أدب الرعب والعام

أوراق و دماء

بقلم : رفعت خالد المزوضي – المغرب
للتواصل : [email protected]

أوراق و دماء
لم أكن لأكتب لو وجدتُ آدمياً واحداً يؤنسني ، ولكني أدمنت هذا الدفتر

السبت 16 يونيو 87

وضعتُ وسادة خلف ظهري ومددت رجليّ على السرير حتى خرج عقباي من حافته كالعادة !
أضأت المصباح على يميني وحملتُ ذلك الدفتر المجعّد العجوز الذي ليس له غلاف، دفتر يومياتي، دفتر حياتي.. لقد شارف على الانتهاء، وأفكر في التوقف عن الكتابة نهائياً بعد ملئه ، إذ صرت ضعيف البصر، والتركيز على السطور مع محاولة تحسين خطي القبيح يكلفاني مجهوداً ذهنياً لا بأس به ، ولكنها كانت تجربة رائعة أن أدوّن رواية حياتي بمغامراتها وأحزانها ومللها وقرفها ووحدتها، وخطورتها التي أفهمها أنا فقط. أما الآخرين، فحتى تمزقي أسفل قطار شحن لا يعدونه أمراً خطيراً !

الهدوء التام يُشعرني بدوار لذيذ يحتل رأسي، بعد ساعات العمل تلك بمقر الجريدة ، ليس بالعمل الشاق، ولكن من قال أن الجلوس على كرسي واحد لسبع ساعات متتالية نشاط مريح ؟
أما هنا فكل شيء ميت ! أعدك أن أعصابك سترتخي لدرجة التجمد ! هنا كل شيء غافٍ في قيلولة أبدية ! لن تسمع صوت السيارات، لا يوجد أطفال يركضون صارخين، ولا دراجات نارية تثقب طبلة أذنك.. لا شيء على الإطلاق !

انتقلت هنا حديثاً ، منذ شهر تقريباً .. هناك شخص أعزب مثلي يقطن بالشقة المجاورة، وإنه لغريب الأطوار حقاً ، شعر أشعث، ملابس غير متناسقة، نظرات زائغة تحدّق في عوالم غير مرئية ، كنت ألقي عليه التحية في المرات القليلة التي أراه فيها، ولكنه لا يرد، ولا كلمة ، يفتح الباب ببطء شديد وعيناه لا تفارقان السقف ! فأصيح بنشاط متصنّع:
– السلام عليكم يا جار الخير..
– …
– الجو صحو اليوم، أليس كذلك ؟
– …

حسنٌ ، ولكن لماذا لا يُنزل عينيه من فوق ؟ لا بد أنه مجنون.. هذا أكيد.
المهم ، ما عدا هذا الجار الغامض لا أعرف شخصاً آخر هنا، ولم يسبق أن رأيت أحداً غيره بالعمارة ! بل الأكثر غرابة أني لا أسمع أي ضجيج يوحي بالحياة كما أسلفت، كتنظيف امرأة أمام باب شقتها – مثلاً – أو صراخ أب على ابنه لأجل شيء تافه، أو أي حدث آخر من الأحداث المملة التي تحدث بأي عمارة في العالم !

* * *

هذا المساء، كنت أمام شاشة الحاسوب منهمكاً في كتابة مقال طويل عن ظاهرة الطلاق في المغرب، حين توقفتُ فجأة عن النقر فوق الأزرار وشردتُ بذهني بعيداً .. تساءلتُ – بجدية هذه المرة – عن سبب هذا الهدوء (المزعج) الذي يخيم على العمارة منذ إقامتي بها ، إنها الوحدة الخانقة والصمت الرهيب الذي لم أعشه يوماً قط ! لماذا لا تكتظ بالسكان كباقي العمارات ؟ إن هناك آلاف الموظفين الذين يبحثون بلهفة عن شقة تأويهم، آلاف الزوجات اللاّئي يصرخن في وجوه أزواجهن لكي يبحثوا عن شقق محترمة بدل الجحور المخيفة التي يعيشون بها !

نهضت عاقداً العزم على القيام بتحقيق حول هذا اللغز. حياتي كلها تحقيقات على كل حال ، ارتديت معطفي بعد أن أطفأت الحاسوب وتأكدت من عدم وجود حريق مروّع بالمطبخ كما كانت تقول لي زوجتي دائماً ! وخرجت..
الضوء شاحب بالردهة، إنه الغروب .. تذكرت أن المصابيح تالفة، فعدتُ إلى الشقّة للبحث عن مصباح يدوي ، توجهتُ بعدها – على ضوء المصباح – إلى السلم الذي يقود إلى فوق. وصعدت..

أسمع بوضوح صدى خُطواتي الثقيلة فوق الدرجات وتدفق أنفاسي المبهورة ، لقد شخت فعلاً .. آه، ليت الشباب يعود يوما، فأخبره بما فعل المشيب..

الدرجات في حالة يُرثى لها.. شقوق في كل مكان، ورائحة تصيبك باكتئاب فوري ، لو كانت هناك بعض المشاعل على امتداد الجدار لاكتمل مشهد رائع من فلم رعب رخيص !
ثم لا أدري لم غيرت رأيي فجأة ؟ وكأن شيئاً أرغمني على العودة لشقتي.. الجو قارس هنا، وإني لأسمع صوت المطر الغزير بالخارج.. نعم، يجدر بي العودة.. ثم إني منهك ويجب أن أنام كي… فلأعد.
وقد عدت فعلا لأضع وسادة خلف ظهري، وأمدّ رجلي على السرير حتى يخرج عقباي من حافته كالعادة و..
يبدو أن النوم قد جاء، إني لأسمع طرقاته بوضوح.. فلأطفئ المصباح.

* * *

الأحد 17 يونيو 87

كان يوماً بلا عمل، الشيء الذي جعل الملل يقيم عندي ضيفاً.. دائماً ذلك الهدوء المريب والذي لا أكسره إلا بصوت التلفاز أو صوت الصنبور بالمطبخ وأنا أنظف الأواني.
مشكلتي الأبدية هي عدم وجود أصدقاء بحياتي.. حتى أقاربي انقطعت زياراتهم منذ زمن سحيق، ربما أنا شخص انطوائي فعلاً ، فأنا أبدو في الشارع كعميل مخابرات من شدة صرامتي ! حتى أني – ربما – لن أثير كثيراً من الاستغراب في نفوس المارة لو أخرجت مسدساً ضخماً، مزودا بكاتم صوت، ثم شرعت أركض خلف أحدهم !

* * *

بينما كنت في المطبخ منخرطاً في تقشير الخضر والدندنة، إذ سمعتُ صُراخاً عالياً ، وكان هذا غريباً لأنها أول مرة أسمع فيها صوتاً هنا !
خَطوت ببطء في البهو، ألصقتُ أذني بطرف الباب وأنا أُرهفُ السمع.. يبدو أن الصوت قريب جداً .. فتحتُ الباب بحذر فاشتد الصّراخ ، ففهمتُ أنه قادم من شقة ذاك الرجل غريب الأطوار.

كنتُ أرمق الباب الأحمر المقابل محاولاً فهم الذي يجري، عندما انشقّ فجأة ليخرج منه الرجل الأشعث مسعوراً ، يصرخ واللعاب يتناثر من فمه ! أغلق الباب بصوت مدوٍّ وهو يُواصل العويل متجها نحو السلم، متجاهلاً وجودي كعادته !

مع من كان يتشاجر يا ترى ؟ فأنا لم أسمع صوتاً غير صوته، ثم أنا أعرف أنه أعزب وحيد كالبومة الأرملة ! أتراهُ مجنون فعلاً ؟ سَرَت قُشعريرة باردة بأطرافي، وآثرت العودة لمتابعة تقشير البطاطس، فهذا أفضل بكثير من محاولة سبر أغوار هذه العمارة المريبة !

* * *

ومع وقت الغروب – ولا أعرف لماذا هذا الوقت بالذات ! – راودتني نفس الرغبة إياها التي تدفعني للخروج ، ومحاولة صعود السلم إلى فوق ، حيث لم يسبق أن ذهبت.. حيث أشعر أن هناك شيئاً ليس على ما يرام !
ومرة أخرى وجدتني أمام تلك الدرجات المخيفة، وإن لا أكفّ عن التعجّب لحالها ! كيف تكون بهذا القِدم والعمارة لا يظهر عليها شبه ذلك ؟ بل إن شقتي تبدو حديثة العهد ، كأنها بُنيت منذ شهر فحسب ! ما تفسير كل هذا ؟

ارتقيتُ أول درجة برهبة، وأنا أنثر الضوء أمامي محاذراً.. حتى الجدران لا تقل فظاعة ! وكان كلما صعدتُ أكثر، زاد تشقّق الدرجات وطلاء الجدار ، وكأني بتقدمي أعود دهوراً إلى الماضي !
لماذا الذباب كثير هنا ؟ وقبل أن أعثر على جواب منطقي لسؤالي، التقط أنفي رائحة فظيعة ما إن وطئت قدمي الانعطاف الأول ! وتوقفتُ وأنا أقلّص معالم وجهي، محاولاً بذلك تطوير حاسة الشمّ لدي.. لقد كانت الرائحة شنيعة بكل المقاييس ! رائحة ثورية كما يقولون. 

أمسكتُ أنفي وسعلتُ بشدة وأنا أبحث بعين مصباحي عن مصدر هذا الخُبث..
ثم صرختُ صرخة ارتجّت لها الجدران من حولي ! تباً ، إنها جثة قط.. مشوهة ! عينان جاحظتان، طرف مبتور، والأمعاء مفقودة مُخلفة فجوة فارغة مهولة وسط جسد الحيوان التعيس !
هذا ما جعل الذباب يحجّ هنا بنشاط إذاً !
بجنون حرّكت المصباح يمنة ويسرة علّني أرى شيئاً آخر يشرح كل هذا.. وكانت النتيجة: لا شيء ماعدا المزيد من الشقوق والثقوب !
يجب عليّ مغادرة هذا المكان الشيطاني فوراً..

* * *

الاثنين 18 يونيو 87

لا أرغب في الكتابة..

* * *

الثلاثاء 19 يونيو 87

لاحظ زملائي في العمل شرودي العميق وصمتي المطبق ، وسألني أكثر من واحد عن سبب ذلك ، فاكتفيت بإيماءاتٍ من رأسي وابتساماتٍ باهتة على ثغري ، كنتُ أعني بها: “أرجوك، كفّ عن فضولك الوقح وإلا ركلتك في أمّ بطنك !”.
لم أنفك في شرودي ذاك أحلل المشهد الذي رأيته يوم الأحد.. وترددت الأسئلة الغامضة في جنبات رأسي.. من ولماذا يقتل قطاً بتلك الطريقة ؟ ولماذا داخل مسكني بالضبط ؟

* * *

عقارب الساعة تتحرك بكسل لتخبرني أنها السابعة مساء..
كنتُ أشاهد برنامجاً ما على الرائي ، ولا أذكر أي موضوع كان موضوعه، فسهوي كان طاغياً كل الطغيان، وقد عُكّر صفوي حتى صرت مثارة للشفقة بحق.
كنتُ فقط أرى مذيعاً وسيماً يُحرّك شفتيه بقدر معلوم ، ولا يكف عن الابتسام المصطنع.
بضغطة زر أطفأته، وقمتُ متثاقلاً أجوب الشقة ذهاباً وإياباً.. شارداً، أحكّ لحيتي التي بدأت تتكاثف ، والتي وجدتها لأول مرة – على النقيض مما كانت تقول زوجتي – ليست بالقبيحة مطلقاً ! إنه ليس مجرد شعر ، إنه سرّ لن نفهمه أبداً .. ولم يكن الأنبياء – عليهم السلام – كلهم ملتحين هكذا صدفة ! وإنه لو كانت شيئاً مقرفاً – كما يعتقد الكثيرون – لكان الأنبياء أول من ينهون عنها، لأنهم لم ينزلوا إلا بالخير والصواب في الدنيا والآخرة !

على كل حال، لستُ حكيماً بالقدر الذي يبدو عليه كلامي الآن، بيد أني كنتُ في مظهر يُشبه مظهر فيلسوف في لحظات تأمله الطويلة.
أذكر أني كنتُ أقول لنفسي : يا لي من أحمق تافه ! أين ذهبت رجولتي ورباطة جأشي ؟ هل أدع مشكلاً سخيفاً كهذا يفسد حياتي ؟ تخيل لو لم أطلّق زوجتي ، وكانت معي الآن ، أكنتُ لأرضى أن تراني على هذا الحال ؟ ثم لم ألبث أن انتبهت من سهوتي على حين غرّة ، لأجدني مسنداً رأسي إلى باب المطبخ، أنظر لقدمي بسهوم مخيف.. لكمتُ الباب متذمراً ، ثم توجهتُ رأسا للصالون، حملت المصباح اليدوي من فوق التلفاز وخرجت كالقذيفة، كأنّ يداً وهميةً تدفعني للخارج.

أذكر أن رأسي كان ساخناً وقتها ، وكانت عيناي تحرقانني بشدة وأنا أرتقي الدرجات بحماسة لم أعهدها.. ثقوب، شقوق.. لون الطلاء يتحول من الأبيض إلى الرّمادي الدّاكن !
كنت أترقب رؤية جثة القطة التي وجدتها أمس بعد الانحراف الأول مباشرة، وأنا الآن قد تجاوزت انحرافين أو ثلاثة! فأين هي ؟
تجنّبتُ التقعّر في التفكير لئلا أتراجع في قراري وأعود أدراجي، لأسقط من جديد في مستنقع الحيرة والشكّ. سأصعد حتى السطح وليكن ما يكن.. لا أصدق كل ما يحدث هنا، ولن ترغمني قوة في هذا العالم على تصديقه ، حتى أقاويل الناس التي أسمعها تتطاير في الشارع حول هذا المسكن ، أقاويل عن أشباح وخرافات من ذلك القبيل.. بعضهم يقول أنه سمع أصوات حفر، لا يعرف من أين تأتي، والبعض قال أشياء عن الخادمة التي تصعد الدرج ليلاً ، ورأسها يلامس السقف ! ترّاهات وخرافات..

انتبهتُ إلى كوني استغرقتُ في التفكير لدرجة أنستني كم طابقاً صعدت وكم انحرافاً اجتزتُ، لكن ما زلزل شجاعتي وبث في قلبي الرعب والهول هي ساعتي التي تشير إلى الثامنة والنصف مساءً ! لقد غادرت شقتي مع تمام السابعة والنصف. أنا واثق من هذا مثلما أني موجود ! ثم إني أعلم أنّ بالعمارة أربع طوابق فقط، ولما كنتُ ساكناً بالطابق الثاني منها، فإنه يتحتم أن يوجد فوقي طابقان لا أكثر ! أليس كذلك ؟
كلا، لم أتوقف عن الصعود لحظة واحدة، هذا يعني أنني صعدتُ.. بالدرجات.. ساعة من الزمن !! لا.. هذا ليس منطقياً بتاتاً ، حتماً هناك خطب ما بهذه الساعة اللّعينة..

ثم إني أوجمتُ بغتة، فازداد الصّمت كثافة ووقف شعر رأسي ! أظنّني سمعتُ صوتاً أشبه بتقاطر سائل على الأرضية.. كأن أحدهم يسكب الماء على الأرض..
ثم بدأ المصباح يلعب لعبته اللعينة إياها ، ينطفئ ويضيء بشكل متقطع يصيب بالجنون . ضربته بكفي ضربات عصبية حتى هدأ ، وبدأتُ من فوري أبحث عن مصدر الصوت..
كُفّ عن الارتعاش أرجوك، أنت تربكني، تباً !

صار الظلام كثيفاً والتنفس صعباً بهذا الدرج الضيق ، ولكني واصلت الصعود وفي رأسي تحوم عشرات الأسئلة.. أولها، أين أنا ؟
ووقفتُ على مصدر الصوت الذي سمعت.. وقد كان سائلاً ما يتقاطر من الدرجات بصوت مكتوم مخيف.. ثم لما لمسته وشممته وجدته دماً !
شهقتُ لهول المفاجأة، وتراجعتُ بقوة حتى أوشكت أن أسقط على قفاي ثم بدأت أنزل مهرولاً ، متوقعاً السقوط في أي لحظة.. كانت رجلاي تسبقان تفكيري. لا أذكر إلا الركض والمزيد من الركض، ولا أعرف كيف كنتُ أميز حواف الدرجات وأنا أركض !

ألهث، ألهث.. هل سأركض ساعة حتى أصل أم ماذا ؟؟
كلا ، فقد وصلت بعد ثلاث انحرافات أو أربع.. غريب ! هل صعود مسافة معينة أطول من نزولها إلى هذا الحد ؟ أم أني جُننت ؟ أم ماذا بالتحديد ؟
أخرجتُ المفاتيح لاهثاً وأنا أنظر خلفي بذعر ، وبصعوبة تمكنت من الدخول.. أحكمتُ رتاج الباب، ثم أطلقتُ زفرة من فرط التوتر.
وفي المطبخ حشرتُ رأسي تحت الصنبور وأنا ألهث مثل لهاث الكلب..

* * *

لازال شعري مبتلاً ، أنا الآن في فندق قريب من سكني ، فقد ارتأيتُ المبيت هنا إلى الغد حتى أنظر ما أنا فاعل.. حملتُ معي من البيت حقيبة صغيرة، بعض الملابس الداخلية ، فرشاة أسنان، مقص أظافر، منشفة ودفتر يومياتي العتيق.
أكتب بيد راجفة، والتلفاز أمامي يعرض صوراً بلا صوت ، أريد بعض الهدوء.. لا أريد سماع شيء مطلقاً ، لا أريد الأكل. سأنام.. سأنام كثيراً ، فعقارب الساعة تشير الآن للثالثة بعد منتصف الليل.. لابد أن أنام.. لن أذهب للعمل غداً.. أنا مريض. سأجن.. سأنام..

* * *

الأربعاء 20 يونيو 87

جاء معي شرطيان، وصعدتُ معهما لفوق، ولم يكن ثمة شيء طبعاً ! فانهارت أعصابي بعد أن ذهبا مباشرة وقد تظاهرت بالتماسك أمامهما .
ارتفعت حرارتي وارتميت على الفراش شاخص العينين، فاقداً لكل حول وقوة.. ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فقد كنتُ أعيش ضائقة مالية خانقة، بعد دفعي لبعض الديون في أول هذا الشهر، ولأجل ذلك ولكي أجد ما أسدّ به رمقي لبقية الشهر لا يمكنني البقاء في الفندق ، وهكذا بقيت سائر اليوم على السرير، ملقى كما اتفق، معصّب الرأس، ثائر الشعر..
تُصبحون على خير .

* * *

السبت 23 يونيو 87

لم أكتب هنا قبل يومين، ولم أكن لأكتب لو وجدتُ آدمياً واحداً يؤنسني ، ولكني أدمنت هذا الدفتر العجوز، ماذا عساي أفعل ؟
على كل حال، قد ساء حالي كثيراً بعد الذي وقع خلال اليومين الأخيرين. أوَ تريدون حقاً معرفة الذي وقع ؟ حسن لكم ما أردتم..

لقد تناهى لسمعي صوت خدش بالباب خلال الليلتين الماضيتين، وكذا صوت أنين لم أفلح في تحديد مصدره، كذلك وجدتُ أظفاراً متسخة بالحمام.. وبعد منتصف الليل سمع حوارات أظنها كانت تأتي من البهو، وقد كانت أشبه شيء باللغة الأمازيغية.. كأن هناك ثمة أسرة تعيش معي !!
هل يكفيكم هذا ؟.. أما أنا فلم أعد أطيق النظر إلى وجهي بالمرآة فقد أصبحتُ كالغوريللا. وأما جواب السؤال المنطقي، لماذا لا أغادر البيت حتى اللحظة ؟ فهو أني أصبحتُ كالمخدّر، وقد مررت من كل الرعب..
من هذا الذي يتكلم ؟؟
يجب أن أذهب، تصبحون على خير..

* * *

الأحد 365..

هيهووو.. أنا أحب هذا الدفتر.. جميل.. هههههه..
صوتُ خطوات بالبهو.. تسمع ؟؟ ههههه
والآن أراها.. أراها جيدا.. إنها فتاة.. نعم.. أراها الآن.. باب غرفتي مفتوح..
فتاة نعم.. هههه..
فتاة تمشي على أربع !
ههههههه…
هو معي الآن ههههههه..
(بقعة دم)
هو ليس جميل.. ليس جميل.. هو معي
له أسنان هههههه
دم… هههه.. أهرب.. هو يتبعني
(بقعة دم)
أين المفتاح ؟.. لم أجد المفتاح.. الباب.. أين المفتاح ؟
أنا مجروح..
(بقعة دم)
يجرني.. يجرني.. ودا..

* * *

حسنٌ، أنا توفيق، أستاذ جامعي.. وجدتُ هذا الدفتر قبل أسبوع بمكان شعبي مليء بأكوام النفايات ، أثار انتباهي منظر أوراقه المجعدة، ودفعني فضولي الذي لم يدعني منذ طفولتي لقراءة أي ورقة أعثر عليها وأي صفحة جريدة وأي إشهار.. وهكذا حملته وأنا أنظر حولي بحذر، بعد أن وضعته بكيس بلاستيكي أسود لكثرة العفن الذي يغطيه، ثم حملته إلى منزلي وقلبي يخفق من فرط الفضول.

وقد قرأته – آخر الأمر – رغم الخط الرديء، وكان كلما قلبت صفحاته الصفراء المجعدة زاد ذعري وإشفاقي، لاسيما حين وصلتُ النهاية المجنونة، وقد تخللت الكلمات المتفرقة بقعُ دم جافة، قد اسودّ لونها.

أطلعتُ زوجتي على هذا الذي وجدتُه، فاشمأزت ونصحتني برميه فوراً ، مذكرة إياي باللعنات التي تتناقل وتخاريف أخرى.. وطبعاً يصعب أن يصدق هذا رجل علم مثلي.
تاريخ اليوميات يعود إلى خمس وعشرين سنة مضت ! المكان مجهول، ورغم أسلوب الصحفي المتوسط، ورغم حكيه التفصيلي يبقى ما حدث مجهولاً على الحقيقة.. هل كان خائفاً من الإفصاح أكثر مما أفصح ؟ لا أدري.. بيد أن شهيتي في البحث عن هوية هذا الصحفي ومكان الواقعة لا زالت متّقدة، وتحقيقاتي قائمة مع فريقي الذي فيه رجال أمن، وأساتذة جامعيين ومحلل نفساني، وكذا باحث في المخطوطات.. وقد وقفنا على بعض النتائج لكنها تحتاج مزيداً من التمحيص، عسانا نسبر الكثير من ألغاز الواقعة، مثل سبب خلوّ العمارة والحي من السكان ؟ وذلك الجار المجنون ؟ وغير ذلك..

وهأنذا أنشر هذه الواقعة لجمهور القراء ليبحثوا معي، وإني أحيطكم علماً أني نشرتُ ما يخص الواقعة بالتحديد، متغاضياً عن اليوميات الأخرى.. فالدفتر ضخمٌ جداً ، ولم أنته منه بعد.. ولعلي أنشر جزءاً ثانياً فيه تفاصيل أخرى من حياة الرجل ، إذ أني واثق من أن اليوميات تحتوي على إجابات تكشفُ هوية صاحب هذه الأوراق والدماء !

انتهى

رفعت خالد المزوضي
2007

ملاحظة : القصة منشورة في مدونة الكاتب
 

تاريخ النشر : 2017-06-15

guest
15 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى