أدب الرعب والعام

عذابي الأبدي

بقلم : نوار – سوريا

عذابي الأبدي
فتحت الدفتر و أحسَّت أنَّها على وشك اكتشاف شيءٍ هام .. هامٍّ جدَّاً 

إهــداء ..

إلـى كـلِّ شخصٍ احترق قلبه بنيران حبٍّ نشـأ فـي الخفـاء و نمـا فـي الخفـاء و بقـي فـي الخفـاء ..

                                                                    ـــــــــــــــــــ

إن كنت تبحث عن الجمال ، إن كنت تبحث عن الرقة ، الأنوثة و الدلال ، القوة و الحزم ، الطيبة و الحنان .. فإنك ستجد هذه الصفات مجتمعة بامرأة اسمها نادين

….

استيقظت نادين في صباحٍ خريفيٍّ كئيب على صوت المنبّه الذي أعلن عن انتهاء وقت النوم و البدء بالروتين اليومي .. الاستحمام ، تناول الفطور ، الذهاب للمدرسة و مقابلة وجوه الطلاب الناعسة و محاولة إدخال المعلومات برؤوسهم ، المرور على الصيدلية لجلب دواء أمها ، و أيضاً جلب المزيد من خيوط الصوف ذات اللون القرمزي لإكمال الشال الذي بدأت بغزله استعداداً لفصل الشتاء الذي كان على الأبواب ..

وقفت أمام المرآة تغسل وجهها فلاحظت بعض الشعيرات البيضاء تعلن عن ظهورها من جديد لتفسد لون شعرها الأسود .. نظرت بيأسٍ إلى نفسها و زفرت بضيق ، و أضافت الذهاب لصالون التجميل إلى قائمة الأعمال التي ستنجزها اليوم ..

عندما عادت من عملها أخبرتها أمها أن أخيها أسامة سيأتي مع عائلته في المساء .
لم تكن نادين تملك سوى هذا الأخ الذي يكبرها بسبع سنوات ، فقد فقدت أمها طفلين قبل أن تنجبها ، و كانت نادين على علاقة قويَّة مع ابنته سلمى ، على الرغم من فارق السن الذي بينهما ..

في المساء اجتمعت العائلة .. نادين و والديها ، أسامة و زوجته و أولاده سلمى و لبنى و أيهم ، علت الأصوات تتخللها الضحكات و كانت نادين قد جلبت الصوف و جلست بينهم تكمل غزل شالها .. التفت إليها أسامة فجأةً و سألها بصوت خافت :
– صحيح نادين ، هل فكّرتِ بالموضوع الذي تكلمنا به ؟
أجابته بعدم اكتراث :
– لا أعرف لماذا تعود و تفتح هذا الموضوع من جديد ! سبق و أعطيتك رأيي فيه .
– لأني أفكر بمصلحتك ، و أريد لكِ الأفضل
هبّت نادين واقفة و قالت بصوتٍ مرتفع :
– ما هو الأفضل ؟ هل الأفضل أن أقبل الزواج بصديقك الأرمل عماد و أربي أطفاله ؟
أجابها أسامة و قد فقد السيطرة على أعصابه :
– و من تظنين سيتقدم لكِ بعد هذا العمر ؟ ابن العشرين !! نادين أنتِ لستِ صغيرة ، فكفاكِ رفضاً و تمنعاً ، أنتِ ..
تدخَّل والده قائلاً بحزم :
– أسامة .. هذا يكفي ، لم أجبرها يوماً على فعل شيءٍ لا تريده ، و لن أسمح لك أنت بفعل ذلك .

تركتهم نادين بعد هذا الجدال و خرجت إلى الشرفة و جلست تغزل بأصابع مرتجفة ، و قد غالبت دمعة توشك على النزول ..

لحقتها بعد قليلٍ سلمى و قالت لها بعد تردُّدٍ كبير :
– عمَّتي نادين .. هل تسمحين لي بسؤال ؟
أجابت دون أن ترفع عينيها عن عملها :
– تفضلي
– لكن عديني أنكِ لن تغضبي ..
– قولي و سنرى
– لا عديني أولاً ..
– حسناً .. أعدك

أخفضت سلمى نظرها ، و جرَّت فستانها لتغطي ركبتها ، و تململت في جلستها ، ثمَّ حسمت أمرها و رفعت رأسها و قالت :
– لماذا لم تتزوجي لحدِّ اليوم ؟ أنت جميلة بل أنت الجمال نفسه .. و قد تقدم لخطبتك العديد من الرجال ، فلماذا لم توافقي على أحدٍ منهم ؟ هل قلبك مشغول بحبِّ رجلٍ ما ؟؟

توقَّفت أصابع نادين عن الغزل ، و رفعت عينيها عن الصوف لتلتقي بعيني سلمى التي أحست أنها وقعت في ورطةٍ لا فكاك منها .
أطالت نادين النظر إلى سلمى و كأنَّها كانت تفكِّر بأمرٍ ما ، ثم تنهَّدت بعمقٍ و قالت :
– إن كنتِ مهتمَّةً كثيراً بمعرفة الإجابة فاذهبي إلى غرفتي ، في الدرج الثاني بجانب السرير يوجد دفترٌ بغلافٍ وردي ، اقرئيه و أعيديه إلى مكانه ، لكن أريدك أن تنسي تماماً ما ستقرئينه فيه ، و تعديني ألَّا تفتحي هذا الموضوع معي مرةً أخرى ..

قالت سلمى بخجل :
– نعم .. أعدكِ يا أجمل عمَّةٍ في الكون كلِّه
و اقتربت من نادين و طبعت قبلةً على خدِّها ، ثمَّ نهضت لتنفيذ ما قالته لها ..

دخلت سلمى إلى الغرفة متلهِّفةً ، و اتَّجهت إلى الدرج و أخرجت الدفتر ، أحسَّت أنَّها على وشك اكتشاف شيءٍ هام .. هامٍّ جدَّاً .

أمسكت بالدفتر و فتحت الصفحة الأولى ، كان مكتوبٌ فيها .. ” عذابي الأبدي “
استغربت هذا العنوان ، لكنها قلبت إلى الصفحة الثَّانية و بدأت تقرأ ..

١٨ نيسان ٢٠٠٩

في هذا اليوم حدث تحوُّل كبيرٌ بحياتي ، زلزالٌ هزَّ كياني ، إعصارٌ عصفَ بي و تركني تائهةً مشتتة ، لا أعرف أين هو طريق النجاة !!

التقيت به و كنت على وشك الزَّواج من شابٍّ اسمه فريد .. كان فريد قد رآني بإحدى المناسبات و أعجب بي ، فتقدم خاطباً ، لم أكن يوماً مع الزواج التقليدي ، كنت دوماً أبحث عن الحب .

يقولون أنِّي جميلةٌ و هذا الأمر جعلني مطاردةٌ من قبل الرجال ، أنهيت دراستي الجامعيَّة و لم أحب أو أشعر بميل تجاه أي رجل التقيت به ، ثم عيِّنت معلمةً في إحدى المدارس ، و كنت أظن أني سألتقي بنصفي الآخر عن طريق الحياة العملية ، لكن ذلك لم يحصل .. و هذا الأمر جعلني أفقد إيماني بوجود الحب .. فلو كان الحبُّ موجوداً لوقعت به ..

لذلك عندما تقدَّم فريد لخطبتي وافقت .. كيف لا أوافق و كل شيءٍ حولي كان يلحُّ عليَّ بالموافقة ! عمري الذي بلغ الثامنة و العشرون ، تهامس النِّسوة من حولي عن سبب عدم ارتباطي مع أنه لا ينقصني شيء .. جمال و شهادةٌ جامعيَّةٌ و عمل ، صوت أمِّي الذي يصل إلى مسامعي في بعض الليالي تدعو لي بالزوج الصالح ، صديقاتي اللواتي تزوَّجنَ الواحدة تلو الأخرى و أصبحن ينظرن إليَّ نظرةَ شفقةٍ لا أحتملها .. وافقت مع أني غير مقتنعة كثيراً .. كان حلمي أن أتزوَّج بعد قصَّة حب ، لكن ذلك لم يحصل .

تعرَّفت على فريدٍ عن قرب ، و وجدته شابَّاً محترماً و أخلاقه عالية ، يعمل في إحدى البنوك ، و له منزلٌ مستقلٌّ عن أهله .. أي أن مواصفاته تحلم بها أيُّ فتاة ، و بالمقابل هو كان يحبُّني بجنون ، قال لي أنه أحبَّني من النظرة الأولى و فوراً قرر التقدُّم لخطبتي .. كنت أقنع نفسي طوال الوقت أنَّ فريداً هو نصيبي و يجب أن أرضا به ، لكن حدث ما جعلني أتراجع عن قراري هذا ..

كنت عائدةً من عملي و دخلت العمارة التي أسكن بها ، خطوت صاعدة الدرج و قبل أن أبلغ باب شقَّتنا التقيت به .. شعرت أنَّ الزمن توقَّف عند تلك اللحظة ، رجل بكل معنى الكلمة رأيته واقفاً أمامي ، عيناه يغوص الناظر فيهما بليل حالك السواد ، خصل من شعره منسدلةٌ بتعبٍ على جبينه ، ذقنه خفيفة مشذَّبة ، كلُّ تفصيلٍ فيه كان يستحق التأمل .. بقيت متجمِّدةً بمكاني إلى أن طلب مني معتذراً أن أفسح له الطريق حتى يهبط الدرج ، عندها عدت إلى وعيي و ابتعدت و أنا أتمتم بكلمات اعتذارٍ مبهمة .. و عندما خطوت لأكمل طريقي هبطت طفلةٌ جميلةٌ الدرج مسرعةً و هي تنادي : أبي أبي .. فالتفت إليها ذاك الرجل متسائلاً فقالت له : لا تنسى أن تحضر لي الحلوى ، أنت وعدتني بذلك ، فابتسم والدها ابتسامةً أذابت قلبي و قال لها : بالطبع لن أنسى ..

أكملت طريقي و تفكيري كلُّه كان عند هذا الملاك الذي التقيت به ، لكن من أين هبط ؟ لا يوجد فوقنا سوى شقةٌ واحدة غير مسكونة !! هل يعقل أنهم ساكنون جدد ؟

دخلت المنزل و اتّجهت إلى غرفتي ، كنت أحاول أن ألملم شتات ذهني ، لقد أحدث في داخلي ثورةً حطَّمت معها أسوار قلبي .. قلبي الآن يدقُّ بعنف ، هل هذا هو شعور الناس عندما يصيبهم سهم الحب ؟ لا أعلم ، لكن ما أعلمه أنَّ هذا اليوم غير حياتي .. نادين قبل هذا التاريخ ليست هي نادين بعده .

شردت سلمى قليلاً .. لكنها عادت و قلبت الصفحة و تابعت القراءة :

٢٠ نيسان ٢٠٠٩

نعم .. كانوا ساكنين جدد ، لقد قدموا من مدينةٍ أخرى و اشتروا الشقة التي تقع فوقنا ، كانت هذه الشقة معروضةٌ للبيع منذ زمن .. لم أكن أعلم أن قلبي سيكون أسير مالكها الجديد .. عرفت اسمه عن طريق والدي ، إن اسمه هو حازم و يعمل في سلك المحاماة .. يا الله ماذا أفعل ؟؟ صورته لا تفارق خيالي !!

٢١ نيسان ٢٠٠٩

اليوم أتى فريد ، كانت أمي قد دعته على العشاء ، لم أستطع النظر إليه ، استغربت من نفسي ، ما هذا التحوُّل الذي يجري بداخلي .. يا إلهي ارحمني !!
لم أشعر بالارتياح إلا بعد أن غادر ، أمي لاحظت عليَّ ذلك ، لكنِّي تهرَّبت من أسئلتها و دخلت غرفتي مدَّعيةً الإرهاق الشَّديد ..

٢٣ نيسان ٢٠٠٩

آه .. آه يا قلبي ، اليوم رأيته ، التقينا عند الدرج ثانيةً ، كنت ذاهبةً إلى عملي ، ألقى عليَّ التحية و هبط نازلاً .. بقيت واقفةً أتابعه بعينين متلهفتين ، و مضيت إلى المدرسة و كنت شاردة الذهن طوال الوقت .

٢٤ نيسان ٢٠٠٩

رأيتها .. زوجة جارنا حازم ، جاءت إلينا لتتعرف ، أحسست بالغيرة منها ، نظرت إليها متفحِّصةً وجدتها امرأةً عاديةً ، أو ربما غيرتي منها من جعلتني أراها كذلك .. لا أعرف و لكني اعتبرتها عدوَّتي .. نعم عدوَّتي و سارقة حبيبي منِّي ، ابنتها ظلَّت ملتصقةً بي طوال الوقت ، كانت في السادسة من عمرها ، ورثت عن أبيها لون الشعر و العينين .. كنت عندما أنظر إليها أشعر بأني أنظر إليه ، أمي يبدو عليها أنها أحبت زوجة حازم ، فقد قالت عنها بعد أن غادرت : تبدو امرأةً جيدة و تستحق الاحترام ، أكملت أنا بصوتٍ خافتٍ .. و حظها كبير أن تزوجت من حازم .
و عندما سألتني أمي عما قلت تظاهرت بعدم قول شيء ..

٢٦ نيسان ٢٠٠٩

لقد دعت أمي حازم و عائلته لقضاء الأمسية عندنا ، و كانت قد اتصلت بأخي أسامة و زوجته و أطفاله لكي يحضروا أيضاً .. فرحت عندما عرفت بذلك و أسرعت إلى غرفتي لأختار ما سأرتدي ، و أثناء ذلك تذكَّرت فريد فخجلت من نفسي ، لكني أبعدته عن تفكيري و قرَّرت الاستمتاع بهذه الأمسية ..

يا الله .. كان حازم يتمتَّع بشخصيةٍ آسرة ، كنت أراقبه بانبهارٍ حاولت إخفاءه ، و عندما خرج هو و والدي و أخي إلى الشرفة ليكملوا حديثهم و يدعونا نحن النساء براحتنا استأت ، تمنيت أن أخرج معهم ، كنت طيلة الوقت أنصت لأصواتهم التي تصل إلينا و أنتظره ليتكلم ..

آه .. كنت دائماً أنتظر اليوم الذي أقع فيه في الحب ، لماذا يا إلهي ؟ لماذا قلبي تعلَّق بالرجل الخطأ .. رجل أعلم أنه لن يكون لي .. آه آه ماذا أفعل ؟!

٣٠ نيسان ٢٠٠٩

تحدَّد موعد عقد قراني على فريد في السابع من أيار ، أكاد أختنق ، لم أعد أريد الزواج من فريد ، كنت طوال الوقت أقنع نفسي بهذا الزواج لكن ظهور حازم المفاجئ بحياتي جعلني لم أعد أتقبَّل هذا الأمر ، لكن كيف أخبرهم بذلك ؟ كيف ؟

٢ أيار ٢٠٠٩

موعد عقد القران يقترب ، ماذا أفعل ؟ أمي مشغولة بالتجهيزات ، و زوجة أخي تعرض علي تسريحات شعرٍ لأختار منها ما يناسبني ، و أجبرتني على النزول إلى السوق لاختيار فستان .. أحسست أنني أساق إلى الإعدام .

٧ أيار ٢٠٠٩

أكتب الآن و الدموع تملأ عيناي ، و آثار صفعةٍ قويةٍ على خدِّي الأيسر ..

جاء اليوم الموعود ، لقد اخترنا أن تكون حفلةً صغيرة تمهيداً للعرس الذي سيقام بعد شهرٍ من الآن ، لم ندعو أحداً ، فقط عائلتي و عائلته .

لم أرضَ الذهاب لصالون تجميل و إنما وضعت زينتي بنفسي ، و ارتديت فستاني و أنا أكاد أغالب دموعي ، و عندما قدم الشيخ لعقد القران لم أعد أحتمل و خرجت إليهم .. أنا نادين التي لم تخطئ يوماً مع أحد ، نادين التي تراعي مشاعر الكل و لا تجرح ، نادين التي لم يعلو صوتها أبداً ، وقفت أمام الكل ، تأملتهم واحداً واحداً ، ثم ركزت نظري على فريد و قلت له بصوتٍ واضحٍ : لا أريد الزواج منك

لن أنسى نظرة الذهول التي طالعني بها ، ليس هو فقط من ذهل و إنما الجميع .. زوجة أخي شهقت واضعةً يدها على فمها ، أبي نهض قائلاً : ماذا تقولين يا ابنتي ؟ أكيد لست بوعيك ، فقلت له بإصرار : بل أنا بكامل وعيي و لا أرغب بالزواج من فريد ، لا أرغب .. و دخلت مسرعةً إلى غرفتي .

شعرت بجلبةٍ في الصالة ، و سمعت صوت صفق باب الخروج ، دخلت أمِّي بعد ذلك و سألتني صارخة : ماذا فعلت يا عديمة الإحساس ؟
لم أرَ أمي يوماً بهذه الحالة ..
أكملت قائلةً : ما الذي جعلكِ تغيِّرين رأيك ؟ و لماذا اخترتِ هذه الطريقة لتعلني عدم موافقتكِ ؟ لقد أحرجتنا ، بل لقد فضحتنا ، غداً ستنتشر فعلتكِ بين جميع معارفنا و سيبدأ القال و القيل .. نهضتُّ و قلت لها بتحدِّي : لا يهمُّني ما سيقال ، هذه حياتي و أنا حرَّة بها ، لم أعد أريد فريداً زوجاً لي ، هل ارتكبت جريمة ؟
و جاءني الرد على شكل صفعةٍ قوية أدارت رأسي .. كانت هذه المرة الأولى التي ترفع فيها أمِّي يدها علي !! خرجت و أغلقت الباب وراءها بعنف و انهرت أنا باكية ..

معها حق أمي حتى لو قتلتني ، فتصرُّفي كان تصرفاً أحمقاً ، كنت أستطيع التَّعبير عن رفضي قبل موعد كتب القران ، لكنِّي كنت مترددةً و خائفة ، شجاعتي لم أمتلكها إلا في اللحظةِ الأخيرة .. آه يا ربي ارحمني

١٠ أيار ٢٠٠٩

تدهورت حالتي منذ ذلك اليوم الذي رفضتُّ فيه فريد ، أخذت إجازةً من المدرسة لمدة أسبوع ، و بقيت بغرفتي لا أخرج منها ، لم أكن احتمل نظرات أهلي إلي و تساؤلاتهم ، كيف سيفهمون ؟ كيف لي أن أشرح سبب فعلتي هذه ؟! هل أقول لهم أن السبب هو جارنا حازم ؟ هل أخبرهم بأني أحبه ؟ كيف كيف يا إلهي ؟!!

لذا آثرت الصمت .. لن أرد عليهم ، لن أفصحَ عمَّا في قلبي ، لكني شعرت بالذَّنب تجاه فريد ، ما ذنبه ؟ لقد جرحته برفضي له بهذه الطريقة و أمام الجميع ، لكنِّي لم أستطع أن أجبر نفسي على الزواج به ، لم أكن أريد أن أسلِّمه جسدي و روحي معلقةٌ برجلٍ غيره ، ذلك اعتبره خيانة ، و أنا لا أرضی لنفسي الخيانة حتى في الأفكار !! أنا فعلت ما يريحني و يريح قلبي و ضميري ..

١٦ أيار ٢٠٠٩

عدت إلى حياتي الرتيبة بعد أن امتصَّ أهلي الصدمة التي سببتها لهم ، و أجبرني أبي على الخروج و الجلوس معهم ، و طلب منِّي نسيان ما حدث ، و قال أنَّهم ربما يكونون قد ضغطوا عليَّ بشكلٍ غيرِ مباشر و حمَّلوني فوق طاقتي .. كلامه فيه جزءٌ من الحقيقة ، فمجتمعي الذي لا يرحم هو من جعلني أوافق ، لكن الجزء الأكبر منها و التي لا يعلمها أحد هو قلبي الذي تعلق بحب حازم .. حبِّي لحازم جعلني لا آبه لأي شيء ، و لم أعد أتقبَّل فكرة الزواج نهائياً ..

٢٠ أيار ٢٠٠٩

أصبحت أحاول أن يصادف خروجي للعمل مع وقت خروج حازم ، كانت تسعدني اللحظات القصيرة التي تجمعنا ، فهذه اللحظات هي زادي الذي أعيش عليه لأيام ..

١ حزيران ٢٠٠٩

توثقت علاقتنا بجيراننا الجدد ، أي حازم و عائلته .. زوجته امرأةٌ طيبةٌ ، لكنِّي لم أستطع أن أحبها ، بل أحياناً أشعر بأنِّي أكرهها ، أمَّا ابنته فكانت تحبُّني ، و كثيراً ما تنزل إلينا ، خصوصاً إن كانت سلمى ابنة أخي موجودة عندنا لكي تلعب معها ، أنا أيضاً أحبُّها فهي تشبه والدها ..

٥ حزيران ٢٠٠٩

دعتني زوجة حازم للصّعود إليها و شرب القهوة ، لم أمانع فقد كنت أرحِّب بدخولي لمنزلها حتى أتحسَّس أنفاس حازم في أرجائه ، و أرى سترةً له معلقةً أو ملقاةً بإهمالٍ على الأريكة ، أو كتابٍ كان يقرؤه .. كنت أبحث بعيني عن أيِّ تفصيلٍ يشعرني بوجوده .
و بينما أنا جالسة نادتني ابنته لتريني سريرها الجديد ، فذهبت إليها و احتضنتها و أبديت إعجابي بالسرير ، و وضعت رأسي على الوسادة و ادَّعيت بأنِّي سآخذه لي ، و بينما أنا أمازحها شعرت بظلِّ شخصٍ يقف عند الباب ، رفعت رأسي فرأيته ! متى جاء ، كيف لم أشعر به ، لا أعرف !! ما أعرفه أني نهضت بسرعةٍ ألملم شعري المتناثر ، و أعدِّل من هيأتي ، فضحك بعد أن ألقى السلام و أكمل طريقه إلى غرفته ..

يا الله كم شعرت بأنِّي أحبُّه في تلك اللحظة ، ضحكته لازالت ترنُّ بأذني ، خصلات شعره التي دائماً ترقد بتعبٍ على جبينه ، عينيه اللتين تلمعان عندما يبتسم .. آه .. آه يا ربي هذا الحب يؤلم قلبي ..

١٦ حزيران ٢٠٠٩

كنت دائماً أنتظر الوقوع بالحب ، لكنَّ أشد أنواع الحب عذاباً هذا الذي وقعت به ، أعرف أنَّ حازم ليس لي لكن .. آه لا أستطيع التحكُّم بقلبي لا أستطيع ، أصبح اليوم الذي لا أراه فيه غير محسوبٍ من عمري .. و الآن نحن بالعطلة الصيفية و المدارس مغلقة ماذا أفعل ، لا توجد حجَّةٍ لكي أراه ، فأنا قابعةٌ في المنزل أغلب الوقت .. متى تنتهي الإجازة !!

٢ تموز ٢٠٠٩

تقدَّم لخطبتي شخصٌ آخر ، رفضته مباشرةً و لم أعطِ لأمي المجال لمناقشتي بالموضوع ، لم أعد أريد الزواج ، بل لم أعد أتقبل فكرته ، قلبي و روحي و عقلي مع حازم .. ذلك شيءٌ خارجٌ عن إرادتي .

١٢ تموز ٢٠٠٩

اليوم رأيت فريد ، كنت بصحبة أهلي في إحدى المطاعم ، لمحته يدخل و بصحبته امرأة ، تقدَّم منَّا ملقياً التحية و قدَّم لنا المرأة و قال أنها زوجته .. عندما قال ذلك لا أعرف لمَ تضايقت ! ربما لأنه قالها بكل سعادةٍ و ثقة ، بالتأكيد أراد أن يفهمني أنني لم أستطع تحطيمه .. لكنني عندما عدتُّ إلى المنزل و فكَّرت بالأمر شعرت بالسَّعادة من أجله فهو يستحق كلَّ خير ، و أنا من أخطأت معه .. أرجو له التوفيق

٢١ تموز ٢٠٠٩

عشت أسبوعاً مميَّزاً أدخل السرور إلى قلبي الملوَّع ، فقد سافرت زوجة حازم و ابنته لزيارة أهلها و بقي هو وحيداً في المنزل .. و بما أن علاقتنا معه كانت قوية فقد أصرت أمي أن يأتي لتناول طعام الغداء معنا ، رفض في البداية لكن لم يكن أحد يستطيع الصمود أمام إصرار أمي ، فهي من النوع اللحوح إذا أرادت شيئاً ما ، لذا استسلم و أخذ ينزل إلينا في وقت الغداء ، و قد حرصت على أن أجعله يتذوَّق من طبخي ، كما أنَّه قضى معنا بعض الأمسيات .. كان أسبوعاً سأظلُّ أسترجع ذكرياته لفترةٍ طويلة .

٤ آب ٢٠٠٩

لقد سئمت من العطلة ، أريد أن تفتح المدارس و أعود للدَّوام حتَّى أصادف حازم في طريقي ..

١٠ آب ٢٠٠٩

فكَّرت بطريقةٍ من الممكن أن أرى فيها حازم ، فقد أقنعت زوجته بضرورة الذهاب لإحدى النوادي الرياضية من أجل المحافظة على رشاقة أجسامنا ، وافقت على هذا الأمر و أصبحنا نذهب كل صباحٍ ، و كثيراً ما صادفت حازم أثناء خروجي ، خصوصاً إن تأخَّرت هي بالنزول و اضطررت أنا للصعود إليها و طرق الباب ..

٢٢ آب ٢٠٠٩

إلى متى يا قلبي ستبقى معلَّقاً بحبِّ شخصٍ لم و لن يحسَّ بك ؟ لماذا تهوى العذاب ؟ آه .. نعم أنا أهوى تعذيب نفسي بهذا الحب ، لقد قررت أن أسمِّي يومياتي هذه التي أكتبها “عذابي الأبدي ” ، فأنا أتعذب كلَّ يومٍ بهذا الحب ، عذابٌ ليس له نهاية ، لكن أقسم أنَّ الأمر ليس بيدي ، جلست مع نفسي كثيراً و تساءلت عن آخر هذا الحب العقيم ، لكني لم أجد إجابة ، حازم أصبح جزءاً مني ، لم أعد أتخيَّل الحياة من دونه ، أحياناً أفكِّر ماذا لو لم تعجبه الإقامة هنا و عاد إلى مدينته ، ماذا سيحلُّ بي .. سأجن لو فعل ذلك ، لو غاب عنِّي بالتَّأكيد سأجن .

٤ أيلول ٢٠٠٩

إنه الخريف .. بدأ النسيم يصبح بارداً ، و السماء غائمة تحجب ضوء الشمس ، استيقظت صباحاً و فتحت نافذتي و استقبلتني زقزقة العصافير و شيء آخر .. لقد رأيته ، فقد كانت غرفتي تطلُّ على مدخل عمارتنا ، رأيته يخرج من بابها ثم يلتفت لصوتٍ ناداه من فوق .. إنها زوجته طلبت منه الصعود لأنه نسي هاتفه فأسرع بالعودة ، و أسرعت أنا بدوري بارتداء شيء يستر كتفيَّ العاريتين ، و عندما هممت بفتح الباب شعرت بأمي تقف خلفي و تسألني إلى أين ؟ فأجبتها بتلعثمٍ : كنت أريد الصعود لجارتنا من أجل أمر هام .. أجابتني بعدم اقتناع : و هل هذا الأمر الضروري يجعلك تصعدين إليها بثياب النوم ؟! ماذا لو فتح لكِ الباب زوجها !! أجبت و أنا أتصنَّع البلاهة .. معكِ حق ، لم أنتبه لذلك !
و أسرعت بالدخول إلى غرفتي .

لا أعرف هل اكتشفت أمي أمري أم لا .. شعرت بخجلٍ كبيرٍ من تصرُّفي ، و حمدت الله بأنِّي لم أفتح الباب ، ماذا سيقول حازم عني و بأيِّ حجّةٍ أبرِّر له سبب خروجي بهذا الوقت و بثياب النوم !! حبُّ حازمٍ أعادني لأيام المراهقة .. يا الله ساعدني .

١٢ أيلول ٢٠٠٩

فتحت المدارس و عدت إلى عملي ، و بدأت بالتعرف على طلابي الذين سأمضي معهم السنة الدراسيَّة الجديدة .. لكن أنا مكتئبة ، لقد سافر حازم مصطحباً عائلته ليزور أهله .. كيف سيمضي الوقت بدونه ، صحيحٌ أنِّي لا أراه كلَّ يوم ، لكنِّي أشعر بوجوده ، و كثيراً ما سمعت صوت خطواته فوقي ، فغرفة نومه تقع تماماً فوق غرفتي .. يا إلهي صبِّرني

قلبت سلمى الصفحة و قرأت :
٢ كانون الأول ٢٠٠٩ .. استغربت الفترة الزمنيَّة الكبيرة بين هذا التاريخ و بين آخر تاريخ كتبت فيه عمتها يوميَّاتها ، لكنها تابعت القراءة ..

حبيبي حازم ، اشتقت لك ، أودُّ أن يأتي الصباح بسرعة حتى ألتقيك على الدرج ، آه لو تعلم كم أحبُّك ، أحمل في قلبي حباً لو وزَّعته على قلوب كل البشر لامتلأت به ، و لعمَّ السلام كافة أنحاء العالم ، لكن هذا الحب ليس لأحدٍ سواك .. ليس لأحدٍ سواك

٦ كانون الأول ٢٠٠٩

اليوم تكلَّمنا أنا و حازم مطوَّلاً ، فقد سار معي إلى المدرسة ثم أكمل طريقه إلى عمله ، لم أكن أمشي على الأرض بل شعرت بنفسي أطير ، للأسف وصلنا بسرعةٍ إلى المدرسة ، ألقى علي التحية و سار مبتعداً .. بقيت أسترجع أحاديثنا أثناء الطريق طيلة فترة الدوام ، و ربما لاحظ الطلَّاب شرودي عنهم .

١٧ كانون الأول ٢٠٠٩

قضينا اليوم أمسيةً رائعة مع حازم و عائلته ، فقد دعتهم أمِّي لقضاء السهرة عندنا ، كما اتفقنا أن يقضوا عندنا ليلة رأس السنة ، حتماً ستكون ليلةً مميزةً بصحبة حبيبي حازم ، سأعدُّ له جميع الأطباق التي يحبها ، فقد عرفت ما يحب عن طريق زوجته .

رفعت رأسها سلمى عن الكتاب و أخذت تفكر قليلاً محاولةً تذكُّر شيءٍ ما ، ثم أخذت تقلِّب بقية صفحات الدفتر بسرعة فوجدتها كلَّها كلامٌ عن حبِّ عمَّتها لحازم و التقاءها به إما على درج العمارة أو في الطريق ، أو بقضاء الأمسيات مع العائلة .. و كانت التواريخ متسلسلة و تمتدُّ لعدَّة أعوام .. ٢٠١٠ ، ٢٠١١ ، ٢٠١٢ … استمرَّت بالتقليب و توقفت عند إحدى الصفحات و قرأت ..

٩ آذار ٢٠١٤

حدث شيءٌ رائعٌ اليوم ، و أخيراً و بعد انتظارٍ دام سنين اعترف لي حازم بحبه ، كنَّا نسير في الطريق فطلب منِّي أن أتصل بالمدرسة و أعتذر عن الغياب في الحصة الأولى لأنه يريد أن يكلمني بأمر ما ، و بعد أن اتصلت دخلنا إحدى المقاهي ، فنظر إلي و قال بأنه يحبني و قد حاول كثيراً تجاهل هذا الحب لكنه لم يعد يستطيع التحمل .. يا الله لم أصدِّق ما سمعت ، نظرت إليه و دموعي تجمَّعت في عينيَّ و أخذت تحجب عنِّي رؤية وجهه الملائكي .. نعم أخبرته بحبي له منذ النظرة الأولى ، تكلَّمت عن الليالي التي سهرتها و أنا أفكِّر به ، قال بأنَّه كان يشعر بحبِّي له لكنَّه كان يتجاهله ..

لم تكمل سلمى قراءة الباقي و عادت لتقليب الصفحات و تمرُّ عليها مروراً سريعاً ، و في هذه اللحظة دخلت نادين الغرفة و وضعت خيوط الصوف جانباً و قالت بابتسامة حانية :
– هل انتهيتِ من قراءة عذابي الأبدي ؟
رفعت سلمى رأسها و قالت بذهول :
– عمَّتي .. من أين جلبتِ كل هذه اليوميات و الذكريات ؟
قالت نادين باستغراب :
– من أين ؟! من حياتي .. من واقعي !! هل عرفتِ لماذا رفضتُّ كلَّ من تقدم إلي
– عمَّتي و لـ ..
– كفى .. ألم تعديني بأنَّكِ بعد قراءتك لهذا الدَّفتر أن تنسي ما قد جاء فيه ؟
نهضت سلمى و قالت بحزم :
– لكن عمَّتي حازم و عائلته ماتوا منذ زمنٍ بعيدٍ في حادثٍ أليم ، كانوا في طريق عودتهم إلى المنزل من زيارة أهلهم في المدينة المجاورة ، فانقلبت بهم السيارة ، ذلك على ما أذكر كان في أيلول و لم يكن ماضٍ على مجيئهم للسكن هنا سوى بضعة أشهر !!
– اصمتي .. كنت صغيرةً في ذلك الزمن و لا تذكرين شيئاً
– لم أكن صغيرة كثيراً ، كان عمري عشر سنين ، و أذكر ما حدث جيِّداً ، كانت المرَّة الأولى التي أعي فيها معنى الموت ، و معنى ألَّا يعود المرء قادراً على رؤية من اعتاد على وجودهم معه

صرخت نادين قائلةً :
ـ قلت لكِ اصمتي ، حازم لم يمت ، جميعكم تدَّعون ذلك ، جميعكم ضدّي ، جميعكم تريدون حرماني من حبِّي الوحيد ، حرماني من النفس الذي أعيش عليه ، حازم لم يمت ، و أنا أراه كل يوم
– أنت ترينه في خيالكِ و أوهامكِ ، عمَّتي أنتِ ضيَّعتِ عمرك بالعيش بالأوهام ، أنتِ مريضة و يجب أن تذهبي إلى طبيبٍ نفسي ..

و لم تكد سلمى تنتهي من كلامها حتى عاجلتها نادين بصفعةٍ قويةٍ أفقدتها معها توازنها فسقطت أرضاً .
صرخت نادين بوجهها :
– أنا لست مجنونة .. لست مجنونة حتى تطلبي منّي الذهاب لطبيب نفسي .. اغربي عن وجهي ، هيا

و سحبتها من ذراعها و دفعتها خارج الغرفة ، ثم جلست على السرير واضعةً رأسها بين كفَّيها ، و قد ضمَّت ركبتيها إلى صدرها ، و بدأت في البكاء ، كان بكاءً مريراً يقطِّع نياط القلب .. لم يرضَ عقلها تقبُّل حقيقة أن حازماً قد مات ، ربما هي في قرارةِ نفسها تعرف الحقيقة لكنها تأبى الاعتراف بها ، عاشت حياتها تنتظر الوقوع بالحب ، و عندما وقعت فيه تمسكَّت به لدرجة أنَّ عقلها بدأ يوهمها بأن حازم ما يزال يسكن في الشقة فوقهم ، الشقة التي بقيت مغلقةً منذ أن رحل هو و عائلته إلى الدار الآخرة .

كفكفت دموعها ، و فتحت دفترها ، و تناولت قلماً ، ثم بدأت تكتب :

١٩ تشرين الأول ٢٠١٦

اليوم قمت بفعلٍ أحمق .. لقد أطلعت سلمى على سرِّي ، لقد عرفت أنِّي واقعة في حب حازم ، لكن المجنونة تقول أنَّ حازم قد مات ، كيف تجرؤ على قول هذا ؟ حازم حبيبي لم يمت ، كيفَ لا يرونه كلَّ يومٍ صاعداً إلى شقَّته و هابطاً منها ؟ كيف لا يشعرون بخطواته فوق رؤوسهم ؟! مجانين ، يصرُّون عندما يذكرون اسمه أن يقولوا رحمه الله ، أنا أضحك عليهم و على جنونهم ، حازم لم يمت ، و هو يحبُّني ، لكنه ينتظر موت زوجته ليتقدم لطلب يدي ، هو قال بأنَّها مريضة و أيامها في الحياة باتت قليلة .. لقد وعدته بأنِّي سأنتظره و سأكون خير أمٍّ لابنته ، لن أظلمها أبداً بل سأعتني بها جيِّداً لأنها قطعةً منه ..

نعم سأنتظرك يا حازم ، و إن لم تأتِ إلي سآتي أنا إليك .

تاريخ النشر : 2017-02-12

نوار

سوريا
guest
32 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى