الكتاب الملعون (الحلقة 7) طريق الرعب
طريق مرعب يخبيء الكثير من الخفايا |
– هل لك خبرة أيضاً في التداوي ؟
لم تتكلم .. بل نظرت إلى جراح (ظفير) , ثم توقفت ونظرت حولها بسرعة , واتجهت إلى بعض النباتات وقطفت بعض الأوراق منها ومضغتها جيداً , ثم أرجعتها فى كفها لتضعها على جراح (ظفير) , وقبل أن تلمسه أمسك ذراعها (سوماز) وقال فى حزم:
– ما الذي ستفعليه به و هو فى هذه الحالة بعدما فقد الوعي تماماً ؟
نظرت إلى ذراعها , ورفعت حاجبيها وقالت له وهي تنظر فى عينيه:
– إنك تؤلم ذراعي يا هذا ..
ترك ذراعها بعد ثواني من الصمت , وأخذ ينظر في عينيها وقال:
– لاتفعلي أي شيء به قبل أن تخبرينا بما تنوين فعله بهذا المسكين .
– ألا تثق بي ؟
– كيف أثق بفتاة تقاتل الرجال و بمهارة الفرسان؟؟ ثم أنني لا أعرفك سوى من دقائق معدودة.
شعرت (ليلى) أنه أحرجها بكلماته هذه , فقالت في عصبية:
– أنت معك حق , على أي حال كنت أحب أن اساعد فقط لا أكثر .
وهمت لتلقي ما بكفها , إلا أن الملك أمسك كفها بسرعة وقال في محاولة منه لتلطيف الجو:
– (سوماز) لا يقصد الإهانة لك .
أشاحت بوجهها بدلال , وقالت وكأنها تتحاشى النظر إلى عيون الملك التي تنبض بالحب:
– ما الذي يقصده إذن ؟
هم (سوماز) ليقول شيء ما بغضب إلا أن الملك أوقفه بإشارة من يده , وقال:
– إن صديقي قال ما قاله من منطق خوفه على صاحبه , فالتمسي له العذر .
ثم تمايل قليلاً و مد أنامله ليجذب وجهها فى رفق إليه حتى أصبحت عيناها أمام عينيه , وقال بعذوبة وهو يرسم بسمة رقيقة على وجهه:
– ثم إن العفو من شيم الكرام .
ابتسمت واحمر وجهها , وهي في قرارة نفسها تسأل؟؟ ما هذا الرابط العجيب الذي يربط بينها وبين (حكيم) , ويجعل قلبها يدق بعنف كلما نظرت في عينيه؟! واكتفت بالابتسام وولت هاربة لتضع الأوراق الممضوغة على جراح (سوماز) التي أخذت تصعد منها الأدخنة , وغضب (سوماز) مما يشاهد , وهتف فى غضب هادر:
– ؟ما الذي تفعلينه!
نظرت إليه في صمت .. ورأت الملك يهز رأسه إلى الأسفل , فأكملت ما كانت تفعله , وهنا قال الأول:
– أتتركها تقتل رجالك يامولاي , إنها—–
بسرعة وضع الملك كفه على فم (سوماز) ليسكته , ولاحظت (ليلى) ما حدث , فنظرت بسرعة إليهما فوجدت الملك يبتسم ويقول:
– أكملي ما تفعلينه , و دعك من هذا المتذمر.
استدارت لتتابع عملها , و هنا جذب الملك صاحبه بعيداً , وأزاح كفه عن فمه , فقال الآخر
– ما الذي تفعله يا مولاي ؟
– اصمت أيها الغبي ولا تقل لي مولاي مرة ثانية , فأنا من الآن تاجر وأنتم مساعداي , هل نسيت ؟
– ولم كل هذا ؟
– لأمر ما في نفسي ؛ لا أريد أن تعرف حقيقتي الآن .
وفجأة!! سمعا الاثنان صوتها يأتي من خلفهما:
– هل أنهيتما حديثكما السري ؟
هتف الملك:
– منذ متى و أنت هنا ؟
قالت له وهي تعطيه ظهرها وتمشى بعيداً:
– لا تخف من شىء ؛ فلم أسمع أي شىء منه.
تنهد الملك وقال:
– الحمد لله .
اندهش (سوماز) من أقوال الملك وأفعاله!! وتركه يلحق ب(ليلى) , ليقف بجوار (ظفير) ولحق بهما (سوماز) , وكانت هناك مفاجأة ألجمتهما وجعلتهما يقفان محدقان أمامهما!! حتى أن الملك اقترب ببطء وأخذ يتحسس جراح فارسه , في حين اتسعت عين (سوماز) وقال وهو مندهش:
– إذن أنت ساحرة!! كنت أعلم بذلك.
صرخت فيه وهي غاضبة:
– انتبه لكلامك يا هذا .. و لا تتمادى بأكثر من حقك في حق غيرك .
وقال الملك وهو في شدة الاندهاش:
– عجباً كيف فعلت هذا ؟! فليس هناك أي آثر للجروح على الإطلاق.
قالت (ليلى) ببساطة:
– لكل شىء تفسير , وليس هذا سوى علاج , وسر من أسرار القدماء , علمني إياه جدي فقد كان معجزة في الطب , وما هذا إلا أحد وصفاته , وهذا العلاج له أثرسحري ؛ فهو يجعل الجراح تختفي بسرعة , ويختصر الوقت , ويحفز الجلد على التكاثر ببساطة.
هتف (سوماز) وهو يشير إليها بالسبابة:
– بل إنه سحر و شعوذة .
صاحت هي قائلة وقد عقدت جبينها:
– هل تحب أن تشاهد السحر؟
– هيا إذا اظهري على حقيقتك.
أحست في هذه اللحظة أنها أخطأت بقولها هذا , فتنحنحت وقررت الرجوع عن موقفها بسرعة , وقالت:
– إذا لم يكف فارسك —–
تلعثمت وقالت مرة ثانية:
– إذا لم يكف زميلك عن مضايقتي فسوف أذهب بعيداً.
هتف الملك وكأنه لم يسمع سوى الجمله الأخيرة
– لالالا.. أرجوك ابقي معنا .
استعجب (سوماز) وقال وهو يقطب جبينه:
– سيدى إنك —–
– اصمت وكف عن مضايقتها .
اقترب منها الملك وقال لها:
– أرجوا ألا تكترثي بحديثه .
لم تعلق .. ولكن تأوه (ظفير) فاتجهت أنظار الجميع إليه بسرعة ، وانحنوا عليه ، فقال (سوماز:)
– يبدو أنه يفيق..
قالت (ليلى) في ثقة:
– سيفيق .. ولكن لن يستعيد طاقته الكاملة إلا بعد فترة راحة.
سأل الملك:
– وما مدة هذه الفترة ؟
– لن تقل عن يوم على الأقل.
وهنا قال الملك فى قرارة نفسه:
– ولكن هذا سيجعلنا نتأخر كثيراً عن مواصلة رحلتنا .
ولم يعرف الملك أن هذا التأخير ربما يكون فى صالحه وصالح من معه!! ولا أحد يعلم ما الذي سيحدث في المستقبل؟؟ فالغيب بيد الله ..
نعم بيد الله وحده .
* * *
وضع الثور الحديدي إحدى قوائمه على هذا الهيكل العظمي فسحقه سحقاً ، ومع كل خطوة كانت تتحطم ألآف الهياكل التي انتشرت في هذا الوادي بصورة كثيفة ، وكأنه مقبرة جماعية ، ولقد شق الوادي شق بين جبلين ، وزحف جيش الظلام إلى داخل الوادي في بطء وفى حركة روتينية ، والكل كان ينظر إلى الهياكل العظمية المنتشرة بطول الوادي بدهشة وخوف رهيب يزحف إلى القلوب في كل خطوة!! وأخذت الغربان تنعق بصوت مزعجِِ ، وقد ارتصت على جانبي الوادي ، وأخذ بعض الجنود يتابعون جموع الغربان وينظرون بقلق مبهم إلى نهاية الوادي ، ويتمنون لو كانت النهاية أقرب من ذلك ، وأثناء ذلك أخذت الخيول التي تجر القفص العظمي تقفز إلى أعلى وكأن أصابها مس من الجنون ، وصاحبها يحاول السيطرة عليها وجرها إلى داخل الوادي وهي رافضة ، وأخذ يضربها بالسياط حتى انصاعت لأمره وهي غاضبة ، صمت الجميع حتى الطبول صمتت ولم يكن هناك غير صوت الغربان وصوت تهشم الهياكل التي لا تنتهي ، وأثناء ذلك قال (خمري) وهو يمسك بقضبان القفص وينظر إلى الهياكل المهشمة:
– هذا الوادي ما هو إلا مقبرة كبيرة انتشرت فيها الهياكل من كل الأشكال والأجناس.
قال الشيخ وهو في حالة لا توصف من الفزع والخوف:
– أتمنى أن نخرج من هنا سالمين ، ومن بين هذا الوادي المخيف ، وإلا سوف تزيد هذه الهياكل مجموعة أخرى جاءت لتموت هنا في صمت .
– ماذا حدث لأصحاب هذه الهياكل من أجل أن يموتوا هنا داخل هذا الوادي ؟؟
– ماتوا يا بني بصورة رهيبة ومؤلمة.
– هل زرت هذا الوادي يا عماه من قبل ؟
– أبداً يا بني .. ولا أمتلك الجرأة أن أدخله ، ولكن هناك من أخبرني به ، وحذرني منه .
– وما السر الذي يحتويه هذا الوادي؟
صمت الشيخ قليلاً .. وكأنه يريد أن يضيف المزيد من الخوف على حديثه ، وقال بصوت جهوري:
– إنه الموت في أبشع صورة .. .. إنه الموت فى صورة حياة .
وأطبق الصمت بينهما ، إلا شيء واحد لم يصمت بعد ، ألا وهو صوت تهشم الهياكل تحت عجلة القفص العظمي ، وهناك في الأعلى على النمران المسيفان قال (سيور) لزميله:
وادي الهياكل .. أتعس الأماكن التي يمكن أن تطأها قدم بشر!! |
– ياله من وادي كئيب .
أضاف زميله (يزبك) قائلاً:
– صدقت يا عزيزي .. فالهياكل منتشرة على كل حجر وكل بقعة .
– يبدو أن هذا الوادى ما هو إلا مقبرة عظيمة .
– ماالذي تعنيه بقولك هذا؟
– لا شيء يا أخي العزيز .. ولكن يبدو أن النهاية أقرب مما تصورت أنا.
– نهاية من؟
– لا تهتم .. فأنا أحياناً أقول أي شيء في أي شىء ، لا تهتم بحديثي يا صاحبي .
أطبق (يزبك ) على شفتيه بعد هذا الحديث ، وبعد فترة من الصمت قال:
– ترى .. هل سنصل إلى نهاية هذا الوادي المخيف؟
وسمع (سيور) السؤال ، ولكنه لم يستطيع أن يضمن له الجواب ، واختار الصمت ، وأخذ ينظر إلى النهاية البعيدة للوادي ، ومن خلفه أخذ الجيش يسير فى رتابة وفي حركة واحدة منتظمة ، حتى أصبح الجيش كله وكأنهم بنيان مرصوص ، أحد الجنود انفك رباط حذائه فتخلف عنهم ليربطه ، وأثناء ذلك اقتربت منه (سحلية) صغيرة ذات لون أخضر لامع ، وأخذت تطلق صوت يشبه الصفير، ربط الجندي حذائه وقام واقفاً ليلحق بالجيش ، ولكن (السحلية) أخذت تصدر صوت رفيع مزعج ، فنظر الجندي إليها وابتسم وأكمل طريقه ، ولكنها تبعته ، فنظر للخلف مرة ثانية فوجدهم أكثر من واحدة ، وأخذوا يصدرون أصواتاً مزعجة ، وهي بجواره فقال لها:
– ارجعي إلى قطيعك ، فهم يصرخون عليكي .
وأكمل طريقه ، ولكنها لم تتوقف عن القفز بجواره وملاحقته ، وتوقف الجندي فوقفت هي الآخرى ، وهنا قال لها:
– هل تريدين أن تأتي معي؟
توقفت السحلية عن القفز ، وأصدرت صوتاً ، فظن الجندي أن هذا معناه الإيجاب ، فانحنى على ركبتيه لينظر إلى عينيها الحمراء ، و قد كان هذا خطأ كبير..
نعم خطأ سيكلفه حياته .
أخذ يربت على رأسها وكأنها حيوان أليف ، ولم يلاحظها وهي تكشر عن أنيابها الحادة ،وتراجعت للخلف وقفزت لتقضم أنفه!! فجلس يصرخ من شدة الألم ، وتقافزت عليه باقي السحالي ، وما هي إلا ثواني حتى أصبح هيكل بلا لحم أو شحم ، ومن كل ثقب وجحر خرج المزيد منها!! والمزيد!! هاجمين على جيش الظلام من كل صوب ومن كل جانب ، وعلا الصراخ إلى عنان السماء ، وسالت الدماءالساخنة بدون توقف
وظهرت هياكل جديدة تضاف إلى مجموع هياكل الوادي المخيف ..
أو وادي الهياكل .
* * *
جلست (ليلى) بجوار (ظفير) لتتابعه عن قرب ، أما (سوماز) فقد أخذ الملك بعيداً وكأنه يريد أن يقول له موضوعاً مهماً يدعو للبعد عن (ليلى) ، وعندما نقترب قليلاً منهما نسمعه يقول له وهو يرفع حاجبيه لأعلى:
– ؟سيدي أتثق بهذه الفتاة
ابتسم الملك وتابع:
– ولم هذا السؤال ؟
لم يجاوب على الملك ، ولكنه قال وكأنه لم يسمعه:
– أتعلم أن أي كارثة في الكون تكون خلفها المرأة.
– عزيزي(سوماز) لا داعي لهذا التشاؤم .
– ولكن يا سيدى إنها—-
– لا داعى لأن نخوض في هذا الحديث أكثر من ذلك ..
صمت الملك لبرهه ثم أضاف:
– أحب أن اصحح أفكارك ، المرأة نصف الكون ، ووراء كل عظيم إمرآة أعظم منه ، ولولا وجود الانثى لما ولدت هذه الحياة العظيمة ، ولما كنت أنت موجود بهذه الحياة .
ثم تركه الملك وعاد ليقف بجوار (ظفير) تاركاً صاحبه يسأل نفسه:
– ما الذي جعل الملك يثق في هذه الفتاة بهذه السرعة ؟
لم يعلم أن هناك شىء ثالث قد وجد طريقه بين الملك و(ليلى) ، وقد أخذ ينمو في كل دقيقة تمر عليهما .
ولم يعلم أنه عندما يوجد هذا الشيء ، يذوب عنده كل الحدود ، وينحني له أعظم العظماء عن طيب خاطر .
* * *
وضع الملك كفه على كتف (ليلى) ، فلم تلتفت إليه أو تحرك ساكناً ، وكأنها لم تحس به ، فهزها قائلاً:
– (ليلى)..
انتبهت إليه ونظرت وحزن الدنيا كله في عينيها:
– أنت هنا ؟
– أعلم سبب هذا الحزن في عيناك .
حاولت أن تبتسم ابتسامه زائفة وهتفت:
– حقاً !!
– ألا تثقين بي ؟
تحركت بعيداً عنه وأعطت ظهرها له ، وقالت بصوتها الرقيق:
– ليس هذا ما قصدته بقولي .
اقترب الملك منها وقال بهدوء:
– لا عليك .
صمت هنية ، ثم أضاف:
– أعرف أن فقدانك لأخيك وعمك لشيء محزن ، ولكن الله بعثنا لنكون بجوارك في هذه اللحظات .
استدارت إليه لتنظر في عينيه ، وترى وجهه الوضاء وهي تقول:
– لست أفهم ما تعنيه ؟
تلعثم الملك قائلاً وقلبه يدق بعنف بين ضلوعه:
– كل ما أعنيه أننا سنرد لك الجميل ، وسنعود للبحث عن عمك وأخيك مهما كلفنا الأمر .
– ولكن هذا صعب في الوقت الراهن ، خصوصاً أن معكم الآن شخص مريض .
– ألم تقولي أنه سوف يستعيد قوته خلال هذا اليوم .
– نعم.
– إذن فهناك دائماً أمل موجود .
كان قلبها ينتفض بين ضلوعها ، وكأنه أصبح يدق فقط لسماع صوت (حكيم)
وهمست وهي تنظر إلى ابتسامته العذبة التي حلقت بها فى عالم بعيد:
– ولكن بهذا سوف أجعلكم تتأخرون عن تجارتكم وأعمالكم .
-لالالا.. أبداً ليس هناك أي تأخير .
أحست (ليلى) ساعتها أنها تذوب مثل قطعة السكر في كوب الشاي بين جنابات الملك ، وأخذ هو ينظر إليها في صمت ، وأخذ يتابع نظراتها ، وفجأة سمعا صراخ (سوماز) وهو يقبل مهرولاً ، وهتف وأنفاسه تتلاحق من فرط المجهود:
– سيدي سيدي ..
قال له الملك في قلق وهو يرفع حاجبيه:
– ماذا هناك ؟
– لقد اختفى ..
اتسعت عينا الملك وهتف بسرعة:
– ما معنى اختفى ؟ وأين اختفى ؟
قالت (ليلى):
– لعله تعافى وذهب هنا أو هناك .
هز رأسه بالنفي قائلاً:
– ابداً لقد بحثت عنه فى كل مكان ، ولم أعثر له على آثر .
وما أن سمع الملك هذا الكلام ، حتى اندفع مهرولاً إلى المكان الذي كان يرقد فيه صاحبهم قبل أن يختفي ، ومرت ثواني وهتفت (ليلى) وهى تشير إلى الأرض:
– انظروا !!
نظرا الاثنان إلى حيث تشير ووجدا آثار ، تحسسها الملك بسرعة وقال وهو ينظر إلى ناحية الشرق:
– يبدوا أن صاحبنا لم يذهب بطوع أمره ، بل حمله شيء ما ترك آثاره على الأرض .
صمت الجميع ونظروا حيث ينظر الملك وفي رأسهما سؤال واحد:
– ترى .. ما الشيء الذى حمل (ظفير) وفر به هارباً بدون صوت ، تاركاً وراءه آثاره فقط؟
وكان الجواب لا يعلمه غير الله .
* * *
ساد الهرج والمرج بين جنود مملكة الظلام ، وأخذت المخلوقات الصغيرة المتوحشة تهجم عليهم من كل صوب وجانب وكأنهم بلا نهاية ، وقد أخذوا ينهشون اللحم بلا توقف وأخذت صرخات الآلم تعلو في الاجواء ، وأخذت الدماء تسيل من الأجساد بدون توقف ، وهنا توقف النمران ونظر (سيور)و(يزبك) إلى الخلف ، ولم يصدقا هذا المشهد المخيف فالدماء في كل مكان وصرخات العذاب مدويه تثقب الآذان ، وعند ذلك الحد توقفت الملكة بثورها الحديدي وتجمدت نظراتها لثواني قليلة ، وكأنها لا تشعر بما يحدث حولها ، ومرت الثواني ثقيلة مرعبة والجنود يتساقطون فى استمرار ، وفجأة رفعت صولجانها إلى السماء ، فغيمت السماء بسرعة وتكاثفت السحب السوداء فوقها ، وأخذ البرق يظهر بين الحين والآخر!!! وهنا قالت بصوتها الحاد وهي ترفع ذراعيها إلى السماء ، في مشهد عجيب وقد أخذت أثمالها تتطاير خلفها:
– بحق الملك والملكوت ، ومن خلق الحياة والموت ، استجيبى لى أيتها السماء ، وبحق سحر (إفنين) الرهيب ، أبعدي هذه الأمواج الشريرة عن جيشي .
صرخت أكثر ورعدت السماء أكثر
– أبعدي الآلآلآلآلآلآلآلآلآلآلآلآلآلآلآن.
وما أن انتهت من صراخها ، حتى أخذت هذه الحيوانات الصغيرة تقذف إلى الخلف لتصطدم بصخور الوادي ، وكأن هناك أيدي خفية تحملها إلى أعلى وترمي بها أعلى الصخور!!! وهكذا استمر الحال الحيوانات يتكاثر عددها بدون توقف ، ولكن هناك شيء خفي يمنع وصولهم إلى الجنود ، وهنا سمع (سيور)و(يزبك) فى عقليهما صوت الملكة
يقول بعد أن هدأت ثورتها:
– أتركوا الجرحى ودعونا نمر من وادي الموت هذا بأسرع ما يمكن .
هتف (سيور) في غضب:
– كيف هذا ؟
قاطعته الملكة في صرامة هذا المرة ، وقد ظهر صوتها وهي تنظر إليه بنظرات نارية تكاد تخترق درع صدره:
– لا تنسى موقعك أيها القائد ، ونفذ ما أمرتك به ولا داعي لكثرة الحديث .
انتهز (يزبك ) الفرصة ليثبت للملكة طاعته العمياء لها ، وقال بخشونة لصحابه:
– افعل ما أمرتك به أيها القائد .
نظر إليه الأول في صمت ، وتمنى لو تتاح له الفرصة فيطيح رقبته بسيفه ، وكم كان يمقته ويمقت نظراته البغيضة ، وكان يشمئز منه ، فهو يعلم أن هناك شيء بينه وبين الملكة ،ولكنه لا يستطيع أن يقول له شيء ، فابتسم من جانب شفتيه في سخرية وقال:
– أمرك يا سيدتي .
كان الخير من طابعه ، ولكنه لم يستطيع يوما أن يغير قدره ، فلقد ولد في مملكة الظلام وانتخبته الملكة ليكون أحد ذراعيها ، وهذا لعنفه وقوته وإخلاصه ، وعندما تحدى الملكة ورفض أن ينصاع لها ، تذكر ما فعلته به وبعد تفكير منه طويل منه قاطعته الملكة:
– فيما تفكر.. لما لم تصدر الأمر إلى الآن ؟
تعلثم (سيور) عندما سمع قول الملكة فقال بكلمات متقطعة:
– أبداً يا سيدتي لا شيء .
ثم لملم أشلائه الضائعة في بحر الذكريات الحزينة ، وصاح وقد أخذ الحزن منه مبلغاً و ظهرعلى قسمات وجهه الخشنة ، وهو يصيح فيما بقى من الجيش:
– هيا يا رجال أعيدوا ترتيب صفوفكم بسرعة ، واحملوا أسلحتكم وواصلوا طريقكم ، ولا تتوقفوا و———
صمت قليلاً وأحس أنه يتمزق إرباً ، فابتسم (يزبك) ابتسامة صفراء ، وكأنها ابتسامة شيطان رجيم ، والتمعت عيناه عندما أحس بعذاب صاحبه ، وقال له بهدوء الذئاب:
– لما توقفت أيها القائد تابع أوامرك .
نظر له (سيور) نظرة نارية ، وتمنى لو كادت أن تخترق قلبه فينقلب قتيلاً ، وضغط على أسنانه ، وارتفعت حرارته واتسعت عيناه ، ولكنه استجمع قواه وشجاعته وقال وهو ينظر للأمام ، وكان يتابع الثور الحديدي الذى بدأ في التحرك ، وقد أحس أن الكلمات ثقيلة مثل جبل عالي:
– اتركوا الجرحى ، فلا داعي لأن نثقل أنفسنا بهم .
ذهل جميع الجنود المصابين وغيرهم!!! وتردد الجميع في تنفيذ الأمر، ونظر بعضهم إلى الجرحى في صمت وجرت الدموع في عيون الجرحى وكأنها تتوسل إليهم بعدم تركهم فى هذا المكان المخيف ، وارتعشت الأجساد وانتفضت القلوب ، وأمسك بعضهم بأنامل البعض الأخر، وبالملابس ، في محاولة يائسة ألا يتركوهم ، وحاول البعض الآخر من الجرحى أن يقف ؛ حتى لا يبقوا في هذا المكان ، ولكن جرحهم كان أقوى منهم ، فقد سقطوا على الأرض مرة ثانية ، ومرت الثواني ثقيلة والحركة بطيئة ، والجميع يتحركون في صمت عجيب ملأه الحزن الرهيب على زملائهم ، وصراخ بعضهم مناديين عليهم:
– لا تتركونااااااااا..
وعلى مضض ، دهست الأقدام القلوب ، وارتصت الصفوف ، واستعدوا للرحيل تاركين خلفهم أصدقائهم جرحى ، في أشد الحاجه إلى المساعدة ، ليلقوا مصيرهم المرعب في وادي الهياكل ، وما أن تحركوا مبتعدين عنهم ، حتى توقف السحر وهجمت الوحوش الصغيرة على الجرحى ، وعلت الصرخات وأخذت تتردد في كل الوادي بدون توقف..
صرخات حملت كل معاني العذاب .
حزن خمري كثيراً علي مصير هؤلاء الجنود التعساء.. |
ومن داخل القفص العظمي أخذ (خمري) يتابع المشهد وهو قابض على قضبان القفص ، والكلب ينبح والدموع تتراقص في مقلتيه ، حزناً على هؤلاء الجنود وعلى مصيرهم الحزين ، وأخذوا يبتعدون ..
ويبتعدون
ويبتعدون
حتى اختفوا في الأفق ، تاركين وراءهم من كانوا يوماً أصحابهم ، فرائس لهذه الوحوش الصغيرة..
نعم وحوش بلا قلب
وحوش قاتلة .
* * *
فتح (ظفير) عيناه في صعوبة ، وارتعشت الرؤيا أمامه ، ومع الوقت بدأ كل شىء يظهر ويتضح تدريجياً ، فقد وجد نفسه في وسط أطلال لمدينة مهجورة وغريبة البنيان ، وكانت الأشجار تتخلل هذه الأطلال بشكل عجيب ، وتنتشر هنا وهناك ، وكأن هناك شخص وزعها بالتساوي منذ زمن بعيد ، فقد بدت الأشجار معمرة لدرجة أن أشعة الشمس لا تستطيع أن تتخللها ، وتصل إلى الأرض ، وكانت النباتات المتسلقة منتشرة بشكل كبير على القباب والأعمدة الرخامية في صراعها الأبدي للوصول إلى أشعة الشمس ، هنا سأل نفسه:
– ترى أين أنا ؟ وما هذه الحضارة؟ وأين أهل هذه المدينة المهجورة؟
وأحس بأن جسده مخدراً لا يستطيع التحكم به ، فانتظر قليلاً ليشاهد ما حوله ويرتب أفكاره ، وحاول النهوض ولكنه فشل ، وفي هذه المرة ليس لأن جسده مخدر؛ بل لأنه اكتشف أنه مقيد في الصخور .
وكانت مفاجأة له!! فحاول أن يتخلص منها ، ولكنه كان قد مقيد بطريقة محكمة ، فنادى على الملك (حكيم) ، لكن لا مجيب ، ثم نادى على صاحبه ،لكن لا مجيب أيضاً ، وكرر النداء أكثر من مرة ، لكن لا مجيب غير الصمت ، تعصب وانفعل واحمر وجهه ، وحاول أكثر من مرة أن يتخلص من القيود ولكن لا فائدة ، وفي محيط رؤيته طل عليه وجه مشعر ذي عيون بنية ، وأنياب ، وأنف أفطس ، وما أن نظر إليه حتى صرخ (ظفير) بكل قوة ، حتى كادت أن تتمزق حنجرته…
وضاعت صرخته في هذه الغابة الكثيفة والمظلمة .
* * *
ركع الملك على الأرض ، وأخذ يدقق بنظره في هذه الآثار المتناثرة هنا وهناك ، ثم وضع أنامله في بعضها ، وبعد فترة صمت مرت كالدهر … وقف وضرب كفيه ببعضهما ، وقال بثقة وهناك بريق ما في مقلتيه:
– هذه الآثار مازالت ساخنة.
هتفت (ليلى) بسرعة:
– يعني ذلك أن الخاطفين كانوا هنا منذ وقت قصير .
تابع الملك اتجاه الآثار بعيناه وأضاف قائلاً:
– من الواضح أن أصحاب هذه الآثار ليسوا آدميين على الإطلاق .
– ماالذي تعنيه يا سيدي ؟
هكذا سأل صاحبه فأجابه الملك:
– أقصد أن أصحاب هذه الآثار هم مجموعة من القرود الضخمة .
همست (ليلى) بسرعة:
– كنت أعلم ذلك .
نظر إليها (سوماز) في غيظ ، ثم عدل نظره إلى الملك وسأله:
-وما العمل الآن يا سيدي ؟
– يعني أننا سنستعيد (ظفير) من هذه الحيوانات ، بأي ثمن .
– إذن لا داعي لأن نضيع وقت .
انطلق الثلاثة بين الأشجار، ثم سلكوا طريقاً صاعداً حول جبل عالي ، وأخذوا يلفون حول الجبل بشكل حلزوني ، وقد استقر في أسفله نهر صغير يجري بسرعة رهيبة ، ومع الوقت أخذ هذا الطريق الصاعد يضيق عليهم شيئاً فشيئاً وهنا سألت (ليلى) والقلق قد بدأ ينهش فيها:
– إلى أين نصعد فالمنحدر بدأ يضيق علينا كلما صعدنا؟
هنا قال لها الملك محاولاً أن يطمئنها:
– لا تنظري إلى الأسفل ، وأعطى ظهرك إلى الصخور، وامشي بحذر .
فعلت ما طلبه الملك منها ، ولكنها نسيت أمره بعدم النظر إلى الأسفل ، وتفتت بعض الصخور الصغيرة من تحت أقدامها ، وأخذت تهوي إلى الأسفل بسرعة كبيرة لتغيب عن العيون ، فنتفض قلبها بين ضلوعها في قلق ، وأخذت النسمات تتلاعب بخصلات شعرها ، فالتصقت بالصخور بظهرها من شدة الخوف ، وأخذت تتحسس خطواتها ، وتبعها (سوماز) ، ولم يلاحظ الجميع هذه المنطقة الضعيفة من ذلك الطريق الصاعد ، وهي تتشقق تحت أقدامه وتتساقط أجزاء منها ، وما إن مرت (ليلى) عليها حتى تهاوت أكثر، وما أن وضع (سوماز) قدمه عليها ، وأحست الصخور بحجمه الضخم ، حتى تهاوت بسرعة وسقط معها صاحبنا ، وصرخت (ليلى) وانحنت بسرعة لتقبض على كفه فى رد فعل سريع ، وأخذت تتابع الصخور التي تهوي إلى الأسفل في فزع ، وتمسكت به أكثر، وكان الطريق ضيقاً لدرجة أن الملك لم يستطيع أن يفعل شيئاً حيال الأمر، ووقف يتابع الموقف وهو عاجز ، إلاّ أنه أمسك بها وقال لها في هدوء:
– تمسكي به ولا تتركيه ليسقط أرجوك .
تساقط العرق من جبينها ، وشعرت أن قلبها سيخرج من الرعب ، وحاولت أن تتمسك به أكثر ، ولكنه كان ثقيلاً جداً ، لدرجة أنها بدأت تتألم وظهرت الدموع في عينيها ، ومرت اللحظات ثقيلة كالدهر وتمنت لحظتها أنها لو كانت بقوة عشر رجال لتجذبه إلى أعلى ، وهنا تلاقت العيون ورأت عيناه وكأنها لأول مرة تنظر إليهما ، وحاولت أن تقبض أكثر على كفه ، ولكن أصابعه أخذت تفلت شيئاً فشيئاً منها ، فظهرت دموعها أكثر وارتفعت حرارتها وزادت قطرات العرق ، واهتزت من داخلها وكأنها كتكوت سقط في بركة ماء فى ليلة شتاء قارصة ، وبين هذه الدموع رأت ابتسامة ارتسمت على وجه (سوماز) وهو يهمس لها:
– لا تحاولي أكثر .. فقد حان وقت الفراق.
حاولت أن تستميت على قبضته ؛ ولكنه سقط بفعل وزنه الثقيل إلى الأسفل بسرعة كبيرة ، وهي تتابعه وتصرخ بكل ما فيها:
– لااااااا..
وأخذ جسد(سوماز)يهوي
ويهوي
بدون توقف .. إلى مصير مجهول لا يعلمه غير الله .
* * *
مال قرص الشمس للمغيب تاركاً الدنيا للظلام ، وأخذ يختفي بين أشجار النخيل ، وأخذت الطيور تعود إلى أعشاشها لتنتظر خروج الشمس من جديد ، وعلى ضوء هذا القرص الشاحب نرى هذا الغريب يركب جواده وقد أخذ ينهب به الأرض نهباً ، وكأنه على عجلة من أمره ، صاعداً هذه التلال الرملية ، وهابطاً من تلال أخرى ، وبعد فترة من الصعود والهبوط والسير في الوديان وبين النباتات العالية والصخور القابعة في كل مكان ، جذب لجام جواده بقوة فتوقف في ثانية مخلفاً غباراً كثيفاً حوله ، وما أن توقف حتى قال الغريب:
– توقف (خوف) دعنا نرتاح هنا الليلة .
أخذ الجواد يصهل وكأنه فهم كلام فارسه ، وأخذ ينبش الآرض بقائمته الأمامية ، الذي هبط فارسه من على ظهره وأخذ يحمل بعض الأشياء ويضعها على الأرض ، ثم ربطه في أحد الصخور وانطلق ليجمع بعض الأخشاب ليشعلها .
فجلس وعلى ضوء النار المتراقص أخرج خريطة من بين طيات ملابسه ، وقال بصوت عال وكأنه يتحدث مع شخصاً معه:
– إلى أين وصلت معه يا (جعفر) ؟
أخذ ينظر بتمعن ثم وضع إصبعه على نقطة ما عليها ، وهتف:
– ها أنا هنا الآن ، وأريد أن أصل إلى هذه النقطة وبأسرع وقت ممكن.
ثم أضاف وهو يطوي الخريطة وينظر إلى النجوم بوضاحة:
– يبدو أن الوقت قد حان ، وسنصل قريباً إلى ما كنا نتمناه منذ زمن طويل.
صمت مرة أخرى ليبتلع ريقه ، وأكمل فى لهجة شيطان مارد خرج من الجحيم:
– وبعدها سأكون آخر شىء ينتظره الجميع .
ثم ضحك ضحكة مخيفة مرعبة لأقصى حد ممكن وهتف:
سأكون أسوأ وأبشع كوابيسهم .
وأخذ يضحك
ويضحك بدون توقف .
* * *
توقف الثور الحديدي بملكة الظلام ، وتوقف خلفها النمران المسيفان وهما يزئران بصوت مزعج ، وعبر رأس قائديهما سمعا صوتها يقول:
– سنخيم هنا الليلة أصدرا الأمر بذلك .
حركت النسمات خلجات الملكة خلفها ، وطارت بعيداً عن ظهر ثورها وهبطت على الأرض وهي ممسكة بصولجانها العجيب ، وأخذت تترجل بعيداً ، في حين أشار (سيور) إلى الجيش بأن يخيموا هنا الليلة ويشعلون النار، ثم هبطا الاثنان ، واتجه يزبك بسرعة إلى ملكته وحاول أن يقترب منها ، أما صاحبه فقد اتجه إلى القفص العظمي ، ونظر إلى أصحابنا ، ونبح الكلب ثم أخذ يهز ذيله و(خمري) يتابعه وينظر إليه ، فتلاقت العيون في صمت وكأن هناك شيء ما يحدث بينهما ، أو كأنما أراد (سيور) أن يقول شيء ما وهو يقترب أكثر ويمسك قضبان القفص بقبضته ، وطالت النظرات ، ثم قرر أن يبتعد فى هدوء تاركاً صاحبنا في حيرة من أمره ، واختفى بين الجنود ، فقال الشيخ وهو يتحسس ظهر (خمري):
– ماذا هناك يا بني؟
أخذ النمران المسيفان يزئران بصوت مزعج جداً.. |
أجابه وهو يهز رأسه:
– لا أعلم يا عماه .. ولكن هناك شيء غريب في هذا القائد ، وكأنه جاء ليطمئن علينا ، وأكاد اجزم أنه كان سيقول لي شيء ما ؛ فقد قرأت هذا في عينيه ، ولكنه تردد لسبب لا أعرفه وتركنا وعاد لشأنه بين الجنود ..
صمت قليلاً ثم شرد ببصره وتابع:
– يبدو من نظرته أن هذا القائد له وجه خفي وراء هذه الملامح الجافة القاسية لا يعرفه أحد .
– فهمت قصدك يا بني ..
فجأة التفت إلى الشيخ وقد غير لهجته إلى لهجه حماسية ، وهتف وكأنه اكتشف أمر ما كان لا يعرفه:
– اسمع يا عماه .. لن يطول حبسنا هنا.
انتبهت حواس الشيخ عندما سمع ذلك ، فرفع حاجباه وسأل بلهفه:
– وكيف هذا ؟
قال له بصوت خافت:
– سأكسر هذا القفل ونهرب في منتصف الليل والجنود نيام.
-هل تستطيع تنفيذ ذلك حقاً ؟
– نعم يا عماه استطيع إن شاء الله ، ولكن أرجو أن يأتي منتصف الليل سريعاً
دعا الشيخ ربه ، وتمنى أن ينجح (خمري) في مخططه ، وأن يهربوا من هذا القفص العظمي مهما كان الثمن ، حتى لو كان الثمن ——–
حياته .
* * *
وما أن رأى (ظفير) هذه الوجوه صاحبة العيون الحمراء ، والشعر البني الكثيف ، في محيط رؤيته ، حتى انتفض قلبه من الرعب وكأن صاعقة كهربائية أصابته ، وصرخ من هول المفاجأة ، ولم يصدق ما تراه عيناه ، وتساءل في نفسه:
– من أين أتت هذه الغوريلات الضخمة والمرعبة ؟!
– لابد أنه كابوس مزعج .
ثم أغمض عيناه بقوة لعله يستيقظ منه ، وبعد ثواني فتحهما ولم يتغير المشهد من حوله ، مازالت العيون الحمراء تحدق فيه بصمت عجيب ، وكأنهم مجموعة من التماثيل التي أتقن النحات نحتها ، فابدع في إضفاء جو البشاعة والرعب والعنف ، على هذه الوجوه ذات الأنياب الحادة والزبد المتساقط من الآشداق الثاغرة وهذه الأنوف الفطساء ، وهنا عرف أنه يعيش واقع مرعب لا مفر منه ، ولا مهرب وهو مقيد .
وما أن استسلم للأمر ، وتوقف عن حركاته وصراخه ، حتى أخذت هذه الحيوانات الضخمة تزمجر وتصرخ بأصوات مزعجة ، وتضرب صدورها ، وبعضهم يمسك بصخرة صغيرة ويضرب بها صخرة أكبر ، كان المشهد مخيف ومرعب لأقصى الحدود ، وارتج صاحبنا من الداخل ، عندما أيقن أن الموت قادم لا محالة بين أنياب هذه المخلوقات الشرسة ، وفجأة سمع صوت يشبه الصراخ يقول:
– توقفوا يا أولاد وابتعدوا عن الأضحية .
خطفت ظفير غوريلات برية قاسية.. تابعة لأحد الاطلال المهدمه .. |
وما أن سمعت هذه الحيوانات هذا الصوت حتى هدأ كل شيء فجأة ، وصمت الجميع وابتعدت في الحال عنه ، فأخذ يبحث بنظره عن مصدر الصوت ، حتى رأى سيدة عجوز شمطاء تظهر من أحد القصور المهدمة ، وهي تستند على عصا ثبت عليها جمجمة بشرية لطفل صغير ، وأخذت تقترب وتجر خلفها أسمالها الرمادية الكئيبة ذات الرائحة القذرة ، وفوق شعرها قبعت قطعة قماش ثقبتها الجرذان في كل مكان بلا ترتيب ، فظهرت خصلات شعرها الأبيض الذي يتضح من مظهره أنه لم يغسل من سنين ، اقتربت منه أكثر ونظرت إليه بوجهها الذي يحاكي وجوه الموتى بنحولة ، وابتسمت فظهرت أسنانها السوداء المحطمة أو ما بقي منها بالتحديد ، وقالت بصوتها الرفيع:
– لا تخشى شيئاً يا سيد الزمان فأنت في أيدي أمينة.
نظر إليها في توجس وخيفة من منظرها البشع ورائحتها المنفره ، التي تشبه رائحة الجثث المتحللة:
– من أنت ؟ ولما أحضرتموني هنا؟ ولماذا تربطوني هكذا ، وأنا لم أفعل لكم شيء؟ وما سر هذه القصور ؟ ولماذا أنا ———–
قاطعته ضاحكة وكأنها أم ابليس وقالت:
– يبدو أن ضيفنا كثير الأسئلة .
ثم توقفت عن الضحك فجأة وتبدلت ملامحها وكانها ابليس نفسه ، وقد احمرت عيناها واقتربت منه حتى شم رائحة فمها العفن وهي تقول:
– أنت هنا في الأرض المفقودة ، لم يدخلها بشري وخرج منها أبداً .
ثم ابتعدت عنه وهي تضحك بشكل هيستيري ، وتوترت أعصاب (ظفير) ، وارتفع الدم إلى دماغه فلملم نفسه ، ووجد نفسه يصرخ فيها بشدة وقوة ، وكأنه ليس أسيراً أبداً:
– كفى .
صمتت العجوز ونظرت إليه نظرة حادة وقد اتسعت عيناها على نحو يلقي الرعب فى أعتى الجبابرة ، جعلته يتعلثم وهو يتردد فى قوله:
– لم — لم أقصد الإزعاج ولكني —
ابتلع ريقه في صعوبه بالغة وحاول أن يسيطر على نفسه وعلى خوفه ورعبه ، وسأل:
– لم أنا هنا ؟
لم تجاوبه العجوز .. بل اكتفت بالنظر إليه طويلاً ، ثم أدارت ظهرها إليه وتركته في حيرة من أمره ، ثم قالت وهي تنظر إليه بطرف عينيها:
-اليوم هو العيد المئوي على وجودنا هنا ، وفي كل ذكرى لابد أن يكون لنا أضحية ، فهذه طقوسنا .
صمتت قليلا ً ثم صعدت على صخرة برز منها جزء على شكل لسان ، ووقفت على الحافة ورفعت ذراعيها إلى أعلى ، وتناثرت أسمالها خلفها في مشهد مهيب ، وقالت بصوتها العالي الذى يشبه الصراخ:
– هذه الأضحية لابد أن تكون بشرية .
انتفض (ظفير) ووقع قلبه حينما قالت:
– وقد شرفناك لتضحي بنفسك من أجل ذكرانا الجليلة.
وأخذت تضحك والغوريلات تصرخ وتخبط بالصخور، وهو يحاول أن يتخلص من قيوده ، ولكن لم ينجح أبداً ، وأخذ الوقت يمر سريعاً وكأن الكل قد اتفق على نهايته..
نهايته كأضحية بشرية لمجموعة من الحيوانات المتخلفة .
* * *
احتضن الملك (ليلى) فى رفق والدموع تسقط من عينيها وكأنها حمم حارة صادرة من بركان ثائر، وكل خلجة فيها تهتز بعنف ، وفي مخيلتها صورة(سوماز) وهو يهوي إلى الأسفل ، وقالت بكلمات تتسم بالحسرة والندم:
– لقد فقدته ..
قال لها الملك:
– لقد فعلت ما بوسعك ، ولكنه كان أثقل من أن ترفعيه.
– أبداً لقد أفلته من يدي ، ربما لو كنت تمسكت به أكثر لكان من الممكن أن ينجو .
– لا ياعزيزتي .. كان سيسقط بأي طريقة .. فالله هو الذي كتب هذه النهاية له ، وليس بيدنا أن نغير بأمر الله .
وهنا نظرالملك فى عينيها وقال وهو يهمس:
– لابد الآن أن نمسك أعصابنا ونكمل طريقنا ، وإلا ّ لحقنا به في نفس المصير .
ثم مد أنامله ليمسح دموعها ويقول:
– لا أريد لهذه العيون الزرقاء أن تختبىء خلف فيضان من الدموع أرجوك .
هزت رأسها علامة بالإيجاب ، في حين هو تركها وأخذ يسير أمامها وقال:
– هيا بنا نكمل مهمتنا ، فمصير العالم كله مربوط بنا الآن .
تحسست خطواتها وهي تمشي خلفه وتحاول أن تطرد صورة (سوماز) من عينيها وهو يهوي إلى الأسفل ، ومرت دقائق من السير في صمت مهيب ، وفجأة انقطع الطريق ، وتوقف الملك ونظر إلى الأعلى وقال:
– يبدو أنه حان وقت التسلق ،، هل تستطيعن التسلق إلى أعلى ؟
– نعم استطيع .
أخذ الملك يتسلق الصخور وخلفه كانت هي ، وأثناء ذلك قال لها:
– لا تنظري إلى الأسفل مهما كان الدافع لذلك .
وبعد فترة من التسلق الصامت قال الملك:
– يبدو أن النهاية قد أتت اخيراً .
وبالفعل صعد الملك ولحقت به ليلى إلى النهاية ، ولكن لفت نظرها شيء ما يقع في الأسفل ، فلحقت به بنظرها كردة فعل طبيعية ، وما أن فعلت ذلك حتى رأت منظر الأرض وهي بعيدة جداً في هذا الأرتفاع الشاهق ، حتى دارت بها الدنيا في الثواني التالية ، وأحست أن هناك سحابة سوداء تزحف على عينيها ورأسها ، وتوقف الزمان بالنسبه لها ، ووجدت نفسها فجأة حرة في الهواء ، فقد تركت الصخور ليهوي جسدها في الأسفل ، وهى غير واعية لما يحدث ، وهنا تذكرت فجأة شيء واحد تردد أمام عينيها ، ألا وهي:
صورة (سوماز) وهو يهوي إلى الأسفل بسرعة رهيبة ..
ويهوى بلا توقف .
* * *
هل سيموت (سوماز)؟
هل ستسقط (ليلى) لينتهى دورها هنا ؟
ما هو مصير (خمري ) ؟؟ وكيف ستغير الأحداث القادمة مصيره
صديقي القارىء أعدك بمزيد من التشويق والأحداث المخيفة
تابع الحلقة القادمة وكن واحداً من أبطالنا .
يتبع ،،،،،،،،
تاريخ النشر : 2016-12-01