الفراغ .

– هل عثر الشرطة على شيء ؟ سألت ليو بترقب
– لقد تطلب الأمر تدخلنا أنا و آدم للحصول على إذن تفتيش الحديقة ، و الشيء المخجل أنهم لم يعثروا على أي جثة بل وجدوا طبق السمك المجفف !!
أكمل آدم :
– كان تخميني في محله ، من حسن حظنا أن أفراد المنزل كانوا في الخارج ، و إلا لمررتم بموقف محرج و أنتم تحاولون تفسير تواجد الشرطة في منزلهم..
وقفت فاغرة الفم ، لم أستوعب أي كلمة مما قالوه .. كيف حصل هذا ؟؟
قال ليو و قد بدت عليه ملامح الضجر :
لقد كنت أعلم أنكِ تبالغين في تقدير الأمور و تعقيدها أكثر من اللازم .
لكني لم أستسلم وقلت :
– هذا ليس منطقياً بالمرة ! لقد رأيت الجثة بأم عيني .. ( لم أستطع إخبارهم أنه لو لم تكن جثة ما كان ليهددني ، و تندمت على عدم إخبارهم القصة الحقيقة ، و حتى لو أخبرتهم الآن فمن المستحيل أن يصدقوني .

– هل رأيتِ الجثة فعلاً أم الكيس فقط ؟؟ سألني آدم
– أمم.. لا رأيت الكيس ، لكنه كان واضحاً أن هناك جثة بداخله يستطيع أن يجزم طفل صغير بهذا إن رأى الكيس .
– و يستطيع أن يجزم أن تنينا قد أكلها ! .. أجابني ليو باستهزاء
– لا بد من أنه غير مكان الجثة ، أنا واثقة من هذا ..
– و ما الداعي من هذا ؟ أنت قلت أنه لم يلاحظك ، و لو فعل لقتلك .. فكيف عرف أن الشرطة قد تأتي إلى المنزل لتفتشه ؟ و من جهة أخرى فأن الشرطة لم تجد دليلاً واحداـ يثبت صحة ادعائك .
لا يصح لك اتهام الأخرين هكذا ، فهذا يعتبر في القانون تعدياً على الحقوق ، و إن عرف السيد أليخاندرو بهذا فمن حقه تقديم شكوى ضدنا بحجة التعدي على الملكية ، لذا أنصحك بالتغلب على ضغينتك تجاه دانتي ..فهو لا غبار عليه .
– أنا لا أحمل ضغينة له لمَ لا تصدقونني ! كل ما في الأمر لأني أستطيع رؤية هويته الحقيقة على عكسكم .
– هذا يكفي يا ايفا ..
أغضبني كلام ليو و غبائي الذي أعطى لدانتي الفرصة و الوقت لتغيير مكان الدفن ، و الآن اتهم بالحقد غير المسوغ !! ساعدني يا الهي .. أنا في موقف لا أحسد عليه ، فإذا كنت عاجزة عن إقناع أهلي و أصدقائي .. فكيف لي توقع هذا من الشرطة ؟ خصوصاً بعد تلقيهم الإنذار الكاذب في نظرهم ؟

مرت عدة أيام و أنا عالقة في دوامة الرعب هذه ، لم يغمض لي جفن طوال أيام و لم يهدأ لي بال ، سلبني تفكيري و خوفي كل راحتي ..لم أهنأ بتذوق طعام و لا بشربة ماء ، لاحقني دانتي حتى في أحلامي و حولها إلى كوابيس ، أموت من القلق في كل مرة يخرج أحد بها من المنزل .. ماذا لو نفذ دانتي وعده؟
الأمر أشبه بالسجين الذي ينتظر يوم إعدامه و يتوقع أنه حاصل لا محالة.. لكن الفرق أن السجين على علم أنه سيكون المقتول أما أنا فأجهل من سيكون ضحيته التالية .. ابتعدت عن أي صداقات جديدة بعدما بدأت بالشك بكل من حولي.. أصبحت أشكك في كل نظرة أو اشارة من غريب ، كل ابتسامة أو مجاملة ، في بعض الأحيان أشعر أن أحداً يراقبني بالفعل و أنا في كليتي أو في السوق أو الشارع ..

توصلت بعد تفكير إلى أنه لن يستطيع أحداً غيري مساعدتي ، لذا قمت بشراء عدة كاميرات مراقبة و طلبت من أخي نصبها و وضعها حول المنزل ، لم يسخر أخي من هذا لأن الفكرة أعجبته لكنني أخبرته فقط أنها لأجل الأمان فقط و بدأت بمراقبة تحركات دانتي ..
اشتريت صاعق كهربائي على شكل مصباح بقوة ألف واط ، سجلت جميع أرقام السيارات التي تتردد على منزله ، و لم اكتفِ بهذا .. بل أخذت صوراً له و لأصدقائه و أرفقتها مع أرقام ألواح سياراتهم في رسالة الوسائط المتعددة على هاتفي ، و ضبطتها في وضع رسالة طوارئ ، و ذلك إن حاولوا إيذائي فإن كل ما علي فعله هو ضغط زر القفل ثلاث مرات و يتم إرسالها إلى أرقام ليو و أمي و آدم و الشرطة و الطوارئ .
أما بالنسبة لصورهم فلم أجرؤ على التقاطها بنفسي بل أخذتها من صفحاتهم على التواصل الأجتماعي عن طريق الدخول إلى حساب بيانكا و منه الى دانتي و هكذا..
أصبحت كالمهووسة و أنا أحبس نفسي داخل قوقعتي ، و المضحك بالأمر أن هذا طور عاداتي الصحية- صحيح اني أمتلك جسم رشيق و صحي لكني لم أكن أتمرن باستمرار –
فأصبحت أمارس رياضة الركض بعد أن كنت أركض في حالة تأخري عن الباص فقط .

في هذه الأيام لم أشاهده إلا مرةً واحدة ، حيث كنت في طريق عودتي إلى البيت ، كان يسحب أكياسا ليلقيها في الحاوية ، كانت أكياس قمامة هذه المرة ، لكن أحد الأكياس تمزق عند طرفه بفعل إحدى حواف الحاوية و تبعثرت منها قطع قماش ملطخة باللون الأحمر .. وقفت انظر بعينين يملؤهما الخوف ، استدار و ابتسم نحوي هازاً كتفيه و قال :
– لقد جرحت نفسي .. قالها بكل برود و تابع عمله بينما ذهبت كالبرق الخاطف إلى منزلي ، وكل هذه المدة لم يتوقف دانتي عن مراقبني من نافذته في الطابق العلوي .

– أختي ، هلا اشتريتِ لي الحلوى ؟
توسل إلي ايفان بعينيه الجميلتين الواسعتين ذات يوم .. فقلت له :
– ليس الآن .. علي متابعة تمريني ، إذهب و العب بألعابك..
– لا يوجد أحد ليلعب معي ، حتى آدم ذهب ليتسكع بمفرده
– اذهب مع ليوناردو
– إنه نائم ..
لم أستطع مقاومة وجهه البريء خصوصاً فمه الذي بدء بالعبوس بطريقة الأطفال هذه ..
– حسنا لا داعي للتجهم هكذا تعال معي لنلعب بالخارج .

كانت الساعة العاشرة ليلاً لكني لم أهتم للوقت كنت أشعر بالضجر و الملل الى حد كبير ، اصطحبت ايفان إلى أحد ملاعب كرة السلة الذي كان في وسط المتنزه و بدأنا باللعب بعد أن اشترينا الحلوى .
كان المتنزه خالياً في هذا الوقت من الليل ، و الجو جميلٌ للغاية ، لم نشعر بمرور الوقت ، حيث استمتعنا كثيراً ، لقد افتقدت هذه الأجواء المرحة .. افتقدت الضحكة التي عاد ايفان الصغير و رسمها على وجهي تمنيت لو يستمر الحال هكذا ، لقد صدق من قال أن الصحة و الأمان هما أغلى شيئآن في الوجود.. لكن كالعادة لم تدم فرحتي طويلا ، فالورود الجميلة سرعان ما تذبل مخلفة الأشواك..
– إلى أين يا ايفان ! لا ترمي بها بعيداً .
– حاولي إمساكها إن استطعتي!
رفع ايفان يده عالياً ورمى بالكرة بعيداً من فوق الحاجز السلكي الذي يفصل الملعب عن المتنزه .
– انتظر هنا و لا تتحرك .. سأذهب لأحضارها .
ذهبت خارج الملعب أفتش عن الكرة ، بحثت بين شجيرات الأريكا ،تحت المصاطب و بقرب الأشجار ..
اختفت! لم أتوقع أنه يستطيع تسديد رمية قوية كهذه ، قررت العودة بعد أن تذكرت أنه لازال وحيدا بالملعب مع العلم أني لم أبتعد كثيراً ، و بين الحين و الأخر ألقي بنظراتي عليه من وراء السياج
– ألم تجدي أرنبكِ بعد ؟
فاجأني صوت من ورائي فقفزت و استدرت بسرعة حتى كادت رقبتي أن تنكسر .
– دانتي !! صرخت بصوت لاهث
– ما بالك هل رأيتِ شبحاً ما ؟
كيف لم ألاحظه؟؟ كان يقف ورائي ببضع ياردات قرب مدخل الملعب ، وكانت الكرة بيده .
– ماالذي تفعله هنا ؟!
رمى بالكرة نحوي فألتقطتها
– كما تعلمين فهذه حديقة عامة و يحق للجميع التواجد فيها . هز كتفيه و هو يبتسم بمكر واضعاً يديه في جيبيه
– ما الذي تريده مني ؟!
– أمم .. لو نفذتُ وعدي لكنتِ الآن ميتة ، لكنني سأعطيك مهلةً أخرى ، و اعتبريها إنذاراً نهائياً … لقد كنت محظوظة إذ عثروا على السمك و إلا فلن تكون عاقبتك محمودة .
– أيها المخادع لن تفلت من أيدي الشرطة مهما حاولت
– واو ماذا انتِ ؟ نحلة انتحارية !! هاهاهاها
بدأ يقهقه كالمجنون ، إنه الشيطان نفسه ..هذا ان كان الشيطان وسيماً ، لكن هذا القناع لن يخدعني كما خدع غيري
– ليكن في علمك أنه إذا لم تتوقفي عن حشر أنفكِ في ما لا يعنيك فلن تري بيانكا مجدداً
– هل تمازحني ؟؟ إنها شريكتك في الجريمة ، لقد قطعت علاقتي بها أصلاً

نظر إلي باستغراب : ماذا ؟ شريكتي؟ ليس لدى بيانكا أدنى فكرة ..هي خارج الموضوع أصلا و لا تعلم بما يجري هنا .
– كاذب .. هي من ساعدتك لتخفي الجثة و تسترت عليك ، الأمر واضح و لن تستطيع إنكاره .
– من الواضح أنك بنيت احتمالاتك الخاصة و قطعتي صلتك بها بناءً على ذلك ، لكن الأمر لا يهمني البتة سواء كنتما على صلح أم لا ، المهم أنك تلقيتي إنذاري .
بدأت أحادث نفسي .. مستحيل! لا يعقل هذا ؟؟ بعد كل هذه الأدلة بيانكا بريئة و لا تعلم شيئاً ؟ و الأفظع أنه يحاول تهديدي بأيذائها ؟! أم أن هذه إحدى خدعه لتبرئة ساحتها..؟
كلا.. لا أعتقد هذا ، فهو يبدو جاداً فيما يقوله ، إنه يحاول التلاعب بي ، قلت له :
– إذا كانت جاهلة بالموضوع فلا يوجد مسوغ لأن تقتلها إلا إذا كانت شاهدة على الأمر معك و تخاف خيانتها لك
– كما يحلو لك ، أنت فقط تحاولين إسكات ضميرك لأن اتهامك لها كان باطلاً .
– إنها الحقيقة اعترف بها !
– الحقيقة ؟ الحقيقة أمر نسبي قد لا تعلمين شيئاً عنها ..
– ماذا تقصد ؟
– الحقيقة تظاهر ، فالناس يطلقونها على كل شيء يلائم رغباتهم و يتمنوه و ليس بالضرورة أن يكون حقيقياً .
– ما هذا الهراء ؟
– كلاً منا يرى الحقيقة من منظور مختلف ، فأنا لا أراها كما ترينها أنت وولا غيرنا يراها مثل ما يراها كلاً منا على حدا
– ماذا .. ؟ لا تقل لي أنك خرجت من السجن لتعطي دروساً مجانية في الفلسفة ، أجبته بتحاذق ، كنت راضية بعض الشيء لرؤية انزعاجه ، فلقد سئمت من لعب دور الضحية..لكن سرعان ما عاد إلى نظرته اللامبالية و ابتسامته البغيضة .
– إما هذا أو أصاب بالجنون جراء الحبس المنفرد في زنزانة مظلمة كما حصل مع غيري ، إذا كنت أريد البقاء حياً فلا بد من إيجاد حل ما ، و كانت الفلسفة حلاً ناجعاً ، ماذا أستطيع أن أفعله في هكذا ظروف سوى التفكير ؟مع العلم أني تلقيت أنواع التعذيب إلا أني قلت لنفسي أنها فرصة للتفكير بأشياء جديدة ، و إعادة النظر للحياة من منظور مختلف.. و قد استفدت كثيراً بقدر ما تعذبت .
– آمل أن تكون سعيداً إذ ستسنح لك فرصة أخرى لزيارته ، وصدقني هذه المرة ستكون مدى العمر .
– هاهاهاها .. لا أعتقد هذا .
– بلى .. أنت قاتل ، و هذا هو مصيرك .
– هل رأيتِ جثة ؟ نسيت إخبارك كم أحب السمك على هذه الطريقة..
– كفاك مراوغة ، فكلانا على علم أنها كانت جثة و إلا ماكنت لتهددني هكذا .
– من قال هذا ؟ أنتِ كنتِ ترتجفين كالعود اليابس حتى و إن أخبرتك أنه كان سمك .. ما كنت لتصدقينني .
– كان بإمكانك فتح الكيس بدلاً من هذا العناء .
– لم أرد إفساد وجبتي من أجلك .
– إذاً أنت تغامر بسجنك من أجل وجبة ؟
– أنا لا أغامر ، لأنه لن يعلم أي أحد بهذا .
– أنت مضحك فعلاً ، تظن أنك قادر على إقناعي بهذه الترهات !
– أنا لا أحاول ! إنها الحقيقة التي عجزتي عن رؤيتها ، لقد تأكد من هذا رجال الشرطة بأنفسهم ، لم لا تقنعي عقلك الجميل بهذا ؟
– الأمر واضح جداً و بسيط للغاية…لأن هذا لا يبدو منطقياً على الإطلاق !

أسند ظهره إلى جذع شجرة تفاح و قال :
– ليس بالضرورة أن تكون الحقيقة منطقية ، فكما يقول بابلو بيكاسو كل ما تستطيع تخيله هو حقيقة .
– هو لم يعني هذا .
– أرأيتِ ؟ مع أنك تعترفين بهذا ، لكنك تقبلتيه على نحو مختلف فالحقيقة نسبية ، تتغير بتغير الظروف لكنها تظل ثابتة ، فلو أنك ناديتي أحداً باستمرار بالغبي أصبح غبياً بالفعل و العكس صحيح ، مع أنهما ليسا كذلك بالأصل ، هذا ليس من اختراعي فلقد اثبتته دراسات عديدة ، إن الحقيقة هي ما تقنعين به نفسك لكن ليس بالضرورة أن يكون حقيقياً كما ليس بالضرورة للحقيقة أن تكون منطقية ، و الدليل على هذا أن المجنون لن يعترف بجنونه إذ يظن أنه واع كما الأخرين من حوله لكنهم يعجزون عن فهمه ، فالحقيقة أشبه بمخلوق شفاف لا يستطيع الجميع رؤيته قد يحاول إرشادنا أو قد يتسبب بقتلنا ، إنه شيء معقد .. فضحايا الوهم أكثر من ضحايا الحقيقة .

يا إلهي ! إنه بارع حقاً بجعلي أشكك في الأمور التي أعتقد بها اعتقادا راسخاً ، لم أعد قادرة بعد على تمييز دوافعه ، و الظاهر أنه يستمتع بالتلاعب بعقلي..
– أنت تستمتع بلعبتك المريضة هذه .. قلت له بغضب
– لا أستطيع الجزم فالموضوع نسبي .. و انطفق ضاحكاً من جديد و أكمل :
– لا أظن أنك تستطيعين إيجاد الأرنب هاهاهاها هذا إن كان أرنباً .
لا أعلم ما علاقة الأرنب بالأمر ..طفح الكيل! و فجأة لمحته يضع يده على كتف أخي الصغير ايفان.. لم ألمحه حين مجيئه
– ايفان .. ألم أخبرك أن تنتظرني في الملعب لمَ خرجت؟!
لا يمكن للأمر أن يزداد سوءاً أكثر من هذا ! توجهت لأضمه إلي لكن دانتي هددني بإيماءة من يده ، توقفت و الهلع قد أصابني ..ماذا لو حاول إيذاءه ؟! لن أسامح نفسي أبداً .
– لقد انتظرتكِ طويلاً لكنكِ لم تأتِ فقررت اللحاق بكِ ، خفت البقاء وحدي .
مددت يدي في جيبي لكني تذكرت أني تركت الهاتف بحقيبتي على المصطبة في الملعب.. سحقاً .
ـ كان عليك الإنتظار !!
جلس دانتي القرفصاء و ابتسم إلى ايفان و هو يحدثه
ـ هل تريد اللعب معي؟
أجابه أخي بانفعال : أجل .. هو الآخر كان قد اغتر به
ـ لا .. ابتعد عنه يا ايفان ! إنه يحاول إيذائك ..صرخت به على أمل أن يذهب عنه
– إنها تغار لأننا سنلعب سوية ، فهي لا تملك الألعاب التي أملكها..أنظر !
مد يده في جيبه و قد أخرج… مسدساً !! يا إلهي!
– توقف ! أرجوك لا تؤذه ! إنه صغير و لا ذنب له بهذا ! جرت القشعريرة أسفل ظهري و أحسست بجفاف فمي ..فأنا لم أتردد لحظة في تمييز سلاحه ، إنه بيرتا 96 فضي اللون و يتسع لخمسة عشر طلقة ! لدى أخي واحداً مماثلاً ، معظم ضباط الشرطة الإيطالية يحملون هذا السلاح..
ـ لا تقلقي إنه لعبة .
– ابتعد عنه .. دعه وشأنه .
ـ إذا تقدمتي أكثر فسأؤذيه .
توقفت بلا حراك .. ما الذي يحاول فعله !! لم يكن لدي خيار آخر كالمعتاد غير الدعاء..
ناوله المسدس لكن لم يفلته من قبضته
ـ خذ ضعك يدك هنا ، وضع يد ايفان على زناد المسدس
– هل بإمكانك التصويب جيداً ؟ إذا استطعت إصابتها فسأعطيه لك
ـ كلا توقف يا ايفان إنه يخدعك !
لسوء حظي لم يعرني أياً منهما اهتمامه
– أنا أستطيع التصويب لكن لا أريد إيذاءها .. أجابه ايفان ببراءة
– لا تخف .. إنه مجرد لعبة فهو لا يحوي طلقات حقيقية حتى ، إن طلقاته أشبه بأكياس صغيرة تحتوي صبغة حمراء جربها و سترى أنها غير مؤذية .
– كلا يا ايفان !
الآن هو يحاول قتلي عن طريق أخي ! والذي يبدو مخدوعاً بالأمر تماماً !! سيتخلص مني و سيدفنني من دون علم أحد .. كما فعل مع ضحيته الأولى.. أنا عاجزة عن الحراك فلن أغامر بحياة أخي ، الأمر أشبه بالاختيار بيني و بينه ، لكنني لن أفضل نفسي عليه مهما حصل ، ففرصته بالنجاة أكبر مني .

وضع ايفان إصبعه على الزناد و أغمضت عيني ..
إنه قدري…لا مفر منه..إن كان قد قدرت لي الحياة فسأعيش و إلا…فسأموت .

يتبع …

تاريخ النشر : 2016-08-20

guest
56 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى