أدب الرعب والعام

التائه

بقلم : مصطفي جمال – مصر
للتواصل : facebook.com/profile.php?id=100012779294789

التائه
من أنا و من سأكون .. كل ما أعرفه هو أنني أقف منتصباً وسط الصحراء
أين أنا و أين سأكون و كنت ؟! من أنا و من سأكون ؟ لماذا أنا هنا وسط الصحراء القاحلة ، يحيط البرد بجسدي العاري تماماً ، من أين جئت و إلى أين سأذهب .. من أكون ؟ لست بشرياً و لست جنياً أو شبحاً أو شيطاناً رجيماً مشتعل ، لست روحاً شريرة تأبي المسامحة ، لست مارداً أو عفريتاً أو روحاً ترفض الصعود إلى عدن أو الهبوط إلى الجحيم ، لست إلهاً إغريقياً يعيش أعلى جبل الأولمب ، لست ؛حد آلهة الفراعنة أحاسب الموتى بجانب أوزريس ، أو أضع ريشة ماعت على الميزان ، لست شينيجامي يقتلع الأرواح من أجسادها ليرسلها إلى حياتها الأخرى ، لست أحد كهنة البوذيين أو راهبي التبت ، و بالتأكيد لست والدالاي لاما ..

كل ما أعرفه هو أنني أقف منتصباً وسط الصحراء ، بشعر أسود شبه طويل يتدلى على وجهي بدون أي ملابس ، و جسدي ليس بيولوجياً و ليس أثيرياً ، بل هو متفاوت بين هذا و ذاك ، و هذا التفاوت الجميل اختفى ليحل مكانه هذا الجمود المادي ، لكنني لست بيولوجياً ، أقسم لك أنك لو طعنتني أو قطعت رقبتي أو قطعت لساني و علقتني عارياً على باب زويلة فلن اموت ، لا أحتاج إلى الطعام أو الشراب ، لا أحتاج إلى التخلص من فضلاتي ، لا أحتاج إلى النوم ، لست فيزيائياً .

لا أعرف إلى أين أذهب و متى أذهب ! كل ما أفعله هو المشي من أجل المشي ، الرقد من اأجل الرقد ، الوقوف من أجل الوقوف ، متجهاً إلى المجهول دون مراد مسبق ، حقيقتي و حقيقة ما أنا متجهٌ إليه عبارة عن زجاج يشوبه الضباب ، و لا تكاد ترى عبره شيئاً ..

من أنا و إلى أين أنا ذاهب لا أعرف و لن أعرف ، لا أريد شيئاً  و لا أعرف إن كنت موجوداً أم أنني بعض جزيئات الرمال  تتقاذفها الرياح دون كلل ، لماذا أنا موجود ؟ كلها أسئلة راودتني هذه الليلة ، الليلة التي وعيت فيها و استيقظت وسط الصحراء ، نفس الليلة التي أنا فيها الآن نفس الليلة التي تأبي الفناء ، تلك الليلة التي تأبى شروق قرص الشمس ليتوج على عرشه وسط السماء الملبدة بالغيوم ، الشمس التي لم أرها لكنني أعرفها .

أنا متأكد أن الذي أمامي ليس سراباً و ليس خيالاً ، إنه حقيقي .. بشريٌّ يقف أمامي على مرمى بصري ، كأنه كان ينتظرني ، قال بصوته النقي الخاشع بهدوء مخيف :

” خذ هذه و ارتديها كي لا تلفت الانتباه ، فالناس هنا لا يرون شخصاً عارياً كل يوم “

و مد يده بملابس تبدو عربية ، و أخبرني أن أغطي وجهي ، و أردف يقول :

” أعرف من أنت و إلى أين عليك أن تذهب ، لكن لا يمكنني أن أخبرك إلا عن مكان وجودك الآن ، أنت تقف وسط رمال العرب ، أنت في جزيرة العرب ، في أراضي الحجاز ، اتجه كما تخبرك قدماك .. لا تتوقف ، اتجه كما تخبرك حواسك .. لا تفكر ، فقط اتجه إلى ما تقودك إليه قدميك ، و عندما تصل ستعرف من أنا “

و اختفى وسط رمال الصحراء بدون أي أثر ، بدون أن يعطيني فرصة للحديث ، تغوص قدمي في الرمال كلما خطوت خطوة إلى الأمام ، الشمس تشرق و تغيب ، تشرق و تغيب و و .. تعيد الكرة مراراً و تكراراً دون هوادة ، دون توقف ، في أبدية لا نهائية ، تشرق تغيب تصعد و تسقط كالأمم و الحكام ..

كم مضى من ساعات ، كم مضى من أيام ، كم مضى من أسابيع و شهور و أنا أتقدم دون توقف ، دون راحة ، قدمي تمشيان دون توقف ، لم أقف منذ وعيت على هذا العالم ،
هل هذا سراب ؟! لو كنت فانياً لقلت أن هذا سراباً .. مدينة ذات تصميم عربي و تطل على البحر ، الكثير من البشر و الكثير من الأسواق و البيوت و المباني ، كانت تلك هي أول مرة أرى فيها ما يسمى بالـ (مدن) ..

دخلتها و تقدمت على نفس الخطى التي أمشي بها منذ أسابيع و شهور ، حتى وصلت إلى ساحل البحر ، ظللت واقفاً منتصباً في مكاني ، أمامي زرقة البحر و عظمته ، مضت ثلاثة أيام ، ثلاثة ايام أقف فيها كوقفة أوزوريس منتصباً كالعود ، كأنني عصى موسى تنتظر انفتار البحر .

هل خدعني الرجل أم سيأتي ؟ ربما أجل و ربما لا ، لماذا وثقت به لا أعرف  ، هذا ما قاله لي عقلي ، أو ربما قلبي

– لماذا تقف هكذا يا رجل ، أنت تقف هكذا منذ ما يقارب اليومين و لم أرك تتحرك قط
– كيف أعبر المحيط ؟
– يوجد ميناء قريب ، فقط امشي بمحاذاة البحر و ستجده
– أريد عبور المحيط بقدمي
– أعد ما قلته أرجوك ، بالفعل يبدو أنك مجنون ، فنظراتك الجامدة تلك لا بد أنها لمجنون ، أرجوك ابتعد من هنا فأنت تخيف المارة
– حسنا

الماء بارد يحيط بقدمي ، يشعرني بأنني أمشي وسط الجليد ، لا يمكنك تخيل البرودة ، حتى و أنا لست فانياً فالمياه باردة ، حتى و لو كنت في وسط شهر أغسطس الحار فستشعر ببرودته ، و كأنه يريد أن يخبرك بقدرته و عظمته ، تغلب على شمس رع و حرارتها ، تغلب على شدة الحرارة الحارقة و ثلج قدمي المتورمتان التي شوهتها رمال الصحراء الحارقة ، الرمال التي تركع خشوعاً لبرودة تلك المياه ، و تخفي حرقتها و حرارتها بثلجها المهيب .

هذا هو الإحساس الذي راودني و أنا امشي على تلك المياه متقدماً دون هدى ، دون أن تغطس قدمي أكثر في المياه ، دون أن تنتشر برودتها في جسدي ، و دون أن ياكل ملحها قدمي ، الناس مجتمعون حول الشاطىء ينظرون إلي و أنا أمشي على المياه ، و كم من مرة ترى رجلاً يمشي على الماء ، يمشي حقاً على الماء !!

أين أنا الآن ؟ أين أكون ؟ حولي زرقة الماء تبتلع كل ما حولي ، لا سراب لا شيء ، قدماي تأبى الحراك ، هل هذا هو المكان المنتظر ؟ هل سأقابله هنا ؟ هل سيأتي الشيخ أم أنني سأظل واقفاً ؟ هل سارأه قبل الممات ، هل أنا قابل للموت من الأساس ؟!

” لا تفكر كثيراً ، لقد وصلت إلى ما كنت تريد ، أن تصل هنا هو المكان الذي قادتك إليه قدميك وسط المحيط الهندي ”

قالها الشيخ الذي ظهر فجأة ثم أكمل :

” لن أخبرك من تكون أو من أين جئت ، أنت سقطت و من حيث سقطت ستعود ، لكن قبل العودة يجب الاتجاه .. اذهب إلى مصر ، و هناك ستعرف من أكون و إلى أين عليك الذهاب “

فقلت :
” كيف أذهب إلى مصر ، و أين هي ؟ “

لكنه لم يرد ، لقد اختفى فجأة كما ظهر ، لم أعرف هل سأقابله ثانيةً أم لا .

سأتجه إلى مصر ، لا أعرف كيف أو أين علي التوجه ، الشمال أم الجنوب ، إلى الشرق أم الغرب   قدماي تقوداني إلى الأمام ، و تبتلعني زرقة المحيط ، و أختفي وسط الضباب ، الشمس تشرق و تغيب فيعم المساء   فتشرق بنور الفجر لتملأ الدنيا نوراً.، لتغيب في نهاية الأمر لتشرق ثانية ليعم النور ..

كم مضى علي و أنا أعبر المحيط بقدماي العاريتين ؟! كم مضى علي و أنا أتجه إلى الأمام دون توقف ، كم مضى علي و أنا على هذه الحال ، أيام ، أسابيع ، ربما أشهر و أنا أتجه إلى الأمام .. هل سأرى اليابسة ثانيةً ؟ هل ستلمس قدماي الرمال ؟ لا أعرف ماذا أفعل ، هل أقف أم أتابع التقدم ؟ هل أغير الاتجاه أم أتابع التقدم إلى الأمام ؟

أسئلة كثيرة ظلت في عقلي حتى وصلت إلى اليابسة ، إلى المكان الذي أقف عليه الآن ، و تابعت التقدم دون أن أتوقف و دون أن ألتفت لصوت طلقات النار من خلفي أو للقتل و البكاء و العويل ، أمشي وسط الانفجارات و العصابات ، لا يرف لي جفن ، و لا يهم إن كانوا يموتون جوعاً أو قتلاً أو ذبحاً ، ما يهمني هو الوصول إلى مصر ، هذه غايتي ، هذا ما أريد الوصول إليه ، هذا هو طريقي .. كم من شخص حاول قتلي بدون سبب مع أني لست طرفاً في قتالاتهم السخيفة ، يقولون أنني في القرن الأفريقي ، و يبدو أنها قريبة من الحبشة ، الحبشة التي ستوصلني إلى الأراضي المصرية ، بحيرة فكتوريا تلك البحيرة التي تغذي أكثر من عشر دول بالمياه و من أهمها مصر .. مصر التي زُيِّنت بإسم النيل و اشتهرت به أكثر من أراضي المنبع نفسها ، مصر الدولة الأكثر استخداماً و استفادة من النيل منذ أقدم الأزمان ..

تركت أراضي الصومال مشتعلة بحروبها و قتالاتها ، و اتجهت إلى أراضي الحبشة أو ما تسمى الآن أثيوبيا ، من يصدق أن أكسوم قامت هنا منذ ألفي عام و يزيد ، الامبراطورية الضخمة الغنية أصبحت أثيوبيا الهزيلة الفقيرة !!

” لا تلمس مياه النيل المقدسة و لا تقترب منها حتى ، خذ الطريق الغربي و اتجه نحو الشمال و سأقابلك حينما تقف قدماك ” قالها صوتٌ آتي من السماء ..

كم مر من الزمان و أنا أعبر الطريق إلى مصر ، شهر ، شهران ، عشرة أشهر لا أعرف ، و لا يمكنني الجزم ، و لا أريد ان اعرف ، لقد عايشت رمال الصحراء و فارقتها مرات و مرات و تقدمت كثيراً و قد بدأت قدماي تدميان من كثرة احتكاكهما بالرمال ، لقد بدأت أنزف دماءً سوداء اللون ، تحول الرماد الى رماد محترق ، و بدأ ردائي الأبيض الناصع يحول إلى أسود قاتم ، و توقفت قدماي تأبى الحراك و تأبى الوقوف ، لأقع على جانبي و عيناي تدمعان دماء ، هل تلبّسني أحد الجن أم إنها نوبة صرع تصيب جنسي الذي لم أعرفه ؟!

حاولت الزحف لكن يداي تأبيان الحراك ، هل احتضر ؟ هل أموت ؟ ما أجمل الموت لو أتى ، لست فانياً و لست خالداً ،
الرؤية ضبابية وسط دموعي الحمراء التي غطت عيناي و وجهي .

” استيقظ و لا تدّعي الموت ، إن مياه النيل حارقة لك كالحمم بالنسبة للبشر ، قلت لك لا تلمس مياه النيل المقدسة و إلا احترقت و فنيت و تحولت إلى رمادٍ تدوس عليه البعير و تبول عليه الإبل و يبزق عليه بني البشر ” قالها بنبرة غاضبة

ثم أردف يقول :

” لقد اضطررت لجرك إلى هذا الدير لتسترخي “
” هل أنا في مصر ؟ “
” أجل و بعيد كل البعد عن النهر المقدس كي لا تفنى”
” من أنت ؟ “
” أنا خيميائي “
” ماذا تريد مني ؟ “
” لا يمكنني التكلم ، يجب أن تتابع رحلتك إلى القدس و هناك ستعرف من أين سقطت و لماذا “
” القدس ؟ “
صمت …

اختفى الشيخ كما ظهر ، لم يعد غريباً تصرفه ، و لم أعد غريباً على هذه الأرض الفانية ، أناس يرتدون السواد و يرتدون عباءة تخفي وجوههم ، تكاد تظهر أفواههم ، و بدؤوا بترتيل بعض الأناشيد باللاتينية بصوت غامض و مخيف يقشعر له بدنك كما يقشعر من ملامسة المياه الباردة ، يلتفون حولي و يرقصون يغنون يرتلون .. يموتون ، تسعة جثث ناضجة ماتت للتو ، بكاء و عويل يملأان المكان ، و يترامى صداه على بعد أمتار و تشتعل النيران من العدم كالشيخ ، بنورها الأسود القاتم من على شموع سوداء لا تذوب .

تقدمت ببطء أبحث عن الباب أريد الخروج من الدير بأقرب وقت ممكن ، أحس بالإعياء كلما بقيت في الدير ، يجب علي الخروج قبل أن….

استيقظت لأجد نفسي أمام صرح كبير تخشع له الأرض من حوله ، و تهابه الطيور لعظمته ، الصرح القديم قدم الزمان ، الصرح الذي مر عليه ما يزيد عن أربعة آلاف عام ، الهرم الأكبر يقف منتصباً في هيبة و جلال و عظمة ، ما أجمله بعيداً عن من لوثوه ، بعيداً عن الفانين ..

” اتجه إلي ، عندها ستعرف من أين سقطت و لماذا ، انسى الشيخ ، لم يكن يريد مساعدتك كل ما أراده هو دماؤك “

قالها صوت قادم من الهرم الأكبر ، صوت شامخ شموخ الهرم نفسه ، صوت يدل على القدم و الكبر و الحكمة ، صوت مهيب يملأ صداه المكان و يعم الصمت إجلالاً له ، اتجهت – ببطء لا أعرف سببه – إلى الهرم ، كلما تقدمت عرفت أنه أكبر و أعظم مما توقعت ، يتضخم كلما اقتربت ، و يعلو كلما تقدمت ، تفتح البوابة ببطء مهيب ، و يشع نور براق من داخله ينير الظلام المحيط بي ، و يشدني إليه لأدخل ..

أتقدم أتعمق بداخله بين أروقته التي تحكي أربعة آلاف عام من تاريخ ما مر به الهرم من أحداث و ما تعرض له من كوارث ، كم من حجر أخذ منه لبناء سور مجرى العيون ، كم أخذ منه لبناء قلعة صلاح الدين ، كم أخذ منه لبناء البوابات و البيوت و المساجد و الكنائس و قلاع ، كم حجر سقط عند تعرضه للزلزال ، كل هذا لم ينقص من عظمته شيئاً ، ظل قائما و سيبقى منتصباً مهما سقطت و قامت دول ، سيبقى قائماً إلى أن تطوى الأرض و السماء …

الأروقة تحكي ما لا يجب أن يعرفه الفانون ، الكثير من الأسرار ، الكثير من الأحداث تحكيها الأروقة ، غرفة السجلات التي تحكي كل تاريخ و أحداث العالم ، ما حصل و يحصل و سيحصل ، الكثير و الكثير ، ستجن إذا عرفت كل هذا ، ستجن إذا عرفت لماذا قتل آخر قياصرة روسيا ، لماذا قامت ثورة فرنسا ، الكثير بل أعمق من هذه الأسرار لن أستطيع وصفها قبل خلق الأرض و بعدها ، هنا في هذا الصرح العظيم .

أقف وسط غرفة السجلات ، كل شيء عن الكون ، كل شيء عن العالم أمامي ، مصير البشر ، وجودهم و سببه ، لماذا وجدنا و إلى أين سنذهب ؟ كل الأجوبة أمامي ، ماذا حدث و يحدث و سيحدث .. أمامي ، لكنني لست موجوداً فيها ، إنها ما تسمى بالسجلات الأكاشية ، السجلات التي كوّنها الأثير لكل شيء ، أنا لست موجوداً فيها ، لماذا أنا لست موجوداً ؟ لماذا أنا ؟! ..

” هدئ من روعك يا كارون “
” من انت؟ “
” أنا آمون ، أنا من أعرف عنك كل شيء ، أنا من قادك إلى هنا ، أنا من جعلك تأتي إلى مصر ، أنا من أرسل إليك الخيميائي ليقودك إلي ، لقد سقطت أنت من السماء ، لقد سقطت لأنك اطلعت عليها ، اطلعت على السجلات و عصيته ، أنت من اطلع عليها ، و بسببك استطاع البشر الاطلاع عليها ، لقد قام الكثيرون بسببك بالاطلاع عليها ، منهم من انتحر ، و منهم من حكم ، من غيروا التاريخ ، من عظموا من قتلوا من فجروا أنفسهم بقوة الشاكرا ، قوة الغضب ، لقد اطلعتهم على كل شيء في العالم ، و جعلتهم يعرفون الكثير ، لقد سقطت من عدن لهذا السبب “
” أتقصد أنني…”
” أجل “

لقد تذكرت كل شيء ، تذكرت كل ما فعلت ، كل ما اقدمت عليه نفسي من عصيان و ذنوب و خطايا ، لا يمكن الغفران لي ، أصبحت كلوسيفر اللعين في الأرض ، لكنني لست موجوداً ! لقد خرج اسمي من السجلات !! إلى أين أذهب الآن ؟؟
قلت دامعاً و قد بدأت أبكي :

” إلى أين أذهب الآن ؟ لم أعد موجوداً ، لقد خرجت من السجلات الأكاشية إلى الأبد “
” اذهب الى القدس ، هناك قد تنال الغفران و تولد كفاني بائس ، و إن لم تنله فيمكنك الارتباط بأحد الفانين حتى موته و الاهتمام به ، إن لم تستطع فلقد انتهى أمرك “

بدأت أعوي و أبكي بغزارة ، وجدت نفسي خارج الهرم ، و بدأ الريش الأسود يتطاير حولي .

” حلق بأجنحة الغراب الملعونة و قد سودتها الخطايا بعد أن كانت بيضاء ناصعة ، اذهب بها الى القدس ” قالها آمون قبل اختفائه ..

السماء لا تطيقني ، و تمقت طيراني فيها ، تمقتني بشدة لا توصف ، الأرض تمقتني ، تكره مشيي عليها ، عدن تمقتني و تمقت تنزهي فيها ، تمقتني بشدة ، لم يعد لي مكان ، هل من فرصة للغفران ؟ لم يتبقَ لي غير القدس ، و ريش الغراب يتطاير في السماء كلما رفرفت بجناحي الأسودان في السماء الملبدة بالغيوم ، أكاد أصل إلى القدس ، الأراضي المقدسة التي رأت الكثير من الويلات منذ وجودها .. من فرس و روم ، و من الكثير من الحكام ، عاشرت الكثير من الحضارات و الأديان ، و قدمها قدم الزمان ، غزاها الكثيرون و سكنها الملايين عبر السنين .

ضربتني السماء بصواعقها و أسقطتني على الأراضي المقدسة ، أزحف إليها أريد الغفران ، أريد أن أعود إلى السجلات ، أريد أن أعود ..

القبة الذهبية تزين المدينة المقدسة ، صوت الأذان ، أجراس الكنائس ، الصلبان و الأهلة ، البيوت القديمة و أروقة القدس العتيقة و جدرانها الشامخة ، أراها و دموعي تبرق بشدة ، إنها القدس الجميلة ، القدس التي ستعطيني الغفران ، القدس التي ستعطيني الفرصة الأخيرة ، إنها لقدس ..

اقتربت منها ، تقدمت أريد دخولها ، أنا على الباب ، أنا أكاد أدخل ، و لكن لماذا تأبى دخولي ؟ حاجز شفاف يقف بيني و بين المدينة ، لا يمكنني الدخول ، أنادي بأعلى صوتي ، بكل ما لدي من قوة ، لكن لا أحد .. الكثير من البشر الفانون يعبرون خلالي ، و كأنني لست موجوداً !!  لست أثيراً و لست جماداً ، لست فيزيائياً و لست بيولوجياً ، لست بشرياً لست شبحاً ، لست جنياً أو شيطاناً ..

لا يمكنني العبور ، لا يمكنني الدخول ، لا يمكنني الاقتراب ، لا يمكنني لماذا ؟؟

” المدينة أقدس من دخولك إليها ، أنت فاسد ، الخطايا تكاد لا تخلو منك ، عد أدراجك ، لقد تم حذفك من السجلات ، لم يعد لك وجود ، لم يعد كيانك حي ، لن تعود إلى عدن ، لن تفنى أو تموت أو تعيش ، ابحث عن فاني تعيش معه حتى فنائه “

سقطت أبكي بغزارة ، و أعوي وسط صوت الأجراس و الأذان ، و مشيت بلا هدى ، أعود أدراجي لكن إلى أين .. أين أجد الخلاص ؟؟ من أنا ؟

                                       النهــاية

هوامش موقع كابوس :
 السجلات الأكاشية : هي سجلات ضخمة توثق كافة الأحداث التي مر بها الكون كله ، و يقال أن الأثير هو من قام بإنشائها ، و يطلق عليها أيضاً اسم كتاب الحياة .. و يزعم بعض العرافين أنهم استطاعوا الدخول إلى تلك السجلات ، و هناك من ادعى أنه استطاع الوصول إليها عن طريق النغمات الرتيبة للتراتيل أثناء الصلاة ، أو بالتعمق أثناء التفكير أو بعزل الجسم عن العالم المحيط به و هو ما يعرف بالإسقاط النجمي .. طبعا لا دليل علمي على صحة وجودها و يبقى الحديث عنها مجرد مزاعم .

تاريخ النشر : 2016-12-15
guest
34 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى