أدب الرعب والعام

42 عامًا إلّا 11 – الجزء الرابع

بقلم : إبراهيم الاقصم – المملكة العربية السعودية
للتواصل : [email protected]

42 عامًا إلّا 11 - الجزء الرابع
عاد الكتاب من جديد ليُملي على المخطئين طريقة للتكفير عن ذنبٍ ما

عادت شادن بعد تلك الكارثة للمنزل مُنهكة للغاية ، لم يعُد لديها القدرة على التركيز في تنقيح المقال ، فقامت بإغلاق الحاسوب واستسقت بعض الماء لتستعيد طاقة قد فقدتها بعد أحداث اليوم المُتعبة ، اتّجهت لغرفة النوم وتنفّست الصعداء قائلة: “أخيراً لم يعُد هناك ما أهمّ بشأنه ، وحيدة في شقّتي . . دون ثرثرة بشرية”

أغمضت عينيها لتجرّ النوم إليها ، و لكن ذلك حفّز عقلها على التفكير فحسب
شادن في ريبة : و لكن ما بال الوضع مؤخرًا ؟ طفل من العدَم؟ هل تُمطر السماء أطفالًا في الآونة الأخيرة؟

لا ، السماء لم تُمطر أطفالًا يا شادن
لو كانت السماء مُتهمة بفعلة ما .. فقد تكون ابتلاعها لروح جيهان المقرّبة منكِ كثيرًا و التي أصبحت بعيدة للغاية الآن ..

تمكّن النوم من عيني شادن و كانت أكبر آمالها ألّا تراودها كوابيس بشأن هذا اليوم المشؤوم ، لكن من عساه يُسيطر على حين غفلة ما لم يُمكننا السيطرة على واقعنا؟
فعلًا ، شادن رأت في منامها أين حطّ الطفل و لكن ما هو غريب أنها لم ترى من يضعه
كما لو أنّ العالم فقدَ خواصّه الفيزيائة .. هي تراه كـروح أثيرية انتقلت و تكوّنت و اكتست بالعظام و اللحم و حطّت
و على إثر وقوعها بكَت تلك الروح . . لم يكن غثائها صادِراً نتيجة ولادة طبيعية
الأمر باتَ أكبرُ بكثير في منامها ، تعدّى مرحلة الشهيد بلا شهادة
“الروح بلا ولادة”
لعلّه الوصف الأنسب لما رأته في ذلك الكابوس الغامض
و بالطبع ، يمكنكم الإستدلال أن ذلك سيجعلها تفزّ ، و في الحقيقة ليس كبقية الكوابيس التي تجعلنا نستيقظ لنتستنشق نفساً آخر و نغطّ في سباتِ أعمق ، أحسّت بشعور أن اليقظة هي من ستُمكّنها من النوم بسلام لاحقاً
غريب ، أليس كذلك؟
أن تستشعر أنك مسؤول عن روح لم تستمّد عواملها الوراثية منك ، بل فقط لأنها زارتك في منَامٍ ما .. منَام استيقظت منه فزعًا ، و ليته كان ليزيح همًّا عنك .

بعد تلك الحالة الذعِرة غابَ النوم عنها و قرّرت أن تستيقظ لتستحمّ و تُكمل تنقيح المقالات ، حينها كان الليل يُوشك على ثلثه الأخير و هذا يعني أنه لم يتبقّى الكثير على ميعاد دوامها ، مرّت ساعتان و نصف و كانت الشمس قد زهَت على ليلة شادن الكئيبة ، لم تستشعر لذّة الصباح الجديد ، بات ذلك اليوم ليلاً عسيراً طويلاً .

اتّجهت للدوام و لم ترغب في إشعار الآخرين بصباحهم ، لم تتكفّل حتّى بأن تصبح عليهم ، و لكن مُقابل ذلك نظرَت للمكتب بجانبها ، ذلك المكتب كان فارغاً دون ملفات حاسوب ، لم يعمل منذ فترة طويلة ، و يبحث عن شخص جديد كي يُقيم عليه
استفتحت الحديث بنبرة هادئة : و متى ستأتِ الموظفة المُستجدّة؟
زميلة : اليوم أو غدًا ، ولعلّنا نرجو أن تأتِ سريعاً فلم نعد نطيق كثرة المهام
شادن : جيد ، و لأنني استشعر مرض في الطريق سأغادر باكراً اليوم ، و آمل ألّا تمانعين في التكفّل ببعضٍ من أعمالي
زميلة : شادن تغادر العمل باكراً ؟ هذه بادرة خير على نبوءة تغييرات في الحياة .
شادن : دعينا نتمنّى تغيّر للأفضل ، الأوضاع مؤخراً تضطرّنا للإمساك بأسرّتنا .
لم أعُد أرغب في الإستيقاظ و القيام بأي شيء . . أشعر أن الأمور تتعقّد أكثر فحسب .
زميلة : أرى أن حادثة الطفل تتسبب في أرق لك ، أعني أن الجميع يستقصدكِ كالمرأة العزباء الوحيدة في الحيّ
و يتناقل الكِبار منهم أنه نتيجة . . .

نظرَت لها شادن بحواجب قاطبة : وماذا تعنين بكلامك ؟ أن النساء العزبوات هم فقط من يمكن أن يقمن علاقات مُحرّمة ؟ ألا تُقلّبين ناظريكِ على هذا و ذاك بينما تدعين نفسكِ بالمصوّنة ؟ كنت لأرغب في نقل الأمر بصورة أبسط ، و لكن كـتهديد تجنّبي الأقاويل ، فلن ألزم الصمت طويلاً كما تظنين
زميلة : لم أقصد شيئًا على الإطلاق ، فقط أخبركِ أنهم يأكلون لحمكِ. . .
شادن : ستتفتّت أسنانهم ، لذلك اقلقي بشأن عملكِ فحسب

ما يجعل الأمر أكثر غرابة هو شعورنا نحن أن نفس المعاناة التي تمرّ بها شادن الآن قد مرّت على شخص آخر نعرفه
لربما ليست بالطريقة ذاتها ، و لكن النتيجة المرجوّة هي المُتطلّب
يأسها و قلّة حيلتها ، أن تجهل بأي صورةٍ تظهر
شادن ليست واثقة للغاية كغيرها ، شادن تريد حياة طبيعية و آمنة فحسب ، لا تريد عرقلة طريق ، ولا حتّى طريق طويل لتشقّه .. شادن تحبّ الإختصارات ، و لعلّ المتفرقات الطويلة تحبّها

من جُهة أخرى شخص يتساءل بأي زهايمر أُصيب لينسى أي نوع من الكُتب يتواجد على رفّ مكتبته
نارد يُحدق بالكتاب : حسناً ، أعلم أنني رومانسي و لكن لا أتذكر أنني ابتعت هذا الكتاب من قبل
أعني . . أنا لستُ مهتّم في القراءة ، أنا قادر على خلق نصوص بالإلهام لا بالإقتباس
انتشلَ هاتفه الخلوي و أرسل لرقم مُسجّل باسم “الخالة علياء”
“ألم تجدي لي عروسًا بعد؟”
في الحقيقة نارد يُتقن الكذب على نفسه فقط ، فـهو لم يصدق حين قال أنه ماهر في استلهام العبارات الغرامية ، كثير من الفتيات ينفرن منه لشخصيته و أخريات لشُبهة تحوم حوله .
وصلته رسالة نصية حينها تقول : “يمكنكَ القدوم إلى منزلي لنرى من قد تناسبك”

عادَت شادن من مقرّ عملها متوجهة لمنزلها ، و في تلك الأثناء نادَت عليها الخالة علياء
شادن : خير يارب ، خير يارب
شادن بعدما اقتربت منها : أهلاً أيتها الخالة ، ماذا هُناك ؟
الخالة علياء : متى حملتِ به ؟
شادن مذعورة : ماذا؟!
الخالة علياء : أمازحكِ لا غير ، كيف هي الحياة معك مؤخراً ؟
شادن و قد تنفّست الصعداء : جيدة الحمد لله ، ماذا هناك؟
الخالة علياء : لا شيء ، فقط أردت الإطمئنان عليكِ بعد أن طالتكِ الإشاعات بشأن الطفل
شادن : لا تقلقي ، أمور كهاته تحدث عادةً ، و أنا بالطبع لن أُرخي الحال لها
الخالة علياء : و هذا ما أحبّه بك ِ، لم نسمع إلّا كل خير عنك
شادن : يسرّني سماعي هذا ، أعذريني الآن
وبينما أوشكت شادن على الذهاب
الخالة علياء : وما رأيكِ بالزواج ؟ أقلّها سينفّر الإشاعات من حولك
شادن تستدير بإبتسامة على وجهها : لم أجِد من يناسبني بعد ، سأفعل حين يحين الوقت لذلك
الخالة علياء : سيأتِ أحدهم في لحظات إلى هنا ، وأخاله يبحث عن عروس
أتمانعين في رؤيته ؟
شادن : أنا قادرة على توفير عريس بنفسي ، شكرًا لكِ

همّت بالإنصراف و لكن لاقت من هو أكثر إيذاء من الإشاعات
كما تصورتم ، نارد قد قدمَ للخالة علياء و صادفَ شادن في طريقه
شادن : و لا تخبريني أن هذا هو العريس المنشود؟
نارد : ما الذي يجري هنا ؟ زميلة الطفولة شادن ؟! مرحبًا بك
شادن : اهلًا، و بالإذن
انصرفت شادن و هذه المرة لن تلفت للخلف ، إن كان ما ينتظرها في المقدّمة صعب للغاية
في رأيها لن يكون أكثر سوءاً من مواجهة مغفّل كـنارد ، و لكن ذلك المغفّل لحقَ بها لعلّه يفتتح نقاش معها
نارد : و لماذا تنظرين إليّ بإستصغار ؟ لا ترينني مناسب لك ؟
من تخالين نفسك ؟
شادن : أفسح الطريق رجاء ً، لا تملك حقّ الحديث معي بهذا الشكل
نارد : عجرفتكِ ما وراء الحدود ، خلتنا رفيقين
شادن : أجل، نحنُ كذلك .. و لأجل ما بيننا دعني و شأني الآن
نارد : هوّني عليكِ يا فتاة ، ليس و كأنني أمسك بكِ
شادن تضحك بسخرية : إذًا أفسح الطريق من فضلك
نارد : لربما أجهل الكثير ، ولكن أساليبكِ هذه تزيد من التوتّر بيننا

شادن وصلَت لمرحلة لم تعُد تكترث فيها لما تقول ، يوم مُنهك و نقاش عقيم ، لم تتمالك أعصابها حتّى قالت : ومن ستتزوج بكَ يا ترى ؟
خصوصاً لشخص يُدرك بشأن موت زوجتك في ظلّ ظروف غامضة
نارد : وهل هذا إتهام ؟
شادن بعصبية : أرجوك ، لا تعسّر الأمر عليّ أكثر ، دعنا نسير على وِفاق ، لا أحاول إختلاق شِجار معك أو مع غيرك لذا تنحّى جانبًا
نارد : و لا أنا أريد ذلك ، خصوصاً مع شخص كان مقرّب لي في وقتٍ ما
حينها انصرفت شادن و شعرت بثقل كبير عليها . . و كأنها تحمل عبء شخصٍ آخر الآن
نفسها لم تعد تطيق ذلك ، العبء أصبح مُضاعف

اتّجهت لشقتها و بدأت تفكّر في مراجعة حياتها ، أو بالأحرى تستهدف بتفكيرها ذلك الكابوس
عجيب أن نلتفت لكوابيس و نهمّ بالتفكير بها في حين أنها تؤذينا كلياً ، و لكن شادن واعية كفاية لتعلَم أن هناك ما دُسَّ خلف تلك الوقائع ، و ما بين تفكير و تفكير رنّ جرس المنزل
شادن : أنا قادمة
فتحت الباب لتجِد أن الخالة علياء تحمل كتابًا معها : أظن أن نارد يعزّكِ كثيراً ، كـصديقة طبعًا لا كـزوجة مستقبلية
من المُضحك كيف أنه ترك هذا الكتاب لدي كي أُسلّمه لكِ
شادن : ما حُرّي بكِ جلبه خصوصاً أن تقطعين المسافة إلى هنا ، انظري .. في النهاية هو مجرد كتاب من شخص لا يفقه في القراءة تماماً
الخالة علياء : لعلّها علامة صُلح ، تصالحي مع ذاتكِ و اربطيها بالجميع يا شادن ، لا داعِ للتعقيد
شادن تأخذ الكتاب : حسناً ، شكراً لكِ على مواساتي
الخالة علياء : وددتُ لو دعوتِني للدخول ، لكن يبدو أنكِ مُنهكة تماماً
شادن بخجل : اوه، أعذريني . . لقد فقدت تركيزي تماماً
الخالة علياء : استئذنكِ الآن ، واحظِ بوقتٍ طيّب
شادن : وداعًا

أجل ، هي اللحظة التي أُلهم فيها نارد فعلاً
ذاك الشعور الروحي الذي وصل فقيدتنا سابقاً ، يكرّر آثرهُ من جديد
نارد لم يُلهم إلّا سوى إهداء ذاك الكتاب للُصلح ، في الحقيقة أرادَ التخلّص منه من على رفّ مكتبته ، هو ليسَ بقارئٍ جيّد ، و كذلك لم يذهب بعيداً ، فـلقد أعاد الكتاب لمالكته الحقيقية . . من أهدته أوّل مرّة ، لذلك لا يسعنا استغراب ذلك ، الآن هي تحقّ به .

العجيب في الأمر أن الوقت هو ذاته ، ذلك الوقت الذي يتحوّل فيه ذلك الكتاب لأعجوبة
تتقلّب الحروف بشكلٍ عشوائي لتنتج كلمات من شأنها أن تقلب حياتك
و المُريب أن شادن مُحبّة للقراءة بـعكس غيرها ، كيف لا و هي من اختارت الكتاب ؟
شعرَت أنه الوقت المناسب لتُريح من تفكيرها و ترى ما صنيع هذا الكتاب
توجّهت لمكتبها و جلسَت . .قرأت و قرأت حتّى انسجمت
و في حين انسجامٍ منها نسيت أن العبارة “هل تشتاقين لـجيهان ؟ و من شدّ اشتياقكِ لها نسيتِها ؟”
لم تكُن من ضِمن العبارات الغرامية
واصلت القراءة ظنّاً منها أنها ستخرج بمحصّلة خواطر جيّدة ،
و بعد وهلة و مضت بعينيها مرتين و قالت: ما بال هذه العبارة العشوائية ؟
“أننسى من تسبّب لنا بالعناء ؟ كان صديقاً عزيزاً في السرّاء و الضرّاء؟
أنمحيه من بالنا و كأنه مُسترخَص ، أنجعل منه حفنة هواء ؟”

لا حاجة لوصفٍ جديد ، إن كانت هذه العبارات أزهقت شخصاً واثقاً من قبل .. ما بالكم بالمُتخبّطة شادن ؟ أستقوى على المقاومة حتّى ؟
“لن تُلامي على نسيانك ، فذلك مُقدّر على شرط أن ترعي النفس المُستبدلة
تلك النفس تملك روح جيهان . . و أنتِ الوصيّة عليها
تمهّد الطريقُ من قبل ، فزاركِ في المنَام
و الآن إن غفَت تلك العين عليكِ حراستها ، فـفيكِ له ملجأ و أمان
تلك الروح تستوصي بكِ عليها ، وأنتِ مُجبَرة لا مُخيّرة على ذلك
فـتلك الطريقة الوحيدة للتكفير عن ذنبٍ قد سلف”

عاد الكتاب من جديد ليُملي على المخطئين طريقة للتكفير عن ذنبٍ ما ، لا يعلمون ما ضبطه بين زِحام الذنوب
و لكن يضطرون للإنصياع له ، فـماذا قد تخوّل لهم أنفسهم دون ذلك ؟
فلا حول و لا قوة في أن تأبى نفس لوّامة أن تنقاد لمغفرة عن خطيئة أضرّت بمشيئة حادثة لا مُحالة .

يتبع …

تاريخ النشر : 2016-09-20

guest
12 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى