اساطير وخرافات

أسطورة فارس

بقلم : وفاء سليمان – الجزائر

أسطورة فارس
أصبح فارساً مغواراً يشار إليه بالبنان

حكايتنا هذه المرة مختلفة عن سابقتها، فهي تجمع بين الواقع و الخرافة و الخيال..امتزجت بها كافة المشاعر والأحاسيس و الصفات الإنسانية ” الحب ، الحقد ، المكر ، الخيانة ، الحكمة ، الشجاعة ، الوفاء ، العرفان ، الغيرة و الانتقام .. لتشكل أسطورة بكل ما للكلمة من معنى .
واحدةٌ من الروائع التي قصتها جدتي ، في سطورها حكمة و في نهايتها مغزى ، أرجو أن تنال إعجابكم .

يحكى أنه في سالف الأزمان وفي إحدى الممالك القديمة حكم سلطان ذو عزة وجاه ، تميز بالحكمة و نفاذ البصيرة ، وهذا ما جعله يتزوج بثلاث نساء من مناطق مختلفة من مملكته ، حتى يحقق الأمن و السلام بين أطياف سكانها .

زوجته الأولى من المدينة ، والثانية من القرية ، والثالثة من البدو… أنجبت كل منهن ولدا ذكراً ، و مرت السنوات وكبر الشبان الثلاثة ، فأراد السلطان لأولاده أن يدخلوا معترك الحياة و يخوضوا غمارها و يكتسبوا الخبرة ولا يعتمدوا على ماله وسلطانه الفانيين ، فجمعهم قائلاً :

– أريد من كل واحد منكم أن يختار عملاً يعيش منه بكده و عرق جبينه ، ولا نقاش معي في هذا الأمر .

أجاب الأول وكان ابن المدنية قائلاً :
– سأعمل بائعاً متجولاً كما عمل جدي والد أمي من قبل ، أريد حماراً و عربة .

ثم قال الثاني وكان ابن القروية :
– سأحترف الزراعة كأخوالي ، وأريد قطعة من الأرض .

تردد ابن البدوية وكان اسمه فارس ، وتلعثم لسانه وبدت عليه علامات الاضطراب ثم قال:
– أريد حصاناً وسرجاً و قوساً .. أريد أن أغدو فارساً وصياداً .

صمت السلطان قليلاً ثم وقف قائلاً :
لكم جميعاً ما طلبتم .

مرت الأيام تتلوها الشهور و كل من الأمراء مشغول بعمله ، ولكن هناك داخل القصر كان شيء ما يحترق ، نار تأججت في صدور كل من زوجتي السلطان المدنية و القروية وأحرقت معاني الرحمة في قلبيهما ، وتملك منهما الحسد و الغيرة من الزوجة الثالثة بل من ابنها تحديداً لما آل إليه حاله ، فقد أصبح فارساً مغواراً قويا و شجاعاً ، يشار إليه بالبنان ، و صياداً ماهرا تعجز وحوش الأرض أن تصمد أمام سهمه الذي لا يخطئ أبداً ، لذا قررتا أن تحيكا مؤامرة و تستعملا المكر و الدهاء للتخلص منه وإزالته عن طريق كرسي العرش .

بعد أيام دعا السلطان فارس للوقوف بين يديه وبادر بالحديث قائلاً : 
– بني حياتي و سلطاني يعتمدان عليك .
أجاب الفارس :
– كلي تحت أمرك يا والدي .
رد السلطان بهدوء : 
– هناك في الجبال البعيدة تقبع سرايا الغول”بن يهجم” حيث يحتجز ابنته الوحيدة ، فتاة ذات حسن وجمال وسحر يأخذ الألباب ، لها قدرة خارقة على أن من يتزوجها عجوزاً يتحول إلى شاب ، وكما ترى يا ولدي بلغت من العمر أرذله ، ولابد لي أن أتزوج بها وإلا كان الموت مصيري .
فأجاب ابنه بسرعة :
– سمعاً وطاعةً يا والدي ، سأفعل المستحيل لجلبها إليك .

غادر المجلس و عيون المكر تراقبه سعيدة بنجاح خطتها…

– “الغول بن يهجم”!!! لا بد أنك تمزح؟ هل تريد أن تلقى حتفك؟ بهذه الكلمات نطقت البدوية و هي تكفكف دموعها راجية متوسلة من ابنها عدم الذهاب فهو وحيدها ولا سند لها من بعده ، ولكن بر فارس بأبيه كان أقوى من دموع أمه ، ودعها حزيناً وطلب منها الدعاء .

ضرب فارس في الأرض ممتطياً حصانه يقصد قصر الغول ومرت أيام وأيام يمشي فيها دون أثر له ، إلى أن نال منه التعب و الجوع و العطش وسقط أرضاً ، كانت الرؤية ضبابية بالبداية ظن أنه رأى سراباً لكنه أيقن بعدها أنه حقيقة ، فارسان يترجلان من حصانيهما يقتربان منه و يسقيانه بعضاً من الماء ، و يساعدانه على النهوض .

أكل فارس وارتاح ثم تبادل الحديث معهما و قص عليهما قصته ، فأعجب الفارسان بشجاعته وبسالته وحسن أدبه وأخلاقه وطلبا منه أن يسمح لهما بمساعدته ، رفض فارس الأمر ، لكنه تبادل معهما عهود الأخوة و الوفاء، ثم أخذ ثلاثة أغصان طرية ودسها في الأرض قائلاً : 
– كل منها تمثل حياة أحدنا وإذا يبس أي منهم فهذا يعني أن صاحبها في خطر وسيأتي الباقون لإنقاذه .

ودع الثلاثة بعضهم وانطلق فارس ليكمل مغامرته ، بعد أيام وصل فارس إلى سرايا الغول ، كانت كبيرة و مخيفة قائمة على تلة مرتفعة يحيط بها الضباب من كل جانب وتحوم فوقها الغربان مصدرة صوتها المزعج ، ربط جواده إلى شجرة و قرر أن يرتاح تحت أحد الجدران لشعوره بالإعياء ، ثم غط في نوم عميق…

– سيدتي.. سيدتي 
هكذا نادت الخادمة أميرتها شمس قائلة : 
-سيدتي هناك شاب ينام تحت نافذتك ، يظهر من لباسه ومحياه أنه أمير و فارس ، سيكون زوجاً مناسباً لك إن استطاع أن يخلصك من والدك 

– واضح أنك تهذين يا امرأة .. 
قالتها شمس وهي تطل على نافذتها وفجأة تجمدت أطرافها و تسارعت دقات قلبها وهي ترى وجها جميلاً نائماً كالملاك ، ونظرت لخادمتها نظرات تملؤها الحيرة والتعجب ، وسرعان ما أفاقت من دهشتها وأخذت بكرة خيوط و بدأت تحلها منزلة بطرف الخيط أسفل النافذة إلى أن لمس الخيط وجه فارس وحركته يميناً وشمالاً ، إلى أن انزعج فارس وأفاق..

نظر إلى فوق ليرى مخلوقاً آية في الجمال ظن أنه فقط موجود في الأساطير والأحلام ، التقت عيناهما برهة من الزمن ، ثم كسر النظرات بقوله : 
– أنا عطش فهل من ماء؟
ربطت الأميرة إناء من الماء بطرف شعرها الأسود الطويل وأنزلته كي يلتقطه ، وبسرعة خاطفة أمسك فارس شعرها وقال:
– أخبريني أين يقع باب السراي ، وإلا سحبت شعرك كي تقعي أرضاً .
أجابت شمس:
– لن تستطيع فتحه ، جرب الكثير من الرجال الأشداء قبلك دون جدوى ، وحده والدي من يستطيع ذلك .
أفلت فارس شعرها وقال:
– أستطيع فتحه فقط دليني على مكانه .

بعد لحظات وجد نفسه واقفاً أمام باب ضخم بدا كالحشرة أمامه ، ولكن ذلك لم يجعله يتراجع عن دفعه ، استجمع قوته وتوكل على خالقه ودفع بشدة حتى انفرجت فتحة تتسع لدخوله فولج منها ..

استقبلته الأميرة وعلامات الفرح والبهجة تعلو تقاسيم وجهها وأدخلته قائلة :
– من دون شك خلاصي على يديك .

أخبرها فارس بسبب قدومه وأنه سيزفها زوجة لأبيه والألم يعتصر قلبه ، فما كان منها إلا أن تقبلت قدرها وهي تكتم دموعها بصعوبة ، وصل الغول من رحلة صيده يحمل بعضاً من الطرائد ألقاها جانباً لدى رؤيته لفارس ، وصرخ بقوة :
– من أنت ؟ وكيف تجرأت على دخول قصري ؟ أصلا كيف استطعت الدخول!
– أجاب فارس بثقة دون خوف أو وجل :
– أتيت أطلب الأميرة عروساً لي .. قالها وهو يتذكر كيف رق قلبه لها وأحبها و صعب عليه أن يزوجها لوالده العجوز 
– هكذا إذاً .. أجاب الغول بن يهجم ساخراً وأردف قائلاً : 
– طيب.. لكن يجب أن تتجاوز الامتحان ، هذا هو شرط قبولك زوجاً لإبنتي . 

سار الغول خطوات إلى أحد أركان المجلس ثم التفت إلى فارس وهو يحمل سيفاً بيد وسرجاً بيد أخرى قائلاً : 
– مبارزة أم سباق خيل ؟
فكر فارس قليلاً وأجاب :
– أختار سباق الخيل .
بابتسامة مكر طلب منه بن يهجم أن ينام و يرتاح استعداداً لسباق الغد… “سباق نهايته موتك”..هذا ما قاله في نفسه…

بزغ الفجر معلناً وصول شبح الموت الذي ألقى بظلاله على قصر بن يهجم ، استعد الندان للسباق و اتفقا على نقطة معينة وأول من يصلها يكون الفائز ، انطلق الغول بحصانه بأقصى سرعة عند إشارة البداية فيم تبعه فارس متثاقلاً ، وصل بن يهجم إلى خط النهاية وقفل راجعاً ليباغته فارس بضربة من سيفه الذي كان مخبأ تحت سرج حصانه قاطعاً بها رأسه .. ضربة أعلنت نهاية أسطورة بن يهجم وبداية أسطورة فارس .

تزوج فارس من شمس وأصبح حاكماً على سراي الغول و كل الأراضي التي جاورتها مقرراً تناسي وعده لوالده وحنينه لوالدته .. و في مملكة مجاورة تناهى إلى أسماع سلطانها خبر وفاة الغول ، ما جعله يطرب فرحاً ممنياً نفسه بتحقيق حلمه في الزواج من الأميرة و الظفر بعمر جديد ، فجمع الجيش وأعد العدة و العتاد لاحتلال السراي ، و لدى وصوله إلى مشارف أراضي الغول وجد باستقباله فتى ممسكاً بسيف مغروزٍ برأس .. إنه رأس الغول ، سرى الرعب بجسد السلطان وحدق مشدوهاً بفارس ولم يكن ليقطع شروده لولا أن اخترقت آذانه صرخة ارتعدت فرائصه على إثرها :

– “إذا مات الغول فأمامك من هو بقوة ألف غول “

هذا ما تحدث به فارس … ازدرد السلطان ريقه و قال و هو يحاول التماسك مخاطباً جنوده :
– انسحاب.. 
وانسحب يجر أذيال الهزيمة لحرب لم تقع أصلاً !

أمام مجلسه كانت تنتظر السماح لها بالدخول و تفكر في الخطة التي حاكتها لتنال بها السلطة ، ليقطع شرودها صوت أحد الخدم يقول :
-مولاي يأذن لك بالدخول .
ولجت وبادرت على الفور بالكلام :
– سيدي سمعت برغبتك الزواج من ابنة ابن يهجم ، وأنا مستعدة لأحقق لك هذه الرغبة ..
– آه .. ألست زليخة الساحرة ؟ .. رد السلطان ثم أردف :
– إذا فعلتها و أتيت بها إلي فستكون مكافأتك عظيمة .
قالت زليخة :
– شرطي الوحيد أن أشاركك الملك ، أنت تحكم بالنهار وأنا أحكم بالليل .
فأجابها قائلاً : 
– حسناً لك هذا .

كان فارس كعادته يسير جانب النهر برفقة جواده عندما لمح قارباً يسير باتجاهه ، توقف عند حافته لتترجل منه امرأة كبيرة ترتدي ملابس الزهد و يعلو محياها علامات الحكمة والوقار ، تحدثت معه قائلة :
– بني انقطعت بي السبل و ضللت الطريق هل من مساعدة ؟أجابها فارس بسرعة :
– بالطبع تفضلي ، قصري تحت أمرك سيدتي .
وطلب منها أن تتبعه…

مرت الأيام و العجوز ماكثة في القصر ، أكرمها خلالها فارس كضيفة مبجلة ، وتوطدت علاقتها بشمس ، فكانت الأميرة تستمع لها و تبدي لها النصح و الإرشاد في جميع شؤون القصر ، إلى أن ارتاحت لها شمس وأولتها ثقتها التامة ..

و ذات مساء اقتربت العجوز من شمس و همست لها قائلة :
– هل يحبك زوجك ؟ 
تعجبت شمس ممَ سمعته وأجابتها :
– طبعاً يحبني ، ولكن لمَ هذا السؤال ؟
ردت بنبرة تدل على التشكيك : 
– لا أعرف ، ولكن أحس أنه تزوجك من أجل المال والسلطان .. وأشاحت بوجهها عن وجه شمس قليلاً وأردفت تتحدث بهدوء :
– كنت قد سمعت أنه كان سيأخذك عروساً لوالده .. أيعقل أنه تمرد على أبيه من أجل حب فتاة !
وسرعان ما تظاهرت بالمرح وقالت :
– انسي الأمر ، كنت أثرثر لا غير  .
وذهبت تاركة شمس وسط شكوكها و ريبتها .

– ادعي المرض واطلبي من زوجك أن علاجك يكمن في معرفة أكبر أسراره ، فإن أجابك وأطلعك عليها فهذا يعني حبه لك وثقته بك… قالتها العجوز بعد أن جاءتها شمس تطلب العون في معرفة حقيقة مشاعر فارس تجاهها .

دخل فارس إلى مهجعه بعد رحلة صيد دامت لأيام ، ليتفاجأ بزوجته طريحة الفراش وتبدو على وجهها علامات الاصفرار والشحوب ، سألها عن سبب ذلك فأجابته متصنعة البكاء :
– إن المرض ينهش جسدي نهشاً سأموت.. سأموت .
ليرد فارس عليها باضطراب : 
– سأجلب لك أمهر الحكماء لا بد أن لعلتك حل .
حركت شمس رأسها نافية وقالت :
– أحضرتهم جميعاً دون جدوى ، حتى إني أحضرت عرافاً فقال إن دوائي يكمن في معرفة سر من أحب ..

حدق فارس فيها متعجباً وسألها : 
– ماذا تعنين ؟! 
تلعثمت شمس وأجابته بأن معرفة أسراره تثبت بمدى حبه وثقته بها ، وهذا علاج روحي ..

تردد فارس قليلاً ليذعن في النهاية و يجبر نفسه على إعلان أكبر أسراره التي تتوقف حياته عليها فقال :
– اسمعي ، سيبقى هذا سراً بيننا.. صمت قليلاً ثم أضاف : 
– إن روحي معلقة بسيفي ودرعي ، فإن هم ضاعوا ضاعت روحي معهم .

سمعت العجوز أو بالأحرى زليخة الساحرة اعترافات فارس وتهيأت لتكمل باقي خطتها ، و في اليوم التالي انتظرت خروج شمس من الغرفة وبهدوء تسللت لها وفارس نائم ، أخذت السيف والدرع وألقت بهما من نافذة مطلة على النهر ليستقرا في قاعه ، وخرجت متوجهة إلى شمس تقنعها بالذهاب معها في جولة صباحية ، وما إن ابتعدتا قليلاً عن القصر حتى هجم عليهما جمع من الخيالة قيدوا الأميرة واقتادوها معهم بأمر من زليخة ..

ولكن غلطة الشاطر بألف ، ففي مكان بعيد عاد الفارسان اللذان عاهدا فارسا على الوفاء إلى حيث غرس الأخير الأغصان ، فوجدا غصنه جافاً متيبساً ، ما أنبأهما بوقوع مكروه له ، فقررا المضي إلى سراي بن يهجم علهما يستطيعان إنقاذه ، و لدى وصولهما للقصر دخلا يبحثان في أرجائه عن أثر لفارس إلى أن وجداه مستلقٍ على سرير في إحدى الغرف ، اقتربا منه و فحصا دقات قلبه فوجدا أنه لا يتنفس ، ورغم هذا لا يبدو عليه أنه ميت…

قال الأول وكانت لديه مهارات بالعرافة : 
– سأحاول أن أعرف ما أصابه …
أخذ منديلاً وعدة أحجار و رماها فوقه ، وبدأ يتمتم بكلمات غريبة ، ثم نظر لصاحبه وأخبره أن دواء فارس يقبع في قاع النهر ، ساعتها قرر الثاني وكان سباحاً ماهرا أن يغطس في النهر ليبحث عن الدواء… بعد مدة من الزمن خرج من النهر ممسكاً بسيف فارس و درعه ، عرفهما لأنه رآهما من قبل عند فارس ، ثم وضعاهما جانبه و بقيا يراقبانه حتى فتح عينيه واستعاد وعيه ، و ما إن لمحهما حتى انتفض يصرخ باسم شمس ، وأخذ يرتب أفكاره و يستعيد الأحداث إلى أن استنتج أنه وزوجته راحا ضحية مكر العجوز ، ولابد أن لسلطان البلد المجاور ضلع بالأمر .

استعد فارس لرحلة انقاذ زوجته مودعاً صاحبيه و مستأمناً إياهما على قصره ..

دخل المملكة متنكراً بزي أهلها متوجها إلى قصر السلطان ، عند وصوله بدأ يحوم حول القصر و يجول بعينيه باحثاً عن مدخل لا حراس أمامه ، و فجأة استرعى انتباهه وجود المرأة خادمة شمس على مقربة منه ، وما إن لمحته عرفته ، و حمدت الله على نجاته وقالت له بعد أن سألها عن شمس أن السلطان حجزها في برج القصر في زنزانة واحدة مع الكلاب الضارية بعد رفضها الزواج منه ، مهدداً إياها بإفلات الكلاب عليها إن لم ترضخ للأمر .

أعطاها فارس ورقة وأمرها أن تحاول إيصالها لشمس وكان مفادها”اقبلي الزواج به ولكن على شرط أن يحضر لك وصيفة”… فارس .

بعد قبول شمس الزواج من السلطان أحضر لها خدم القصر العديد من الفتيات لتختار منهن وصيفة ، اختارت منهن فتاة أشارت عليها خادمتها بقبولها ولم تكن تلك الفتاة سوى فارس نفسه الذي اختبأ في مخدع شمس ، وليلة الزفاف و مع دخول السلطان إليها استل خنجره وبضربة مباغتة غرزه في قلبه منهياً حياته .

في صباح اليوم التالي دخلت زليخة عند السلطان لتجد شاباً أمامها ، لم تدقق النظر فيه ولم تعرفه فكل ظنها أن الأخير استحال شاباً بعد زواجه من شمس ، تفرس فارس في وجهها و عرفها ، ثم سألها عن مطلبها فأجابت :
– سيدي حققت لك مطلبك و أريد مكافأتي كما وعدتني..
رد عليها فارس و قد تأكد أنها لم تميزه قائلاً : 
-طبعا طبعا لك ذلك ، ولكن فقط ذكريني بوعدي لك لأنني نسيته…
ولما ذكرته به قال : 
– بما أنك أصبحت شريكتي في الملك أخبريني في رأيك كيف يعاقب الخائن ؟ 
تحدثت زليخة بكل ثقة و غرور قائلة : 
– يدهن الخائن بالزيت والقطران ، ثم يعلق في شجرة تحت أشعة الشمس حتى يموت 
ليرد عليها فارس بابتسامة ماكرة :
– وهذا عقابك يا ساحرة .
ثم أمر جنود القصر بالقبض عليها و معاقبتها وسط صراخها وصياحها .. وأصبح فارس حاكم المملكة دون أن يعلم أحد بأنه ليس السلطان .

بعد سنوات استبد بفارس الحنين لأهله ، فترك كل شيء وراءه وأخذ زوجته وحصانه قاصداً العودة لبلاده ، ولكن اختلطت عليه السبل وتغيرت عليه الطرق فاستعان بأحد عابري السبيل لمعرفة الطريق المؤدي لبلاده فأجابه قائلاً :
– هناك طريقان ، الأول سهل لكنه مسيرة شهر و نصف ، والثاني صعب بل إنه خطر ولكنك ستصل بظرف عشرة أيام .. 

لولع فارس بالمغامرة و علمه بعدم قدرته على الصبر أكثر من شهر اختار الطريق الثاني .. تعجب الرجل لشجاعة فارس وجرأته ولكن ذلك لم يثنيه عن تحذيره بشأن ما قد يلاقي في طريقه ، وصل فارس إلى ربوة فقرر نصب خيامه والمبيت فيها ، وأثناء نصبه لها تقدمت له من العدم امرأة غريبة الشكل والمظهر ما جعل الرعب يسري في أوصال شمس خوفاً منها ، فهدأها فارس بقوله إنها امرأة معروفة فرضت سيطرتها على هذه الربوة وتمنع الناس من دخولهم إليها وتدعى”الرهبانية” (الرهبان مولود نتيجة زواج انس وجان) … 

تكلمت الرهبانية قائلة :
– هذه أرضي وأنت تعديت عليها دون إذني… يجب معاقبتك.
رد عليها فارس و عيناه متسمرة على أصابع يدها : 
– دعينا نبيت الليلة هنا وغدا افعلي ما تشائين.

في منتصف الليل تسلل فارس إلى مكان نوم الرهبانية وببطء شديد انتزع خاتمها من أصبعها وبدله بخاتم غيره ، و في الصباح أدارت الرهبانية خاتمها السحري الذي بواسطته تستطيع تحقيق ما تشاء كي تنزل العقاب بفارس ، فلم يحدث شيئ ، حاولت مراراً دون جدوى ، فأشار فارس لها بمكر أنه حصل عليه ، ما جعلها تعلن استسلامها وتطلب منه مرافقته والبقاء تحت إمرته…

أكمل فارس مسيره حتى توقف عند إحدى الوديان الخطيرة ، أخذ سيفه و لبس سبعة من أثوابه ثم طلب من أهله انتظاره ونزل بهمة الفارس المقبل على معركة .
في أسفل الواد يقبع ثعبان ذو سبعة رؤوس ما إن لمح فارس حتى انقض عليه يهاجمه ، فتصدى له فارس بضربة من سيفه قطعت أحد رؤوسه الذي نفث سماً استقر على ثوب فارس فأحرقه .. واستمر القتال ، وكلما قطع الأخير رأساً أحرق الثعبان أحد أثوابه بسمه ، و عندما هم فارس بقطع الرأس السابع قفز الثعبان قفزة واحدة متحولاً إلى كلب ، و مقراً بهزيمته ، وطلب من فارس مرافقته لحراسته .

عندما اقترب الفارس من الطريق المؤدي إلى بلاد أهله استوقفه مارد غريب بشع المنظر طويل الأذنين لدرجة أنه كان يستطيع افتراش واحدة والتدثر بالأخرى قائلاً له :
– لن تمر من الطريق حتى تجتاز الامتحان ..
فرد فارس : وأنا على استعداد‏‎ ‎لذلك ..
ليردف المخلوق :
– هذه عصاي سأغرس نصفها في الأرض إن استطعت جذبها تمر وإن لم تستطع فجزاؤك أن ترجع على أعقابك..
أومأ فارس برأسه معلناً موافقته .

غرس المارد عصاه ، ثم توكل فارس على الله واستحضر صورة والديه ثم جذب بأقصى قوة إلى أن انتزع العصا من مغرسها ، دهش المارد من قوة فارس فاستسمحه طالباً مرافقته في رحلته .

حطت القافلة رحالها على أرض بمحاذاة مملكة السلطان والد فارس ، ومع أن فارساً كان شجاعاً صلداً إلى أن قدماه خانتاه ولم يجرؤ على المتابعة ، فقرر أن يستقر على هذه الأرض حتى ينظر ما هو بفاعل ، فأدارت الرهبانية خاتمها لتقيم عليها مدينة بأسرها بعمرانها و شعبها و أسواقها .

شاع خبر في مجلس أبي فارس أن هناك مدينة ظهرت من العدم بجوار بلادهم ، فاستشاط غضباً و قرر إرسال جنوده لاحتلالها و القضاء على حاكمها لدرء أي محاولات ممكنة للدخول إلى مملكته … و عند وصول الجيش إلى مشارف مدينة فارس ضرب المارد أذنيه ببعضها لتطلق اعصاراً هز الجيش و جعلهم يتخبطون ببعضهم ، فمات من مات وانسحب من نجى .

عرف الملك أن خصمه ليس بسهل ، فقرر مهادنته عوض إشعال حرب يعلم مسبقاً أنه الخاسر فيها ، فبعث له بصناديق الهدايا من المجوهرات و بعض الخدم و الوصيفات راجياً أن تتم الهدنة بينهم ، و لما استقبل فارس الهدايا لفت انتباهه بين الخادمات امرأة يعرفها… إنها والدته ، عرفته فدمعت عيناها عند رؤيته واحتضنته تشكو بعده عنها و فراقه الذي قصم ظهرها و جعلها فريسة لمكائد ضرتيها … مكائد حولتها إلى خادمة في حين كانت السيدة .

لأول مرة يذرف فارس الدموع في حياته حزناً وأسى على ما آل إليه حال والدته ، وسيطر عليه غضب أعمى أقسم خلاله على أن ينتقم أشد الانتقام من كل من تسبب بإهانتها وإيذائها ، فقررالهجوم على مملكة والده و الإستيلاء عليها ، ولم يكن عليه سوى أخذ المارد وسيفه وحصانه .

دخل فارس البلاد قاصدا القصر ، تاركاً مهمة التصدي للجنود إلى المارد .
اقتحم القصر متوجهاً إلى مجلس والده حيث وجده قد أصبح عجوزاً هرماً لا يبدو أن له ملكاً أو سلطان… فرق قلبه لحاله عندما رأى دموع والده و عفا عنه بعد أن علم أن كل ما حدث سببه زوجتي أبيه و ولديهما الشريرين الذين استغلوا كبره وعجزه و عاثوا في القصر فساداً ، فأمر بسجنهم وأعاد السلطة لوالده و المكانة لأمه ، واستقر معهما طالباً الراحة والاستقرار بعد سنين من المغامرة والترحال ، وأصبحت مملكتهم من أقوى الممالك التي يحسب لها ألف حساب ، وأضحى فارس أسطورة يضرب بها الأمثال .

و انتهت حكاية الفارس فارس بعد أن حملت في طياتها مواعظ و حكم و روت حروفها عبراً تسردها الأمم .
 

تاريخ النشر : 2017-08-21

وفاء

الجزائر
guest
26 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى