أدب الرعب والعام

الزاحف

بقلم : توتو – مصر

الزاحف
الزاحف .. يفتك بكل شخص يجرؤ على الاقتراب منه

بدأ المشهد برجل يجري و ملابسه متسخة بالطين و آثار البلل جراء المطر ، و كان يوجد جرح غائر في قدمه ، و على ما يبدو أنه خائف من شيء ما يطارده وسط ظلمة هذه البحيرة الكئيبة !! و فجأة سقط من شدة جراحه و تعبه و استقر على شاطىء البحيرة و كأنه يعلن استسلامه لوضعه الميؤس منه و يرفع الراية البيضاء ..

الجو كان مظلم للغاية ، و السماء كانت تمطر بغزارة ، و فجأة أخرج الرجل ورقة و قلم من سترة شخص مجهول كان يستلقي على الأرض بجانبه و هو فاقد لوعيه !! و كتب فيها رسالة إلى أحدهم و قال في نصها تحديداً :

أحياناً قد تخدعنا المظاهر و يتضح الباطن ، و يتحول الحال إلى محال ، و يتحول الصياد إلى فريسة ، و ينقلب الوضع رأساً على عقب ، قد نعبث بالأشياء دون أن ندري ما هي و ما تكون ، فالطبيعة البشرية حتمت ذلك .. لأنها منذ قديم العصور كانت سبباً لإيذاء أي كائن حي يقع تحت براثنها و في وسط صفحات تاريخها الأسود ، تزيننا بالعقل و أمسكنا بنادقنا و رشاشتنا لمطاردة هذا المخلوق ، لكنه أبى أن يموت ، و على ما يبدو أن الموت ينتظرني الآن .. ثم يضحك كاتب الرسالة ويقول :

” ها أنت أيها الضخم أهلاً بك ، لا ترسلوا المزيد من الصيادين إلى غينيا .. ريكيوم الكبير هناك ! “

توقيع ..

توماس ويليام هازرد .

* * *

من بعيد .. و في بحيرة كبيرة في غينيا الاستوائية تحديداً ، نرى مجموعة من القوارب الخشبية تجتاح هذا النهر بضراوة ، بدت كأنها أسماك جامحة تجتاح النهر غير مبالية بشدة التيار الجارف ، كان على كل قارب منها مجموعة من الرجال البيض الأوروبيون ، و معهم بعضاً من أصحاب البلاد الأصليين ( الأفارقة الغينيين ) ، كانوا معهم تحديداً على متن هذه القوارب لإرشادهم لأماكن تواجد الأسماك الكبيرة و القواطير النيلية الضخمة التي تشكل مطمعاً كبيراً عند الصيادين الغرباء ..

طبعاً الغرض كان معروفاً و واضحاً من هيئة هؤلاء الرجال ، رجال من أوروبا و أمريكا تركوا رخاء بلادهم ليأتوا إلى أفريقيا وسط أنهارها العاتية و جوها شديد البؤس .. برأيك لماذا أتوا إليها ؟! طبعاً لم يأتوا إليها من أجل سواد عيونها و لا طيبة أهلها ، بل أتوا من أجل غرض واحد فقط ( الصيد ) ، نعم .. في كل موسم تقريباً يتهافت الصيادون على بلدان أفريقيا أجمع و غينيا تحديداً ، من أجل حصد أرواح أكبر عدد من الحيوانات البرية عموماً ، و قتلها بأبشع الوسائل و الطرق ، و قد يأخذوها إلى بلادهم من أجل التباهي بها أمام الكل هناك ..

القبائل هناك تقدس بعض الحيوانات و تتخذها كرمز مقدس لها ، و لكن البعض لا يهتم بشيء أكثر من اهتمامه بإشباع غريزته السادية بداخله ، نعم .. الغريزة التي ولد بها البشر منذ زمن بعيد جداً و هي ( القتل ) .

* * *

هدأ التيار قليلاً و بدأت القوارب تمشي ببطء و كأنها تترصد شيء ، و هناك نجد صياد محنك أبيض البشرة ، و أشقر الشعر ، اسمه توماس هازرد .. يقترب من الدليل الأفريقي الذي يقف معه في نفس القارب ليهتف قائلاً له :

– هذا النهر جميل جداً ، و مياهه نقية أيضاً ، ما اسمه عندكم ؟

يجيبه الرجل الأسود مبتسماً :

– نهر الأماكندي .. و هذا النهر مقدس للغاية عند قبيلة الأماكندي عندنا ، و ممنوع فيه الصيد ، سأرشدك طبعاً لطريق الصيد ، لكن لا أعدك أن تصتاد شيئاً من هنا ، لأنه كما قلت لك .. النهر مقدس .

يهتف توماس و هو يضحك ضحكة ساخرة مستهزئا بجهل هذه القبيلة التي تعيش في مجاهل أفريقيا :

– مقدس ؟! هل هناك بشر عاقلون يقدسون نهر ؟!! بالله عليك غير هذا الكلام الفارغ .

– نعم يا سيدي للأسف ما تسمعه حقيقي ، النهر مقدس عند قبيلتنا ، و من يمس به أو بحرمته يعتبر منبوذاً لدى القبيلة ، لطالما كان هذا النهر ملاذاً لنا للهروب من الحر الشديد ، و أيضاً هو يساعد على نظافتنا و نظافة الأوعية التي نأكل بداخلها ، لأن النساء يتبركن به بواسطة غسل أوعية الطعام بمياهه لزيادة البركة عليها و على الطعام الذي يوضع فيها .

يضحك توماس ضحكة ساخرة و يقول بتبجح واضح :

– لقد سمعت أن هذا النهر مليء بالتماسيح و أسماك الباركودا ، و أكيد هي تهاجمكم و تقطع عليكم يومكم اللطيف هنا أثناء الاستحمام و غسل الأواني .. أليس كذلك ؟

يجيبه الرجل الأسود الذي يسمى محمودي و يقول :

– نعم .. و لكن مهاجمة التماسيح لنا هنا يعتبر غضباً من النهر ، و علينا أن نلقي له قرابين ليرضي علينا ، هكذا هي العادات عندنا دائماً .

يضحك توماس ضحكة بملء شدقيه و يهتف قائلاً :

– دعك من هذا الكلام التافه ، سنصطاد هنا أو في أي مكان ، لا تنسى أنني أدفع لك ، و هناك الكثير من الرحلات التي أنظمها هنا ، أنا اعرف جميع الأمريكان في بلادي على أفريقيا السمراء الجميلة .. و ليس على جهلها الأسود الذي يطال الرؤوس ، لو أخبرت كل من أجلبه هنا للتنزه عن كلامك هذا ، سيعتقد الجميع أنكم جهلة ، و سيمتنعون عن المجيء لزيارتكم ، لهذا عليك أن تخرس الآن على الفور .

ينظر الرجل الأسود إلى توماس بإمعان ، و يتفحص وجهه و كأنه يريد أن يلكمه ، و بعد فترة من التحديق أدار وجهه للناحية الأخرى و كأنه لا يعجبه كلام هذا الصياد الضخم المتغطرس ، لكنه لم يستطع أن يتفوه ببنت شفه ، لأنه يدفع له الكثير من المال ، و أيضاً الاقتصاد الأفريقي في غينيا يعتمد على الأفواج الأجنبية التي تأتي لزيارة البلاد ، و صيد الحيوانات البرية هناك و هتك حرمة الطبيعة ، فطبعاً لا توجد مكاسب بدون بعض التنازلات ، و لو تطلب الأمر حتى أن تتحمل غطرسة الضيوف على أرضك .

فجأة يقطع حديث توماس والرجل الأفريقي محمودي صرخات الرجال البيض و هم يهتفون قائلين :

– توماس ها هو هناك .. أنظر إنه ضخم جداً و كبير ، هو ينظر إلينا بواسطة عينيه الطافية على السطح .. نل منه الآن

يصيح توماس قائلاً لهم بصوته الأجش :

– نعم إنه تمساح نيلي ضخم .. أخيراً ظهر لنا واحداً .

و بدون أي تردد قام توماس بملء ذخيرة بندقيته ، و قام بإطلاق طلقتين نافذتين في ظهر التمساح الذي كان ظاهراً للعيان على السطح ، و فجأة أخذ التمساح يتقلب داخل المياه من شدة الألم و أخذ يبعثرها هنا وهناك ، ثم سقط صريعاً بسبب الطلقات التي اخترقت جسده ، و انقلب على ظهره و طفا على السطح نافقاً على الفور بعدما اغتالته نفس الانسان القذرة الطامعة في التباهي .

يصرخ الرجال الأسود و يقول له :

– حذرتك و قلت لك أن الصيد ممنوع هنا !! أنا جئت بك إلى هنا فقط لكي أعرفك على النهر ، لماذا قتلت هذا التمساح ؟! هكذا ستجلب علينا اللعنة ..

ينظر إليه توماس نظرة جانبية حادة و يقول له بتبجح واضح :

قبيلتكم هي من منعت الصيد هنا ، لكن دولتكم تبيحه هنا أو في أي مكان ، و أنا أحترم القوانين و لم أتجاوزها كما ترى يا صديقي .

يجيبه محمودي منفعلاً :

نحن ليس لنا علاقة بالدولة ، قبيلتنا هي من حرمت الصيد في هذا النهر ، و عليك أن تحترم قوانين القبيلة و مقدساتها .

مقدسات !! هل سوف تتدعي و تقول أن هذا النهر مقدسات خاصة بقبيلتكم ، كلا هذا النهر ملكاً لخالقه أولاً و بعدها ملكاً لهذه الدولة ، لا تتبع سنة العربدة التي تتبعها معي الآن مع أحد غيري .. ثم يصمت قليلا و يتابع قائلاً .. لأنني لا أعدك أن يتركك حياً بعدها ، أخبرهم أنني أخذت تذكار من نهرهم هذا أنا و رجالي ، و أنا يا محمودي كما تعرف .. لا أحب أن أعيد التذكارات لأصحابها أبداً ، ثم يصمت قليلاً و كأنه يتحضر للفظ كلمة ثقيلة علي قلبه و يتابع .. لأن هذا يعتبر قلة أدب ، ثم يختم حديثه بضحكة ساخرة و ينزل من على القارب و قد أخذ يجر التمساح لينقله معه و هو ذاهب إلى بلاده .

* * *

و من بعيد .. خلف هذه الأحراش الوعرة تحديداً ، نجد رجلاً اتشح وجهه بالألوان التقليدية لدي القبائل الأفريقية ، و كان يراقب هؤلاء الرجال من بعيد و يترصدهم منذ دخولهم للنهر ، اقترب بعينيه منهم للغاية و أخذ يبحلق فيهم بشكل مريب ، و على ما يبدو أن ما حدث لم يعجبه أبداً .

* * *

قام توماس بنقل التمساح على إحدى السيارات التي كانت تنتظره في أخر البحيرة و قال لمحمودي هاتفاً :

شكراً على هذا التمساح الضخم ، و أعتذر منك لأنني لم أحترم قوانين قبيلتكم ، و لكن كما تعرف هذا أخر يوم لي هنا ، و هذا هو طبعي المعتاد ، و ربما أعود لاحقاً بأفواج أخرى من بلادي لرؤية بلدكم الجميلة .. أراك على خير يا صديقي .

ثم ينظر إليه محمودي و ينزل رأسه تجاه الأرض و يدير ظهره ، و يذهب دون أن ينطق و لو بكلمة ، لكنه تكلم بداخله و قال محدثاً نفسه :

ما كان عليك فعل هذا يا ابن العاهرة ، ستجلب علينا اللعنة للأبد ، أما أنت سترحل و ترتاح هناك ، و تتفاخر وسط النساء الشقروات في بلادك بصيدك لهذا المخلوق المسكين .

* * *

و في نفس الليلة .. نجد نفس الرجل الذي كان يراقب حديث محمودي و توماس يقترب من رجل أسود و ضخم كان يجلس على كرسي ، و أمامه نيران مشتعلة تتراقص حولها فتيات سمروات على وقع ألحان أفريقية ، و على ما يبدو أن هذا الرجل زعيمهم .. و كانت هناك خيام منتشرة حولهم بكثرة و مبعثرة هنا و هناك ، كانت مصنوعة من القش الغليظ و مخصصة للمعيشة ، كان منظر سكان القبيلة بدائي و كأن الزمن توقف عندهم في عصور ما قبل التاريخ ، و جعلهم يأبوا أن يدخلوا حياة المدن و الحضارة و الرفاهية و الوسائل الحديثة ، مازالوا قابعين بجهلهم بين طيات هذه الأحراش المخيفة المليئة بالوحوش المفترسة ، و عندما اقترب منه هذا الجاسوس باغته الزعيم قائلاً :

– ماذا حدث هناك ؟

– سيدي .. لقد قاموا بقنص و قتل تمساح من نهرنا المقدس .

فجأة ينظر إليه الزعيم نظرة مرعبة ، و قد اتسعت حدقة عينيه بشكل غريب ، و هو ممسك بكأس الشراب و قد قربه من شفتيه .. كان على وشك أن يرتشف القليل منه لكنه تراجع عن الأمر بسبب كلام جاسوسه و قال منفعلاً و قد توقفت الفتيات عن الرقص و توقفت الألحان :

– ماذا تقول أيها القرد القذر !! ، هل أنت مدرك معنى كلامك هذا أم أنك تهذي بسبب حمى أصابتك إثر عضة خنزير بري هائج ؟

يجيبه الرجل في خوف و رعشة أصابت جسده بشكل مفاجىء :

نعم يا سيدي .. قتلوا تمساح ضخم هناك ، كان قاطوراً ضخماً للغاية ، و على ما يبدو أنها من الإناث البالغة ، لأنه كما تعرف .. تجتمع إناث التماسيح كل فترة هناك لوضع البيض و حضنه في هذا الموسم بالذات ، و رأيت محمودي معهم و قد حذرهم قبلها ، لكن الرجال البيض لم يعطوا لتحذيراته أي اهتمام يذكر .

يهتف الزعيم و هو منفعل و قد كسر كأس الشراب الذي بيده بواسطة قبضته الضخمة :

– تباً لهم هؤلاء العابثين الحمقى ، سيدفعون الثمن غالياً بسبب فعلتهم الحمقاء تلك ، علينا أن نجمع من قبيلتنا أشد الرجال للاستعداد لقتلهم قبل أن يسافروا إلى بلادهم مجدداً .

و فجأة و بدون أي إنذار نجد صوت رفيع يصدر من بين جموع هذه القبيلة الذين احتشدوا لسماع كلام الجاسوس ، و قد ظهرت امرأة عجوز من بين هذه الجموع ، و على ما يبدو أنها صاحبة الصوت .. هذا الصوت الذي يشبه الصرير المزعج .. و قالت للملك بكل ثقة :

– أنا لدي الحل أيها الزعيم المبجل .. هدئ من من روعك ، الأمر لا يستحق ، نحن لسنا بحاجة للدفاع عن نهرنا المقدس بأنفسنا !!

هتف الزعيم قائلاً لها و هو مندهش و كأنه يعرفها مسبقاً :

– ياجا ؟! أين كنت مختفية طوال هذه الفترة أيتها المشعوذة المحنكة ؟! كنا بحاجة لك ولدوائك المعتاد الذي كان يشفي مرضانا ، ثم يصمت قليلاً و يتابع بعدها قائلاً و الحزن يملأ صوته .. لو تعرفين ماذا حدث لنا !

تهتف هذه العجوز الشمطاء ذات الشعر الأشعث و الجماجم البشرية التي تضعها كحلي حول رقبتها و تقول :

– عرفت كل شىء يا إيبولا ، أنت و قبيلتك ستظلون تحت رحمة هؤلاء العابثين للأبد ، و الدولة لن توفر لكم طريقة قانونية للدفاع عن مقدساتكم ، لأنها تراكم قوم همج و مجرمون و مجرد ساكني غابات جاهلون .. ثم تخفت صوتها و تحدق في عين الزعيم و تقول .. لدي الحل لا تقلق ، مثلما زرعوا الشر سيحصدونه ، نهركم سيتكفل بأمر الدفاع عن نفسه بعد ذلك ، فهو سيكون لديه حارس أمين يخدمه للأبد ..

باغتها الزعيم هاتفاً بدهشة :

– كيف ؟!

تابعت العجوز كلامها بنبرة تمتزج بها الحدة مع الخبث من كل جانب :

– لا تسأل لأنك ستعرف الآن .. فقط كل ما أريده هو تمساح نيلي صغير من هذا النهر .

يهتف الزعيم قائلاً :

– نحن معنا بعض الصغار من هذه التماسيح ، نأخذ كل فترة بعضاً منها لكي نربيها ، و لنحترم الحياة البرية داخل نهرنا العظيم كي لا يغضب علينا و يرينا سخطه ، و عندما تكبر قليلاً و تستطيع المدافعة عن نفسها نرميها في النهر مجدداً لتكمل حياتها بحرية .

تهتف العجوز بنبرة حادة و تقول :

– هاتوا لي واحداً .. و ليكن ذكراً

بعدها مباشرةً أمر الزعيم أحد أتباعه بإحضار تمساح صغير من إحدى الخيم ، و بالفعل أحضر التابع التمساح و سلمه للعجوز في يدها كما طلبت .

عندها ساد الصمت المشهد ، و بدأ الجميع يحدق في هذه العجوز الخبيثة ، و يتسألون ما الذي تنوي فعله ؟ و ظلوا يبحلقون في هذه العجوز و ملامحها التي لا تنوي الخير أبداً ، ثم قطع الصمت صوتها و هي تنظر للتمساح الصغير و تقول بنبرة يملؤها الحزن و الخبث معاً :

– أيها الصغير المسكين ، قتلوا والدتك و جعلوها صريعة على الفور ، اغتصبتها بنادقهم العاتية ، و أشداقهم الساخرة ، و أنفسهم المغترة ، ثم صمتت قليلاً وسط رعب الجميع و تابعت قائلة .. لكن لا تقلق ، لن يحدث هذا بعد الآن ، ستكون أنت أيها الصغير ذراع الطبيعة البتارة التي تقتص و تدافع عن هذه البحيرة ، ستكون أنت الشر القابع الذي صنعه هؤلاء بأيديهم ، ستكون الفخ القاتل الذي سيقع به الجميع .. صمتت قليلا ثم هتفت فجأة قائلة .. مرحباً بريكيوم الكبير !! و بعد سماع هذه الكلمات المخيفة اتسعت عيون الجميع بما فيهم زعيم القبيلة الذي هتف قائلاً برعب :

– ما .. ماذ … ماذا ستفعلين ؟!!

لم تجب العجوز أو تعقب بشيء علي سؤاله ، و قامت بإحضار منخول كبير ، و اقتربت من النيران التي أخذت تتراقص أمام وجهها و كأنها ترحب بها و بشرها الدفين ، و وضعت التمساح داخل هذا المنخول ، و قامت بنثر بعض الحبوب الغريبة داخله ، و رشتها علي التمساح ، و قلبته فيها .. و كأنها تقلب فرخ دجاجة حديث الولادة ، و بعدها قالت و هي تضحك بطريقة هيستيرية :

– اقرعوا الطبول و ارقصن يا فتيات .. فهذا سيكون يوم ميلاد ريكيوم الكبير !!

و فجأة قرعت الطبول .. وأخذت الفتيات السمروات يتراقصن حول التمساح و العجوز الكريهة على شكل دائرة ، و أخرجت العجوز جماجم بشرية و رصتها على الأرض ، و أخذت تتفوه بكلمات أفريقية غريبة ، و تعالت صرخاتها ، و قرعت الطبول أكثر و أكثر ، و أخذت النيران تتراقص وسط ظلام الليل الدامس ، لتنير أجوائه الكئيبة ، و تدحر الظلام بعيداً ، و بعدها غاب المشهد تماماً ، ولم يتم معرفة ما الذي حدث بالتحديد ، لكننا نتفاجأ الآن بالعجوز و هي تقف أمام البحيرة التي اتشح لون مياهها بالسواد بسبب ظلمة الليل ، و كان معها بعض التوابع من أبناء القبيلة ، و بيدها كانت تمسك التمساح الصغير الذي سمته ريكيوم ، و هتفت بعدها قائلة بشر و خبث ظاهرين ظهور الشمس المشرقة في السماء :

– بعد ذلك سينتهي المطاف بكل متغطرس داخل فكك الكبير يا عزيزي ؟!! ستكون أنت حارس الطبيعة الفتاك !! ادخل لمنزلك يا ريكيوم الضخم .. يا أعظم زاحف برمائي عرفته أحراش هذه الغابات ، ادخل لعرينك .. و اقضي علي كل طاغية يعبث به .

و بدون سابق إنذار ، قامت بإلقاء التمساح داخل مياه البحيرة الضحلة ، و اختفى بعدها داخل التيار ، و توارى عن الأنظار تماماً .

ثم أردفت قائلة للأتباع الذين كانوا معها بنبرة حادة :

أخبروا زعيمكم أن يقوم بتقديم القرابين له كل فترة ، على القربان أن يكون مناسباً لحجمه و شهيته ، كل فترة ألقوا له فتاة عذراء حسناء من قبيلتكم ، و زينوها بأبهى زينة و حلي عندكم ، و لا تقتربوا من النهر مجدداً لاستخدامه في أي غرض ، ثم نظرت للنهر و صمتت قليلاً ، و بعدها قالت و هي تضحك .. فهو غير آمن حتى عليكم ، و بعدها ختمت حديثها بضحكة ملأت الأجواء رعباً و خوفاً ، حتي أن الطيور حلقت بعيداً و تركت الأشجار التي استقرت عليها ، و ساد الظلام المشهد ، و أخذت ضحكاتها تعلو و تعلو و كأنها نافورة منبعثة من أعماق الجحيم ، و أخذت تنتشر داخل هذه الغابة المظلمة ، و ساد الظلام المشهد ، و اختفى كل شيء عن الأنظار .

* * *

بعد مضي عدة سنوات على ما حدث ، في يوليو 2014 تقريباً .. استقر قارب صغير تابع لأحد صائدي الأسماك الأفارقة الذين كانوا يسترزقون هناك دائماً ، و من بعيد .. كان هناك الكثير من الصبية يلعبون على الشاطىء الخاص بهذه البحيرة ، أخذ الصياد يتابعهم بعينيه و هو يبتسم و يصدر نغمات من فمه ، و أخذ يحسد نفسه على هذا الجو اللطيف و الهدوء الذي ينعم به في هذا الوقت تحديداً ..

و فجأة ألقى صنارته في الماء بانتظار أي سمكة غافلة تنخدع بطعمه الذي ربطه فيها بإحكام ، طبعاً الجو كان جميلاً للغاية .. فالشمس كانت ترسل نورها إلى صفحة المياه و قد جعلتها أشبه بجمرة مشتعلة منبعثة من أعماق الجحيم ، فقد كان هذا تقريباً هو وقت الظهيرة ، وبعد عدة دقائق .. شعر الصياد بشعور غريب ، و تبدلت ملامح وجهه ! شعر أن هناك شيء ما يترصده بين مياه هذه البحيرة ، و هو قريب منه الآن ، و لكنه تجاهل هذا الشعور تماماً ، و واصل انتظاره لأي سمكة حمقاء تقع في فخه و صنارته المميتة ..

و بعد دقائق أخرى مرت كالدهر ، فجأة قام شيء مجهول بضرب قارب الرجل ضربة خفيفة من الأسفل !! و هنا فزع الرجل و نهض من جلسته بسرعة ، و أخذ ينظر حول قاربه و إلى المياه التي تحيطه من كل جانب ، و لكن لا شيء !! صفحة الماء تبدو نقية تماماً و لم يعكر صفوها أي شيء !! و بدون سابق إنذار .. تكررت الضربة مجدداً ، ولكنها كانت أعنف ، و أطاحت بقارب هذا الصياد في الهواء كاللعبة التي تتطاير بين أيدي الأطفال وهم يتشاجرون عليها !! و سقط الرجل بعد هذه الضربة العنيفة في الماء ، لكن دون قاربه المحطم الذي طار بعيداً من شدة الضربة ، و فجأة نجد شيئاً مجهولاً من داخل أعماق هذه البحيرة يتجه نحو قدمي الرجل الذي أخذ يلوح بهما في قعر المياه في محاولة منه للسباحة و العودة إلى الشاطىء ..

و على ما يبدو أن الرجل رأى شيئاً ما يقبع تحت قدميه مباشرة و يتجه نحوه ، شيئاً جعله يبكي و يصرخ من الفزع من هول منظره البشع ، جعله يبكي و كأنه طفل صغير تعاقبه أمه بسبب ذنبه البريء و قلبه الجريء ، و قد أخذ هذا المسكين ينظر إلى الأطفال الذين يلعبون على الشاطىء غير مباليين بشيء ، و أخذ يحسدهم على بقائهم في مكان آمن هناك ، بعيداً عن هذه البقعة التي يعاني هو فيها من شيء مجهول قد حضر لقتله خصيصاً ، و مع هذه الأنياب المرعبة التي ضربت صفحة المياه فجأة و أطبقت على قدميه ، استسلم أخيراً للوضع ، و استسلم لهذا المجهول المرعب ، الذي جره معه إلى هذه الأعماق السحيقة بواسطة فكه العاتي و جلده المحرشف الذي يشبه جلد التنين ، وفجأة غاب الرجل بين طيات هذه البحيرة ، و بعد دقائق معدودة .. اكتست صفحة المياه باللون الأحمر الدامي ، معلنة عن مصير أسود قد لاقاه هذا الرجل بين مياه هذه البحيرة الكبيرة .

* * *

و في مكان أخر تماماً .. يرن هاتف أحد الرجال الأفارقة ووهو في منزله ، و على ما يبدو أنه رجل من سكان المدن و ليس من سكان الغابات ، و لا ينتمي لأي قبيلة ، لأنه يقبع داخل منزل فخم ، و وسط سرير مريح ، كان الرجل نائماً و انتفض فجأة بعد سماع صوت الهاتف ، الذي أخذ يرن بعنف و ضجيج هادر ، ثم رفعه بتثاقل و قال :

– مرحباً ..

يجيب المتصل هاتفاً و هو يقهقه :

– أهلاً بك .. هل تتذكرني يا محمودي ؟

ونجد الرجل الأسود الذي هو بالأصل محمودي يهتف قائلاً :

– أهلاً أهلاً .. نعم أتذكرك من نبرة صوتك يا صديقي ، و بعدها يضحك و يقول و السرور يملأ صوته .. كيف حالك يا توماس ؟ منذ فترة لم أرك ، و لم تطلب مني أن أكون دليلاً لإحدى رحلاتك هنا كعادتك .

يهتف توماس قائلاً :

نعم نعم .. و هذا ما كنت أريدك فيه ، أنت تعرف أعمالي كثيرة للغاية ، و نادراً ما أخرج لرحلات الصيد و التنزه خارج البلاد ، لكنني سأخرج هذه المرة ، لأن أعصابي متعبة للغاية ، أريد الترويح عن نفسي قليلاً ، أنا قادم إليك يا صديقي .

– نعم .. و ما المشكلة ؟! تحت أمرك يا صديقي ، و لكن أين تريد الصيد هذه المرة تحديداً ؟!

– بصراحة أنا قادم للصيد و معي عدتي ، لكن أيضاً معي بعض الزوار من بلادي ، هم يريدون رحلة ممتعة وسط البحيرات الخلابة عندكم ، و ليس لهم علاقة بالصيد ، عددهم ثلاثون رجل و امرأة ، ومعهم ذويهم و أبنائهم أيضاً ، أريد أن تكون رحلتهم في نفس النهر الذي كنت معك فيه أخر مرة ، ثم يتابع كلامه ضاحاً و يهتف قائلاً .. هل تتذكر ؟؟

– نعم طبعاً .. و هل أستطيع النسيان ، رائع جداً .. على العموم أنت مرحب بك في أي وقت ، و علي ما يبدو أنني سأقبض الكثير من المال منك ، اشتقت كثيراً للدولارات الأمريكية ، ثم يكمل قائلاً .. صحيح متى ستكون أنت دليلاً لي في بلادك ؟ ثم يضحك ضحكة خبيثة و يقول .. سمعت أن جميع نساء بلدك شقراوات ، و يكمل ضاحكاً .. و أنا سئمت من اللون الأسود ، على العموم قبل مجيئك أخبرني فوراً .

أجابه توماس بلكنة تشوبها السخرية و المزاح :

– يالك من جشعً و طماع ، كل ما تفكر فيه هو المال ، أنت لن تتغير أبداً ، بالنسبة لنساء بلدي سأجلبهم لك عندما أقدم إليك هنا ، أنا قادم أنا و الفوج غداً في الصباح الباكر إن شاء الله .

يهتف محمودي ضاحكاً :

– نعم يا صديقي .. أنا نهم للغاية للنقود ، أنت تعرفني جيداً ، كما تريد .. في انتظارك غداً عند وصولك بالسلامة .

* * *

استقبل محمودي توماس صديقه القديم و كل من معه في الميعاد المحدد بحفاوة و ترحيب شديد ، كان توماس معه عائلات لطيفة و أرباب أسر محترمون للغاية ، كانت كل غايتهم هو الاستمتاع برحلة نهرية وسط أدغال أفريقيا الساحرة ، و وسط أفراس النهر و التماسيح ، و الطيور ذات الألوان الخلابة الساحرة ، فهكذا منظر .. لن تجده إلا في القارة السمراء فقط .

سيقوم صديقنا محمودي بتجهيز مركب يتسع لعدد الضيوف ، و سيكون بالطبع قائد هذا المركب هو الصياد المحنك توماس هازرد ؛ فهو يعرف هذا النهر الذي ستسير فيه رحلتهم معرفة جيدة للغاية ، معرفة تركت في خاطره ذكرى يحتفي بها ، و كيف لا ؟! فقد قام هو بإزهاق أرواح العديد من الأسماك و التماسيح فيه ، و بالذات التمساح الضخم الذي قتله أخر مرة قبل تحذير محمودي له بقدسية النهر عند قبيلته .

قام محمودي بالحجز للضيوف في فندق يقبع في مكان بعيد عن الأدغال التي سيسيرون فيها ، و بعيداً عن البحيرة بالتحديد .. لأن الفندق في المدينة و منفصل عن الأحراش تماماً ، و بعد أن يقضي ضيوفنا رحلتهم سيذهبون للراحة في الفندق ، و سيكون محمودي في انتظارهم هناك ، فهو لن يذهب معهم لأنه تحجج بأن زوجته مريضة للغاية ، فهو قد ترك الحياة القبلية و ذهب ليعيش حياة المدن ، و بعد أن ينتهوا من رحلتهم الطويلة سيتصل توماس به ، و يخبره أن يحضر سيارة ليأخذهم و يوصلهم للفندق

لنسلط الضوء على أبرز الزوار الذين يريدون خوض الرحلة معنا ..

تايا لينكون ، توم لينكون ، مايا لينكون ..

هم عائلة لطيفة و محبوبة للغاية ، يحبون المغامرة و الإثارة ، تايا الابنة الوحيدة لدى الزوجين لينكون ، عمرها 22 عام ، هي فتاة جامعية .. و تحلم أن تكون باحثة مرموقة في عالم الطبيعة و البحث ، و لا ننسى كلبهم المفضل من نوع الجولدن ( سام ) الذي اصطحبوه معهم في رحلتهم إلى غينيا ، أمها تعمل في مجال المحاسبة .. و عمرها 44 عام ، أما الأب توم .. عمره 48عام ..و يعمل في شركة خاصة .

كارل دينيهم و جيسي دينيهم ..

هو صاحب أكبر حديقة حيوان في فلوريدا ، سمين و ممتليء البنية ، و باحث كبير في هذا مجال الطبيعة ، و زوجته أيضاً مختصة في علوم الأثار و البحث ، كارل و زوجته شغوفان للغاية .. و لديهم دائماً عادة حب الاستطلاع ، عمركارل 45عاما ، أما زوجته .. عمرها 35عام .

سام ألفريد و جوديث ألفريد ..

سام عجوز شغف و نهم للغاية لعالم الطبيعة و الرحلات الاستكشافية ، و زوجته جوديث أيضاً .. هي عجوز لطيفة للغاية ، و تحب مساعدة زوجها و دعمه في أي مجال ، و هم على أمل أن يحظوا برحلة جيدة مع صديقنا توماس .

التوأم سارة و مالينا ..

هما بنات عم صديقنا توماس ، و بعد عدة وعود اصطحبهن توماس معنا لرحلتنا المنتظرة ، الاختان للأسف متهورتان للغاية و بداخلهما دائماً دافع الإساءة الغير مبررة مع الغير .

و غير هؤلاء أتى الكثير أيضاً ، و لكننا سلطنا الضوء على أهم الأشخاص في رحلتنا التي ستبدأ الآن ..

* * *

صعد الجميع للمركب .. و بدأ توماس يتفقد كل شىء للإطمئنان على مبادىء السلامة داخل المركب ، و بعدها صعد إليه ، و أسدل الحبل من على المرساة ، ليعلن انطلاق الرحلة في هذا النهر الطويل الذي لايعرف أوله من أخره ، و وسط الأشجار و الأحراش و الغابات الكثيفة .. شقت المركب طريقها داخل النهر ، و كان محمودي في انتظار أي اتصال من صديقه توماس ليخبره بانتهاء رحلتهم ليأتي هو بعدها ليصطحبهم إلى الفندق لكي يرتاحوا هناك من مشقة متعتهم داخل النهر ..

بدأ توماس باستعراض مهاراته في سرد المعلومات عن النهر و الحيوانات التي تستجم فيه .. و هتف قائلاً و هو يضحك :

– انظروا يارفاق .. أفراس النهر هناك ترحب بكم ..

فقد كان هناك تجمع كبير لأفراس النهر على ضفاف البحيرة ، و على ما يبدو أنهم يبحثون عن الطعام هناك ، بالإضافة للاستجمام داخل المياه الدافئة ، التي ستغيب عنها الشمس بعد عدة ساعات معدودة .

صرخت سارة و هي تضحك و قالت :

– إنه حيوان مسالم للغاية ، هذه أول مرة ألتقي به بدون الحواجز الرديئة التي يضعونها عادة في حدائق الحيوان الكريهة .

هتف كارل دينيهم و قال لها :

– كلا يا عزيزتي .. هذا الحيوان غير مسالم أبداً ، يستطيع بفكه الكبير قتل إنسان بالغ بضربة واحدة ، لا تنخدعي بالمظاهر و تتناسي مقارنة حجمك بحجمه

ثم أردفت قائلة و جبينها معقود :

– أغلب معلوماتك خاطئة يا هذا ، لو أن كلامك صحيح .. ستكون أنت أيضاً بنفس خطورته ، لأنك سمين جداً و تضاهيه في الحجم ، ثم ختمت كلامها بضحكة ساخرة .

أخذ الجميع يتجاذبون أطراف الحديث ، و انشغلوا أيضاً بالتقاط الصور التذكارية للحيوانات داخل النهر ، و فجأة و بدون أي مقدمات ، وقف في طريقهم فرس نهر ضخم ترك قطيعه ، و أوقف سير المركب تماماً بسبب حصره للطريق و أخذ الضيوف يمعنون النظر في جسد هذا الفرس الضخم ، و اندهشوا من روعة مظهره البديع ، و أخذ هذا الحيوان الضخم يبادلهم النظرات و ينظر إليهم بإمعان ..

قال توماس ممازحاً الفرس :

– تحرك أيها السمين و لا توقف طريقنا ، الضيوف الذين معي في هذه المركب الخشبية سمجون للغاية ، وقد يرموك ببقايا و أكياس الطعام و كأنك ممثل مسرحي فاشل .

فجأة صاح الجميع من خلفه قائلين بجمل متفرقة وهم يلتطقون الصور التذكارية لهذا الكائن البرمائي الضخم :

– رائع .. واو أنه كبير للغاية .. ماذا يأكل بالضبط معي بعض الشيبسي .. لا أظنه لطيفاً لأنه يسد طريقنا بجسده الضخم هذا .. هيا ابتعد أيها الوغد .

و فجأة خار الفرس .. وابتعد عنهم قليلاً و كأن هناك شيء ما أفزعه !! كان خائفاً من شيئ غريب لم يعرفه الضيوف بعد ، لكن على ما يبدو أن هذا الشيء قريب .. نعم قريب للغاية ، و فجأة و بدون أي مقدمات .. ضرب صفحة الماء فك كبير جداً ، لقد كان تمساحا ضخما .. نعم تمساح ضخم للغاية و بشكل بشع ، لدرجة أنه عندما رأه توماس و الضيوف اللذين معه يخرج بجسده الضخم المحرشف و يطبق بأسنانه على جسد الفرس الذي استسلم لهذا الفك الكبير بسهولة .. نعم وبسهولة للغاية ، بدؤوا بالصراخ بهيستريا و رعب ، مذعورين من هذا الزاحف الضخم ، و منظر الفرس المسكين و هو يتطوح في الهواء كاللعبة بين أسنان هذا التمساح الرهيب .

كان تمساحاً يتجاوز طوله طول المركب الذي كانوا يركبوه بكثير !! و كان وزنه تقريباً يوزاي وزن ديناصور منقرض في العصور السحيقة ، كان وحشاً بمعنى الكلمة ، كان يبدو أنه وحش من العصور القديمة ، و عندما رحلت هذه العصور للأبد .. نسيت أن تأخذ معها هذا الكائن التابع لها و تركته ليوزاي الحاضر ، و ليكون أعجوبة المستقبل المنتظرة ، و بعد أن طوح بالفرس يميناً و يساراً بواسطة فكه الضخم هشم عظامه تماماً و جذبه معه .. و نزل به إلى الأعماق المظلمة ، و اختفى بعدها تحت صفحات هذه المياه الثقيلة ، مخلفاً وراءه صرخات و ذعر الضيوف الذين أغشى على البعض منهم من هول هذا المشهد البشع ، و هول ما ينتظرهم من هذا الكائن الزاحف .

صرخ العجوز سام ألفريد في وجه توماس بانفعال و قال :

– ما .. ما هذ … ماهذا ؟!! هل هذا أيضاً ضمن خطة رحلتنا ؟!

لم يعقب توماس على هذا الكلام أو يجيب بشيء يسد ثغرة فزع هذا العجوز المسكين ، و ظل محدقاً للبقعة التي قتل فيها الفرس علي يد هذا التمساح الرهيب ، و التي اكتست بالدماء الحمراء القانية ، و ظل يبحلق فيها و كانت حدقة عينيه منفرجة للغاية ، و كأنها تشبه هذا النهر الطويل المرعب ، و وقف غير مصدقاً من هول ما رأى !! و قال بعدها بصوت خافت و كأنه يحدث نفسه :

– رباه .. ما هذا ؟!! إنه كبير للغاية ! أين كان يختبىء قبل ذلك ، صمت قليلاً ثم قال هاتفاً بجدية للجميع :

– يجب أن ننهي الرحلة فوراً و نعود أدراجنا ، لا أعرف ما الذي حدث بالضبط ؟! و لكن بقاؤنا ليس في صالحنا .

قالت له جيسي دينيهم و هي منفعلة و أعصابها متوترة للغاية :

– اتصل فوراً بدليلك اللعين ليأتي و يقلنا بسيارته إلى الفندق ، بدلاً من أن تمطرنا بكلماتك الغبية هذه التي تشبه السيل الجارف .

قال لها توماس بنبرة مليئة بالهدوء و الحكمة و كأنه يدرك و يشعر ما بداخل هذه المرأة من فزع و رعب تشيب لهم الرؤوس :

– يا أستاذتي العزيزة أتفهم موقفك ، لكن عليك أن تعرفي أننا الآن بعيدون للغاية عن مكان المرسى الذي انطلقنا منه ، نحن في منتصف البحيرة تقريباً ، وقد قطعنا شوطاً كبيراً جداً و نحن نتسامر فيما بيننا ، و لم ندري بالوقت الذي أخذنا على حين غرة ، و أوقعنا في الفخ ، كان علينا أن ننتبه .. و أيضاً عليك أن تعرفي أننا الآن نواجه تمساحاً قادراً على تحطيم و تفتيت هذه المركب بسهولة بالغة ، فحجمه و قوته يقولان أنه قادر على فعل ذلك لو أراد ، يعني لو تحركنا من مكاننا قد نجذب انتباهه ، و ربما هو يراقبنا الآن .. و لا يعرف ما هذا الذي أمامه ، يعني نحن بالنسبة إليه مجرد جسم طافي على سطح الماء ، و إن تحرك هذا الجسم سيقوم هو بدوره بالرد و المهاجمة دون تردد ، و حينها سنصبح جميعاً أجسام متحركة في الماء بسبب تحطيم المركب التي نستقلها جميعاً ، علينا أن نتسم ببعض الهدوء حتى نتأكد أنه ابتعد عن هذه البقعة بالفعل .

أردفت مرأة أخرى قائلة له و هي تصرخ بعنف :

– ماذا تقصد ؟ ألن تتصل به و تتركنا تحت رحمة هذا المخلوق و ظلمة الليل التي قد تحل بعد عدة دقائق ؟!

أردف توماس قائلاً لها منفعلاً :

– انصتي إلي جيداً .. نحن الآن نواجه مخلوق زاحف يزن وزن حافلة مدرسية بطلابها ، علينا أن نكون حذرين في خطواتنا للغاية ، و لكن أنا أعدك أنه طالما ستتصرفون بهذه الطريقة ، و سترفعون راية صرخاتكم المتواصلة داخل هذا النهر .. سوف يحصل هذا الكائن عليكم بسهولة ، و عليك أنت تحديداً ، ثم بعدها يتجه إلى وجه المرأة المفزوعة و هو يمشي بخطوات متثاقلة ، و نظر في عينيها و قال بصوت خافت يملؤه الانتقام و الحقد .. و أنا لا أعدك أن أساعدك عندما أراك بين طيات فكه و أنت تتلوين من الألم بسبب حدة أسنانه .

و بدون مقدمات .. ترك توماس هذه المرأة المسكينة مفزوعة جراء كلماته الجارحة الثقيلة ، و بعدها اتجه إلى أحد أركان المركب و أخرج هاتفه من جيبه ، و بدأ بالاتصال بصديقه محمودي .. و أخذ الهاتف يرن و يرن على صديقه الذي كان يستلقي على سريره المريح في منزله ، و فجأة رفع الهاتف و رد على توماس هاتفاً :

– أهلاً توماس .. هل انتهت رحلتكم ؟ الشمس تغيب الآن ، و أنا لا أعدك أن تستمر روعة رحلتكم مع حلول الليل و استمراره معكم هناك ..

– نعم أعرف .. دعك من هذا الآن ، أين ستنتظرنا بسيارتك لتقلنا للفندق المزعوم ؟؟

قال له محمودي بتثاقل و كأنه غير مهتم بالأمر :

– في المرسى الذي انطلقتكم منه .. سأكون هناك في انتظاركم ..

– هناك صدمة حدثت لي في الطريق جعلتني أنسى كل شيء ، و المرسي بعيد للغاية ، ألا يوجد أي مرسي أخر قريب من هنا ، هناك شيء لعين يقبع تحتنا مباشرة ، و لا نستطيع التحرك من مكاننا لأنه سيتوجه إلينا و يطيح بنا ، شيء لن تصدقه و لو حتى في أحلامك !! محمودي .. داخل نهركم المقدس اللعين يقبع وحش فتاك لأول مرة أراه في حياتي !!

يجيبه محمودي و هو يقهقه :

– عن ماذا تتكلم بالضبط ؟! حاول أن تتحرك من مكانك ، و اخبرني ما الخطب ؟ ثم بعد ذلك يتابع حديثه بنبرة يتضح منها أنه أدرك و فهم كل شيء و يردف قائلاً ببرود .. أها .. أتقصد ذلك التمساح الضخم اللطيف الذي يشارككم الرحلة ؟!!

يهتف توماس و الدهشة قد عقدت لسانه :

– ما .. ما .. ماذا ؟!! هل كنت تعرف بأمر التم …

و قبل أن يكمل كلامه قاطعه محمودي هاتفاً بجدية :

– نعم ياتوماس كنت أعرف !! حذرتك من قبل ، و ارتكبت خطيئة كبرى عندما سمحت لك أن تصتاد هذا التمساح المسكين من النهر ، و أنا الآن منبوذ بسبب فعلتك الدنيئة تلك ، لقد طردتنا القبيلة منذ فترة أنا و زوجتي ، و هذا هو الآن موعد التكفير عن ذنبي ، و لا تعتقد أنك ستفلت أنت و من معك ، لا .. فرجال القبيلة يملؤون الأحراش في انتظار طلتك البهية أنت و ضيوفك ، و لو حاولت النجاة و التغطرس و الهروب من فك التمساح العاتي ستقع في أيديهم لا محالة .

و بعدها أخذ يضحك ساخراً بدون توقف ، وأخذت ضحكته تهز هاتف توماس الذي كان ممسكاً به بقوة في يده ، و كاد أن يعصره بسبب كلام صديقه الخائن ، و أخذ توماس يبحلق أمامه بذهول ، و شعر أنه وقع في مؤامرة و فخ قاتل ، نصبه هو بيده منذ سنين داخل هذا النهر ، و ليس أمامه شيء سوى المحاولة و النجاة بحياته و حياة من معه من بين براثن التمساح الضخم .

قال توماس لمحمودي بصوت خافت :

– ستدفع ثمن هذا غالياً .. غالياً جداً يا محمودي ، لم أكن أعرف أنك بهذه القذارة ؟!!

هتف محمودي ساخراً :

– قذارة !! وبعدها ضحك ضحكة ساخرة و تابع قائلاً .. أنا لست قذراً يا توماس ؛ لأنني لم ألوث يداي بدماء كائنات بريئة لا ذنب لها سوى أن شخصاً مستهتراً مثلك يحب أن يراها و هي تتألم أمامه ، هل تذكر مشهد التمساح الذي قتلته في هذا النهر منذ عشرة سنوات ؟؟ ها .. هل تذكر كيف كان يتألم ؟! بينما أنت كنت تضحك و تطلق النكات أنت و رجالك عديمي الرحمة ، ثم يتابع قائلاً بجدية .. أنا صنعت لك معروفاً الآن ، و أنت مدين لي ، أنت تحب صيد التماسيح .. و أنا أعطيتك تمساحاً أسطورياً يوزاي مليارات الدولارات ، معادلة عادلة أليس كذلك ؟! ورطتك و نفعتك في نفس الوقت ، تخيل صورتك و أنت ذاهب لبلادك و معك هذا التمساح الأسطوري ، و وسط النساء الشقروات هناك و هن يهتفن لك .. عاش البطل .. عاش البطل ، أليس هذا ما تريده أيها النذل ؟؟

و قبل أن يتفوه توماس بكلمة واحدة .. تلقت المركب التي يستقلونها ضربة عنيفة من الأسفل ، و سقط توماس على أرضية المركب ، و صرخ الجميع قائلين بلسان واحد :

– تبا لقد عاد مجدداً !!

و تواصلت الضربات على المركب ، حتى تصدعت أجزاء منه و تهشمت من شدة الضربات العنيفة المنبعثة من أعماق البحيرة ، و انبثق الماء من كل جانب و أغرق أرضية السفينة ، و بدأت صرخات الضيوف تعلو و تعلو و ترتفع في الهواء ، و كأنها صرخات أناس يتعذبون في الجحيم أشد عذاب ، و أخذ الكلب الأصفر الخاص بعائلة لينكون ينبح بعنف على شيء ما غير ظاهر أمام الجميع ، و بعد الكثير من الصرخات المتواصلة صرخ توماس قائلاً للكل :

– هل تجيدون السباحة ؟؟

صرخت في وجهه بنت عمه سارة و قالت له بانفعال :

– أتمزح ؟! نسبح بجانب هذا الكائن المفترس و مع هذا التيار الجارف ، بربك .. هل تظننا أسماك ؟!

قال لها توماس و هو يصرخ و الماء يغطي المركب من كل جانب :

– ليس لدينا حل .. المركب ستغرق الآن ، و سنصبح داخل الماء بعد لحظات بجوار الزاحف العملاق شئنا أم أبينا ، علينا أن نحاول السباحة حتى نصل إلى ضفاف النهر ، أو أي بقعة أمنة هناك ، ليس لدينا خيار أخر .

قالت له مايا لينكون بنبرة مليئة بالخوف و الذعر :

– نحن لا نستطيع السباحة ، سنغرق جميعاً ، أرجوك افعل شيء ..

قال لها توماس بنبرة استسلامية :

– عزيزتي .. أنا أول مرة في حياتي أتعامل مع موقفاً كهذا ، الأمر بالنسبة إلي خرج عن السيطرة تماماً ، أنا عاجز عن الوقوف في وجه هذا الكائن ، و في وجه هذه المحنة تحديداً ، أرجوك سامحيني .

وبعد هذه الكلمات المليئة بالخوف و الرعب والتوسل بين الجميع ، انشطرت السفينة تماماً و تحطمت إلى قطع ، و أصبح الكل داخل المياه ، و مع هذا التيار العنيف .. و الأمواج العاتية .. وجد توماس ابنة عمه سارة و هي بعيدة عنه و تنظر إلى عينيه مباشرة و هي داخل الماء ، كانت نظراتها تحمل بين طياتها العتاب و اللوم و الوداع ، و أخذ يحدق فيها هو الأخر و كأنه يعتذر لها عن أمر ما عجز عن السيطرة عليه ، و من وراءها تحديداً ظهر التمساح بكامل جسده و هو يطفو على الماء !! و أخذ ينظر إلى سارة بتمعن ، و إلى ظهرها الذي كان هو يقبع خلفه ، لم تكن نظراته تلك إعجاباً بمفاتن هذه الفتاة الجميلة .. بالطبع لا ، كانت نظراته تدل أنه يتحضر أن يجهز عليها بدلاً من أن يتركها تصرخ كثيراً و تنتحب ، وحينها صرخ توماس بشدة من أعماق قلبه قائلاً :

– لاااااااا ابتعد عنها

و بعد هذه الصرخة المستميتة ، و هذه الكلمات ، قفز التمساح قفزة هائلة و نزل بفكيه مطبقاً على سارة بقوة ، فاختفت معه بين طيات أمواج هذا النهر الجارف و هذه الطحالب الخضراء التي تناثرت هنا و هناك بعد قفزته الثقيلة تلك .. و بعد هذا المشهد ازداد عزم الجميع على محاولة السباحة والفرار بحياتهم من بين براثن التمساح ، و هنا صرخ توماس قائلاً بقوة :

– اسبحوا بسرعة .. سيعود بعد قليل ، القوا بأنفسكم على أي ضفة قريبة هناك .

صرخ العجوز سام قائلاً :

– هناك بقعة يابسة قريبة .. أنا اراها هناك ، لنتجه إليها ، ليس لدينا خيار أخر ، فالتيار شديد جداً ، و المياه مظلمة للغاية .

وبعد أن أنهى كلماته الثقيلة هذه .. فجأة ظهر أمام وجهه مباشرة خطم كبير و بداخله أسنان قاتلة ، خطم كان يحمل بداخله معنى الموت ، و قد عاد التمساح راكضاً من جديد و جلب معه الموت المنتظر لهذا العجوز المسكين ، و كان يخور مياه من أنفه و كأنها شلال ، و فجأة أخذ ينظر العجوز و يتمعن في فم هذا التمساح ، و ظهرت أسنانه المليئة بدماء و بقايا أشلاء سارة ابنة عم توماس ، و كأنه لم يشبع بعد من جسد سارة الهزيل الذي يشبه جسد الأسماك الضعيفة ، و على ما يبدو أنه يريد المزيد من الطعام ليسد معدته الكبيرة ، و هنا أغمض العجوز عينيه و كأنه يتحضر للنهاية المؤلمة و للسفر بلارجعة ، و هتف قائلاً لزوجته باستسلام لمصيره الأسود :

– وداعاً يا زوجتي العزيزة سو…..

و قبل أن يكمل جملته الثقيلة تلك .. أطبق التمساح مباشرة فكه على رأس العجوز ، و لم يسمح له بأن يلقي بقية وداعه على زوجته المسكينة ، و أخذ يلوح بجسده في الهواء و هو بين فكيه و كأنه يعلن انتصاره ، وسط ذعر الجميع و صرخاتهم المتواصلة ..

كانت المياه ضحلة للغاية ، و الليل قد حل بوجهه الأسود الكريه ، ليلقي ظلاله على صفحات هذه البحيرة التي اكتظت بالضيوف المذعورين ، الذين أخذوا يحاولون السباحة هنا و هناك هرباً من التمساح و بطشه ، و قد اتخذوا من صرخاتهم كصديقة لهم داخل طيات هذه الأمواج التي أخفت بعضهم و أخفته بلا رجعة ، و أتخذوا من ألمهم و ذعرهم رفقاء لدربهم الأسود الذي لا ينتهي ، حتى أن أحدهم من شدة ذعره اصطدم بذيل التمساح من دون قصد و هو يلوح بجثة العجوز المسكين في الهواء ، و قذفها في الفراغ و طارت بعيداً ، و غطس بعدها التمساح داخل المياه و اختفى تماماً ، و بعدها ضرب صفحة الماء ضربة هائلة فجأة !! وقفز قفزة جبارة ، و التقط جسد العجوز قبل أن يسقط في الماء و أطبق عليه فكه ، و سقط بجسده على صفحة الماء ليعود مجدداً لعرينه ، و لم تتحمل المياه جسد هذا الكائن الثقيل ، و شكلت موجه ضخمة جداً أغرقت البعض من شدتها ..

سقط الكثير منهم داخل فك التمساح ، و منهم الكلب المسكين الذي فتك به التمساح و أطاح به من طريقه ، و كأنه يعلن العداء ما بين الكلاب و الزواحف للأبد ، و غرق البعض أيضاً بسبب التيار العنيف و علو المياه ، و كلما كان أحداً منهم يحاول أن يسبح ليطفو على السطح و يجازف الأمواج .. كان يسحبه شيء مجهول إلى الأسفل ، و تكتسي المياه بعدها فوراً بلون الدماء الأحمر القاني .

* * *

بعد عدة محاولات .. استقر توماس على الجزيرة التي كانت على مقربة منهم , و التي لمحها العجوز قبل موته بدقائق ، و التقط رشاشا كان معه على المركب ، و قد قذفته الأمواج إلى نقطة اليابسة التي يقف عليها ، و كان معه عدداً من الناجين من هذه الملحمة المؤسفة ، بعد أن غرق أغلبيتهم و مزق التمساح أشلاء البعض الأخر ، فقد كانت المياه ضحلة للغاية ، و لم يستطع أحد أن يسبح فيها بسبب ثقل مياهها ، و بسبب ترصد التمساح بهم ..

الجزيرة كانت مسدودة ، و وراءها كانت تقبع بقعة أخرى من المياه الراكد ، كان معه من الناجين تحديداً كارل دينيهم ، و قد كان يقف منتحباً بعد أن غرقت زوجته و هو بجانبها و قد كان عاجزاً عن فعل شيء ، بالإضافة أيضاً للفتاة تايا لينكون ، التي وقفت بجانبه تنتحب هي الأخرى لأن التمساح فتك بوالدها ، بينما غرقت أمها و هي تحاول الوصول إليها و الإمساك بيدها قبل أن تغرق ، بينما لقت سارة و مالينا حتفهما بعد أن مزق التمساح أشلائهما ، ظل توماس واقفاً هو كارل و تايا ، فلم يكن هناك أحد استطاع أن ينجو سواهم ، ظل توماس ممسكاً بالرشاش و هو يحدق بقوة تجاه البحيرة المظلمة ، و على ما يبدو أنه ينوي إعلان حالة التمرد على هذا التمساح العاتي ، و يريد الإنقلاب عليه و قتله ، صرخ بقوة و هو ينظر باتجاه المياه السوداء الهادئة بشكل مخيف :

– اخرج لي الآن أيها الحقير !!

صرخت تايا في وجهه قائلة :

– ماذا ستفعل ؟! ادخل للداخل قليلاً ، هكذا سيبتلعك بسهولة ، هل أنت مجنون ؟!!

ثم أردف كارل قائلاً و هو يضع رأسه في الأرض :

تبا .. نحن هنا محصورين في هذه البقعة الجافة التي تحيطها المياه من كل جانب ، و مع كائن زاحف فتاك لا يعرف الرحمة ، ثم صمت قليلاً و كأنه يفكر بشيء ليقول بعدها لتوماس بجدية .. رشاشك عديم الفائدة هذا لن يفعل شيء ، لا تحاول حتى ، اسمع .. علينا أن ننجو أولاً و بعد ذلك نخبرهم في بلادنا بأمر هذا التمساح ، سيأتون لصيده بكل تأكيد ، هذا سيساوي ثروة لو أمسكنا به .. فكر بالأمر قليلاً ..

قال له توماس وهو يبكي بحرقة على بنات عمه :

-اخرس أيها الجرذ .. هذا الكائن القذر تستقر في داخله الآن بقايا أشلاء بنات عمي ، بالإضافة إلى زوجتك أيضاً يا عديم الوفاء و النخوة .

هنا نظر له كارل نظرة ندم ، و أخذ يحدق فيه و هو متحسر ، و لم ينطق بكلمة واحدة من إحراجه ، و بدأ يتذكر صرخات زوجته و هي تغرق بسبب هذا التمساح الرهيب ..

و فجأة وبدون أي مقدمات .. لمح الثلاثة التمساح قادماً من بعيد و هو يسبح بسرعة شديدة !! و كانت أنفه وعيناه ظاهرتان على السطح ، و بعض الأجزاء من ظهره أيضاً كانت ظاهرة بوضوح ، كان أشبه بالحوت الثائر بسبب حجمه الكبير ، و بطشه ، و تعطشه للدماء .. تخيل المشهد معنا ، بقعة صغيرة من اليابسة معزولة وسط بحيرة ضحمة ، و عليها ثلاثة أشخاص يصارعون تمساح ضخم حجمه يتجاوز أحجام الديناصورات المنقرضة !!

أخذ التمساح يحوم حولهم بجسده الضخم و هو ينظر إليهم ، و التمعت عيناه ببريق ظلهم ، و بانت لهم نيته بالانقضاض عليهم و تمزيقهم إرباً ..

و فجأة أطلق توماس عليه بعض الطلقات من رشاشه استقرت في ظهره ، و خرجت منه بعض الدماء بسبب الطلقات النارية التي أصابته في الظهر ، و نزل بعدها للماء ليختفي بين طياتها ، و كأنه يحضر مفاجأة أخرى لأبطالنا الثلاثة !!

خيم الصمت على الجميع ، و أنزل توماس رشاشه في اعتقاد منه أن التمساح ابتعد قليلاً و انزعج من طلقات رشاشه المميتة ، و وقف يلتقط أنفاسه قليلاً بعد أن اصيب بالإرهاق الشديد .

و لكن فجأة !! خرج التمساح أمامهم مباشرة على شاطىء اليابسة التي كانوا محتجزين عليها ، و قد كان فاتحاً فكيه على مصراعيه بشكل مرعب ، و كأنهم فخ قاتل يترصد الفريسة الغافلة ، و بالطبع قد كان توماس غافلاً براحته التي قطعها بسبب ارهاقه المزمن ، و علقت قدميه داخل هذا الفخ القاتل الذي ترصدهم أثناء هجومه ، و أخذ يصرخ بعنف بعد أن أطبق التمساح عليها و حاول سحبه إلى الماء ، و لكن تايا أمسكت بالرشاش الذي سقط من توماس ، و أطلقت عدة طلقات نافذة داخل فك هذا الكائن المفترس ، فترك قدم توماس على الفور بسبب الضربات التي نالته ، و نزل بعدها للماء مجدداً ، و على ما يبدو أنه سيعيد المحاولة من جديد .. و ربما ينجح هذه المرة .

و بعدها اتجهت تايا لتوماس و صرخت و هي تبكي قائلة له في حسرة :

– يا إلهي قدمك …

و قبل أن تكمل كلمتها قاطعها توماس قائلاً باستسلام :

– أعرف .. بها جرحاً غائراً للغاية الآن ، لم أكن أعرف أن هذه ستكون نهايتي ، لم أكن أعرف أن الشيء الذي اعتدت على صيده دائماً سيصطادني هو يوماً ، ثم صمت قليلاً و قال لتايا .. أنتم هنا بسببي !! أنا نعم .. أنا فقط .

هتفت تايا قائلة بدهشة :

-ماذا تقصد ؟! ثم صمتت قليلاً و قالت .. على العموم لا تتكلم كثيراً .. سيستنفد هذا من قوتك .

حاول كلاً من كارل و تايا أن يساعدا توماس على النهوض و الوقوف على قدميه ، و لكن فجأة خرج التمساح مجدداً من وراء كارل !! و أطبق فكه على ذراعه ، و هنا صرخ كارل صرخة مدوية جداً يشوبها الألم من كل حدب و صوب ، هزت هذه الصرخة أرجاء المكان ، و سمعتها بعض القبائل داخل الغابة ، فعرفوا حينها أن ريكيوم الكبير يحصل على وجبة عشاء مجانية هناك ، فقد كانت الصرخات تنبعث و تأتي دائماً من بحيرته المظلمة ..

حاولت تايا جذب كارل إليها من فك التمساح و تخليصه من براثنه على الفور ، و لكن بالطبع هذا مستحيل !! بالتأكيد هي غير قادرة على مجاراة كائن زاحف ضخم يتجاوز وزنه وزن سبعة فيلة مجتمعين ، و بسبب عملية شد تايا لكارل من فك التمساح العاتي .. تم قطع ذراعه بالكامل و بترها من مكانها ، و نزل التمساح بالجزء المبتور إلى الماء ، و على الفور وقع كارل على الأرض بدون يده التي تنازل عنها للتمساح ، و أخذ يتلوى و يصرخ من شدة الألم الذي طاله جراء قطع يده .

قبعت تايا بجوار الرجلين الذين تمددا على الأرض من شدة جراحهم تبكي كالحائرة ، فالأول كان يوجد جرحاً غائراً في قدمه وقد كان خطيراً جداً ، والثاني كانت يده مبتورة تماماً و كان ينزف كالشاة المذبوحة ، و هنا حاول توماس أن ينهض و يستعيد قوته ، و صرخ قائلاً لتايا :

– اسمعي .. ضفة البحيرة قريبة هناك أنا أراها ، عليكي أن تقفزي و تتجهي إليها فوراً و حينها ستهربين بسهولة ، بينما سأشغله أنا قليلاً ، هيا .. لا يوجد وقت بسرعة .

– و ماذا عنك ؟! مستحيل أن أتركك هنا !!

– لا يا عزيزتي .. الأمر انتهى بالنسبة لي حان وقت مغادرتي ، لو حاولنا أن نسبح نحن الاثنان ستنشغلين أنت بي .. و حينها سنتأخر كثيراً و سيكون ذلك التمساح أسرع منا ، لهذا اذهبي أنت و اخبريهم بالذي حدث هنا تحديداً ، أخبريهم أن هنا يوجد تمساح يساوي ملايين الدولارات ، تمساح يساوي حياة .

ابتعدت تايا عن توماس و فهمت كلامه جيداً و أدركته ، و عرفت أنها لو ساعدته ستهلك معه لا محالة ، و حينها أصدر توماس صوت مزعج على ضفاف الجزيرة الصغيرة التي كان عليها ليجذب اهتمام التمساح ، و نظرت تايا لتوماس نظرة وداع و الدموع تملأ عينيها الزرقاء التي تتلألأ كالنجوم البراقة ، و بدون سابق إنذار أتى التمساح مجدداً ، و ظهر ظله في عين توماس الذي كان واقعاً على الأرض في استسلام تام لمصيره المحتوم ، و قبل أن يطبق التمساح فكه على جسد توماس و يفتك به قال توماس و هو يضحك :

– اذهبي الآن فوراً ، اقفزي و أخبريهم ماذا حدث هنا تحديداً .

و بدون تفكير .. قفزت تايا إلى المياه على الفور ، و سبحت مسرعة باتجاه الضفة التي أشار إليها توماس ، و أخذت تسبح و تسبح حتى وصلت إلى الضفة ، و أخذت تجري داخل الأحراش مسرعة و هي غير مصدقة أنها نجت بالفعل ، و بعد دقائق … سمعت صرخة مدوية أتية من البحيرة المظلمة ، فعرفت حينها أنها صرخة توماس وأنه فارق الحياة بين فك هذا المخلوق و انتهى كل شيء ، ثم بعدها أخذت تجري باكية و هي لا تعرف أين تذهب ، و فجأة وجدت نفسها خارج الأحراش ، و وجدت طريق سريع خالي من السيارات ، إلا سيارة واحدة كان يقف بجانبها رجل أفريقي ، وجد الرجل تايا و هي تجري مسرعة نحوه ، فهتف قائلاً لها :

– ما الخطب يا آنستي العزيزة ؟!

قالت له تايا و هي تبكي و تنظر للأحراش المظلمة على جانب الطريق .. و كأنها تتوقع خروج شيئاً أخر منها :

– هيا لنذهب من هنا بسرعة خذني معك و بعدها سأشرح لك كل شيء ..

– اشرحي لي الآن ما الخطب ؟!

– قلت لك هيا بسرعة لا يوجد وقت .

و قبل أن يتفوه الرجل بكلمة واحدة .. فجأة .. أطبق عليه فك كبير للغاية وهشم رأسه بين طيات أسنانه !! ، و قد كان هو نفس التمساح الذي كان في البحيرة تحديداً ، و قد زحف وراءها و تبع قطرات دمها و رائحتها ، و لماذا لا يخرج ؟! و هو كائن برمائي و الأحراش بجوار الطريق بالضبط ، و من الممكن أن يزحف إليها بسهولة ..

و عندما كان التمساح ملتهياً بقضم جسد الرجل .. أسرعت تايا فوراً للسيارة و دخلت إليها و أغلقت الباب ، ولكن قبل أن تديرها لتنطلق بها .. قام التمساح بالإنتهاء من الرجل و هجم على السيارة على الفور و قلبها رأساً على عقب ، و قام بتهشيم الزجاج و أدخل فكه إلى داخل السيارة لعض تايا و تمزيقها ، و قد كانت هي تصرخ بهيستريا و رعب شديد ، بينما كان الزاحف الضخم يلهو بالسيارة و كأنها لعبة و يقلبها يساراً و يميناً بسهولة شديدة .. و بعدها غاب المشهد عن الأنظار …

* * *

و في مكان أخر وقف محمودي أمام زعيم القبيلة إيبولا و هو يقول له :

– هل غفرت لي الآن سيدي ؟!

قال له الزعيم وهو يبتسم :

– نعم .. و كيف لا أغفر لك و أنت سلمتنا من دنس نهرنا بنفسك ؟!

و بعد دقائق سمع الجميع صرخة تأتي من جهة الطريق ، كانت هذه الصرخة الأخيرة صرخة تايا لينكون .

* * *

تم طمس بعد الحقائق من هذه القضية من قبل الشرطة الغينية ، و قالوا لأهل المفقودين أن ذويهم ماتوا آثر غرق مركبهم و أكلت جثثهم التماسيح النيلية الضخمة و أخفتها تماماً ، بينما أكدت الحقائق أن الشرطة حائرة عن كشف طلاسم القضية الحقيقية و أنها عاجزة عن التوصل لسبب مقتلهم الحقيقي و اختفائهم ، غرقت الصحف و المجلات في أمريكيا بهذا العنوان :

“” اختفاء صائد التماسيح الشهير توماس هازرد هو و من معه في رحلة نيلية في غينيا “”

و كان مضمون العنوان كالآتي :

وجدت ورقة غريبة أطاحها الهواء ، على ما يبدو أنها مكتوبة بخط يده ، و قد كان فيها هذا النص الغريب المثير للريبة و الذي يؤكد أن توماس هازرد فقد بشكل جنائي :

أحياناً قد تخدعنا المظاهر و يتضح الباطن ، و يتحول الحال إلى محال ، و يتحول الصياد إلى فريسة ، و ينقلب الوضع رأساً على عقب ، قد نعبث بالأشياء دون أن ندري ما هى و ما تكون ، فالطبيعة البشرية حتمت ذلك لأنها منذ قديم العصور كانت سبباً لإيذاء أي كائن حي يقع تحت براثنها و في وسط صفحات تاريخها الأسود ، تزيننا بالعقل و أمسكنا بنادقنا و رشاشتنا لمطاردة هذا المخلوق ؟! لكنه أبى أن يموت ، و على ما يبدو أن الموت ينتظرني الآن !! ثم يضحك كاتب الرسالة ويقول .. ها أنت أيها الضخم أهلاً بك ، لا ترسلوا المزيد من الصيادين إلى غينيا .. ريكيوم الكبير هناك ؟!!

توقيع ..
توماس ويليام هازرد .

و إلى هذه اللحظة مازال ريكييوم الكبير يقبع هناك و يصطاد طرائده .

تاريخ النشر : 2017-01-16

توتو

مصر
guest
31 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى