أدب الرعب والعام

خلاص الأرواح – ج3

بقلم : كووبر حكيم – المغرب
للتواصل : [email protected]

خلاص الأرواح - ج3
لمحت شيئاً صغيراً قادماً من العدم وسط الظلام .. إنها دميتي !

تابعت و جاين كلامنا عن مدى جمالية الحياة بعد الموت ، وأيضاً مشاكلها و همومها ، إلى أن وصلنا إلى قبو الكنيسة العريق , وكانت من المرات القلائل التي أنزل إليه ، فقد حُرِّم عليَّ ذلك مند حادثة الأول من يناير لسنتي الرابعة عشر , حين دخلت و رفاقي في مغامرة استكشافية سرية إلى القبو و بدأنا نقرأ من كتاب طلاسم أفقدنا الوعي ، وأسقطنا لمدة ليلة كاملة نائمين ومغيبين .

ظلت الشرطة وعائلات الزملاء تبحث عنا إلى أن وجدونا في القبو , وعصر الغد أعلن أن أحد رفاقي الذي بلغ عددهم الستة قد أصيب باضطراب عصبي أدَّى إلى تفاقم وضعه و استقراره الذهني ، فأحيل إلى مصحة عقلية محلية , اسمه ” سام ” كنا نزوره بين الفينة والأخرى و أما عائلات المنطقة فقد رفعوا على أمي وأبي تهمة ممارسة طقوس محظورة في الكنيسة لكن التهمة أبطلت بسبب غياب تام للحجة بعد جلسات عديدة من الاستماع للمدعين … 

أتذكر أن والد جاين هو الوحيد الذي ساندنا في تلك المرحلة المحرجة ، فكان يزورنا وينفي ما اتهمنا به من شر و طقوس شيطانية … و كان يجلب جاين لكي تقابلني ونلعب ونستمتع معاً , كانت تخبره و تحكي له عن مدى لطفي معها ومشاركتي إياها أفكاري و ألعابي و حياتي منذ صغرنا … 

إذاً وصلنا القبو القديم أغلقنا الباب خلفنا وفتحت أمي إحدى كتبها الغابرة والتي أحرقت معظمها بعد تلك الليلة المخيفة , أمرت جاين بالجلوس فوق كرسي وأنا واقف خلفها , لم تستطع الجلوس فحاولت التظاهر بذلك , وقفت أمي أمامها وأمرتني أن أضع يدي على يدها , كان الموقف غريباً للغاية كذاك الذي حدث في الحلقة ما قبل الأخيرة لسلسلة فلم ” بارا نورمال أكتيفيتي ” حيث جلست الأم فوق الكرسي ليطرد الكاهن الأنيق الروح الشريرة منها , أما أنا و أمي فقد كنا نحاول استرجاع روح جاين لا طردها …

بدأت أمي تقرأ من ذاك الكتاب ، ومع كل كلمة منه تصرخ جاين وتتألم , أما هي فقد غزى البياض الكلي عينيها وبقيت تردد أحرفاً لاتينية وتهتز فرائصها بشكل غير عادي , ثم أمسكت الكتاب بيد واحدة وأشارت لي نحو جهة اليسار لأحمل دمية من قماش كانت موضوعة فوق أحد المكاتب المغطاة بثوب أبيض , حملتها ورجعت خلف جاين التي رفعت هذه المرة وجهها نحو الأعلى وظلت تصرخ بأعلى صوتها 

لم أخف ولم أشفق وأنا أشاهد ذاك المشهد المرعب فقد اكتفيت من كوني خائفاً وفاشلاً أردت ولو لمرة واحدة صنع شيء أفيد به غيري وأسترجع تلك الروح التي لطالما استحقت أن أكون أميرها .

مرت الدقائق سريعة و أحسست بدوار خفيف وتعب شديد كأن بالنوم سيطر علي , ثم …. ظلام في كل مكان ، لا أرى شيئاً ، لا يداي ولا رجلاي ولا جسدي مجرد الفراغ , لمحت شيئاً صغيراً قادماً من العدم ، وهو يقترب وأنا أمعن النظر إلى أن اكتشفت أنه الدمية التي كنت أحملها في يدي , دنت شيئاً فشيئاً إلى أن تسمرت وهي تطفو في الفراغ أمامي .. فهمت أنها كانت غرضاً مهما وهي السبيل الذي سيخلصنا من هذه الليلة القذرة الطويلة .. سألت نفسي لما أصفها بالقذارة وفيها سترجع الروح والملائكة بإذن ربي إلى جسدي حبيبتي … لا أعلم لم أعد أعلم شيئاً في هذا العالم الغريب … وأنا واقف هناك في الظلام …

كنت البادئ بالكلام : 
– ما الذي أفعله هنا يا سيدة دمية …. ؟ ومن أنت يا سيدة دمية …. ؟
أجابتني الدمية بصوت امرأة عجوز طاعنة في السن وقد ارتسمت ابتسامة طريفة على محياها الصغير : 
– ؛ج … أنت من هنا حي ,أما أنا فراقدة في عالم الأموات …
أجبتها بكل استفسار و سخرية :
– و من تكونين يا سيدة دمية … ؟
سكتت قليلاً وبدا كأنها بشري يتأمل ملامحي ثم أجابت : 
– أنا تلك التي تلاحقك طوال الوقت , أنا التي كنت تلعني في السر والعلن ، أنا تلك التي سميتها اللعنة والمصيبة و .. الفاجعة ، ألا تتذكرني يا أحمق ؟
أجبتها بسرعة : 
– إذاً أنت الشبح والعذاب الذي عشت فيه طوال حياتي
قالت بنبرة غاضبة و صارمة : 
– وأنا أيضاً من نجيتك و ذويك من تلك المصائب التي كنت تقع كل مرة فيها , أنا هي كلمة القلادة و سحر النجمة … أنا جدتك و أمك التي حملت بك و حمتك و أحبتك ..

تذكرت حينها ما قالته لي أمي وقصتها عن حقيقة معاناتي و عن جدتي تلك الساحرة الشمطاء الملعونة التي أتت بي كهدية للحياة بينما اختارت الفناء

أجبتها : 
– هل فعلاً ما روته لي أمي وهل فعلاً أنت المشعوذة التي جابت الأرض و أفنت وعذبت كل من يعصاها أو يقف وقوف النبتة و اليرقات المسكينة و الضعيفة أمام رياح العاصفة العاتية القادمة ؟ أصحيحة كلماتها في حقك ؟

انحنت الدمية كما ينحني العبيد لتقبيل أيادي أسيادهم مرتين أو ثلاثة ، ثم أجابت : 

– ورثث يا بني السحر والشعوذة عن أجدادي وهم عن أجدادهم , للأسف لم تكن بيدي حيلة , فما أنا وأنت والآخرين سوى حلقات ضعيفة في سلسة الوجود الهمجية هذه , فعلاً غزوت بقاع الارض و طوَّعت أعظم سحرتها , قابلت الشيطان وأعطاني من علمه الكثير فخدعته بمكري ولم أعطه سوى القليل من مكر البشر , لكن أعظم سر و قوة لي كانت أنت يا طفلي الصغير , ستراني ساحرة و مشعودة و شريرة بينما ما فعلته كان مجرد حمايتك !

أنا لست كالبشر فهم اختاروا العيش كضعفاء , وعبيد لأسيادهم , مستضعفين أمام القوي و ظالمين للضعيف , بينما عشت متمردة و ثائرة , تعلمت فنون التنجيم و التنبؤ من أمي و جدتي ، و كتب أجدادنا السالفة ، فنحن سلاسلة من شعوب عريقة مارست كل أنواع السحر وتحكمت فيه و تغلبت عليه و جعلته وفق أمرها , أما سحرة اليوم فقد جعلوا من سحرهم وعفاريتهم أسياداً عليهم , بينما كنت آخر السحرة العظماء الذين سخَّروا السحر في إفادة البشر ونفعهم , واغتيال الظلم أينما كان واينما عاش وأينما طغى وتجبر .

نفذت مشيئة الله سبحانه في الأرض ، و ما مررت من أرض إلا وجعلتها خضراء معشوشبة , و ما مررت من حقل قاحل إلا وفاض خيره على أصحابه في اليوم التالي , ولكنني حينما اكتشفت ضعف البشر و شرههم المطلق , اخترت الابتعاد .. فرووا عني أنني قاتلة و مشعودة و خاطفة الرجال ، بينما لست سوى محققة و منشئة للخير والحرية والعيش الكريم .

أمر حكام العالم بقتلي لأنني وقفت ضد ظلمهم و احتقارهم لشعوبهم , ولما أُبعِدت وهبتني الأرواح السامية و المخلدة في الوجود مولوداً وملاكاً طيبا كان ذاك أنت … أحببتك و وقعت في غرامك منذ حملت بك , أعطيتك بنتي أي أمك الثانية التي لم تروي لك القصة كما وجب , فكبرتَ طائشاً ، حاولت مساعدتك رغم كرهك لي , و الآن وكم انتظرت هذه اللحظة لأناديك بابني وطفلي الصغير , تمنى ما شئت يا ولدي فأمك ما تزال قادرة على تحقيق ما شئت ما دمتَ على قيد الحياة , أأمر أن أخسف الأرض بمن تكره فقبل الفجر ستجدهم أمواتاً راقدين , أو ابتغي أن أعذب من تبغض فقبل بزوغ الضحى لتجدهم يقتلون بعضهم البعض , مازلت في أوج قواي فاستغل الفرصة متى سنحت لك …

امتلأت عيناي دموعاً وبكاءً لم أستطع إيقافه , فلكم هي عظيمة هذه المراة التي جاءت بك إلى الحياة و حملت بك و ربتك و حمتك دون أن تراها ولا أن تسمع لهمساتها صوتاً أو صدى , والآن وقد بلغت سن الرشد لازالت بجانبك تنصحك وتساعدك على تخطي المستحيل وتحقيق أعظم الأمنيات .
أحبوا بل واعشقوا الأمومة ، فلن تحظوا بقلب مماثل لقلبها قدر ما حييتم و اكتشفتم ، فلن تكتشفوا ولو جبتم كهوف الأرض وكواكب السماء أنقى من جوهرها اللامع وفؤادها الخالص والمحب …

أجبتها بكل تأثر بكلامها : 

– عندي أمنيتن يا أمي

أجابتني وهي مجرد دمية صغيرة واقفة أمامي في الظلام لكن عواطفها لأشد حناناً من دمى الأرض وبشرها لو اجتمعوا جميعا :
–  نعم يا طفلي , أنا أمك ، نادني بهذه الكلمة متى استطعت فأنت لا تعلم قدرها عندي , تمنى ما شئت فهذه هي ليلة التعويض عن سنوات عشتها بعيداً عني ومحتاراً لحقيقة ما يحدث معك …

فاجبتها :
– أريدك أن تعودي وتكوني معي مرة أخيرة , أتشارك فيها معك لحظات الشوق و دفء الإنسانية , كما أراكِ فيها كبشرية ولو لأيام قليلة , أما الثانية فأريدك أن تحمي جاين وتعيديها إلى طبيعتها و نكمل معاً حياتنا بعيداً عن مشاكل الناس و خطرهم …

فأجابتني بكل عطف كأن بها مستسلمة و راجية لقدر وحتمية لا يمكن تغييرها والحلول دون وقوعها :

– اسمعني يا طفلي , “ريبيكا” أمك الآن ، هي ربتك وعطفت عليك وأحبتك من خالص قلبها ، لا أريد أن أفسد جمالية العشق ومشاعر الأمومة على أم مخلصة و طاهرة مثلها , لست قادرة على العودة إلى عالم الأحياء وإلا فستموت وتنتقل إلى عالم الأموات , فأنت هدية الوجود وضريبة الموت أيضاً , لكنك تحمل في باطنك شيئاً من روحي وهمتي الخالدة , سترافقك كدرع حام لك و لمن تحب 

لقد اخترت منذ زمن بعيد أن أصير روحاً حرة وسامية عوض نجاسة البقاء حية بين أولائك الأوغاد , عش حياتك كما تشاء ويوماً ما ستأتي إلى جانبي لنعيش معاً ونعوض عن لحظات عمرنا الذي سيكون قد فارقنا , أعدك أنك ستبتهج ، فالمكان هنا مليء بالأصدقاء , عالمنا أسمى من عالم البشر ، ذاك لا طبقيات و لا مصالح و لا ضغينة هنا أو هناك , سننتظرك لكن بشرط أن تعيش كما تريد و تسمو على باقي البشر بأخلاقك الطاهرة و حبك للغير وللخير …. 

أما جاين فأتسف كثيراً يا بني ، قد يسافر الحي للممات , لكن الميت لن يسافر إلى الحياة بل سيكتفي بمشاهدتها لا غير , فصراط الموت لا يعبر سوى مرة واحدة بدون رجعة ولا ندم , لكنني سأعالج الأمر و أبرهن لك عظمة ما كنت عليه فوق الأرض , سأعتذر لما فعلته بها وكاعتذار ستعود لك حبيبتك جاين لتكون معك كبشرية بجسد و دم و نبض و روح تؤنسك وتحميك وتدفئ فؤادك الطاهر في فصل الشتاء القارص فقط .
أحبك حباً جماً يا بني لكنني آسفة فهذا ما أقدر عليه من هذا العالم الروحي …

أجبتها بكل رضى وعدم تصديق لروعة ما وصلنا إليه من اتفاق :
– تمام يا أمي عانقيني الآن فهذه كانت خر أمنية لي …

شعرت وأنا أقترب من الدمية بيدين ناعمتين ولو أنهما نحيلتين وعجوزتين نوعاً ما , ترتميان نحوي وتسحبانني بكل لهفة وشوق و حب و غرام دافئ و سرمدي خالد ونقي من أي نفاق أو كذب , كانت من أول مرات عمري التي أحس فيها بالحياة و أمنها وروعة ما تختزن من أسرار لا يعلم أمرها إلا من يعاني لسنوات طويلة شرورها …

انطفأ كل شيء مرةً أخرى من حولي وكما جئت إلى هذا العالم الغريب عدت إلى عالمي , نهضت من نومي لأجد نفسي في غرفتي العلوية وقد أشرقت الشمس في يوم لبست فيه أبهى حللها وأطيبها , وتسربت بكل نعومة عبر نافذتي المكسور زجاجها والقديمة … نهضت عن السرير لأجد طاولتي الخشيبة في مكانها وكل شيء مرتباً ونظيفاً ، وكأن بغرفتي أصبحت طابور انتظار طويل و أنيق و مفحوص بعناية , ما هذا العالم المتغير جلياً في كل ثواني عمره ؟ سألت نفسي ورفعت عيناي نحو الباب لأرى شخصاً ذو أرداف خلابة يرتدي تنورة وردية , لديه من الطول ما يعادل قامتي , رمقت عينان زرقاوتين كأنها بحر نقي يدعو كل من رآه أو زاره إلى السباحة فيه دون الحاجة لطوق نجاة .

كانتا جوهرتين تنثران درات الأمان والأمل في فؤاد الناظر , بشرة بيضاء ناعمة أعرفها جيداً , ويدين منتفختين تمسكت بهما طوال عمري الشقي , وأما الجمال والتناسق فلديه منهما ما يأسر عقلي ويأخده في قفص حصين إلى عالم من الأحلام و الروعة … كانت جاين , يا إلهي لم أصدق ما حدث بالفعل , اتبسمت الدنيا في وجهي المشؤوم ورقصت ملامحي على أوتار أغاني الحب والغرام… كيف رجع حبي إلى عالم الأحياء وقد كان من قبل ميتاً ؟ كيف أصبح جسداً تجري وتعدو الدماء وتضخ في قبله وقد كان من قبل بارداً و موحشاً ؟ كلها أسئلة لم تجبني عنها سوى جاين بعد أن وضعت صحن الفطور المشكل من خبز و عصير عنب و جبن فوق طاولتي المليئة بالكتب والروايات ، و ارتمت علي مقبلة ما شاءت مني , فتبادلنا الشوق و لذة الحرمان ، وكذلك فعلنا من قلة الأدب ما يكفي لذلك الصباح الوردي المثير و الأزلي والمقل للحياء …

**     **

لطالما أوصتني أمي بأن أحفظ مقولة مشهورة وبأن أتعامل و أفهم الأمور وفقاً لمنطقها القائل ” كل شيء من الخير ” , عنت أن كل ما يحدث معنا في الحياة فهو زائل و بأن الخير سيسمو ويرقى عن الشر و يذيبه ويمحيه ، فمعدن الأشياء طيب ونوراني لا سواد يعتليه .

حين خسرت جاين في حادثة البحيرة فقدت إيماني بالله تعالى و بعدالته السماوية ، و عشت كلصٍّ نذل يقاوم ذكريات الماضي و يتهرب من اتهامات الحاضر , لربما قد عانيت أكثر مما استحقيت ، و قرأت واكتشفت أكثر مما كان يلزمني اكتشافه في أيام سنيني القصيرة , لكن وبعد كل ما حدث عاد لي إيماني بالمعجزات وإيماني بعدالة الخالق الحكيم , بقيت أسئلة عالقة في ذهني طوال سنين و مخاوف رهيبة كثيرة عانيت منها وحاولت وصفها لكم بما استطعت إليه سبيلاً , وإن أطلنا النظر من زاوية أبعد مما كنت أصفه لكم وأحدثكم به , سنكتشف أنني كنت غارقاً في الشك والريبة وعدم الفهم , وبما أن كل شيء من الخير كما تقول” ريبيكا.. أمي ” فتوجب علي أن أفهم معنى الاختبار وأن كل ما يحدث معي ما هو سوى محن تخلصني من شر ما أنا تائه في ظلمته , فلا شيء يقضي على السم سوى ذاك الترياق المصنوع من نفس السم …

و في نهاية القصة قد تجد نفسك وحيداً جالساً تنتظر فصول الشتاء أن تبهجك بحلولها ، فيمر عليك الصيف و الخريف والربيع كشهور عذاب وعناء , وأملك الوحيد هو قدوم أشهر الشتاء تلك فتعود فيها محبوبتك إلى حضنك الدافئ و يشتعل لهيب غرفتك العلوية التي لازالت نافذتها مكسرة ولازالت قطتك السوداء ذات العيون الزرقاء الآسرة تأتي كل ليلة تسترق النظر إليك من خلالها .

ظل السر مكتوماً بيني و جاين و أمي , فهذه الأخيرة كانت تنتظر فصول الشتاء كالعادة لتعد أجمل الوصفات وأشهى الأطباق وأرقى كلمات الغزل و العشق مما جعل أبي يعشق هو الآخر قطرات الندى تلك ويتمنى هطولها , وأما أخي الصغير فحاولنا أن نرتب له حياة مستقرة أفضل من تلك التي حظيت بها , فأدخلناه مدرسة تعليمية خصوصية متميزة و بعيدة عن الجيران وأطفال المنطقة , فكان الوديع الصغير يدعو كل أصدقائه كي يحتفلوا معه بموسم المطر في منزلنا ، ولم يعد القبو محرماً كما كان في سابق عهده ، فزين هو الآخر بأبهى الأضواء وأمسى غرفة كباقي الغرفة دون لعنة أو مصيبة تلحق به 

وأما كنيسة “روح المجد ” الملازمة لبيتنا فكانت تحظى بزوار لا ينقطعون عنها كل فصل شتاء ، فيعجيون بجمالية الزينة والحلة التي كنا نحيطها بها , حتى أن الدولة وأكبر مؤسساتها الدينية خصصت لأمي وأبي منحة سنوية كعربون ثقة و وفاء على ما قدموه من جهد في إعادة روح المجد والعطاء والخير إلى كنيسة الروح الذابلة سابقاً ..

بعد تلك كالمعاناة التي دامت أكثر من تسعة عشر سنة , اختارت أمي و كل أفراد العائلة التخلي عن كتب السحر والخوارق ، و بذلك التخلي عن كل اتصال بعالم الأرواح , لكنني احتفظت بقلادتي و نجمتي وكذا دميتي التي كنت أضعها كل ليلة فوق طاولتي لأفتح كتاب أقرؤه , فكانت تؤنسني وتشعرني بالأمان ، ومع الوقت ومرور السنين أصبحت غرضاً جالباً للحظ لا أكثر , لكنني لم أنسَ يوماً أن أهم روح في الوجود كانت قابعة داخلها وتتحدث من خلالها ، لذلك احترمتها كثيراً و اعترفت بجميل ما فعلته من أجلي .

وكالعادة في أشهر الشتاء وبينما بيتنا يزخر بالضيوب من الجيران والولائم اللذيدة كل ليلة و عشية , تجدني في غرفتي العلوية القديمة أركانها والعتيقة ذكرياتها , أحمل رواية ” أحزان الورود ” أقرؤها على حبيبتي ، ونتشارك أخبار مواسم من الفراق و الغزلة , قد تجدوه نمطاً غريباً للحياة أو معيقاً لها , لكن معظم البشر بمن فيهم أنت يا قارئي الغزيز يبحثون بكل ما وجدوا من قوة وما أوتوا من سبل ، يكتشفون بها الهدف وراء الحياة ووراء الانتظار الطويل .

كنت محظوظاً فوجدته على مقربة مني , وأعلم تمام العلم اليقين أن التضحية والصبر على المحن وسيلة مهمة لإجابة ذاك المبتغى , فكنت أعمل طوال صيفكم و خريفكم و ربيعكم كخلية نمل لا تكل ولا تمل , فترونها في قمة نشاطها طوال تلك المواسم , لأنها مثلي وجدت هدفها من الصبر و عزم التخطيط , وانتبهت للعلامات , فانتبهوا لها أيضاً , وإن شعرتم بخفقان قلب مفاجئ أو حكة مباغتة أو سعادة غامرة من فراغ ، أو قطة سوداء تراقبكم .. من يعلم لربما ذلك هو همس محبوبتكم يحدثكم برغبتها تجاهكم واهتمامها بكم ولو من عالم آخر …. انتظروا الشتاء ففيه تحقق الأمنيات .

إلى حبي الأزلي جاين … روح المجد و العشق .

النــــــهاية

 

تاريخ النشر : 2017-08-18

guest
16 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى