أدب الرعب والعام

لعبة المال

بقلم : اياد العطار و نوار

كان نزار يكره المدرسة كثيراً لما يتعرَّض له من إذلالٍ على يد بقية الطلاب

" إن لم تجلب قسط هذا الشهر فلا تأتني غداً ، لست مضطراً على الدخول في مجموعات خصوصية و أنت لا تملك ثمنها ! "

خرج نزار و هو بالكاد يرى أمامه ، فكلمات الأستاذ كانت كافيةً لجعله يتمنى أن يختفي من الوجود .

لا يعرف كيف استطاع السير في الشارع ، كان غارقاً بالتفكير و لم يجد نفسه إلا و هو أمام المنزل ، و ما إن دخل حتى تناهى إلى سمعه صوت صراخ امرأةٍ تقول بحدَّة :
– إن لم تقومي بإصلاحه مثلما أرغب فلن أدفع لك ثمنه

اتجه نحو الغرفة التي يخرج منها الصراخ لكن بابها في تلك اللحظة فُتِح و خرجت منه امرأة متجهِّمة رمقته باحتقارٍ قائلةً :
– ابتعد عن طريقي 
ثم مضت خارجةً من المنزل بعد أن صفقت الباب خلفها بقوة كادت تحطمه .

أسرع بالدخول على أمه التي كانت جالسةً تنظر بحسرةٍ على تعبها الملقى على الأرض لكنها عندما رأته ابتسمت و تظاهرت بالتماسك و قالت :
– أهلاً بني ، متى عدت ؟
– أمي ، من هذه المرأة البغيضة التي كانت تصرخ ؟
– إنها إحدى زبائني
– و كيف تسمحين لها بالتطاول عليكِ بهذا الشكل ؟
– لقد جاءت لتستلم فستانها ، لكنها ادَّعت بأني لم أخطه كما تريد ، لذلك غضبت 
– حتى و لو أخطأتِ ، هذا لا يبرِّر صراخها 
– ماذا أفعل بني ، هذا مصدر رزقنا الوحيد و يجب أن أتغاضى  
– لكن أمي…
نهضت مقاطعةً كلامه و هي تقول :
– سأذهب لأعدَّ لك الطعام ، لابدَّ أنك جائع   

على مائدة الطعام لاحظت والدة نزار أنَّ ابنها شاردٌ و لا يأكل ، فسألته :
– ما بك بني ، لمَ لا تأكل ؟
أخرجه سؤالها من شروده و قال :
– لا شيء ، لا شيء أمي 
– نزار ، انظر إلي ، أنا أمك و أعرف متى تكون متضايقاً لذا أخبرني ما الأمر ، هل ضايقك أحدٌ في المدرسة ؟
تردَّد نزار كثيراً قبل أن يجيب :
– بصراحة أمي ، لم أعد أريد الاستمرار بالدروس الخصوصية ، هي حملٌ فوق طاقتنا ، أنا أهان كل يوم بسبب عدم الدفع ، أنا أتألم ، أكاد أختنق ، أكره المدرسة و الطلاب و الأساتذة ، أكره نفسي .. أكره الحياة 

ثم نهض مغادراً المائدة ، دخل إلى غرفته و انهار على السرير دافناً رأسه بالوسادة .

***

كان نزار يكره المدرسة كثيراً ، قد تقولون : " ومن يحبها ؟! .. نحن أيضا يكرهها " ، لكن حتماً ليس بالقدر الذي يكرهها فيه , فهي عنده كالجحيم , لا بسبب الحصص الطويلة المملَّة ، بل لما يتعرَّض له من إذلالٍ على يد بقية الطلاب .. أسوأ شيءٍ في المدرسة هو أن يعلم زملاؤك أمراً سيئاً أو محرجاً عنك , لأنهم لن يفوِّتوا فرصة لكي يذكِّروك ويعيِّروك بذلك الأمر , ستتعرَّض للإذلال وستجلدك الألسنة والأعين بلا رحمة ، قد تغضب في بادئ الأمر ، وقد تتشاجر مع بعضهم ، لكنك ستدرك بالنهاية بأن لا فائدة ترتجى من ذلك ، فلا يمكنك أن تتشاجر مع الجميع ، وستدرك أيضاً بأنه كلما أظهرت انزعاجك وامتعاضك منهم كلما فرحوا وابتهجوا وتمادوا في إيذائك , إنها الطبيعة الحيوانية العدائية لبني البشر ، ولأنك لا تستطيع أن تغيِّر هذه الطبيعة الشريرة عليك أن تبتلع لسانك وتكتم غيظك وتنأى بنفسك عن مخالطة ومحادثة الآخرين .

الأمر كله بدأ قبل ستة أشهر ، حين هجم رجال الشرطة على منزله واقتادوا والده مكبَّلاً بالأصفاد أمام أنظار جميع الجيران ، اتهموه بسرقة مبلغٍ كبيرٍ من خزينة الشركة التي يعمل أمين صندوق فيها ، لكنه بريء من هذه التهمة ، لو كان حقاً سرق ذاك المبلغ ما كانت زوجته المسكينة أجبرت على الخياطة ، و لما كابدت مع ابنها شظف العيش متحملين ذل الفقر ..

***

دخلت والدة نزار الغرفة و جلست على حافة السرير ، أخذت تمسح على شعر ابنها و تقول :
– أرجوك بني تماسك ، أنت من بقي لي في هذه الدنيا بعد الله . 
رفع رأسه و أجابها بانفعال :
– أمي أنا جادٌّ في كلامي ، لم أعد أريد الذهاب للمدرسة ، مللت من تكرار نفس الكلام ، فالناس مصرين ألا يصدقوا ، هم يظنون بأننا نخفي المال الذي سرقه والدي حتى تخفت الضجة حول القضية وتنام عيون المخبرين ، وأن تظاهرنا بالفقر هو لإبعاد الشكوك وذر الرماد في العيون .. أنا أسمع هذا الكلام يومياً ، ليس من الطلبة فحسب ، بل حتى من المدرِّسين ، آخرهم مدرس الانجليزي منذ يومين ، سألني بغضب لماذا لا أسجِّل في دروسه الخصوصية كما يفعل بقيَّة الطلاب ، و عندما أخبرته بكلِّ صدقٍ بأنني لا أمتلك المال لأسجِّل دروساً في جميع المواد زجرني قائلاً : "أين ذهب إذاً المال الذي سرقه أبوك اللص؟ " . 

عضَّت والدته على شفتها لكتم ألمها ثم قالت :
– والله أعلم و أشعر بالذل الذي تمر به لكن أرجوك اصمد لم يبقَ لك سوى هذه السنة و تدخل بعدها في الجامعة ، لا تدمِّر مستقبلك بني ، مدَّة سجن والدك طويلةٌ و لا مستقبل لك إلا في الدراسة .

صمتت قليلاً قبل أن تكمل :
– سأستدين المبلغ من السيد رمزي
– السيد رمزي ثانيةً ؟ إلى متى سنستغل طيبة هذا الرجل ؟!
– ليس استغلالاً ، أنت تعلم أن رمزي كان من أعزِّ أصدقاء والدك و هو الوحيد الذي وقف إلى جانبنا في هذه المحنة ، و ليس عيباً إن ساعدنا 
– لكن أمي..
– لا يوجد لكن ، ثم أني لا أريد أن تشغل نفسك إلا بدراستك ، بقيَّة الأمور أنا من أتدبرها 

نهض نزار قائلاً بعصبية :
– إلى متى ستستمر حياتنا على هذا الحال ؟ ضيق و حاجة و إهانة ، أنا تعبت أمي تعبت 

خرج من المنزل لا يلوي على شيء ، بقي يتسكَّع في الأزقَّة و الشوارع إلى أن تعب فجلس على أحد الأرصفة و تكوَّر على نفسه و دون أن يشعر بدأ في البكاء ، فهو لم يعد يحتمل ظروف حياته القاسية التي تحاول والدته دائماً التهوين منها ، لكن على الرغم من تماسك والدته أمامه إلا أنه يشعر أنها هي الأخرى على وشك الانفجار ، فالحمل ثقيلٌ عليها و يخاف أن يخسرها هي الأخرى كما خسر والده القابع في ظلام السجن دونما ذنبٍ اقترفه .

نهض يجرُّ قدميه عائداً إلى المنزل ، دخل بهدوءٍ و اتجه إلى غرفة والدته ليعتذر منها لكنه لم يجدها هناك ، بحث في بقية أرجاء المنزل أيضاً لم يجدها ، فجلس في الصالة ينتظرها لعلها تعود في أية لحظة ، لكن ساعة مضت و لم تأتِ فبدأ القلق يتسرَّب إلى نفسه و قرر الخروج للبحث عنها و ما كاد يصل إلى الباب حتى سمع طرقاً عليه ، عندما فتحه تفاجأ بوجود مجموعة من رجال الشرطة ، تقدم أحدهم قائلاً :
– هل أنت نزار ؟
– أجل ، ما الأمر ؟
– أرجو منك التوجه معنا إلى القسم 
– لماذا ؟ 
– هناك ستعرف كلَّ شيء ..

استسلم نزار و ركب معهم في السيارة و قلبه يكاد يخرج من مكانه من شدِّة خوفه و قلقه .. عندما وصل أدخلوه إلى غرفة رئيس المباحث الجنائيَّة الذي استقبله قائلاً :
– أهلاً بني ، أعرف أن ما سأقوله قاسٍ جداً عليك لكنك كبيرٌ بما فيه الكفاية لتعرف أن الحياة قاسيةٌ و لا شيء مستغربٌ فيها 
– أرجوك سيدي ما الأمر ؟ أعصابي لم تعد تحتمل 
– في الحقيقة والدتك محجوزةٌ عندنا بتهمة القتل العمد 
لم يصدِّق نزار ما سمعته أذناه و أحس بأنَّ الدنيا تدور من حوله لكنه تماسك و قال :
– لابدَّ أن هناك خطأ ما ، أمتأكِّدٌ أنها أمي ؟ أمي أنا تقتل ؟!
– يؤسفني أن أؤكِّد لك ما سمعت ، هي من جاءت و اعترفت بجريمتها و سلَّمت نفسها 
نهض نزار قائلاً بانفعال :
– أريد أن أراها ، لا أصدِّق حتى أراها 
– لك ذلك .. 
قالها الضابط ثم ضغط زراً موضوعاً على الطاولة جاء على إثره أحد العناصر و اقتاد نزار إلى والدته ..

دخل عليها بقدمين مرتجفتين ، لم يكن مصدِّقاً ما سمعه لحد هذه اللحظة ، لكن نظرة واحدة إلى وجهها و ثيابها الملطَّخة بالدماء كانت كفيلة لجعله يدرك أنه ليس في حلم كما كان يعتقد بل حقيقة ، حقيقة بشعة جداً .

اندفع نحوها قائلاً :
– أمي لماذا ؟ ما الذي حدث و جعلك قاتلة ؟ أنا عقلي توقّف عن العمل ، عقلي عاجز عن الاستيعاب ، أكاد أجن ، أوضحي لي أرجوكِ .. 
أجابت والدته بهدوء دون أن ترفع نظرها إليه :
– ليس غريبٌ على الخائنة أن تصبح قاتلة 
– ماذا تقصدين ؟ ثم أنني لم أعرف لحد الآن من هو الضحيَّة ؟
رفعت رأسها نحوه و قالت بغضب :
– لا تقل ضحيّة ، بل هو ذئبٌ بهيئة إنسان و لو عاد للحياة مرةً أخرى لقتلته ثانيةً .
– من هو ؟
– السافل رمزي 
– السيد الطيب الذي وقف إلى جانبنا ؟ لماذا ؟
– لم يكن طيباً على كل حال ، فهو من سرق أموال الشركة التي يعمل بها والدك بمساعدةٍ مني ..
اتَّسعت حدقتا نزار من هول ما سمع و همَّ بالحديث لكن والدته أشارت له بالصمت و قالت :
– اجلس و اسمعني دون مقاطعة أرجوك ، فلربما لن يُسمَح لي بالحديث معك ثانيةً 

جلس نزار قبالتها على الكرسي ، أخذ ينصت لها و هو ساهمٌ و قلبه يدقُّ بعنف ..

بدأت والدته الكلام :
– نشأت في عائلةٍ مستوى دخلها محدود ، أحلامي و أمنياتي لا تتفق مع مستوانا المادي لذا عشت في حسرةٍ دائمةٍ و عيني على ما تملكه الأخريات من حولي ، و كأيِّ فتاةٍ في وضعي لم تكمل دراستها كنت أحلم بفارس الأحلام الذي سيأتي و ينشلني من هذا الوضع ، كنت مستعجلة جداً لدرجة أن قبلت الزواج من حسن الذي هو والدك على الرغم من فارق السن الذي كان بيننا ، و بالطبع أهلي كانوا يودُّون الخلاص مني ، فبزواجي يخفُّ العبء عليهم .. 

والدك كان يمتلك وظيفةً و بيتاً مستقلاً ، معطياتٌ بطبيعتي الحالمة و صغر سنِّي الذي لم يبلغ العشرين بعد رأيتها  كفيلة بمنحي السعادة ، فسأعيش استقلالي و سأكرِّس حياتي لسعادة زوجي .
لكن بعد الزواج صُدِمت بالواقع ، وظيفة والدك بسيطة بالكاد تسد متطلباتنا ، منزله صغير بالكاد يتسع لنا ، وجدت نفسي أعيش حياةً لا تختلف عن حياتي في بيت أهلي على العكس أصبحت المسؤوليَّات أكبر ، يعني باختصار لم أجد في هذا الزواج ما كنت أتمنى ، و مع ذلك حاولت التأقلم مع الأمر الواقع خصوصاً بعد أن وجدت نفسي قد أصبحت أماً ..

صمتت قليلاً لتلتقط أنفاسها ثم أكملت :
– منذ أن تزوجت والدك و هو يعدني بحياة أفضل ، صبرت على وضعه متأملةً أن يتحسَّن لكن لم يتغيَّر شيء ، بقي موظفاً بسيطاً راتبه لا يزيد و لا ينقص ، كنت أراقب مستوى المعيشة التي تنعم بها قريباتي و صديقاتي ، جميعهنَّ كنَّ أفضل مني لذلك سعيت جاهدةً أن أحسِّن من وضعنا و ذلك أن توسَّلت أحد أقاربي ليؤمِّن له عملاً أفضل ، فلديه صديق يملك شركة ناجحة .
استطعت بعد جهدٍ طويل إقناع والدك بترك وظيفته الحكومية و الانتقال إلى تلك الشركة التي كانت بحاجة لأمين صندوق يستلم الحسابات و الأموال فيها ، و كان راتبه أعلى من مرتبه في الوظيفة الحكومية ..

قاطعها نزار قائلاً :
– كل ما قلتيه أعرفه فأنا ابنكما .. أين الجديد ؟

نهرته والدته بانفعال :
– اصمت و لا تقاطعني .. لابد أن أشرح لك معاناتي منذ البداية حتى تعرف أسبابي التي دفعتني لخيانة والدك 

صمت نزار على مضضٍ بينما تابعت أمه :
– السافل رمزي كان من أعز أصدقاء والدك – أو هكذا كان يبدو – لاحظت أنه بدأ يتودَّد إلينا منذ أن انتقل والدك إلى وظيفته الجديدة التي خاب ظني بها سريعاً ، فالمرتَّب الذي كان يأتي منها لم يكفِ أحلامي ، كنت أريد تغيير المنزل ، تغيير الأثاث ، شراء الثياب الفاخرة ، التنزُّه و السياحة ، اكتشفت أن أحلامي هذه ستبقى مؤجَّلة لا أعرف إلى متى و العمر يمضي و لا ينتظر ..

في هذه الأثناء لاحظت أن رمزي بدأ ينظر إليَّ نظرات مختلفة لم أعهدها منه ، بدأ يثني على طبخي بطريقة مختلفة ، بل تجاوز ذلك و أخذ يمتدحني و يستغلُّ أيَّة فرصةٍ يكون والدك غافلاً فيها حتى يكلِّمني و يلمِّح أن جمالي خسارة بمن لا يقدِّرون الجمال ، و ذكائي و حبي للتطور و تحسين نفسي لا يتناسب مع عقلية والدك الخانعة و التي ترضى بالقليل و تعيش لتوفير قوت يومها فقط ، بمعنى آخر بدأ هذا الماكر يلعب بعقلي ، لقد عرف نقطة ضعفي و أنا بدأت أنقاد له .. أجل بدأت أقارنه بوالدك 

كان والدك إنساناً بسيطاً يخاف من خياله ، هو من أولئك الرجال الذين لو غبت عنهم مائة عام تعود لتجدهم لم يحركوا ساكناً ، بينما رمزي إنسانٌ يستغلُّ الفرص ، يتطلَّع دائماً نحو الأمام ، يحب أن يمتِّع نفسه و يفهم شيئاً من أيامه ، ليس كوالدك الغارق بالعمل طوال يومه و بمتابعة الأخبار و الصحف ، حدث تفجير هناك و زلزال هنا ، فاز ذاك بالانتخابات و استقال الآخر .. و بصراحة تعامل والدك معي جعلني أنسى بأنني أنثى ، فهو من بعد مرور شهر العسل توقَّف عن التغزل بي ، و بعد أن أنجبتك أصبح لا يراني سوى أم و ربة منزل ، كان جامداً لدرجة تغيظني بينما رمزي بإطرائه لي و كلامه المعسول أيقظ بيَّ إحساس الأنوثة ، آسفة على قول هذا الكلام لك لكن صدقاً لم يعد يهمني شيء ..

ابتسمت بمرارة ثم أكملت :
– بعد أن اطمأنَّ ذلك السافل إلى أني ابتلعت الطعم أخذ يحدِّثني عن الملايين من النقود التي تمرُّ من تحت أنظار زوجي يوميَّاً في عمله ، ماذا لو امتلكناها و هربنا سوياً إلى إحدى الدول في الخارج و عشنا حياتنا بعيداً عن الملل و الأفق المحدود هنا ! بدأ يبثُّ سمومه في ذهني و انسقت له و لخططه كالبلهاء ، اتَّفقت معه على أن أسرق مفتاح الخزنة من زوجي لينسخ منه و من ثم أعدته بكل هدوء ، طبعاً هو كان قد زار والدك في عمله عدَّة مرات و حفظ شكل مبنى الشركة و عرف أين تتموضع قواطع الكهرباء حتى يتلفها كي تتعطل كاميرات المراقبة ..

احتمال الفشل كان قائماً خصوصاً مع وجود الحارس لكن رمزي من النوع المغامر ، و بالفعل نفَّذنا العملية و تمَّت الخطة بنجاح و عند اكتشاف الواقعة لم توجَّه أصابع الاتهام إلا لوالدك ، فالخزنة لم تُفتَح عنوة أو ما شابه و المفتاح لا يوجد منه سوى عند والدك و صاحب الشركة الذي هو بالطبع بعيد عن الشبهات ، موقف والدك كان ضعيفاً جداً خصوصاً أنه لم يمضِ على عمله سوى بضعة أشهر ، أي لم يكتسب بعد تلك الثقة التي تجعل الجميع يدافع عنه ، و هكذا تم إلقاء القبض عليه و إيداعه الحبس .. و بدأت بعدها معاناتي مع رمزي فقد أخذ يُظهِر لي وجهه الآخر بالتدريج .

صمتت قليلاً و هي تتأمَّل ابنها الذي كان يستمع لها و آثار الصدمة لم تغادر وجهه بعد ، أزاحت نظرها عنه و تابعت :

– وعدني بأن نهرب سوياً و نتزوج و نحقق أحلامنا ، لكنه بعد أن تمت العملية بدأ يماطل و يتحجَّج بأننا يجب ألا نحرك ساكناً لفترة من الوقت حتى لا نثير الشبهات ، وافقته على هذا الأمر و عملت بالخياطة لأسدَّ حاجتنا و لأتقن دور الضحيَّة أمام الناس ، لكنه تمادى و أصبح يتجاهلني ، و عندما كنت تراه يأتي لمساعدتنا لم يكن يفعل ذلك عن طيب خاطر و وفاءٍ للصداقة التي كانت بينه و بين والدك كما كنت تظن ، بل كان يأتي بعد أن أكلِّمه و أطالبه بحقِّي من المال الذي سرقه .. مضت الشهور و هو مازال يقول يجب أن ننتظر ، تحمَّلت الإهانة و الذل و نظرات الشفقة في سبيل أن أستمتع بالنهاية ، لكن حالتك التي عدتَ فيها اليوم من المدرسة جعلت صبري على رمزي ينفد ..

توجَّهت إليه حتى نتفاهم و نضع النقاط على الحروف ، لكنه أظهر لي حقيقته القذرة و جشعه ، قال بأن لا شيء لي عنده و بأنه لن يعطيني بنساً واحداً بعد الآن ، بل وجدته يعد أغراضه تمهيداً للسفر إلى الخارج ، لم أتمالك نفسي و جلبت سكيناً من المطبخ و هدَّدته بها لكنه لم يأخذ تهديدي على محمل الجد ، في تلك اللحظة لم أعد أفكر بعقلي كنت حاقدة عليه و مستاءةٌ من فشلي ، شعرت بأن أحلامي كلها ضاعت و بأنني دمَّرت زوجي و بيتي و استقراري بلا فائدة ، لم أجد ما يشفي غليلي سوى رؤية هذا الذئب ميتاً لذا قتلته ، قتلته و في عينيه رأيت الذهول و الاستغراب ، لم يكن يظن بأني سأفعلها ، كان يستهزئ بي و يضحك .. يا له من غبي 

صمتت الأم و قد شعرت بأنها كانت تركض لمسافاتٍ لذا أخذت تتنفس بصوتٍ مسموعٍ أقرب للهاث فيما نظر إليها ابنها و قال :
– خنتِ والدي ، دمرتِ مستقبلي ، خططتِ تآمرتِ و قتلتِ من أجل المال ؟! كم كنت مخدوعاً فيكِ ، كنتِ بنظري الملاك الذي لا يخطئ ، وعدت نفسي بأن أدرس و أجد حتى أحسن مستقبلنا و أخفِّف عنك الضغط قليلاً ، واجهت أقسى أنواع الذلِّ و الإهانة في المدرسة بين الطلاب و الأساتذة و كنت أعود لحضنك ، كان هو الملجأ الذي يشعرني بالأمان و الأمل ، و بالآخر أنتِ سبب ما حصل لنا ؟ و أبي المسكين ما ذنبه ؟

– بني..

– لا ، لست ابنكِ و لستِ أمي و لا أريد رؤيتكِ بعد الآن 

هبَّ واقفاً و خرج بسرعة دون أن ينصت لأمه التي اختنق صوتها بين مناداته و البكاء ..

**

على باب السجن كان نزار ينتظر خروج والده ، لقد أعيد فتح القضية بناءً على اعترافات والدته و برِّئ والد نزار من التهمة .. لكن النقود بقيت مخبَّأة و لم تتوصَّل الشرطة إلى معرفة مكانها . 

قرَّر والد نزار بيع منزله و الانتقال مع ابنه إلى مدينةٍ أخرى لا يعرفهما فيها أحد ، فالفضيحة كانت كبيرة و لا طاقة لهما على تحمِّل شماتة الناس أو حتى شفقتهم ، وجد نزار فجأة نفسه بين الطلاب قد أصبح ابن الخائنة و القاتلة بعد أن كان يُنعَت من قبل بابن السارق ، صفات لم يعد يحتملها لذلك أيَّد والده بقراره هذا و كان يتمنَّى الرحيل و الاختفاء عن الوجوه التي كرهها بأسرع وقت .

بعد أن حزما حقائبهما و السيارة في الخارج تنتظر شارة الرحيل طلب والد نزار من ابنه انتظاره في المنزل ريثما يعود ..

توجَّه الوالد بخطى حذرة نحو إحدى الأحياء النائية حيث كان رمزي يمتلك منزلاً قديماً متداعياً هناك لا يعلم بوجوده أحد ، كانا أيام طيشهما يستخدمانه للسهر و التدخين و العربدة .. الشرطة لم تستطع إيجاد النقود المسروقة ، و لو أراد رمزي إخفاءها فإنه لن يجد أفضل من هذا المكان الذي لا يستطيع أحد أن يهتدي إليه .. هكذا حدَّث نفسه والد نزار و هو يتجه نحو بابه الذي كان مغلقاً لكنه استطاع الدخول من إحدى النوافذ المتهالكة ..

دلف إلى الداخل بحذرٍ و خشية ، فعلى الرغم من عدم وجود أحد لم يستطع منع نفسه من القلق و الخوف ، جاب أرجاء المنزل و هو يبحث في كل ركنٍ و زاويةٍ لكن لم يجد شيئاً ، أعاد البحث بشكلٍ محموم لكن أيضاً بلا فائدة ، جلس على إحدى الأرائك و أخذ يفكِّر و يضع نفسه مكان رمزي ، كمية كبيرة من النقود أين يمكن إخفاؤها في هذا المنزل ؟ بالتأكيد لن يضعها في مكانٍ مكشوفٍ عرضةٌ لأيِّ فضوليٍّ أو متشرِّدٍ قد يدخل هنا .. فجأة لمعت بباله فكرة ربما تخطئ و ربما تصيب ، نهض من مكانه و أخذ يتلمَّس الأريكة فلم يجد شيئاً مريباً ، تركها و اتجه إلى أحد المقاعد و تحسَّسه فوجده طبيعي ، تركه إلى آخر و ما كاد يفعل حتى ابستم بانتصار .. كان رمزي قد أفرغ حشو إحدى المقاعد و وضع مكانه النقود و أعاد خياطته بشكلٍ لا يثير ريبة المتطفلين ..

مزَّق والد نزار القماش بأصابع مرتجفة من شدة الانفعال فظهرت له الدولارات الخضراء تعده بمستقبلٍ مشرقٍ بعد ذلِّ السجن و الإهانة ..

عاد مسرعاً يتلفت حوله بحذر و هو يضم إلى صدره حقيبةً رماديةً مليئةً بالنقود .. دخل بهدوءٍ إلى المنزل فوجد ابنه قد غفا على الأريكة بينما كان ينتظره ، تركه في مكانه و اتجه صوب حقيبة ملابسه أفرغها من محتوياتها و أعمل شقَّاً بقاعدتها و صفَّ فيها النقود ، بعدها أخاطها و أعاد ترتيب ثيابه و أغلقها ، ثم اتَّجه إلى نزار يوقظه و يحثّه على الاستعجال في الرحيل ..

ركب نزار إلى جانب والده في السيارة و انطلقا يشقَّان طريقهما من جديد ، لقد قرَّر والده و للمرة الأولى أن يتصرَّف على عكس طبيعته و يصم أذنيه عن صوت ضميره ، القضية أغلقت ، رمزي مات و زوجته سُجِنَت ، و الشركة لم تفلس بل استطاعت النهوض من جديد و الاستمرار بعملها ، أي أن هذه النقود لهم لا تعني شيئاً بينما له تعني كلَّ شيء .. لم يكن الذنب ذنبه و ليس هو الذي خطَّط و ليس هو الذي سرق لكنه أهين و سجن و تعذب ، و يحقُّ له أن يعوَّض .. هكذا فكر والد نزار بينما كان يقود السيارة نحو حياةٍ جديدة لا يوجد للماضي مكان فيها .

 

تاريخ النشر : 2017-12-28

guest
36 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى