أدب الرعب والعام

وســـيم

بقلم : نوار – سوريا

شعره أحمر و النمش يملأ وجنتيه و أنفه الصغير

لا زلت أذكر ذلك اليوم الذي جعل حياتي تسير بمنحنى لم أكن أتخيله أبداً ، كنت وقتها أسقي زهور حديقة منزلنا الذي انتقلنا إليه حديثاً و كان الوقت عصراً .. و بينما أنا منهمكة في عملي إذ بكرةٍ تسقط بجانبي ، كان مصدرها الشارع المقابل للمنزل ، تركت المرشة و أمسكت الكرة ثم اتجهت نحو بوابة المنزل حيث كان هناك مجموعة من الأطفال واقفين ينظرون إليّ ..

اعتذروا و طلبوا مني أن أعيد الكرة ، أعدتها لهم و أنا ضاحكة فقد كنت احب الأطفال كثيراً ، و عندما هممت بالعودة إلى عملي لاحظت أن طفلاً واحداً ظل واقفاً ينظر إليّ و لم ينضمّ إلى زملائه في اللعب ، وقفت أنظر إليه أنا أيضاً ، كان وجههُ طفولياً ، شعره أحمر و النمش يملأ وجنتيه و أنفه الصغير ، لكن ما لفتَ نظري إليه عيناه الواسعتان و كأنهما قد طليتا بلون العشب الندي ..

اقتربت منه أكثر و قلت له بلطف : ماذا تريد ؟ هل انت بحاجة لشيء ما ؟ .. فأجابني بانكسارٍ و خجل : أنا جائع ، أريد طعاماً .. بصراحة صدمت من طلبه ؛ فلم يكن مظهره يدل على أنه مشرد أو شيء من ذلك القبيل ، كانت ثيابه نظيفة ، و شعره مرتباً و حذاءه جديد ، ثم أن المنطقة التي نسكن بها راقية و سكانها ميسوري الحال ، أدخلته الحديقة و أشرت عليه بالجلوس في إحدى أركانها ريثما أحضر له الطعام ..

جلبت له الطعام و ذهب لأكمل ريّ الورود و عندما انتهيت من عملي التفت إلى المكان الذي كان يجلس فيه الصبي فلم أجده ، كان قد انتهى من طعامه و رحل دون أن أشعر بذلك ..

في اليوم التالي كنت واقفةً بالشرفة المطلة على بوابة المنزل فرأيت ذلك الصبي واقفاً ينظر إلي ، جاء بنفس توقيت الأمس ، نزلت إلى الحديقة و ذهبت باتجاهه و سألته عما يريد ، فأجابني للمرة الثانية أنه يريد الطعام ، استغربت أمره لكنني ذهبت و جلبت له الطعام ثم جلست أراقبه ، كنت أريد سؤاله عن وضع أهله لكن أمي نادتني في هذه اللحظة فذهبت إليها ، و عندما عدت وجدتُ الصبي قد انتهى من طعامه وذهب ..

خرجت إلى الشارع و أنا ألتفت يميناً و شمالاً باحثةً عنه ، لمحت مجموعة الأطفال اللذين ألقوا بكرتهم في منزلنا ، ذهبت إليهم مسرعة فلابدّ أن ذلك الطفل يلعب معهم ، و عندما وصلت إليهم لم أجده بينهم فسألتهم : أين ذلك الطفل ذو الشعر الأحمر الذي كان يلعب معكم ؟ .. نظروا إلي باستغراب و قال أحدهم : لا يوجد من شعره أحمر بيننا ! .. فقلت له بإصرار : بلى ، كان معكم البارحة عندما أعدت لكم الكرة التي سقطت في حديقة منزلنا !  .. أجابني بإصرارٍ أكبر : لا يوجد بيننا أحد بهذه الصفات ..

وقفت مذهولةً مما سمعت بينما مضى الأطفال في لعبهم ، أخذت أتساءل عمن يكون ذلك الطفل  و كيف لا يعرفه هؤلاء و قد كان معهم البارحة ، عدت إلى المنزل و أنا مصممة على انتظار ذلك الصبي غداً لعله يظهر مرة أخرى ..

 في اليوم التالي ذهبت إلى حديقة المنزل و كنت قد أعددت الطعام و وضعته بجانبي ،  مضى الوقت بطيئاً و أنا أنتظر مجيء ذلك الصبي ، و عيناي لا تفارقان البوابة .. طارت فراشة من حولي فانشغلت بمراقبتها للحظات وعندما أعدت نظري إلى البوابة كان ذلك الصبي واقفاً وراءها !! استغربت من ذلك ، كيف لم أشعر بمجيئه ؟

المهم ذهبت إليه مسرعة ، و أدخلته إلى الحديقة و أعطيته الطعام حتى قبل أن يطلب ، و سألته عن اسمه و عمره فقال لي أن اسمه وسيم و عمره تسع سنوات ، ابتسمت لذلك فقد كان وسيماً بالفعل ، سألته عن أهله فنظر إلي نظرة حزن و قال لي : أنا لا أهل لي ، أسكن عند عمي و زوجته التي تحرمني دائماً من الطعام ..

و عندما سألته عن مكان منزله أجابني أنه يقع في آخر هذا الحي بجانب شجرة التوت الكبيرة ، كففت عن أسئلتي و تركته يكمل طعامه بهدوء ، أشفقت عليه من زوجة عمه الشريرة ، نظر إليّ نظرة امتنان ثم مضى دون أن ينطق بأي حرف ، كانت نظراته تؤلمني ، شيء ما بعينه كان يوحي بالأسى و الحرمان ..

دخلت إلى المطبخ و أنا أحمل بقايا الطعام ففاجأتني أمي و سألتني عن المكان الذي كنت فيه ، فأجبتها أنني كنت في الحديقة أطعم الطفل الذي حدثتها عنه ، استغربت أمي و قالت : لكن الطعام لم يمسسه أحد ! .. صدمت من كلامها فكيف لا ترى أن الطعام كان ناقصاً ؟ و واضح جداً أن أحد ما أكله ، قلت لها : كيف لم يمسسه أحد ؟ لقد أكل منه الطفل أمامي !  .. فقالت لي : ما بالك يا ابنتي ، تبدين هذه الأيام غريبة الأطوار !! ، على كلٍ أنا مشغولة الآن ، لدي موعد هام و يجب أن أعد نفسي من أجله .. ثم خرجت تاركةً إياي في حيرة من أمري ..

مضى يومان و لم يظهر ذلك الصبي ، بصراحة قلقت عليه ، خصوصاً بعد أن عرفت أن له زوجة عم شريرة ، فلربما عرفت بمجيئه إلى هنا و عاقبته و منعته من القدوم ، أخذت أدور في الحديقة لا أعرف ماذا أفعل ، لكن فجأة خطرت على بالي فكرة ، لمَ لا أذهب إلى منزله و أسأل عنه .. ارتديت ثيابي بسرعة و قصدت المكان الذي دلني عليه ، وصلت إلى نهاية الحي ، و بالفعل وجدت ذلك المنزل الذي يسكن فيه وسيم ، كانت شجرة التوت دليلاً واضحاً قادني إليه ..

اتجهت إلى المنزل و طرقت الباب بعد تردد لم يدم طويلاً .، فتحت لي الباب فتاةٌ صغيرة فسألتها عن وسيم ، و قبل أن تجيبني ظهرت من خلفها أمها التي سألتني عما أريد ، فقلت للمرة الثانية أني أريد وسيم ، نظرت الأم باستغراب و قالت : وسيم ! لا يوجد لدينا أحد بهذا الاسم .. فقلت لها : وسيم طفل صغير قال لي أنه يعيش هنا مع .. قاطعتني قائلة : لا بد أنك مخطئة ، فأنا ليس لدي طفل بهذا الاسم ، هل تريدين شيئاً آخر ؟ .. فاعتذرت لها و ابتعدت عن المنزل ..

بدأت أحدث نفسي ، هل فعلاً أنا أخطأت بالعنوان ؟ و لكن هذه هي شجرة التوت التي حدثني عنها وسيم ! لماذا لا تكون هذه المرأة هي زوجة عمه القاسية و قد كذبت علي ؟ لا ، لا يبدو عليها أنها قاسية و شريرة ، ثم أن الاستغراب كان واضحاً على ملامحها .. و في طريق عودتي إلى المنزل رأيت رجلاً عجوزاً جالساً أمام أحد المنازل ، فقررت أن أسأله عن منزل وسيم فلعل هناك منزلاً آخر في الحي يحمل نفس المواصفات ..

اقتربت منه و ألقيت عليه السلام ثم قلت : منذ متى تسكن في هذا الحي يا عم ؟ ..
– منذ زمنٍ طويل ، ربما أكثر من ثلاثين عاماً ، و لكن لماذا تسألين ؟
– في الحقيقة أريد أن أسألك عن منزل يقع في هذا الحي ، و بما أنك من السكان القدامى فلا بد أنك تعرفه ..
– تفضلي ، فأنا بالطبع أعرف كل منازل هذا الحي ..
– هل تعرف بيتاً له شجرة توت كبيرة ؟
– نعم إنه يقع في نهاية الحي ، و يسكن فيه المهندس منير و عائلته ..
– ألا يوجد منزل غيره بهذه المواصفات و يسكن فيه طفل اسمع وسيم مع زوجة ..
– ( قاطعني قائلاً ) من أين أتيتِ بهذه المعلومة ؟
– من وسيم نفسه !!
– لكن الطفل وسيم مات منذ أكثر من خمسة عشر عاماً !
صعقت مما قاله  و لم أنطق بكلمة لمدة من الزمن ، ثم قلت بصوت مرتعش : لكني قد رأيته !

– لا بد أنك تتوهمين يا ابنتي ، نعم كان يسكن في نفس المنزل الذي سألتني عنه طفل اسمه وسيم ، كان قد فقد والديه في حادث أليم ، و جلبه عمه لكي يسكن عنده و قد تعلق به كثيراً ، خصوصاً أنه كان محروماً من الإنجاب ، كان العم دائم السفر ، فقد كانت طبيعة عمله تتطلب منه ذلك ، و هكذا قضى وسيم معظم وقته مع زوجة عمه القاسية ، كنا نسمع أنها تعاقبه ، و تحرمه من الطعام ، لم تكن تحبه و قد عارضت زوجها و لم تكن تريده أن يجلب وسيم للعيش معهم ..

– و كيف مات وسيم ؟
– سأروي لك الحادثة كما سمعنا بها

كان الوقت مساءً منذ خمسة عشر عاماً ، و كان العم مسافراً للخارج ، و وسيم و زوجة عمه فقط في المنزل ، علمنا فيما بعد أنها عاقبته لأنه كسر لها تحفةً ثمينةً و وضعته في غرفة منعزلة تقع في قبو المنزل ، و حرمته من الطعام ، و في منتصف الليل جاءها نبأ تعرض زوجها لحادث نقل إلى المشفى على إثره ..

فقدت عقلها ، و مضت مسرعة إلى المطار و حجزت في أول رحلة تقلع إلى زوجها ، و غاب عن بالها أنها تركت وسيماً المسكين حبيساً في تلك الغرفة وحيداً بلا طعام  أو شراب ، احتاج العم عدة أيام  حتى يصحو من الحادث ، فقد تعرض لإصابات خطيرة كادت تودي بحياته ، و أول شيء فعله عندما استيقظ هو السؤال عن وسيم ، جاء هذا السؤال بمثابة الصفعة على زوجته ، فقد كانت خائفة على زوجها و لم تفكر بشيء غير الدعاء بسلامته ، و لكن سؤال زوجها جعلها تتذكر فجأة أنها تركت وسيم أسير تلك الغرفة ، فتلبكت و تلون وجهها بشتى الألوان و لم تعرف بماذا تجيب ..

كرر العم سؤاله بإصرار ، فكذبت عليه و أخبرته أنها وضعته عند جارتها ، لم يصدقها العم ، و طالب بخروجه من المشفى و أكد لهم أنه سيتابع علاجه في بلده ، و أمام إصراره جعلوه يخرج ، و بسرعة قام بالعودة إلى منزله و عندما دخل طلب من زوجته أن تذهب لإحضار وسيم من عند جارتها ، فقالت الزوجة بتلعثم أنه ليس عند الجيران ، ثم استسلمت و أخبرته الحقيقة ..

 كاد يجن و اتجه مباشرة إلى قبو المنزل و فتح باب الغرفة ليفاجأ بوسيم و قد فارق الحياة بسبب الجوع و العطش و الخوف
أذكر وقتها أن الجيران قالوا أنهم سمعوا أصوات صراخ و عراك في المنزل ، و أن الزوجة خرجت إلى الشارع و هي تصرخ و تقول أنها لم تكن تقصد قتله ، و أن ما حدث كان بسبب الحادث الذي تعرض له زوجها ..

حاول الجيران تهدئتها ، و اتصلوا برجال الشرطة الذين سيطروا على الموقف و اقتادوا الزوجة إلى القسم ، بينما تم نقل العم إلى المشفى فقد تدهورت حالته الصحية ، و أصيب بانتكاسة بعد أن كان قد تعافى من الحادث ..

– و ماذا حدث بعد ذلك ؟
– ما حدث كان نهاية لتلك المأساة ، فقد جنت زوجة العم و وضعت في مصحٍ عقلي ، و سمعت أنها قتلت نفسها هناك  ، أما العم فقد بقي وقتاً طويلاً في المشفى يتعالج ، و عندما تعافى لم يحتمل البقاء في المنزل فباعه و سافر إلى الخارج ، و لا أحد يعلم ماذا حل به ..

استغربت كثيراً من هذه القصة و لكي أتأكد سألته عن مواصفات وسيم فأجابني : كان له شعراً أحمر و عينان خضراوان و وجهاً مليئاً بالنمش ، كان طفلاً مسكيناً رحمه الله ، لا أعرف لماذا لم تكن تحبه زوجة عمه ، هل ما زلت مصرة أنك رأيته ؟  .. فقلت له : لا ليس هو ، شكراً على وقتك يا عم ..

عدت مسرعةً إلى المنزل ، كنت أريد الوصول لغرفة تحتويني حتى أستطيع جمع أفكاري و أستوعب ما يحدث معي ، دخلت المنزل متجاهلة نظرات التساؤل على وجه والديّ ، و بسرعة دخلت إلى غرفتي و أغلقت الباب على نفسي ، جلست أحاول أن اجد تفسيراً منطقياً لما يحدث معي لكن كل أفكاري كان تدور حول نتيجة واحدة ، هي أن الطفل الذي يظهر لي ليس سوى شبح ..

هذا يفسر سبب عدم رؤية الأطفال له و عندما قالت أمي أن الطعام لم يأكل منه أحد ، لكن لماذا يظهر لي أنا فقط ؟ أكاد أجن ..

لم أعد على طبيعتي منذ أن عرفت بقصة وسيم و طريقة موته ، و أيضاً لم يتوقف وسيم عن المجيء إلي و طلب الطعام ، في البداية أردت تجاهله و التظاهر بعدم رؤيتي له ، لكني لم أستطع ، كيف لي أن أتجاهل رغبة طفلٍ جائعٍ حتى لو كان مجرد شبح ؟ ، لكني دفعت ثمن ذلك من عمري و سمعتي ، فلقد أخذ كل من في المنزل يعاملني على أني مجنونة ، و أتوهم أشياء و أتحدث إلى نفسي ، و أقدم الطعام إلى الفراغ ، لم يكن أحد يصدق بأني أرى طفلاً قد مات منذ زمن طويل ..

مضى على هذه الأحداث عشر سنين ، عشر سنين لم يتوقف خلالها وسيم عن المجيء إلي ، و الغريب أنه لم يكبر أبداً ، كان لايزال في التاسعة من عمره و أيضاً كان يأتي بنفس الثياب التي رأيته فيها أول مرة ، سألته ذات يوم لماذا يأتي إلي أنا بالذات فقال لي لأني أشبه أمه المتوفية ، هل علي دفع ثمن شبهي لأمه ؟!! لا أعلم .. و لكن كل ما أعلمه أني اعتدت على وجود شبح وسيم ، لم يكن يضايقني أبداً ..

كان مسالماً و يذهب مباشرة فور انتهائه من الطعام ، مسكين ، حرمانه من الطعام في حياته جعله يشكو من جوع أبدي ، لقد تقيدت بمواعيد ظهوره ، كنت أحرص على عدم غيابي عن المنزل حتى لا يبقى بدون طعام ، و كلفني ذلك كثيراً ، فقد تعرضت للسخرية من أقاربي ، و للتعنيف من والدي اللذان أجبراني على الذهاب أكثر من مرة إلى الطبيب النفسي ، وهكذا لصق بي لقب " المجنونة " ..

هل أنا مجنونة ؟  كيف نستطيع التمييز بين العاقل و المجنون ؟ هل لأني أرى أشياء لا يراها غيري أتهم بالجنون ؟  لا ، لا وألف لا ، أنا عاقلة ، و أعقل بكثير منهم ، أنا فقط لا أستطيع إغماض عيني و التظاهر بعدم الاهتمام بذلك الطفل ، كيف لي أن أكسر نفسه و أقول له اتركني و شأني ، ليس لدي طعام لك ، عاش حياته يتيماً و مظلوماً ، هل آتي أنا و أظلم شبحه أيضاً ؟ لا

صدقوني أنا لست مجنونة ، أنا فقط أتكلم مع شبح فهل هذا جنون ؟

 

 

تاريخ النشر : 2016-09-23

نوار

سوريا
guest
52 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى