أدب الرعب والعام

أنا قادم إليك !

بقلم : رفعت خالد المزوضي – المغرب
للتواصل : [email protected]

أنا قادم إليك !
سميرو.. أينك يا سميرو ؟!.. أنا قادم إليك !

 

سمير !.. حبيبي.. سمير !
همست بها الأم في أذن طفلها النائم كالحمل الوديع..
– ممممم ؟
– هيا يا صغيري ، نمت كثيراً.. انهض فأنا و والدك سنسافر الآن..
– مممم ؟
– ألا تريد أن تودّعنا ؟ ها ؟
– ممم.. ماذا ؟.. ستسافران ؟
لفظها سمير بصعوبة و هو يفرك عينيه ليزيل منهما شظايا النوم..
– إن جدتك مريضة ، شفاها الله ، و يجب أن نزورها.. وأعدك بمفاجأة سارّة حين عودتي.. ها ؟ ما رأيك ؟
قالتها (مروة) بمرح و هي تعابث طفلها الذي اتسعت ابتسامته لما سمع العبارة الأخيرة..

* * *

(محمد) رجل أعمال ناجح و زوجته (مروة) سكرتيرته الخاصة.. شابان سعيدان و متفاهمان لأقصى حد.. ذلك النوع من الأزواج اللذين يتبادلون المجاملات على مائدة الطعام عوض السباب و اللعنات !.. ذلك النوع من الأزواج “العشاق”..
رُزقا بطفل منذ ست سنوات ، وهو (سمير) طبعاً.. ولدٌ في غاية الذكاء ، يظهر ذلك من خلال كلامه و تصرفاته التي تفوق سنه بمراحل..
ربياه أحسن تربية و وفرا له ما لا يتوفر عند جلّ أصدقائه في المدرسة.. إذ أنه فتح عينيه في غرفة جدرانها مغلفة بورق وردي فاتح.. غرفة هي عالم لوحدها ، مدينة ألعاب !..

* * *

– متى ستعودان ؟
قالها (سمير) لأمه و هما ينزلان الدرج بهدوء..
– مممم.. أعتقد في المساء إن شاء الله..
في الأسفل ، كان (محمد) يحمل حقيبة صغيرة و يرتدي بذلته السوداء الأنيقة.. ابتسم برقة لما رأى ابنه و حمله بيديه القويتين إلى أعلى.. لوح به هنا و هناك – كما يفعل عادة – ثم أعاده إلى الأرض و (مروة) تراقبه بوجه مبتسم.. قال و هو يربت على كتفه :
– اسمع يا سميرو.. لا تغادر المنزل !.. هه !.. ابق في الداخل و تمتع باللعب في الحاسوب ، وإذا شعرت بالجوع ، فطعامك في الثلاجة.. اتفقنا ؟
حرك (سمير) رأسه إيجاباً و ابتسامة واسعة على ثغره..

فأردف محمد بعد أن نظر إلى زوجته نظرة ذات معنى:
– سنعود في المساء و سنحضر لك… لا لن أقول !
تمسّك (سمير) برجل والده و هو يتباكى و يصر على معرفة المفاجأة التي تنتظره في المساء ، فارتفعت ضحكات (مروة) وقالت لزوجها تلومه: ” حرام عليك ! “
تملص (محمد) بتؤدة من قبضة الولد ، وقال محركاً حاجبيه في سخرية :
– قلت لك لن أقول !.. لن أقول.. لن أقول.. لالالالالا ! ستعرف ذلك بنفسك في المساء..
” حرام عليييك ! “
ضحك (سمير) من جنون أبيه و مطّ شفتيه في استسلام و موافقة..

مالت (مروة) على زوجها قائلة بمرح :
– أتدري بمن تذكرني ؟!
– بمن ؟
– بأخي (إسماعيل).. هو مجنون مثلك !.. ههههه..
ابتسم (محمد) وانحنى فوضع قبلة حارة على جبين الصغير ، وما إن اعتدل حتى انحنت (مروة) بدورها لترسم قبلة حنان على خده الأملس..
رأى (سمير) الباب يوشك على الانغلاق.. ثم انفتح مرة أخرى لتظهر أمه وهي تتجه بسرعة نحوه ، وحذائها اللامع يصدر قريعاً محبباً فوق الأرضية..
انحنت عليه و قالت و هي تبعثر شعره الأشقر :
– شيء أخير يا حبيبي.. إياك أن تقترب من المسبح ! اتفقنا ؟.. حتى لو سقط به (بوبي) فهو يعرف السباحة.. أوكي ؟
– أوكي مامي..
و قبلة أخيرة على الجبين ثم ينغلق الباب أخيراً..

* * *

في “فيلا” فاخرة لا تبعد كثيراً عن الشاطئ كانوا يقيمون.. ثلاثة طوابق شامخة وسط رقعة خضراء شاسعة ، تحيا بها شتى أنواع الأزهار و النباتات و تتخللها ممرات متشعبة تفضي إلى حوض فسيح على شكل دلفين ضخم !.. وحول كل هذا انتصبت أشجار باسقة و كأنما تحرس هذه الجنة من كل ريح عاصفة أو عين حاسدة..

* * *

” وووييي !… أخيراً المنزل لي وحدي ، سأفعل ما أشاء ! “
هتف بها (سمير) و هو يصعد ملتهماً درجات السلم الرخامي ، وقد زالت عنه كل آثار النوم..
” ترى ماذا أفعل الآن ؟.. ألعب ؟.. لا ، لا ، ليس بهذه السرعة.. إن بطني فارغ ! “
عبر بخطى سريعة أروقة الطابق الأول متجها نحو المطبخ الحبيب ، ثم الثلاجة العزيزة..
فتحها بسرعة لتتألق عيناه سروراً و هو يرى ما بجوفها.. حمل زجاجة الشيكولاته و قنينة العصير ، ثم اعتلا كرسياً ليصل إلى أعلى الرف ، حيث رقائق “البسكويت” التي يهيم بها حباً..
جلس وقتاً لا بأس به يأكل و يشرب بتلذذ ، مستمتعاً برؤية عصفوره الأصفر في قفصه و الذي يبدو عليه النشاط بدوره وهو يُصدر أعذب الأصوات..

توجه مرة أخرى إلى الثلاجة ، أعاد ما أخرجه منها و أخرج كيسا ملوناً ، عليه صورة كلب..
” بوبيي !.. بوبييييييييي !… هيا أيها الأحمق ، إنه موعد فطورك.. “
” ……….
” بوبييييييي ؟!… لا تلعب دور المختفي مرة أخرى ! “
” ………
” بوببيي ! تعال هنا.. لقد بدأت تغضبني ! “
” ……..
” ولكن ما باله لا يجيب ؟! “
و وضع (سمير) الكيس على المائدة ، وقد بدأ يظهر التوتر على مُحيّاه..

همّ بمغادرة المطبخ لما رنّ الهاتف فجأة ، فشهق شهقة رقيقة..
توجه بخطى بريئة إلى البهو.. حمل السماعة بسرعة..
– آلو ؟
– …….
– من ؟؟
– …….
– آلوو ؟!
– ….
وضع السماّعة ساخطاً ، و مطّ شفتيه في عدم فهم !
” لماذا لا يجيبني أحد هذا اليوم ؟ “
قالها و صعد إلى الطابق الثاني ، حيث الحاسوب..

* * *

” شيء أخير يا حبيبي.. إياك أن تقترب من المسبح ! اتفقنا ؟.. حتى لو سقط به (بوبي) فهو يعرف السباحة.. أوكي ؟ “

* * *

كان مستغرقاً في اللعب.. عليه أن يوجه فوهة المدفع صوب الأهداف التي تظهر و تختفي بسرعة.. سيحطّم الرقم الأول !.. سيفعل..
” تررررررررن “
صوت الهاتف من جديد يُفسد عليه متعة اللعب..
” تباً !.. من هذا الغبي ؟.. ليس أبي بالتأكيد ، فلا شيء مهم يقوله لي..
” تررررررررن “
” حسناً ، حسناً.. أنا قادم !.. لا أملك جناحين كي أطير ! “
قالها الولد بعصبية و بصوت مرتفع ، وهو ينزل الدرج إلى حيث الهاتف اللعين !..

– آلو ؟.. من ؟
– مرحبا سمير…
كان الصوت غريباً و خشناً ، مما جعل (سمير) يقلّص وجهه مستغرباً !..
– من أنت ؟
– ليس مهما من أكون.. ولكن المهم شيء آخر !..
– عذرا سيدي.. أنا لا أفهم ماذا تقصد ؟!
– ههههه.. تعجبني.. تتكلم كرجل ناضج.. لذا سأعاملك بنضج أيضا.. أنت تبحث عن (بوبي) أليس كذلك ؟
صُعق (سمير) لما سمع اسم كلبه الذي نسيه تماماً !..
– ما به (بوبي) ؟!!
– إنه بجانبي.. يتألم.. لن أخبرك ماذا فعلت به.. لأن دورك سيحين قريباً !..
بقي (سمير) ملصقاً أذنه بالسماعة رغم انقطاع الصوت ، لتحل محله تلك النبرة الطويلة التي تحطّم الأعصاب.. “تييييييييت.. “

كانت كل خلية من جسمه ترتعش وحاول جاهداً – وبكل ما أوتي من عقل – أن يحلل ما سمعه قبل قليل..
” قال بأن (بوبي) يتألم !.. و.. وأن دوري سيحين قريباً !؟.. لا ، لا ، هذا غير معقول !.. لابد أنه أبي الذي يمزح إحدى مزحاته المعتادة.. وهذه المرة فعل شيئاً ما ليغير صوته !.. هذا أكيد.. “

* * *

أعاد الهاتف إلى جيب معطفه الأسود ، و شبح ابتسامة يطل من ثغره.. و تقدم ، تاركاً خلفه جسماً صغيراً ملقى على الأرض.. يتلوى !

* * *

عاد إلى أمام الحاسوب ، و بقي لحظات شارداً ، يحدق بالطائرات و هي تقصف مدفعه الذي يُصدر أعمدة من الدخان ، ما يعني أنه قارب الانفجار..
بضغطة زر أغلقه ، و توجه إلى النافذة.. أزاح الستائر ليتبين المسبح المتألقة صفحته تحت الشمس..
صعبٌ أن تعرف بم كان يفكر ذلك الطفل ذو السنوات الست و هو يرمق الطبيعة من خلال النافذة ، شارد الذهن..
و كانت رنة الهاتف هذه المرة كفيلة بأن تجعل قلبه يثب من مكانه !
” أمي أنا خائف ! “
قالها ببراءة ، و عضّ على أصابعه !..
شيء ما دفعه لنزول السلم من جديد.. و رغم ذعره الشديد من سماع ذلك الصوت الأجش مرة أخرى ، تقدم في البهو حذراً..
تردد قليلاً قبل أن يرفع السماعة.. وببطء تام ألصقها بأذنه و أرهف السمع..

– سميرو.. أينك يا سميرو ؟!.. أنا قادم إليك !

نفس الصوت الخشن الساخر يخترق مسامعه ، فيصيبه برجفة عنيفة !.. لكن كيف عرف اسم دلعه ؟
ترك السماعة تسقط ليمسكها الخيط و يطوحها هنا و هناك.. بقي برهة ينظر لشيء وهمي في الأرض و الدموع قد بدأت تحتشد في مقلتيه.. ثم أمسك السماعة بعصبية هذه المرة و صرخ :
– من أنت يا جبان ؟ لماذا تفعل هذا ؟ وماذا فعلت ببوبي ؟.. سيقطعك أبي إرباً إرباً لما يعود !..
– أووه !.. ما أشجع هذا الرجل !.. ومن قال أن والدك سيجدك عندما يعود رفقة أمك الحسناء ؟.. فأنا قد تجاوزت الطابق الأول !..

* * *

– متى ستعودان ؟
– مممم.. أعتقد في المساء..

* * *

أغلق (سمير) الخط ، وطفق يضغط أزراراً على الهاتف وهو يلهث من فرط الرعب.. ثم ركض إلى الباب ، و بيد مرتجفة سحب المزلاج.. ثم فرّ بسرعة إلى المطبخ.. واختفى بعض الوقت ليعود بوجه أصفر و يضع أذنه على الباب !..
لابد أنه فقد أعصابه بالكامل !.. فطريقة لهاثه و الماء المنسكب من عينيه يؤكدان هذا بشدة !

بدأت ركبتاه في الارتعاش لما سمع خطوات على الدرج !.. التفت إلى حيث الهاتف فرأى بشاشته ألواناً تتلألأ.. لكن أين صوت الرنين ؟
مشى في الردهة على أطراف أصابعه وهو يمسح عينيه من الدموع و يحرص على ألا يصدر منه أدنى صوت !.. و رفع هاتفاً محمولاً من فوق مائدة زجاجية.. كوّن رقماً ما ، وهو ينظر إلى الهاتف الآخر الذي مازالت شاشته تتلّون.. انتظر وهو يبكي و يتمتم بكلمات ما !..

* * *

وقف الرجل أمام الباب بثقة ومدّ يده إلى المقبض.. أداره ، فانفتح الباب..
وجد أمامه بهواً أنيقاً.. بساطاً ثميناً و أثاثاً راقياً.. و هاتفاً – هناك – موضوعاً على حامل من خشب في ركن قصي..
بحث في غرف البيت وهو يبتسم بثقة وفي يده شيء أسود كبير !..
بدأت أمارات التوتر و العصبية تظهر على وجهه لما لم يجد أحداً..
وخرج من الشقة الثالثة متسخطاً !..

* * *

فتح (سمير) الباب بحذر لما سمع باب الشقة الثالثة ينفتح..
ارتقى بذعر الحديد الذي يحدّ السلم ، ودخل – بعد محاولات مستميتة – في فجوة بالحائط الذي فوق السلم.. و تكوّر هناك..
ولم يلبث حتى سمع بابا آخر ينفتح.. لابد أنه باب الشقة الثانية.. إنه يبحث عنه !

* * *

ثار جنونه وهو يركض بين الغرف و يصرخ بصوته الأجش..
” أين أنت ؟؟ “
” أتحسب أنك ستفلت مني ؟.. واهم أنت إذن ! “
خرج من الشقة الثانية.. ونزل في السلم كثور هائج !
توقف الآن أمام باب الطابق الأول و استعدّ لفتحه..
وضع يده على المقبض وهم بتحريكه لما سمع صوتاً فوقه !.. رفع رأسه لـ..
لينغرس سكين كامل في عنقه !.. فينفجر حلقه بالدماء ، ويخر على الأرض و جسده يتلوّى بعنف لحظات قبل أن يسكن ، مصدراً صوتاً كالفحيح !..

* * *

نظر (سمير) من فوق إلى وجه الجثة.. فعرف صاحبه فوراً !
إنه خاله (إسماعيل) !.. كيف نسيه و نسي مقالبه التي لا تنتهي ؟
ماذا فعل ؟.. كارثة !
” تباً !.. إنه ذلك الغبي !.. لقد أعطته أمي – الأسبوع الماضي – نسخة لمفتاح المنزل.. تباً ! ماذا أفعل الآن ؟.. فلأتخلّص من هذا الزفت قبل أن يأتي والداي.. لست أنا من قتله !.. إنه اللص الذي صارعه حتى تمكن منه و فر.. وأنا ؟.. أنا كنت مختبئاً في مكان ما.. مذعوراً !.. نعم صحيح ! “

* * *


– أتدري بمن تذكرني ؟!
– بمن ؟
– بأخي (إسماعيل).. هو مجنون مثلك !.. ههههه..

* * *

” بوببيي ! تعال هنا.. لقد بدأت تغضبني ! “
” ……..
” و لكن ما باله لا يجيب ؟! “
أعاد الهاتف إلى جيب معطفه الأسود ، و شبح ابتسامة يطل من ثغره.. و تقدم ، تاركاً خلفه جسماً صغيراً ملقى على الأرض.. يتلوى !
( جسم الكلب ، وقد قيّد أطرافه وكمّم فمه ! )

* * *

صعب أن تعرف بما كان يفكر ذلك الطفل ذو السنوات الست و هو يرمق الطبيعة من خلال النافذة ، شارد الذهن..

* * *

– سميرو.. أينك يا سميرو ؟!.. أنا قادم إليك !
نفس الصوت الخشن الساخر يخترق مسامعه ، فيصيبه برجفة عنيفة !.. لكن كيف عرف اسم دلعه ؟

* * *

– .. ومن قال أن والدك سيجدك عندما يعود رفقة أمك الحسناء ؟.. فأنا قد تجاوزت الطابق الأول !..
أغلق (سمير) الخط ، وطفق يضغط أزراراً على الهاتف وهو يلهث من فرط الرعب..
( يزيل الصوت كي لا يسمع الدخيل رنين الهاتف !)
ثم ركض إلى الباب ، و بيد مرتجفة سحب المزلاج.. ثم فرّ بسرعة إلى المطبخ.. واختفى بعض الوقت ليعود بوجه أصفر !
( أخذ سكينا وأخفاه في جيبه ! )
و يضع أذنه على الباب..
( كي يسمع خطوات الدخيل و يعرف مكانه ! )

* * *

التفت إلى حيث الهاتف فرأى بشاشته ألواناً تتلألأ.. لكن أين صوت الرنين ؟
مشى في الردهة على أطراف أصابعه وهو يمسح عينيه من الدموع و يحرص على ألا يصدر منه أدنى صوت !.. و رفع هاتفا محمولاً من فوق مائدة زجاجية.. كوّن رقماً ما ، وهو ينظر إلى الهاتف الآخر الذي مازالت شاشته تتلّون..
( اتصل من الشقة الأولى بالهاتف الذي في الشقة الثالثة ، و الذي له نفس صوت الهاتف الأول ، ليوهم الغريب أنه هناك ! )

* * *

بحث في غرف البيت وهو يبتسم بثقة وفي يده شيء أسود كبير !..
( هدية مغلفة بغلاف أسود ! )
وخرج من الشقة الثالثة متسخطاً !..

* * *

ولدٌ في غاية الذكاء ، يظهر ذلك من خلال كلامه و تصرفاته التي تفوق سنه بمراحل..

تمت بحمد الله

رفعت خالد المزوضي
المغرب
2007
 

ملاحظة : القصة منشورة في مدونة للكاتب 
 

تاريخ النشر : 2017-05-30

guest
28 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى