أدب الرعب والعام

سأحميك دائماً

بقلم : مصطفي جمال – مصر
للتواصل : facebook.com/profile.php?id=100012779294789

سأحميك دائماً
اعتدت على وجود ميرا في حياتي ، و أصبحنا صديقتين مقربتين
أنتِ هي .. أنتِ بالتأكيد ، لا بديل لك في أي مكان .. لا أحد ، لم يكن هنالك أحدٌ مثلك من قبل و لن يكون أبداً ..

* * *

كانت الغيوم تغزو السماء ، و الجو ممطر يستعمر الأرض ، و كان هذا بداية العام الدراسي .. كنت أحس بالبرد و الوحدة و أنا منغمسةٌ في ظلام وحدتي ، كان هذا شعوري وحدي بعكس زميلاتي ، فقد كن يشعرن بالدفء و الراحة معاً ، و كأن برد الشتاء لا يعنيهن بشيء !!

كنت طالبةً منتقلةً حديثاً إلى المدرسة و المدينة معاً ، لم يكن لي صديقات حتى في بلدتي القديمة ، كنت منعزلةً عن العالم ، حتى والداي مدمنين على العمل و مهملين لي و لأموري ..

عدت إلى بيتي .. الطريق مليء بالسيول و الجو تملؤه ضحكات الفتيات دوني ، كنت أعدو بسرعة لأصل المنزل قبل أن يهطل المطر مجدداً ، و عندما وصلت أبدلت ثيابي و نظرت من نافذتي إلى حديقة المنزل ، فلمحت زهرة حمراء داكنة في ركن الحديقة و استغربت وجودها و أحسست بالانجذاب نحوها و أشفقت عليها من الأمطار لذلك قمت بقطفها من جذورها و ادخلتها إلى المنزل و وضعتها في أصيص للزهور و تركتها على مكتبي ..

في السادسة صباحاً من اليوم التالي نهضت كي أجهز نفسي ليوم دراسي آخر .. سرت متجهةً إلى مكان لا أريد الذهاب إليه ، لأستمع إلى شخص لا أريد الاستماع إليه لأعرف أشياء لا أريد أن أعرفها .. إنها المدرسة ، كم أبغضها .

الطريق كئيب للغاية ، الجميع يضحكون و يمرحون و أنا أجر خطواتي جراً للوصول ، و كالعادة وصلت متأخرة ، من الجيد تجاهل ذلك الطابور المزعج .. نلت بعض التوبيخ و جلست في مكاني آخر الفصل ثم أكملت المعلمة الحصة ، و فجأة دخلت المديرة و معها فتاة ، يبدو أنها تلميذة جديدة ،
بدأت بتعريفنا بها .. كان اسمها ميرا ، كانت فتاة جميلة ذات شعر بني ، بيضاء البشرة .
– اجلسي في المكان الذي يعجبك .. قالتها المعلمة

كانت تتجه مباشرةً إلي ، لم أظن أنها تريد أن تجلس بجانب فتاة بائسة مثلي ، حسناً لا بأس بذلك إذا لم تكن ستزعج عزلتي ..
– صباح الخير .. قالتها الفتاة الجميلة
نظرت لها في عدم اهتمام و توتر
– ص .. صباح الخير
– يبدو أنكِ فتاة جديدة مثلي
في برود أجبتها : أجل .. فقالت :
– ما رأيكِ أن نكون أصدقاء ؟

الجرس يعلن عن انتهاء الحصة ، قمت من مكاني متاجهلة إياها و ذهبت إلى مخبئي خلف مبنى المدرسة لأتناول إفطاري ..
– لم تجيبي ، ما رأيكِ بأن نكون أصدقاء ؟
– كيف عرفت أنني هنا ؟!
– تتبعتك
– من الخطأ تتبع الأشخاص ، هذه جريمة
– نحن في المدرسة ، القانون لا يسري هنا ، ابتسمت ثم أكملت قائلةً :
– إذاً ماذا ؟ ألن تجبيني ؟
– اذهبي من هنا .
– يالوقاحتك !! أهكذا تعاملين الناس دائماً ؟!
– أجل هذه عادتي .
– بهذه الطريقة لن يكون لديك أصدقاء .
– لا أهتم بالأصدقاء و لا فائدة ترجى منهم .
– أنت باردة و وقحة هذا مزيج جيد .
– و أنت صريحة جداً .
– و أنت باردة جداً ، اسمي ميرا و أنتِ ؟
– اسمي لانا ..

جلست بجانبي و بدأت بتناول الطعام ، لماذا فتاة جميلة مثلها و يبدو أنها اجتماعية تريد أن تصادق شخصاً مثلي ؟!
شعرت بشعور غريب لم أشعر به من قبل ، يمكن أن يكون إعياء لا أعلم ، لكنني استمريت بتناول طعامي و هي ظلت تثرثر .. لم أفقه شيئاً مما قالته .
ثم عدنا إلى الفصل و جميع الطالبات يحاولن إغراءها للجلوس بجانبهن و الابتعاد عن هذا الركن الكئيب ، لكنها تأبى تغيير مكانها .. لماذا تريد أن تجلس بجانب ملكة البؤس !!!

انتهى اليوم الدراسي البائس و خرجت من مبنى المعتقل ، و إذا بظل مخيف يأتي من خلفي بخطى خفيفة و يضع يده على كتفي ..
– أستعودين إلى منزلك ؟
التفت إلى الخلف لأجد وجهاً مبتسماً مفعماً بالسعادة و الأمل و التفاؤل .. إنه وجه ميرا ، لكني أجبتها ببرود :
– أجل ..
– يبدو أن منزلينا في نفس الاتجاه ، ما رأيك أن نعود معاً ؟

ما هذا الفيلم الهندي أخاف أن يجعل القدر منزلها بجوار منزلي !! … أجبتها :
– حسناً .
– يجب أن تغيري لهجتك الباردة تلك ..

دخلت المنزل عائدةً من المدرسة في إحدى الأيام و كانت ميرا طيلة هذه الفترة لا تكف عن محاولاتها في التقرب مني .. صعدت الدرج متجهةً إلى غرفتي و قد كنت مسرورة لأنها نهاية الأسبوع و سأستمتع بيومي عطلة ، تناولت غدائي بهدوء و استأذنت والدي و صعدت إلى غرفتي لكن بعد وقت قصير طرق باب غرفتي لتظهر أمي قائلةً :
– عزيزتي لانا .. لديك ضيوف و ابتعدت قليلاً لتظهر خلفها ميرا .. يا إلهي ما الذي جاء بها إلى هنا ، ألا يكفي وجودها في المدرسة ؟!!
قالت ميرا و الابتسامة لا تفارق وجهها :
– لقد جئت لأقضي العطلة عندك .. ما رأيكِ ؟
و هل بقي لي رأي بعد أن جاءت ؟!! قلت لها كاتمةً غيظي :
– أهلاً و سهلاً بكِ ..

على الرغم من أن ميرا اقتحمت عزلتي و عالمي الخاص ، و على الرغم من انزعاجي من فرض نفسها علي و بالأخص في يوم عطلتي ، إلا أني استمتعت فعلاً بصحبتها ، لقد قضيت وقتاً طيباً معها و كان اليومين اللذين قضتهما معي من الأيام المميزة بحياتي ، فقد ذاكرنا دروسنا معاً و أكلنا و لعبنا معاً و كنا نسهر حتى وقتٍ متأخر نثرثر بشتى الأمور ..

كنت سعيدة فهذه أول صديقة أحصل عليها في حياتي ..

اعتدت على وجود ميرا في حياتي ، و أصبحنا صديقتين مقربتين ، كانت تمر علي صباحاً لنذهب سوياً إلى المدرسة و نعود سوياً أيضاً ، كانت لا تكف عن الثرثرة طوال الطريق ، كانت أكثر مخلوق اجتماعي رأيته في حياتي ، فهي لا تهدأ و لا تمل ، تتكلم مع الجميع تتكلم مع الزميلات و مع الأساتذة و مع مدير المدرسة نفسه الذي لم أرَ وجهه في حياتي ..

و بدأت تضمني إلى النوادي المدرسية ، و لم يرفض أي أحد انضمامي أو مصادقتي منذ معرفتي لميرا ، حسناً .. في الحقيقة بدأت حياتي بالتحسن قليلاً ، حتى أنني أصبحت أكثر تفوقاً و أكثر اجتماعية .

كانت ميرا محبوبة من الجميع تقريباً إذا استثنينا نظرات الكره و الغيرة في عيني رئيسة الفصل ، و التي كانت دائماً ما تحاول افتعال المشاكل معها ، حتى أنها دبرت لها فخاً و اتهمتها بالغش و طلبت بإعادة الامتحان ، و وافق مدير المدرسة فقط لأنه والدها ، كانت تحاول جعل الجميع يكرهونها ، لكن الجميع كانوا يتجاهلون الهراء الذي تتفوه به .

في إحدى الأيام كنت أتحدث مع بعض الصديقات ، و في وسط حديثنا قاطعتنا إحدى الفتيات بتلك الجملة المبتذلة
– ألم تسمعن بما يحدث في المدرسة ؟
فقلت :
– هل تقصدين اختفاء أغراض الطالبات ؟
– أجل .. فجميع الطالبات تقريباً اختفت لهن أشياء !
– في الحقيقة لم يختفي لي شيء حتى الآن
قاطعتنا ميرا بابتسامتها الساذجة :
– و أنا أيضاً لم يختفي لي شيء

و فجأة قاطعنا صوت ملك العنصرية(مديرة الفصل)
لتطلب منا الخروج و الانتظار في الخارج حتى تفتش الفصل .

وقفنا ننتظر حتى جاءت بصوتها المستفز تقول :
– لقد عرفت من السارق أو يفضل أن نقول السارقة أنت يا لانا .
أنا أعرف مسبقاً أن تلك الحمقاء تريد اتهامي أنا كي تؤذي ميرا لأنها تعرف أنني أعز صديقاتها ، و أعرف أنها هي من سرقت تلك الأشياء و قلت :
– أنا لا تهمني أشياؤهم السخيفة ، فليس لدي عائد من ذلك و لن أجني منفعة لو سرقت
و قاطعت ميرا حديثنا :
– لانا لم تسرق شيئاً دعيها و شأنها ..
– أصبت تماماً ، لانا لم تسرق شيئاً .
ثم وجهت نظرها إلي قائلة :
– أخبريني أين ذهب عقدك الفضي الذي كنت ترتدينه ؟

قمت بتفتيش كامل أغراضي فلم أجده ، هذا يعني أنه سرق !! نسيت أن أخبركم أن هذا العقد هو أعز ما أملك ، فهو الهدية الأولى و الأخيرة من أمي التي لم أعد أراها بسبب عملها المتواصل ..
“- لا تتعبي نفسك بالبحث كثيراً فأنا أعلم أين هو .. قالت رئيسة الفصل
– أين هو أرجوكِ أخبريني
– ميرا لمَ لا تفرغين محتويات حقيبتك أمامنا ؟

فقامت ميرا بلا تردد بإفراغ محتويات الحقيبة ، و ليسقط العقد الفضي بين الأقلام و الأغراض و الأوراق ..
صدمت كثيراً .. أجل أنا أعرف أن رئيسة الفصل قامت بدسه وسط أغراضها ، و أجل أعلم أن ميرا بريئة ، لكن لا أعرف سبب نوبة الغضب التي جعلتني أصرخ في وجه ميرا !!

فأخذت ميرا تبكي و بدأت بالركض متجهة إلى بيتها ، و أنا تمالكت نفسي و عدت إلى رشدي و ركضت خلفها ، لكني وقفت مذهولة مما رأيت .. ميرا صدمتها سيارة و الكثير من الناس يقفون متأسفين بسبب وقوع حادث ، و فتاة شابة ملقاة على الأرض الباردة تسيل منها الدماء .. بقيت أبكي و أبكي و أبكي .. مرت الوقت ببطء شديد و قد جفت دموعي من فرط البكاء

عدت إلى بيتي هائمةً في حزني ، لكنني سمعت صوتها !! لقد بدأ يملأ أرجاء غرفتي .. قلت بتلهف و استغراب :
– أين أنتِ ؟ أخبريني ..
– هنا على مكتبك

أخذت أتتبع الصوت حتى وصلت إليه ، إنه يصدر من الزهرة !!
– لانا أعتذر لأنني جعلتك تبكين كثيراً ، لكن جسدي البشري فنى.. هذا هو تجسيدي الحقيقي ، أنا هي الزهرة التي أخذتها في أول اليوم الدراسي ، آسفة لأنني كذبت عليكِ ، لكنني شعرت مثلك بالوحدة و أدت التكلم معك ..

– لكن لماذا لم تكلميني في هذه الهيئة لمَ ؟
– لا تقاطعيني أثناء الحديث و دعيني أكمل ، فأيامي أصبحت محدودة أو يفضل أن نقول ساعاتي ، فالربيع صار قريباً و هو موعد موتي ، لقد كنت مثلك وحيدة بعيدة عن الجميع حتى جئت أنتِ و أخذتني ، لقد بدأت أحبك و أقسمت أنني سأجعلك سعيدةً إلى الأبد ، أعرف أنني لم أعد ميرا التي عرفتيها منذ البداية لكني الآن أعتذر ..

بدأت بالذبول تدريجياً و بدأت أبكي و قلت :
أنت هي أنت بالتأكيد ، لا بديل لك في اي مكان ، لا أحد ..
لم يكن هناك أحد مثلك من قبل و لن يكون أبداً .
لا تذبلي ، لا تذبلي ، لا تذبلي يا وردتي العزيزة ، فأقسم أنني سأحميك إلى الأبد ، لكن أرجوكِ لا تذبلي .

تاريخ النشر : 2016-11-30
guest
23 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى