أدب الرعب والعام

صمت موسيقى

بقلم : نوسيم الذيبة – الجزائر

صمت موسيقى
كانت تتأمل جمالها في مياه البحيرة الهادئة

 هل يعرف أحدكم ما هي الموسيقى ؟ أو هل يعرف أحدكم من تكون موسيقى ؟ هل دار في بالكم و لو لمرة , من اخترع الموسيقى ؟ أو ما هي أول موسيقى , و كيف جاءت الموسيقى ؟ بل لماذا أعطوها هذا الاسم من بين كل الأسماء ..

موسيقى ، كانت و في غابر الزمن في مكان ما في الأرض لا يمكن لأحد تحديده ربما بسبب قدم القصة و جهل الناس لوجودها ، فتاة حسنة الخلق و الخلقة لها من الأدب ما يسابق النهر و من الجمال ما ينافس البحر في لحنه و سحره فكانت تعد أجمل الفتيات و أعذبهن صوتاً في تلك المنطقة و كان أسم تلك الحسناء الآسرة موسيقى .

كانت موسيقى لطالما تهمل شؤونها البيتية ملتهيه في تسريح شعرها أو تزيينه أو من هذا القبيل ، و كثيراً ما كان العشاء يتأخر لأن موسيقى تأخرت في إحضار الماء فتلحق بها أمها فتجدها و هي تتأمل جمالها في مياه البحيرة الهادئة و لم تطاوعها نفسها أن تكسر تلك اللوحة الفنية الجميلة فكانت أمها أحياناً ما تعنفها و أحياناً ما تتفهمها و تعود إلى البيت و في يدها هي جرة الماء ، و قد كان لها صوت شجي جميل عذب رقيق و كانت هي تزيد من حسنه و ترقيقه إذا كلمت شخصاً مخاطباً لها حال مروره عليها أو قادماً لها عن خصاصة ، فكانت تعده موسيقى كنزها الأزلي الثمين الذي يقدم يد العون لعينها الزرقاء في رسم تلك اللوحة و تأليف ذلك الشعر الجميل الذي كان يغرم به كل من يرى تلك الحسناء في بهائها و طولها , فتجدها لا تأكل الأطعمة الثقيلة بل تكتفي بتناول نوع من الفاكهة أو الخضار و إذا أكلت دسماً فتشرب بعده عصيراً أو شاياً محافظة على أجمل لحن مخلوق معها .

النساء في تلك القرية اعتدن أن ينزلن كل صباح إلى النهر فمنهن من كانت تغسل الثياب و منهن من تجلس تغسل أطفالها و كانت من بينهن تلك الفاتنة موسيقى و لكنها لم تكن تغتسل أو تستحم بل كانت تدلي قدميها في النهر تتجاذب مع بقية النساء أطراف الحديث و كالعادة كانت عيناها تتلألآن و شعرها الأسود الطويل يمتد إلى ماء النهر يرقص سعيدا بقوة التيار ، صوت موسيقى الجميل كان كتشجيع للنساء في إنهاء ذلك الكم من الغسيل جالسات يسمعن صوت غنائها مطربات به لأن موسيقى كانت أول بشري غنى ومن قديم الزمن

 في تلك الأيام الصيفية كانت موسيقى قد بلغت سنها السابع عشر فتقدم أجمل شباب المنطقة و أغناهم خاطباً لتلك الفتاة موسيقى أم السبعة عشر عاماً التي قد أنهتها ذلك اليوم ، و كان شاباً فتياً حسن الخلقة لا يتكلم إلا قليلاً و كان أكثر الشباب استحياء إذا قابلها أو رآها تمشي في طريق ، و قد اعتادت أن تخرج كل صباح إلى تلك الغابة فتصعد على شجرتها و تبقى تفكر و تمتد بها الأفكار و تجزر عنها أخرى إلى أن تطلع الشمس فتعود إلى البيت بعد أن تمر على البحيرة لتملأ الجرة ثم تعود إلى شجرتها بعد الزوال لتتمتع بطعم التوت البري الذي ينبت هناك و تتعلق على أغصان تلك الشجرة باغية بذلك طولاً أكثر لقامتها ، إلى أن جاء يوم ذلك الحادث و انكسر الغصن بها لتسقط من كل ذلك العلو إلى الأرض و تصاب في رقبتها بغصن آخر

 تدنت الشمس إلى مغربها و موسيقى لم تعد بعد , غربت الشمس و موسيقى ملقاة على الأرض مغمياً عليها لا تفيق ،  فشغل بال أمها عنها و أختها كل الانشغال و أظلمت في عين أمها الحياة وهي مرعوبة تذهب بها المخاوف كل مذهب و قد استنفر والدها و خطيبها و بعض فتيان القرية يبحثون عنها في أنحاء المنطقة فلم يجدوا لها أثرا ، إلى أن وصلوا محل بائع فأعلمهم أنه قد رآها بعد الزوال تتوجه نحو الغابة فهرعوا باحثين عنها إلى أن لمحو تحت ضوء القمر جسداً ملقى على الأرض ، اقتربوا يتحسسون الأرض أمامهم إلى أن وصلوا ، فإذا بذلك جسد موسيقى فصرخ خطيبها صرخة افرغ فيها كل ما كان في نفسه فهرول الباقون نحوهم فحملوها إلى بيتها ، فوجدوا والدتها أمام الباب قابضة بيدها على قلبها فلما رأتهم حاملين الفتاة بين أذرعهم صرخت صرخة فاضت فيها روحها و ارتمت على فلذة كبدها تتفحص سلامتها قائلة : رحماك يا رب ما ألم بالفتاة

فلمحت خدشاً على رقبتها فشهقت مرتعبة ، و قدمت أختها تحمل الماء فرشته على شقيقتها و أجتمع الكثير من أهالي المنطقة ينظرون لهم ، فأفاقت موسيقى على ذلك الحشد فضمت أمها و أختها التي قد انفطر قلبها خوفاً على شقيقتها و لكن حدث ما لم يتوقعه أحد ، حاولت موسيقى أن تطمئن أمها عليها و لكن صعقت في حال أنها لم تستطع أن تصدر أي صوت ، حاولت أن تقول أمي لا تخافي إنه خدش بسيط  لكنها عجزت ، أرادت أن تقول أمي أنا خائفة لكن عجزت عجزاً مبرماً على أن تصدر أي صوت و كأن حنجرتها قد أغلقت بإحكام ، كانت فقط تفتح فمها و تغلقه بدون صوت

موسيقى ما الأمر ما بك حبيبتي ، هذا ما قالته أمها و لكن موسيقى لم تتكلم ، الطبيب قال : أن موسيقى قد تستعيد صوتها بعد أسبوع أو أقل ذلك لأن الخدش بسيط ، و لكن للقدر كلمة أخرى موسيقى لم تسترجع صوتها لشهر و شهر آخر أيضاً ، فارتدت إلى الطبيب ليعلمها أنها قد فقدت صوتها و للأبد ، أرادت أن تصرخ لكن لم يكن بوسعها ذلك لقد أضحت فتاة خرساء فلم يكن بوسعها غير أن يغمى عليها من هول ما أصابها

 كانت الصدمة جد قوية عليها و على عائلتها أيضا فتلاشت في عين موسيقى تلك اللوحة الجميلة لوحة عينيها و جمالها و صوتها ، لقد شعرت أن كل شيء هجرها إلى بعيد و غدا خطيبها هو أملها الوحيد في الحياة ، إلى أن بلغها أنه أنهى خطبته منها فأظلمت الدنيا في عينها و دار بها من غوائل الدهر فأمست تلك الفراشة الملونة سجانة نفسها في غرفتها الصغيرة لا ترى أحدا ولا يراها أحد

استمر حالها هذا إلى أن دخل فصل الخريف ، فارتعبت الأم من حال فراشتها الصغيرة فلم يكن منها إلا أن ترغمها على الخروج من وحدتها و العودة إلى الحياة و التأقلم مع وضعها الجديد ، فأخرجتها معهما إلى النهر فرأت موسيقى فتيات كن يغنين أغانيها و يقلدنها في الكثير من حركاتها فلم يكن بوسعها أن تستمر فتراجعت على حين غرة من أمها و شقيقتها و أخذت تتخفى عن أعين الناس فكانت كلما مرت على مجمع يتسلل إلى مسمعها كلامهم و هم يقولون : أليست هذه موسيقى التي فقدت صوتها ؟ أليست هذه هي موسيقى التي تركها فلان ؟ فتذكر أميرها الفتي الجميل البهي فترتد إلى نفسها و تشرد لها و لم تنتبه أنها سائرة في طريق الغابة ، إلى أن لمحت شجرتها فاقتربت منها و أخذت تضربها بكفها ضربات متقطعة و تقول بصمت : لماذا فعلتي ذلك بي ؟ لماذا خنتيني ؟ ثم قبضت يدها و نزلت دمعة من عينها كانت تحمل البؤس و حياة النكد الجديدة .

هذا ما كانت تراه موسيقى من المستحيل أن تتأقلم في حياة النكد الجديدة ، و منذ ذلك اليوم لم تعد موسيقى ترى إلا وهي تمشي تتتبع النهر إلى تختفي عن أنظار البشر و تعود آخر اليوم إلى البيت فتنام و لم تعد تهتم لما تأكل كسابق عهدها بل أصبحت تأكل مثل الجميع و ما كان حال تلك الأم و قلبها ينفطر على فلذة كبدها تنعيها فكانت ترفع يديها إلى الخالق فتدعوه أن يترحم بالفتاة

 و في إحدى غدوات موسيقى إلى النهر رأت حمامة على الأرض , حاولت أن تمسك بها فطارت و أصدر جناحاها صوتاً أعجب موسيقى و تمنت أن لو يدوم إلى الأبد و كان ذلك الحادث البسيط سباباً لابتسامة علت وجهها و بقيت رافعة برأسها إلى السماء برهة ، ثم اقتربت إلى النهر فجلست على ضفته و غطست يدها في مائه لكنه كان بارداً جداً ، فاسترجعت يدها و تمددت إلى جانبه و شردت قليلاً تفكر في بروده و برود قلوب الناس ، فكانت تقول : أيها أشد برداً و قسوة ؟ إلى أن لفت انتباهها صوت خرير النهر فبقيت تستمع إلى أن أشرفت الشمس على المغيب فعادت إلى بيتها كعادتها

و لكن في الغد قدمت عن خصاصة إلى النهر لتسمع غناءه ، إني أجمل الفتيات صوتاً هذا ما كنت اعتقده و ، لكن للنهر حنجرة أعذب من حنجرتي ، للنهر صوت أفضل من صوتي ، ثم قامت و قد عزمت أمرها : لقد فقدت أنا صوتي و لكن الحياة لم تفقد أصواتها ، لقد صرخت موسيقى بفعلها قائلة : أنا موسيقى و لن يمنعني أين كان على أن أغني ، سوف أغني و أغني و مثلما أريد سوف أسمع غنائي و سوف يسمعه الجميع ، سوف أغني و لكن بحنجرة الحياة

 سارت موسيقى و دون أن تشعر على أعقاب النهر تفكر في طريقة لتستعمل صوت الحياة كغناء لها و لم تنتبه حتى وجدت نفسها قد توغلت وسط الغابة فلم تعرف أين وصلت ، لقد كانت الأشجار محيطة بها و قد ابتعدت عن النهر و دون أن تشعر فتقدمت قليلاً فإذا بجبل حجري في تلك المنطقة فقررت استعمال صداه و حملت بحجر حاد رسمت به دوائر على الأشجار و أخذت تتراجع و ترسم الدوائر إلى أن رأت النهر فسارعت عائدة إلى المنزل راكضة ، و قد لاحظ الجميع ابتسامة كانت على شفتيها و كانت في عينيها لمعة و حب و تمسك جديد بالحياة

 بدأت موسيقى في تطبيق حلمها و أملها الوحيد ، كانت المسكينة تريد أن تفاجئ نفسها قبل الجميع لقد اكتشفت صوت الطبل فصنعته من جلد أرنب و كانت تسخنه بالنار لتطبل به ، علقت حديداً أيضاً على شجرة و كذلك الكثير من الأشياء باغية بذلك إصدار صوت جميل حال هبوب الريح و سوف يكون جبل الصخور هو ساعي البريد الذي سيرسل ذلك اللحن إلى القرية و كذلك بنت من الصلصال مهراً مجوفاً و ثقبت فاه ليكون الصوت الذي يصدره مفاجأة الجميع

 لم تهب الريح لمدة طويلة إلى أن حل مارس و البرد القارص ، و كانت موسيقى في تلك الفترة تزور يومياً حقلها الذي أطلقت عليه اسم حقلي الموسيقي ، كان هو كل ما تأنس به و تلجأ له ، إلى أن جاء اليوم ، كان يوماً مشهوداً ، يوماً سكن التاريخ و مع مرور الوقت أمسى في ذمت التاريخ ، لم تمنع موسيقى تلك الثلوج من زيارة حقلها الموسيقي فأتته يومها و بقيت تنتظر أن تهب الريح و دخلت مغارة كانت في الجبل الحجري لتكفيها الثلوج ، ففوجئت بابن آوى جائع و راءها ..

حاولت الهرب ، ركضت بأقصى قوتها إلى خارج المغارة ، لكن ليس ممكناً أن تهرب منه ، هي نفسها استيقنت ذلك قبل أن يعود لها صوتها فتصرخ حين انقض عليها غارساً بأنيابه الحادة في عنقها ، الصرخة التي كانت فيها روحها و قضت ، حينها هبت الريح و غنت موسيقى بعد موتها بحنجرة الحياة ، كان لحناً ألفه صمت موسيقى ، لحناً شجي بائساً ينعي نفسه و كان أيضاً رثاء موسيقى ..

لم تكن موسيقى تعرف أنها تؤلف رثاء لها ، و كان الجبل الحجري عند ظن موسيقى ، لقد أرسل اللحن ليسمعه كل من في القرية , أمها , أبوها , أختها , و الجميع ظنوا أن موسيقى صاحبة الغناء ، فركض والدها تاركاً سلعه على حالها في السوق و أمها هي الأخرى ركضت دون أن تضع رداء على كتفيها ليقيها البرد إلى الجبل و أختها على أعقاب أمها و الكثيرين من أحبابها و أقربائها و سكان القرية ، ليفاجأ الجميع ببقايا جثة على الثلوج الوردية التي اكتسبت لونها من دماء الفريسة و تعرفوا على صاحب الجسد من الفستان الأزرق الممزق فستان موسيقى ..

هنالك كانت الريح قد وصلت المهر المجوف فأصدر لحناً مترنحاً لتكون نهاية المقطوعة موسيقى ، توقفت الريح و انتهى كل شيء ..

كان ذلك العام عام الثلج و الأنين ، كلما هبت الريح كان يعاد على أهل المنطقة ذكرى موسيقى ، و مرت السنوات و السنوات و مع الزمن صار الناس كلما سمعوا ذلك الصوت قالوا : إنها موسيقى ، و مع الدهر نسي الجميع أمر موسيقى و صارت أسطورة ثم نسيت تماماً و بقي ذلك الصوت الذي سمي الموسيقى و مع تقدم الزمن و العلوم هدم ذلك المكان و لكن بقيت بصماته في الحياة فسميت كل الألحان و المعزوفات باسم موسيقى التي وقعت فريسة ابن آوى و الصوت الذي ألفه صمتها أضحى برقية إلى العالم .

تاريخ النشر : 2017-10-24

guest
17 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى