تجارب ومواقف غريبة

مذكرات زول ساي ـ محاكمة الشيطان

بقلم : فيصل الدابي المحامي – قطر
للتواصل : [email protected]
مذكرات زول ساي ـ محاكمة الشيطان
هل بالإمكان محاكمة الشيطان من قبل البشر ؟؟

في عام 1995، كنت أعمل بالمحاماة في شمال السودان ، ذات صباح صيفي ساخن ، نظرت باستياءٍ بالغٍ لساعة الحائط العتيقة و أنا جالس في مكتب المحاماة الكائن بمدينة “القولد” ، فأكدت لي عقاربها الضخمة أن الوقت يقترب من الحادية عشر صباحاً ، همست لنفسي بضيق شديد أثناء مغادرتي للمكتب و الذهاب للمحكمة لحضور جلسة في إحدى القضايا الجنائية ..

كل البشر، بما في ذلك القضاة ، المحامون و رجال الشرطة ، لا يحبون المحاكم بسبب قاعاتها المتجهمة القاتمة ، و جوها المشوب بالكآبة و التوتر ، و إجراءاتها الطويلة المعقدة ، و لا يرغبون في قرارة أنفسهم في الدخول إليها أو الوقوف أمامها ، لا كموظفين و لا كخصوم و لا كشهود و لا كحراس أمن و لا حتى كمجرد متفرجين فضوليين ، و لولا الضرورة القصوى ما دخلها أحد من العالمين ! لماذا ؟ الإجابة هي ببساطة : لأن المحاكم تكشف الجانب القبيح و المظلم من الإنسان ، المحكمة الجنائية تختص بالفصل في القضايا الجنائية الخطيرة كالسرقة و قتل النفس البشرية و الإخلال بالأمن العام ، والمدانون قد يعاقبون بالسجن أو الإعدام .

المحكمة المدنية تختص بالفصل في المنازعات المالية المدنية ، كعدم دفع الأجرة أو عدم دفع ثمن الشراء ، و المحكوم ضدهم يُلْزمون بدفع الفلوس المحكوم بها ، أما المحكمة الشرعية فتختص بالفصل في قضايا الأحوال الشخصية كالطلاق ، و المحكوم ضدهم يلزمون بالتطليق و دفع النفقة ، و في كل الأحوال يتحطم كيان الأسرة الصغيرة و يدفع الأطفال الصغار ثمن حماقات الكبار بإفتقادهم لحنان الأب أو لحنان الأم أو لحنان الإثنين معاً !!

و لعل كل من هبّ و دبّ من البني آدميين يعرف أن المحاكم في كل بلاد الدنيا مخصصة لمحاكمة البشر فقط لا غير ، فلا تُوجد محاكم للحيوانات و لا تُوجد محاكم للشياطين ! و السبب واضح بالنسبة لانعدام المحاكم الشيطانية ، فالقرآن الكريم يؤكد عدم قدرة البشر على رؤية الشيطان و جنوده ، و علم الشياطين (Demonology) و هو العلم الحديث الذي يدرس عالم الجن و الشياطين بصورة منهجية علمية ، يؤكد أيضاً أن الجن و الشياطين أرواح محتجبة عن عيون البشر و لا يُمكن رؤيتها بالعين المجردة .

همست لنفسي و أنا على وشك الدخول لقاعة المحكمة :
أعتقد اعتقاداً جازماً أن هذا كله صحيح ، لكن “محجوب كان له رأي آخر ! من هو محجوب على وجه التحديدؤ؟! سؤال تصعب الإجابة عليه في كل الأحوال ..

الناس العاديون يصفون محجوب بأنه شخص ممسوس بعض الشيء ، و لكنه رجل صالح و ليس مجنوناً بأي حال من الأحوال .. أحد الأطباء النفسيين في الخرطوم زعم أن محجوب مصاب بالجنون الفرعي ، فهو عاقل في كل شيء إلا في موضوع واحد فقط هو “موضوع الشيطان” ، فما إن تأتي سيرة الشيطان حتى يفقد محجوب عقله ، و يتحول إلى شخصية مضطربة ، متقلبة ، جامحة لا علاقة لها بشخصية محجوب العادية الهادئة ، العاقلة و المتزنة .. أما محجوب نفسه فيصنف نفسه كأعقل العقلاء في العالم في كل الأحوال .

نعم .. لقد كان لهذا المحجوب رأي آخر ، فقد كان يعتقد اعتقاداً جازماً بأنه يُمكن فعلياً القبض على الشيطان أو ابليس و وضعه في قفص الاتهام ، و محاكمته أمام المحكمة الجنائية على مرأى و مسمع من الجميع بعد توجيه ملايين الاتهامات إليه ، و منها على سبيل المثال لا الحصر :

وسوساته الجنائية الشريرة لكل البشر منذ فجر التاريخ و حتى تاريخ اليوم ، و التي أدت و ما زالت تؤدي بشكل مباشر إلى إثارة الحروب الهمجية و ارتكاب جرائم القتل الجماعية و الفردية الوحشية ، و تخريب المدن و البيوت في كل مكان في العالم !

تهللت أسارير وجه محجوب دفعة واحدة عندما تخيل أن كل الصحف المحلية و العالمية قد فاجأت العالم كله عندما كتبت في صفحاتها الأولى و بالخط العريض ( إلقاء القبض على الشيطان الرجيم عدو البشرية رقم واحد ) ، ( المحاكمة التاريخية الكبرى للملعون الأكبر إبليس) ، (تنفيذ حكم الإعدام بالشيطان الرجيم في ميدان عام ) ، ( احتفالات صاخبة في جميع أرجاء الكرة الأرضية بمناسبة التخلص النهائي من الشيطان ) …

تخيل محجوب تخصيص كل الصفحات الداخلية لكافة الصحف المحلية و العالمية للخوض في التفاصيل الشيطانية التي لا يعرفها أغلب البشر ، مثل معنى كلمة شيطان التي تعني (المتمرد على الحق) ، و معنى كلمة إبليس التي تعني (المطرود من رحمة الله) ، و مثل المزاعم القديمة التي تؤكد أن الاسم السابق لإبليس هو “عزازيل” ، و أن لقبه القديم هو أبو كردوس !!

أطلق محجوب ضحكة عالية عندما تخيل مشاعر الذعر و الارتباك التي اجتاحت نفس الشيطان القاتمة عند احتجازه في قفص الاتهام ، و سماعه بقرار الإدانة و الحكم عليه بالإعدام !! لكن محجوب استيقط فجأة من تخيلاته الشيطانية و طرح على نفسه سؤالاً واقعياً مزعجاً انفجر على النحو الآتي :

لكن كيف يُمكن العثور على الشيطان الرجيم حتى يتم القبض عليه بواسطة الشرطة البشرية و هو أخفى من الأرواح ، و أسرع من الضوء و الرياح ؟! رد محجوب على نفسه قائلاً : لا بد من تطوير الاجراءات الجنائية ، و أوامر القبض و أوامر التفتيش عبر استخدام أشعة الجن الأزرق ، و أشعة الجن الأحمر ، و الاستعانة بجهاز الجي بي اس اللامرئي للبحث عن الشيطان و تحديد موقعه ، و من ثم القبض عليه و تقديمه للمحاكمة ، ثم الحكم عليه بالإعدام و إراحة البشرية من شره العظيم المتطاير في جميع أنحاء العالم !

و لعل اعتقاد محجوب بإمكانية القبض على الشيطان بصورة فعلية مادية قد ازداد رسوخاً بعد أن قرأ كتاباً بعنوان (حوار صحفي مع الجني المسلم) ، و الذي ورد فيه أن الشيطان يستطيع أن يتجسد في صورة إنسان أو حيوان ، و أنّ الجنّ المتمرسون يستطيعون التشكل في هيئات أخرى ، و أن مدة التشكّل في هيئات حيوانية أو بشرية أخرى قد لا تزيد عن أربع دقائق في كل حالة على حدة !

فبعد قراءته لهذا الكتاب ، أكد محجوب مراراً و تكراراً أن مدة أربع دقائق كافية جداً للقبض على الشيطان و هو متلبس بجرم التشكل المشهود ، و لهذا السبب انهمك محجوب في وضع الخطط التكتيكية ، و رسم الأهداف الاستراتيجية التي ستؤدي في نهاية المطاف إلى إلقاء القبض على الشيطان الرجيم و محاكمته و إعدامه لترتاح البشرية من شره المستطير ، و يعم الأمن و السلام في جميع أرجاء العالم ، و تنعم رؤوس البشر بالهدوء الدائم الذي لا تعقبه أي عواصف شيطانية مفاجئة !!

استشاط محجوب غضباً و شعر بإهانة شخصية عندما اطلع على قصة الرجل الابليسي العجيب ، و التي مفادها أن رجلاً يابانياً عنيداً أصر على تسمية ابنه بكلمة “أوم” و التي تعني “الشيطان” في اللغة اليابانية ، ووعندما رفضت سلطات المواليد طلبه ، تطاير غضبه الأصفر في جميع الاتجاهات و قاتل قتالاً قانونياً و اسعاً ، فاستعان بمحامٍ ، و طعن في قرار الرفض ، إلا أنه خسر الطعن في القرار الإداري أمام محكمة الموضوع ، ثم أمام محكمة الاستئناف ، و من ثم قدم طعناً بالنقض أمام المحكمة العليا اليابانية ، التي أصدرت حكماً نهائياً نقضت بموجبه حكم محكمة الموضوع ، و جاء في منطوق الحكم ” أن الأب يملك حرية شخصية مطلقة في اختيار اسم ولده ”

و هكذا نجح ذلك الياباني غريب الأطوار في إطلاق اسم الشيطان على ابنه في نهاية المطاف ، غمغم محجوب قائلاً : لعنة الله تغشاك ، و تغشى إبنك ، يا مجرم الحرب الشيطانية العالمية !

شعر محجوب بانزعاجٍ بالغٍ عندما قرأ مقالاً إبليسياً عن طائفة عبدة الشياطين ، و الجرائم البشعة التي يرتكبونها في سبيل إرضاء الشيطان ، حيث ينكرون وجود الله ، و يؤلهون الشياطين ، و يؤمنون بقانون كراولي أو قانون الشيطان أو قانون الحرية المطلقة ( أفعل ما تريد ) الذي يحرم كل المحللات و يحلل كل المحرمات ، كزنا المحارم و ذبح البشر ، و يمنح الانسان سلطة اختراع قانونه الخاص ، و أن يعيش و يعمل و يفكر و يتكلم و يأكل و يشرب و يحب و يلهو و يرتاح كما يريد ، و أن يقتل خصومه أو يقتل نفسه في اللحظة التي يقررها و بالطريقة التي يريد !

غمغم محجوب قائلاً : لا بد من محاكمة الشيطان ، و محاكمة عبدة الشيطان ، و محاكمة المحكمة اليابانية العليا نفسها بتهمة المدافعة عن الشيطان ، و إدانتهم جميعاً لتخليص البشرية من هذا الخبث الشيطاني الخطير المنتشر في جميع الاتجاهات !

في منتصف نهار حار يتطاير منه الشرر ، قابلت القاضي الجنائي بالمحكمة الابتدائية بمدينة القولد بشمال السودان ، فقال لي القاضي و هو في قمة الدهشة و الذهول :

لقد جاء محجوب في هذا الصباح و قدم لي بلاغاً ضد الشيطان !!
قلت له بدهشة : و ماذا فعلت يا مولانا القاضي ؟!
قال لي القاضي بعد أن أطلق ضحكة مكبوتة : لقد قمت بشطب البلاغ العجيب ، و أخبرته باستحالة القبض على الشيطان ، و استحالة محاكمته !!
سألت القاضي بفضول : و ماذا فعل محجوب بعد ذلك ؟!
قال لي القاضي بدهشة متجددة : غضب محجوب و لم يقبل بهذا القرار ، ثم علمت أنه قام بتقديم استئنافٍ ضد قرار شطب البلاغ لدى محكمة الاستئناف بمدينة “دنقلا” ، ثم نما إلى علمي أن محكمة الاستئناف بمدينة دنقلا قد قامت بدورها بتأييد قرار شطب البلاغ ضد الشيطان ، فلم يقبل محجوب بذلك أيضاً و قام بتقديم طعن بالنقض أمام المحكمة العليا بالخرطوم ، مطالباً بالقبض على الشيطان و محاكمته و إعدامه ..

ثم استطرد القاضي قائلاً ووهو يبتسم : لا أشك لحظة واحدة في أن أمخاخ قضاة المحكمة العليا بالخرطوم ستتطاير في الهواء بمجرد اطلاعهم على موضوع الطعن الشيطاني العجيب ! قال محاكمة الشيطان قال !!!

فيصل الدابي/المحامي

تاريخ النشر : 2017-01-07
guest
13 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى