أدب الرعب والعام

جميلة الموتى

بقلم : حوريه الحديدي – مصر

جميلة الموتى
يأسها و غضبها جعلا عقلها يتنحى ، و قاداها إلى ما ظنته أملاً…

ربما ترى الكلمة كشيء غير مؤثر ، و تري أفعالك كأنها مسلمات على الجميع تقبُلها .
و لكن الكلمة يمكن أن تكون كالسكين ، و إذا بك تجرح بها أقرب أحبابك إليك .. و الأفعال كحبل المشنقة ، قد تقبض بها روح من يعز عليك فراقهم ، و لكن للعدل… أحياناً أنت من تقبض روحك بالحبل أو بالسكين حين لا تفترض الخير من الأخرين ، و إن كانوا غير خيّرين فلتنتظره من الله ، فهو قادر على إثلاج قلبك ، و لا تتعجل السعادة فحياتك خليط من سعادة و شقاء ، و ربما شقاؤك ينتهي قريباً و تبدأ سعادتك بإنارة حياتك .

***

في زمنٍ غير معلوم و مكانٍ غير معلوم أيضاً جلست جلوري -ذات السبعة عشر عاماً – على طرف النافذة العريضة و أصابعها بشكل تلقائي تعيد تجديل شعرها -الطويل ذو اللون الأبيض المائل للأصفرار- تنظر للسماء و تحسد النجوم على حريتها تارة ، و تلعن حظها الأسود و حياتها الخربة تارة أخرى ، تتمنى لو تختفي كما يختفي القمر في بعض الليالي ، و كلما فكرت فيما حدث لها من ظلمٍ منذ قليل دمعت عيناها فتجففهما ، فهي لم تكن قط فتاة باكية و إنما فتاة غاضبة أو على الاقل هكذا يراها الجميع .. مجرد فتاة حانقة حاسدة غيورة ، تغار من توأمها ماري لأسباب تافهة كما تمكنت منها غيرتها منذ قليل حين رفض والدها خروجها من المنزل للتنزه برفقة سائر فتيات القبيلة ، و لكنه سمح لأختها بالخروج و الاستمتاع .

كانت جالسة في ملل شديد تستريح من عناء يوم آخر من الأعمال المنزلية الشاقة ، و لكن قاطع جلوسها الملول صوت والدتها المألوف لأذنها للغاية حيث ضجرت سماع صوتها الذي لا يحوي لجلوري إلا الأوامر و المتاعب :

– “إن كنت منتظرة ماري..فقد عادت ، و من فضلك فلتنهي فترة مقاطعتنا السخيفة الطفولية هذه و لتنضجي قليلاً جلوري”

كانت يداها معلقتان على جانبي مدخل حجرة ابنتيها بعدما أزاحت قطعة القماش التي تحجب مدخل الحجرة ، رابطةً إياها بالحائط بواسطة مسكها بيدها .

– “أجل لقد انتهت فترة المقاطعة أمي لأنه ليس لها نفع حيث لا أرى أي اختلاف في معاملتكم لي” 
نظرت جلوري بحدة إلي الأم موجهة حديثها إليها ثم قامت و هي تنظر خلال المرآة المكسورة المعلقة على أحد حوائط الغرفة تنهي جديلة شعرها بينما أردفت الأم :
– “أنتِ تعلمين أنك طفلتنا جلوري ، و لكن أمرك يختلف عن ماري فهي جميلة ذات ملامح حسناء يثني عليها الجميع …لكن أنتِ…” 
قاطعتها جلوري بغضب :
– “أجل أعلم ، فمنذ صغري و أنتِ و أبي تتحدثان بالعبارات ذاتها ، فأنا صاحبة الملامح الشيطانية ، الشعر الأبيض ، العيون الحادة الجاحدة و البشرة الشاحبة ، أقرب إلى فتاة ميتة و ليست حية .. ربما كان عليكما ذبحي كالخراف و إنهاء الأمر منذ سبعة عشر عاماً “
أنهت حديثها و خرجت من الحجرة كعاصفة بالكاد قادرة على احتواء غضبها .

جلست على الأرض بجانب أخيها الأكبر الدرتري -الذي لا يشارك في أي شيء في المنزل و كأنه في عالم آخر أو فرد من عائلة أخرى- و كانت شقيقتها ماري تجلس في الجانب الآخر من الحجرة ، و قد استشعرت غضبها فاقتربت منها تحاول تهدئة غضبها و عصبيتها :
– “لدي الكثير لأحدثِك بشأنه جلوري”
أمسكت يدها و هي تتحدث و كأنها تضمن عدم هروب جلوري من حضرتهم و هو ما كانت تفكر في فعله 
– “أنا متعبة من أعمال المنزل فلنتحدث غداً ، تصبحا على خير” 
تصنعت الابتسامة و هي تبعد يد ماري عن يدها ، و بمجرد أن نهضت دخل أبيهم برفقته أمهم إلى حجرة المعيشة و جلس على أحد المقاعد الجلدية 
– “جلوري هيا أعدي لنا العشاء” 
كان صوت أبيها حاداً كالعادة 
– “و لِم علي أنا أن أعده ؟! فلتعده ماري ، لقد أرهقتني أعمال المنزل…. على الأقل عليها مساعدتي” 
تحدثت بثقة و جمود في صوتها ..
أدار الدرتري عينيه و دخل حجرته كعادته كلما أوشك أن يدور شجار في منزلهم .

– “جلوري عليكِ طاعتي، أنا أمرتكِ أنتِ أن تعدي العشاء و أيضاً عليكِ أن تعتادي مشقة أعمال المنزل و أن تصبحي الأمهر فيها و إلا لن نستطيع تزويجكِ” 
بالرغم من حدة نبرة صوت أبيها إلا أن ملامحه كانت هادئة غير منزعج من مشاحناته مع ابنته و كأن هذا الشجار شيئاً روتينياً في منزلهم… و في الواقع هو كذلك ، فكلما خرجت ماري و أُرغمت جلوري على البقاء في المنزل أحتجت و ثارت و لكن تشبثهم بأفكارهم و معتقداتهم البالية يجعلها تشعر بالغثيان و بفقدان الأمل من أن يتغير الوضع كما حدث الآن أيضاً ، فسرعان ما رضخت لهم و دخلت المطبخ تعد لهم ما يريدون ، فلو استمرت هذه المشاجرة العقيمة لدقيقة أخرى لصرخت في وجوههم حتى انتهت بين أجساد الموتى في المقابر ، أو بكت أمامهم .. و هي لم تكن لتسمح بكبريائها أن يرضخ لدموع قلبها أبداً.

– “جلوري أنا حقاً آسفة ، أتمنى أن تأتي برفقتي يوماً ما أو أن يسمح لي والدي بالبقاء هنا معكِ” 
تحدثت ماري و هي تحاول إخفاء الشفقة في نبرة صوتها ، و لكنها فشلت في ذلك فشلاً ذريعاً
– “أعلم فعليكِ أن تجعلي الجميع يراكي لعل أحدهم يُعجب بكِ و يأتي لخطبتكِ و يتخلص أبي من إحدينا… لا بأس لست غاضبة عليكِ بل عليهم ، فأنتِ توأمي و لا أقدر على أن أغضب منكِ”.

مسحت ماري الطواجن الفخارية بقطعة قماش بينما جلوري تعد الطعام ، ثم تذكرت جلوري أن ماري لم تأتِ من ناحية السوق ، فهي كانت جالسة تنظر من النافذة لوقت طويل و لم ترها أبداً فأين كانت إذاً !
– “أخبريني ماري لم أركِ قادمة من ناحية السوق فأين كنتِ حقاً؟!”.
– “لن تشي بي؟”.
– “أيعقل؟ أنتِ ماري توأمي أشي بكِ! لا مستحيل”.
– “حسناً…اتفقنا مسبقاً على الذهاب إلى بئر الغابة ، يقال أنه يحقق الأمنيات ، قد ذهبنا لنتمني ما تريد قلوبنا أن يتحقق… تمنيت لكِ أن تصبحي سعيدة و تتحرري من سجن أبي و أمي ، و تمنيت لنفسي أن أتزوج من يحبني و لا يحب وجهي و جسدي فحسب”

أنهت ماري حديثها و تناولت جزرة و قضمت منها بأسنانها بعفوية ، و عندما رأت جلوري فمها المملوء بالجزر انفجرت ضاحكة ، فهل هذه هي ماري الرقيقة التي تأكل قليلاً لأن قضماتها صغيرة و لأنها هكذا يجب أن تكون حتى تتزوج ، فالرجال لن يعجبوا بكبيرة الفم التي تأكل سريعاً و تملأ فمها بالطعام.

أدارت ماري عيناها و استدارت تقضم من الجزرة قضمة أكبر و جلوري تضحك بشدة ، حتى أتاهم صوت والدتهما من خارج المطبخ
– “جلوري علام تضحكين؟ أنهي الطعام ، هيا الجميع جائع”
و لكن جلوري كانت في نوبة هستيرية من الضحك حيث كانت ماري مغمضة العينين تحاول مضغ الطعام سريعاً حتى لا تراها أمها و هي تأكل بهذا الشكل
– “ماري ماذا تفعلين هنا ؟و لِم أدرتي ظهركِ لي عندما دخلت؟” 
تناولت ماري الجزرة في يدها و استدارت و هي تقول :
– “جزرة…آكل جزرة أمي فأنا جائعة جداً”.

– “حسناً فلنترك جلوري تعد الطعام و نذهب لنمشط شعركِ”

اقتادتها أمها خارج المطبخ بعدما أبعدت عن يدها الجزرة ، و جلوري تشتعل غيظاً من حديث أمها “رائع جلوري تطبخ و ماري تمشط شعرها،كم أنتم عادلون! ” هكذا فكرت و لكن هدأ من روعها عندما استدارت ماري و حركت شفتيها بـ “آسفة” في اعتذار .

أنهت جلوري إعداد الطعام و قدمته لعائلتها ، و بعدما نظفت الأواني بعد العَشاء دخلت حجرتها و تمددت على السرير و هي تقضم شفتيها في توتر ، و في السرير المجاور لسريرها ماري جالسة تترقب ما تفعل .

– “لن تذهبي إلى البئر ، أتفقنا؟”
قالت ماري في همس و هي تضيق عينيها و كأنها هكذا ستكشف إن كذبت أختها ، فأجابتها جلوري في همس أيضاً 
– “لا بالطبع لن أفعل” 
و تدثرت تحت الاغطية لتنام بينما ماري تنهدت و تدثرت تحت الأغطية هي الأخرى .

تركت جلوري سريرها عندما تأكدت من نوم أهل المنزل جميعاً إلا هي ، حيث السكون الشديد .. و نظرت إلى فستانها الأزرق المالكي بنقوشاته بدرجات الأزرق المختلفة ، و سحبت من خزانتها عباءتها الصوفية بغطاء الرأس باللون الأزرق الداكن ، و تسللت إلى خارج المنزل و هي تفكر ..” إن كُشِف أمري سأكون في عداد الموتي… عليّ أن أكون حذرة” ثم بدأت رحلتها.

كان الجو عاصف – كالعادة – و لكن بعض الرياح لم تكن تخيفها ، و أيضاً كان بارداً للغاية ، فالبرغم من عباءتها الصوفية إلا أنها كانت ترتجف بشدة ، و بالرغم من خطورة الذهاب إلى هناك إلا أنها كانت كمن تموت غرقاً و تتعلق بقشة علها تنجو ، فيأسها و غضبها جعلا عقلها يتنحى ، و قاداها إلى ما ظنته أملاً… شعاع من النور في وسط ظلام الليل الحالك الذي لا ترى غيره منذ وُلدت .

كان ألمها أقوي من أن تدرك أن قدماها تقودانها إلى هلاكها المحتوم ، فهي لم تكن تعرف طريق الذهاب و بالطبع ليس طريق العودة…فقط تبحث علها تجد ما تبحث عنه.

و في النهاية رأته على مرمي البصر ، انفرجت أساريرها ، فها هو منقذها .. ما سيغير حياتها و يضيف إليها بهجة لم تعهدها من قبل…. بئر الغابة .

أقتربت منه ببطء و هي تشعر أنها محظوظة مباركة ، لكن القدر كان له خططاً أخرى .

كادت أن تصل إليه و لكن صوت قادم من ورائها أوقفها ، كانت تسمعه منذ مدة و ظنته صوت الرياح ، و لكن الآن…بهذا القرب عرفت أنه لم يكن صوت الرياح قط .

حبست أنفاسها و علت ضربات قلبها ، حاولت التنفس و لكن رئتيها تأبيان القيام بوظيفتهما ، و استدارت ببطء لترى ذئباً ضخماً ، لو تقدمت خطوة واحدة تجاهه للامست قدمها قدمه ينظر إليها بجوع ، و أخيراً أطلقت صرخة قوية و لكن بسبب العواصف لم يسمع أحد استغاثتها .

انقض عليها و لم يترك لها حتى فرصة المقاومة ، و سريعاً ما أنهى حياتها كي يتناول وجبته بهدوء دون صرخات أو استغاثات .

فتحت عيناها ببطء لترى وجهه الملطخ بدمائها و هو يقترب من جسدها مجدداً ، و لكن جسدها تدحرج بعيداً عنه سريعاً ًكرد فعل طبيعي ، و لأن نهايتها محتومة لم تتكبد عناء التدحرج مرة أخرى ، و أجبرت جسدها على الثبات ، فربما الموت هو خلاصها بعد كل شيء ، و لاحظت سريعاً أنها لا تشعر بأي ألم و أن الذئب لم يلاحقها .

حاولت النهوض و هي تتوقع بعض الألم و لكن لا شيء ! و كأن الأمر كله حلم سيئ فحسب ، و لكن ما رأته أكد لها أن ماحدث حقيقي و ما يحدث ضرباً من ضروب الجنون .

بينما هي واقفة كانت تحملق في الذئب الذي مازال يأكل فريسته…كانت راقدة على الثلوج و هو أمامها يكمل وجبته في هدوء .

لم تشعر ببرودة الجو و لكنها شعرت ببرودة غريبة تجتاح جسدها إثر ما رأت ، فقد كان عليها أن تكون ميتة و ليست مزدوجة واحدة ميتة و الأخرى واقفة بجانبها مصدومة .

“ما هذا بحق الله؟ ماذا حدث لي؟ما أنا؟ يا إلهي أنا أُؤكل ميتة” فكرت بصدمة و بدأت تحاول دفع الذئب بعيداً عنها ، و لكن هذا لا يجدي نفعاً ، يبدو أنه لا يراها و لا يتأثر بلمستها.

وقفت بفاه مفتوح لا تعلم ما تفعل ، عقلها توقف عن العمل و لكن دموعها على وجنتيها تتساقط بشدة ، و صرخاتها الجزعة لم تتوان عن الانفجار من بين شفتيها ، فهي لا تفهم أي شيء ، و لا تعرف ماذا تفعل ، حتى هدأت قليلاً و هي جالسة و ظهرها مستند على الشجرة ، و فكرت “أنا…أنا شبح” لم تجزع و تخف و إنما فقط حاولت تقبله و خطر لها أن الأشباح تتنقل بحرية ، صحيح؟.

أطلقت لساقيها الريح في الاتجاه الذي أتت منه ، و كانت سرعتها تفوق السرعة العادية لأي بشري ، و وصلت إلى منزلها و أسرعت إلى غرفة والديها في هلع .

بمجرد أن اعتلت جسد أبيها شرعت في مناداته بصراخ 
– “أبي استيقظ يا أبي أحتاجك …أبي يا أبي استيقظ أرجوك” 
حتى رأت عينيه تفتحان و قد ظن أنه سمع أحداً يناديه و لكنه لم يسمع أي صوتٍ الآن ، فاعتقد أنه مجرد حلمٌ و عاد إلى نومه ، ثم إستيقظ مجدداً و هو متأكد أنه سمع صوتاً يناديه في جزعٍ…صوتاً مألوفاً….صوت ابنته جلوري…يستغيث و يبكي….

أسرع إلى غرفة ابنتيه في سكون كي يطمئن عليهما ، و لكنه لم يجد جلوري في فراشها ، فبحث عنها في أرجاء المنزل و لم يجدها ، فأسرع مجدداً إلى غرفتها و فتح خزانة ملابسها فلم يجد عباءتها.

نادي ابنه الدرتري في شدة فاستيقظت ماري هلعة ، و نظرت إلي فراش جلوري لتتجمد الدماء في عروقها و تفهم ما حدث، و دخل الدرتري و أمه يسألا سيد المنزل الغاضب عما حدث فأشار إلى فراش جلوري ثم إلى خزانة ملابسها المفتوحة قائلاً :
– “لقد هربت جلوري ، ثم أنا استيقظت على صوتها الجازع يبكي و يستغيث…ثمة خطب سيئ حدث لطفلتي”.

جلست ماري و أمها علي بعض الدرجات التي أمام المنزل بينما خرجا الدرتري و أباه يبحثان عن جلوري ، و تفرقا كي يبحثا في نطاق أوسع ، و الأم الباكية و التوأم المرتجفة تنتظران عودة أحدهما بجلوري العزيزة ، و قد خاب أملهما و زادت حرقة قلبيهما عندما عاد الأب دون ابنته معلناً أنه جاء يطمئن عليهما و سيخرج ليبحث عنها مجدداً ، متمنياً أن يكون قد وجدها إبنه ، و بالفعل عاد الدرتري باكياً في ذراعيه جثة ملطخة بالدماء ، و في سكون تام اقترب منهم و وضعها أمامهم و هو يبكي و ينظر لها بصدمة ، و كانت دقائق حتى تحدثت الأم بهمس :
– “من هذه ؟ أين ابنتي؟”
نظر إليها ابنها و هو لا يعرف بما يجيبها و لكن وراءها كانت واقفة بدموع قليلة علي وجنتيها 
– “أنا هنا تماماً يا أمي”….

انهارت الأم فوق ابنتها الراقدة تبكي و تصرخ بشدة و هي تحدثها و تمسح بكم جلبابها على وجهها الدموي
– “ماذا حدث لها ؟ تُري كم من الألم تحملتي يا ابنتي؟” 
كانت تنوح و تبكي و زوجها من هول الصدمة فقد قدرته على الحديث ، أما ابنهم فقد تحدث بحزن شديد 
– “كان ذئباً…عندما وجدتها أبعدته و فحصتها…لا حياة في جسدها….كانت عند بئر الغابة”.

كان الجميع في حالة صدمة لدرجة أنهم لم يسمعوا شهقات ماري العالية حيث كانت جالسة وراءهم ، ظهرها يستند إلى الحائط و ركبتيها مضمومتان إلى جسدها ، و كانت تهز رأسها يميناً و يساراً و هي تتفوه بعدة عبارات في هلوسة 
– “سامحيني يا جلوري “”أنا السبب”” أنا قتلت أختي” 
فانتبهت لها جلوري و ركعت أمامها و هي تصرخ 
– “لا ماري توقفي سيسمعونك ، ما حدث ليس خطؤكِ إنه خطأي” 
توقفت جلوري عندما توقفت ماري عن النحيب ، و لكن ماري بدت كمن أكتشف كارثة و انفجرت تعيد عباراتها مجدداً فتحدثت إليها جلوري و عيناها مليئتان بالدموع
– “لا يا صغيرتي… لا بأس أنا بخير و لكن كيف أوصل لكِ هذا و أنا شبح…أنا أخطأت و دفعت ثمن خطأي فلا بأس”
تركتها بعد قليل حين تأكدت أن لا أحد سينصت لها ، و إن فعلوا فعلى الأغلب سيظنوها مجرد فتاة حزينة لفراق شقيقتها.

استدارت ناحية جثتها لترى والديها و أخيها كل منهم بعالمه الخاص ، فاقتربت من أخيها لتجد يداه تمشط شعرها الشاحب و على ثغره ابتسامة حزينة ، و عيناه مليئتان بالدموع ، و بدأ يفضي بما حمل قلبه لأخته طوال حياته 

– “أنا حقاً أسف لأني لم أخبركِ هذا من قبل ، لكن لطالما كنتِ أول و أجمل رضيعة ترها عيناي…أجل كنت أنا أول من رآكِ و حملكِ بعد القابلة ، و قد انبهرت حينها بذلك الشعر الأبيض و العيون الزرقاء – كزرقة النيران الحرة في ليلة مظلمة لا ينتصر على ظلمتها إلا النيران الزرقاء المتوهجة- و الملامح المبتسمة في هدوء ، حيث كنتِ تبكين و تصرخين ، و حين حملتك بذراعاي هدأتي و ابتسمتي ، ثم مباشرةً خلدتي للنوم ، و لكني خفت من غضب والداي و ظننت أن قضيتكِ خاسرة لا محالة و لذلك لم أدعمكِ … سامحيني أرجوكِ جلوري” 
أنهي حديثه و انهال يبكي فوق جثتها بينما هي واقفة وراءه.

– “أتعلم يا أخي إن كنت تحدثت إلي بهذا الحديث قبل الآن بيوم لربما كنت حية الآن ، و لكن لا بأس فهكذا لن يؤذيني أحد طالما لا يراني و انتم لن تفعلوا… سأظل مختبئة بين ظلال حياتكم للأبد” 
جففت وجهها من الدموع و قبَّلت رأسه و هي تحاول أن تهدئ من روعها فقد أحس بها أحد ما أخيراً.

استدارت نحو أمها و في سخرية جامدة قالت :
– “هيا يا نبع الحنان ألن تشاركي في اعترافات ما بعد الموت؟”
و كأن أمها سمعتها فتناولت يد جلوري في يدها و هي تبكي و تحدثت بمرارة شديدة
– “لو علمت قبلاً مصيركِ يا ابنتي لتركتك تخرجين و تتسوقين و لم أكن لأحملك عبء الأعمال المنزلية….فقط لو علمت أنكِ يا صغيرتي لن تستمتعي بحياتكِ و ستُسلب منك بهذا الشكل… ” 
قاطعها بكائها بحرقة علي طفلتها و مضت تقبِل يد ابنتها مراراً ، و لكن الفتاة الخفية هذه المرة ذرفت دموع غاضبة عوضاً عن حزينة و هي تقول بحزمٍ 
– “”إذاً إن كان الله قد كتب لي العمر المديد لكنت واصلتي تعذيبي و لومي على ما تظنيه خطأ لم أرتكبه أنا ! بديع….أمي أنا أحبكِ فقط أدعي لي بالرحمة”
أنهت حديثها بنبرة حزينة ، و استدارت نحو أباها و سمعته يتحدث لجثتها بهدوء..بلا بكاء أو شهقات عكس باقي أفراد العائلة و هو لم يبرر إذ كان في قلبه بعض بقايا العظمة التي لم تتفتت مع موت صغيرته ، و سقطت دموعه النادرة على الجثة
– “أنتِ تعلمين أنني لا أجيد الأعتذار ، لذلك سأختصره .. أنا فقط أسف جلوري… بشأن كل شيء” 
أنهى حديثه و جفف دموعه و استجمع قوته ، ثم قبّل رأسها بعمق و ابتعد ، و في الحقيقة لم ترد جلوري بأي شيء فلسانها أصبح عاجزاً عن الحديث حين وجدت منه الضعف الشديد بالرغم من أن هذه الحالة لم تدم .

استمر بكاؤهم لمدة ، ثم أدخلوا الجثة إلى المنزل و نظفوها من الدماء ، و ألبسوها فستان آخر غير ممزق ، و أيضاً مشطوا شعرها و وألبسوها عباءة ذات غطاء للرأس ، و أخبروا الجميع أن هذه عباءتها المفضلة ، و أن رأسها قد تضرر من الحادث البشع الذي أصابها لذلك هم يخفوه بغطاء رأس العباءة ، فلم يتجرأ أحد على إزالته ، و كانت جلوري تتحرك في المنزل بحرية حتى غربت الشمس مرة أخرى ، ثم حملوا الجثة إلى المقابر و جلوري بين البكاء الهستيري و الهدوء النفسي الشديد ، حتى وصلوا ، فقد كان الطريق طويل للغاية.

علمت جلوري أنهم سيرحلون عنها ، و قد عزمت أمرها أن ترحل معهم و تقضي ما تبقي لديها من وقتٍ غير معلوم معهم ، و أخذت تحدق بهم بعدما دفنوها كم هم حزينون يبكون ، و كم يبدو أبوها مكسوراً ضعيفاً كالطير الجريح و تساءلت كيف لم يعبروا عن حبهم لها من قبل ! و كيف لم تشعر بحبهم لتستمتع به من قبل !

رحل الجميع و بقيت عائلتها ، ثم بدؤوا يرحلون ، و تبعتهم جلوري حتى وصلوا إلى خارج المقابر ، و هنا كانت الفاجعة .. هي لا تستطيع العبور إليهم….لا تستطيع مرافقتهم…. لقد خسرتهم مجدداً !

كانت تصرخ و تناديهم و لكن لم يسمعوها…بكت و صرخت و حاولت اجتذابهم إليها بشتى الطرق و لم ينتبهوا… كادت أن تفقد عقلها و هي تراهم يبتعدون عنها و يتركونها وحيدة… مرة أخري… و لكن في النهاية هم حقاً رحلوا و بقيت هي جالسة أمام شاهد قبرها تنتحب بهدوء.

كانت خائفة فهي الآن شبح ، و لكنها لا تعلم ما الذي يعنيه هذا أو ماذا تفعل… كانت وحيدة و قد بدأ الظلام يحتد ، بالكاد ترى يدها ، و قد نامت و هي تبكي و تناديهم بهدوء.

استيقظت جلوري و قد فزعت من وجود أصوات أقدام لشخص يقترب منها ، فأسرعت و اختبأت خلف حائط بعضه مهدوم يفصل بين قبور بعض العائلات ، و انصتت السمع كي تسمع إلى أين الأقدام ذاهبة ، و لكنها لم تسمع أي شيء… فقط السكون الشديد ، و فجأة سمعته يتحدث 
– “ليس عليكِ أن تختبئي وراء الحائط ، فأنا لن أؤذيكِ ” كان صوت رجولي مألوف لأذنها قليلاً ، و بالرغم من حديثه إلا أنها لم تتحرك من وراء الحائط ، و تأكدت أن قبعة العباءة تغطي شعرها جيداً و تخبئ جزءاً من وجهها ، و قد بالغت في إخفائه بنظرها للأرض .

عندما لاحظ أنها لم تتقدم إليه تبع خطاها إلى وراء الحائط ، فاستدارت عنه قبل أن ترى وجهه 
– “لِم تختبئين مني هكذا ؟ هل أبدو بهذا السوء ، أتعلمين ؟ِ ستكونين بخير إذا أطلعتني من أنتِ” 
أنهى حديثه و أمسكها من ذراعها و أدارها إليه
– “من أنتِ؟” 
سألها و لكنها لم تجب هذا السؤال 
– “ليس عليك أن ترى مظهري الذي يخافه الجميع” 
تحدثت و هي تخفي شكلها بقبعة عباءتها 
– “أخاف من مظهرك؟ ” قهقه بخفة ثم أردف 
– “يا فتاة نحن أموات ، نعيش في المقابر و بالتأكيد رأيت أشياء مهما كان مظهرك سيئاً ستكونين كالملائكة بالنسبة لهم ، بالإضافة إلى أن صوتكِ مألوف ، و أريد أن أعرف من أنتِ” 
أنهى حديثه و انتظر أن تستدير إليه مجدداً ، و لكنها لم تفعل ، فذهب إلى الجهة الأخرى من مكان وقوفها ، و بهدوء رفعت رأسها إليه و أزالت قبعة عباءتها و هي تنتظر نظرات الخوف و الإشمئزاز -التي دائماً ما أخافتها بهم أمها من الخروج من المنزل – أن يظهرا على وجهه ، و لكن نظرة أخرى هي التي احتلت وجهه…الانبهار.

– “من و اللعنة قال أن مظهركِ سيئ؟! لابد أن ثمة خطب ما في أعينهم…أنتِ أجمل من رأت عيناي” 
عندما أنهى حديثه شهقت بقوة و تسارعت دموعها في أخذ مجراها على وجنتيها الورديتان
– “أقلت شيئاً خاطئاً ؟” 
صوته كان مرعوباً و قد لاحظت هذا فأسرعت بتجفيف وجهها و هي تحدثه 
– “لا أبداً ، و لكن أتدري عائلتي لم تتحمل أبداً مظهري الشيطاني لذلك ظننتك ستخافه أو تكرهني بسببه “.
– “شعرك هذا أضفى إليكِ لمسة ملائكية و ليست شيطانية” لم تعرف بِم ترد فلم تفعل.

شرح لها كيف أن المقابر تمنعهم من الخروج ، و أن كل من ماتوا و دُفنوا في هذه المقابر منذ بدء الخليقة تعيش أشباحهم في المقابر ، و هي تستمع و تتعجب فهي متأكدة أنها سمعت صوته من قبل يبدو مألوفاً للغاية فسألته
– “عذراً و لكن ما اسمك؟”
– “توني…اسمي توني”.
– “لقد تذكرتك كنت تزورنا في صغرك مع والديك ، و لكنك لن تتذكرني فلم ترني أبداً”.
-“لِم؟ما اسمكِ”
– “جلوري”.
– “اااه أخت الدرتري الصغرى أتذكر أن كان لكِ توأم؟”.
– “أجل ماري…كانت أمي دائماً تعتذر عن عدم رؤيتكم لي عند زيارتكم لنا بأني مريضة و أوصى الطبيب ألا يراني أحد…نفس الحجة طوال الوقت”

تحدثا مطولاً و أصبحا صديقين و قدم لها توني أصدقاءه و معارفه من الموتى ، و نسيت عائلتها التي كانت تكثر من زيارتها في البداية ثم تدريجياً أصبح نادراً ما يزورونها .

في أحد الأيام وجدت فوجاً من الأحياء قادمين إلى المقابر و معهم جثة ، و كان أخيها من حاملي الجثة ، و أختها خلفه تبكي و تنوح و قد ظهر على كل منهما علامات التقدم في السن… كان أبيها قد شد رحاله إلى المقابر بلا رجعة…و حدث المثل بعد بضع سنوات مع أمها ثم بعد بضع سنوات أتى أخيها تلاه أختها ، و عادت لها أسرتها من جديد ، و لكن هذه المرة لم ينبذوها بسبب مظهرها ، و رؤوا فيها من الجمال ما يجعلها أجمل الفتيات .

عاشت العائلة سعيدة مع أصدقائهم الجدد في عالم الموتى ، حيث لن يُحكَم عليك بالأعدام لاختلافك عن الآخرين .. إلى نهاية غير معلومة و لكن محتومة .

***

المظهر لا علاقة له بالمضمون ، و إنما الحكم على الآخرين يجب أن يكون لتصرفاتهم و أفعالهم لا لمظهرهم فقط.

استمتع بما أعطاك الله قبل فوات الآوان… اجتهد في إسعاد نفسك و من تحب طالما كلاكما علء قيد الحياة ، فالموت لا يستأذن عند المجيء .

 

تاريخ النشر : 2017-07-10

guest
31 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى