أدب الرعب والعام

اليتيمة

بقلم : احمد – مصر
للتواصل : facebook.com/ahmed.hamedov

اليتيمة
لاحظنا أن السعادة تحوم حول الجميع إلا فتاة واحدة .. ترتدي فستانا استحال لونه للأبيض من قدمه
فَـرحـِينَ بـما آتنا الله من فـضلِه ، جمعنا نحن طلبة الجامعة بعض النقود لـنرقق بها قلوبـنا في عمل خيري في زيارة بيت من بيوت الأيتام .

التقينـا بالمكان المقصود صباحاً عند تجمع قطرات الندى على قلوبنا و على أوراق الأشجار ، دخلنا الجنة بأقدامنا ، لمسنا الفرحة الحقيقة عند رؤية سعادة طفل يتيم بغريب يهتم به ،
لاحظنا أن السعادة تـحوم فـوق كل من في البيت من أطفال و زائرين و رعاة الدار عدا فتاةٍ واحدة .. فتاة بين ثلاث أو أربع سنوات ترتدي فستاناً زهري قصير استحال لـونه للأبيض من قدمه ، ينسدل شعر أسود شبه مرتب و خصلتين على جبهتها ترسم لوحة حزينة مع ملامحها الطفولية البريئة ..

زهرة وحيدة شريدة تـلوذُ بـجدار في ركـنٍ بعيد ، تراقب المشهد في أسى و يأس ، نظرات الحزن في عينيها و ملامحها تدمي القلب قبل العين .

وجهنا وِجهَتنا قِبلتها نداعبها فلا تضحك ، نلاعبها فلا تلعب ، نسألها عما ترغب به من هدايانا فلا تجيب ، حتى خُـيِّـلَ لنا أن ما تتمناه نَـجمُ من مجرةٍ أخرى ، أو تتمنى لحم حوتٍ مُـعبَق بـمِسكٍ دمـشقي .

ما زادتـها محـاولاتنا معها لـمعرفة ما تريد إلا إيـماناً بـعدم استطاعتنا على الإتيان به ، حـتى أجـرى الله بعض الـكلمات على لساني فاطمأنت و ظهرت على وجهها بعض من إمـارات الاقـتناع ، تـعلقت بـها العيون و حبسنا الأنفاس ، تصلبت العضلات ، و سكنت الحركات و ثـبتنا الأنـظار على قسمات وجـهها ، نـعدُّ خـلجات شفتاها ، نحصي رمشات جـفنيها قـبل أن تنطق بذاك المستحيل الذي تريـد ، شجعتها نظراتنا المتلهفة المستعدة على ترجمة تمتماتها لثلاث كلمات تمثل حلمها و أمنيتها و قالت : ” عـايـزة كـوتشي بـينوَّر “

نزل الـطلب عـلينا كـالصاعقة لبساطته أو لـعدم ارتقائه لـسقف توقعتنا .

طـفلة عـاشت في مكان لـيس مسموح لها أن تـطلب فيه شيء ، و إن طلبت تُـلَـبَْـى أسـاسيات احتياجاتها الأساسية بـشق الأنفس ، مـكان إن تـركت غذاءها فـترة من الـوقتِ لـن تجده و لن تحصل على تعويض ، مَـكان يتغذى القوي فيه عليها لـكونها ضعيفة أو لـكونها وحيدة أو لكونها فتاة أو لـكونها الثلاثة معاً ..

عزمنا على تـحقـيـق تلك الأمنية لتلك الفتاة ، و أرسلنا من يحضر طلبها و وضعه في حقيبة و غـلفه في علبة للهدايا ثم وضعه أمامنا .

تـحلقنا حول الفتاة و هديتها ، كلٌّ منا يريد أن يـشهد تلك اللحظة المرتقبة ، تركناها لـتفتح هديتها بنفسها .. جعلت تفك القصاصات بـهدوء حَذِرٍ كأنها لا تصدق أن ما يفصلها عن أمنيتها فقط تلك القصاصات .

تفك شريطاً ، و كلما فكت واحداً نظرت لواحد منها كأنها تريده أن يقسم على حقيقة اللحظات .. على أنها ليست أضغاث أحلام ، الـتقطت نفساً عميقاً حتى ظننا أنها حبست كل هواء الحجرة في رئتيها الصغيرتين .

كلٌ منا في ترقب ، يراقب انفعالات وجهها ، اهتزازات أناملها الصغيرة و هي تتحرك ببطءٍ شديد .

توقفت الثواني قليلاً في عقلها لمّا فتحت الـعُلبة ، تأملت ما رأت قليلاً و هو في مخدعه ، لا تجفل عيناها عنه مرة خوفاً من أن تفتحها فلا تجده ، مدت يديها الصغيرتين لتخرجه بحذر و هدوء كأنها تتناول في يديها أغلى شيء في الدنيا ، ثم رفعت عينيها إليها و قالت بامتنان : جميل شكراً ..

استلت من بين أظهرنا بهدوء ، لاذت بركنها البعيد تحتضن بين يديها حذاءها كأم تحتضن رضيعها الأول بين يديها في ساعاته الأولى ! استسلمنا لـرغبتها في الخلوة و انشغل كل منا بطفل أو بنفسه إلا أنا لـذُت بالركن المقابل لها و علقت عليها أنظار عيني و قلبي أراقبها ..

لم ترفع عينيها عن حذائها ، كأن الدار كلها في عالم و هذه الفتاة في عالمٍ آخر ، بعد فترة قامت من مجلسها و خلدت إلى فراشها في ذاك السرير العلوي الخشن الملمس ، البارد المشاعر ، دثرت جسدها الصغير بغطائها و احتضنت حذاءها ثم نظرت لي و كأنها كانت تعلم أني أراقبها من البداية !!

نظرت في عيني نظرات لم أفهم معناها ، نظرات حُفِظَت في ذهني إلي يومي هذا ، نظرات شقت صدري و استقرت بقلبي ،
أخفت رأسها و حذائها تحت غطائها ، و أسدلت الستار على مشاعر لم أشعر بها من قبل .

تاريخ النشر : 2016-12-03

احمد

مصر
guest
21 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى