أدب الرعب والعام

الساعة – الجزء1

بقلم : البراء – مصر
للتواصل : [email protected]

الساعة - الجزء1
هذه الساعة .. لقد كانت في كل مكان


مقدمة :
هذه القصة هي قصة خيال علمي وغموض في المقام الأول.. لذا أرجو ألا ينتظر القارئ أي شيء آخر سوی هذا.. كما أرجو ألا يتفاجأ بالمسار الذي ستأخذه القصة في منتصف الأحداث ، وأعتذر مسبقاً إن ضايق هذا الأمر بعض القراء ، القصة أيضاً معقدة للغاية ولن يتم فهمها فهماً صحيحاً من مجرد قراءة عابرة ، لذا أرجو من القراء الكِرام قراءة السطور بتأنٍّ في هذا الجزء و في الأجزاء القادمة كذلك.

**

– “هذه الساعة..
لقد كانت في كل مكان.. في أعمق نقطة في المحيط.. و أعلى نقطة على جبل إيفرست.. في غابات الأمازون.. في الفضاء و على القمر، هذه الساعة شهدت على كل شيء “

لم تكن هذه المقدمة مع نبرة الصوت العميق و الجادة و تلك النظرات النارية و الموحية بالخطورة.. لم يكن كل هذا كافياً كي يثير فضول نيمو الذي قال متنهداً:
– “جدي.. اسمع!! ألا ترى أنك تبالغ قليلاً ؟!.. أعتقد أنها ساعة عادية تماماً .. كل مافي الأمر هو أنها قديمة.. هذا النوع بالذات الذي تتحدث عنه قديم.. ساعات الجيب انقرضت منذ زمن”

لم يكن هذ الرد من نيمو كافياً كي يحبط جده الذي كان ينبش في صندوق خشبي كبير أمامه.. جده الذي رد و هو يكمل نبشه في الصندوق :
– “أنا لا أفهم يا نيمو.. هل تريد للساعة أن تطلق الليزر أو أن تطير مثل العصافير كي تتأكد من أنها مختلفة ، المشكلة في كل هذا هو أن هذا الصندوق اللعين واسع بشكل لا يصدق”

ابتسم نيمو قائلاً :
– “لا أنا لا أريد لها أن تطير كالعصافير يا جدي.. و لكن تحدث معي بالعقل و المنطق و سأصدقك”
رد الجد بإبتسامة هو الآخر:
– “بعد كل هذه السنين.. فتى في العشرين من عمره يقول لي تحدث معي بالمنطق و العقل”
قالها و صمت قليلاً قبل أن يردف بدهشة و هو منهمك في البحث داخل الصندوق :
– “يا للهول!!.. إن هذا الصندوق كبير فعلاً ! يمكنني أن أعيش بداخله…. يمكننا كعائلة أن نعيش بداخله.. و ربما سندعو الجيران كي يزورونا أيضاً، ما هذا؟!… ما الذي أتى بهذا إلى هنا”

أخذ نيمو يجول بنظره في الغرفة.. ينظر إلى الأشياء القديمة المرمية في كل مكان.. خطر له أنه من وسط كل هذه الأشياء القديمة لابد من وجود شيء أو شيئين ذوي قيمة، لفتت نظره بعض الكتب العتيقة المتكدسة فوق بعضها.. تحرك نحوها ثم بدأ يزيل عنها التراب.. لكن جبل الكتب تهاوى ما إن لمسه نيمو.. و مع سقوطه انتشرت موجة من التراب في كل مكان حول نيمو، قال حينها و هو يسعل:
– ” منذ متى لم تدخل لهذه الغرفة يا جدي”
سمع جده الجلبة التي أحدثتها الكتب فتوقف عن ما كان يفعله و رفع رأسه من داخل الصندوق ملتفتاً نحو نيمو:
– “آااه هذه الكتب”
نظر مجدداً نحو الصندوق و بدأ يكمل ما بدأه و هو يردف:
– “لا أتذكر في الواقع، و كما قلت لك هذه ليست غرفة بعد الآن.. إنها مخزن”
قال نيمو بصوت خفيض للغاية و هو يكمل تجوله بنظره:
– “لكن إن كانت في منزلك فهي غرفة.. أليس كذلك؟”
أتاه صوت جده من ورائه:
– “سمعت تمتمك يا فتى.. لابد من أنك كنت تتذمر كالعادة، لكن مهما قلتم سيظل هذا هو مخزني الخاص الصغير و السري”

التفت نيمو و نظر لجده الجالس على الأرض بدهشة و هو يفكر » خاص؟! و سري؟!… إن الكبار لديهم عالمهم الخاص بهم!!.. إنه يعتز كثيراً بالذكريات و هذا مؤكد «
لكن الجد لم ينتبه لنظرات نيمو أبداً..

وقع نظر نيمو على كرة أرضية صغيرة.. من ذلك النوع الذي تجده على مكتب أي رجل أعمال يحترم نفسه، رآها ثم ذهب لها و أخذ يزيل عنها التراب.. و بدأ بعد ذلك يدفعها بيده كي تدور حول نفسها بسرعة.. بعدها تمتم بصوت خفيض:
– “و الآن لنرى أين سأعيش مستقبلاً “
ثم مد يده و أوقف الخريطة بإصبعه.. و بعدها أزال إصبعه و هو ينظر للمكان الذي وقف عليه إصبعه.. قال بلوعة حينما رأى المكان :
– “البيرو؟!.. ما الذي سأفعله هناك.. مرة أخرى”

انتبه له جده فتلفت نحوه و بدأ يتابعه، كرر نيمو نفس العملية السابقة و حين أزال إصبعه اقترب من الخريطة برأسه ثم قال:
– “البرازيل.. قد أود تجربة العيش هناك.. ليس طوال حياتي بالتأكيد، لكن ما خطبي وهذه القارة حقاً ؟!، حسناً مرة أخری”
تملكت الدهشة جد نيمو حينما رأى ما فعله حفيده.. ففكر» ما الذي يفعله هذا الأحمق؟!، إن الشباب لديهم عالمهم الخاص بهم!!.. إنه يفكر كثيراً في المستقبل بالتأكيد«
لكن نيمو لم ينتبه لنظرات الجد..

ثم بدأ الجد يكمل عمله، كان قد أزال معظم الأشياء من الصندوق الخشبي الكبير الذي أمامه و لم يبقَ إلا القليل حتى يصل للقاع، دقيقة بعدها و كان يمسك بالصندوق المعدني الصغير الذي كان يبحث عنه منذ البداية، و قبل أن يسحبه من الصندوق سمع صوت نيمو العالي خلفه :
– “روسيا.. أخيراً !!.. سأعيش أفضل حياة محترمة هناك”

لم يعره الجد إهتماماً و سحب الصندوق المعدني من مكانه و هو يستعيد ذكرياته مع هذا الصندوق.. و للدقة ما بداخل هذا الصندوق، قال و هو يفتحه :
– “لقد وجدتها يا نيمو.. تعال”
ترك نيمو ما كان يفعله قبل أن يقول:
– “حقاً وجدتها ؟!.. أخيراً !!”
و أمام جده جلس نيمو.. جلس غير مبالٍ بالأرضية المتسخة، كان جده يجلس أيضاً ، أخرج جده الساعة من الصندوق و مد يده بها نحو نيمو و هو يقول :
– “لا تقدر بثمن.. حذارِ أن توقعها”

كانت ساعة غريبة الهيئة بشكل لا يصدق ، مد نيمو يده في حذر و أخذها من جده.. ثم بدأ يقلبها في يده متفحصاً إياها بنفس الحذر الذي أخذها به ، بعدها بثوان قال نيمو :
– “إنها غريبة للغاية.. رغم أنها تبدو عتيقة للغاية إلا إنني لا يمكنني أن أتخيل أنها كانت في جيب أحد نبلاء القرن الماضي”
رد الجد و هو يمط شفتيه :
– “نعم معك حق.. تبدو قديمة ولكنها مميزة حقاً”
سأل نيمو:
– “لكن ما هذه النقوش التي عليها”
رد جده و هو يأخذها منه:
– “هذا يكفي.. لنعيدها إلى مكانها”

بدت الدهشة على وجه نيمو الذي صمت قليلاً ثم قال بعدها ضاحكاً :
– “للحظة ظننت أنك جاد”
قال الجد و هو يبادل نيمو الابتسام:
– “أنا جاد !”
رد عليه نيمو باستنكار:
– “ماذا ؟!.. ألن تعطِها لي؟”
فقال الجد ضاحكاً :
– “للحظة ظننت أنك جاد”
ازدادت دهشة نيمو و رد :
– “أنا لا أمزح.. ألم تقل أنك ستعطيني شيئاً مهماً “
ازداد الجد ضحكاً ثم قال:
– “نعم نعم.. و لكن ليس هذا.. منذ قليل كلمتني والدتك على الهاتف و أخبرتني أنها تريد ألبوم الصور القديم الذي لدي هنا”
قال نيمو باستنكار مرة أخرى:
– “ألبوم صور؟!”

رد الجد و هو يغلق الصندوق بعد أن وضع الساعة بداخله:
– “نعم.. أخبرتني أن أخرجه كي تمر هي بنفسها علي غداً و تأخذه”
قال نيمو مكملاً كلام جده و قد بدت عليه علامات الفهم:
– “وصادف أنني مررت عليك في طريقي للمنزل فقررت إعطائي هذا الشيء المهم كي أعطيه لأمي بدلاً من أن تتعب نفسها غداً “
رد الجد بعد أن أعاد الصندوق المعدني الذي به الساعة مكانه:
– “بالضبط”
قال نيمو و هو يقف:
– “إذا كنت أنا هنا من أجل ألبوم الصور.. إذن لماذا أريتني الساعة من الأساس”

وقف الجد لثانيتين أو ثلاث ينظر لنيمو في بلاهة و هو يفكر في إجابة السؤال قبل أن يقول:
– “لا أعرف”
رد نيمو:
– “أبعد كل هذا العناء تخبرني أنك لا تعرف؟!”
رد الجد و هو يتنهد:
– “لا أعرف.. إن الألبوم هنا و أنا دخلت هنا و في نيتي أن أبحث عنه ، و لكنني وجدت أنك تكاد تموت من الملل فقررت إخبارك عن الساعة و لكنك لم تصدقني فبدأت أبحث عنها كي أريها لك “
رد نيمو بحسرة:
– “اعتقدت أنك ستعطِها لي.. كنوعٍ من الإرث العائلي أو شيء كهذا”
رد الجد و هو يبتسم:
– “لا.. عقلي يقول لي أنني يجب عليّ أن أريها لك فقط، لكن لا تنكر.. لقد ذهب الملل”

لم يرد نيمو و أخذ يفكر في كلام جده.. إن ما يقوله صحيح.. لقد كان يشعر نيمو بالملل و لكن الساعة أثارت اهتمامه، قطع تفكيره صوت الجد و هو يشير لمكانٍ ما:
– “انظر فوق ذلك الرف.. أعتقد أن الألبوم هناك”
ذهب نيمو نحو الرف و وجد الألبوم فأخذه و أعطاه لجده كي يتفحصه، كان الملل قد بدأ يعاوده مجدداً ..

الجد بدأ يتفحص الألبوم.. و لكن الصور شدته فترك نيمو و أخذ يتصفحه و هو يسترجع الأيام الخوالي ..
أما نيمو فوجد أنه يريد أن يعرف أكثر عن الساعة فقال:
– “بالمناسبة الساعة لم تثر اهتمامي.. كان ظنك خاطئاً “
رد جده و هو مازال يتصفح الألبوم بابتسامة تعلو وجهه:
– “هذا جيد.. إن الساعة خطيرة جداً “
ثم رفع رأسه و نظر نحو نيمو و أردف:
– “هل اعتقدت حقا أنني سوف أعطيك إياها.. إن هذا مع الأسف مستحيل يا نيمو.. الساعة خطيرة حقاً كما قلت لك.. و إن أعطيتها لك ربما قد تؤذيك وتؤذينا جميعاً”

رد نيمو متظاهراً بعدم المبالاة:
– “أنت تعرف أنني شخص يتنفس المنطق أليس كذلك؟!”
رد الجد و هو يعاود النظر إلى الألبوم:
– “بل هذا ما أردته.. أنا الآن مطمئن و أعرف أنك لا تصدقني”
قال نيمو و قد زاد فضوله:
– “المهم هو أنني أردت بعض الكتب القديمة.. تلك التي وقعت على الأرض بينما كنت أتفحصها.. هناك بعض العناوين التي شدتني صراحة.. و أنت تعرف أنني ماكينة قراءة”
رد الجد بنفس الابتسامة التي تعلو وجهه كلما نظر في الصور التي في الألبوم:
– “خذ ما تريد و لكن لا تنس دوماً قانوني للكتب أعد حينما تنتهي”
رد نيمو بحماس مفتعل:
– “حسناً.. تحامل معي قليلاً .. سوف أتصفح الكتب أولاً.. كما تعرف لا تحكم على كتاب من عنوانه”
قال جده و هو يغلق الألبوم:
– “لقد أتعبني البحث.. سأعد بعضاً من الشاي و أتأمل في الألبوم قليلاً .. أأعد لك بعضا من الشاي معي؟”
رد نيمو:
– “لا شكراً “

رحل الجد تاركاً نيمو يعبث في الكتب، و ما إن اطمأن نيمو إلى رحيل الجد حتى كانت الساعة في حقيبته .. نيمو أخذ الساعة و ترك الصندوق فارغاً ثم أعاده إلى مكانه، وضعها في الحقيبة ثم بدأ يتصفح في الكتب فعلاً ، هو لم يكذب حينما قال أنه ماكينة قراءة .
حينما انتهى نيمو مما كان يفعله و خرج من الغرفة عثر على جده مسترخياً على الأريكة يتصفح في الألبوم مع الابتسامة المعتادة ، قال:
– “لقد انتهيتُ يا جدي.. هل انتهيت أنت؟”
رد جده و هو يمد يده إلى نيمو بالألبوم:
– “نعم انتهيت.. تفضل ها هو ذا “
أخذ نيمو الألبوم و هم في طريقه للمغادرة قبل أن يردف الجد :
– ” بالمناسبة جرب أن تحصل على بعض الذكريات في سنك هذا.. ستفيدك حينما تكون في مثل عمري”
فرد نيمو شارداً الذهن:
– “نعم.. أعدك أن أحاول”

***

أكثر ما أثار استغرابه في الأمر هو أن الساعة كانت تعمل.. هنالك من تمكن من إصلاحها.. لابد من أن جده قد عانى كثيراً في فتحها.. إما هذا أو أنها مازالت تعمل بطريقة أو بأخرى..
كان نيمو من النوع الذي لا يحب أن يجهد تفكيره كثيراً…. لكنه مع الساعة لم يستطع إلا أن يفكر بها.. كان يعتقد أنه لابد من أنها قيمة حقاً بما أنها قديمة و ما إلى ذلك، و لذا فكر في أن يعرضها على مختص بالساعات عله يخبره نوعها أو شيء عنها لكنه أدرك في النهاية أنه يعطي الساعة أكثر من حقها بكثير.

كان هذا حتى أوقعها ذات مرة بينما هو يفحصها.. لم يحدث لها شيء لكنه لاحظ أن صوت دقاتها أصبح عالٍ.. عالٍ أكثر من اللازم.. و قد كان هذا كافياً حتى يقرر أنه سيعرضها على مختص بدون علم جده حتى..

المختص كان السيد ماريو صديق نيمو الذي يعرفه منذ فترة كبيرة، السيد ماريو رجل يعشق الساعات ويری فيها كل شيء، رجل يؤمن و يعمل بمقولة -حب ما تعمل- الشهيرة، وجد شغفه و روحه في الساعات فقرر أن يفتتح متجراً لها ، دقات العقارب في الساعات القديمة تعطيه نشوة لا يحلم بها ، و لذلك كان نيمو على ثقة بأن السيد ماريو لن يقول لا أبداً .. ببساطة لن يستطيع مقاومة هذا الإغراء..

حينما كان نيمو في طريقه لمحل السيد ماريو، كان يمشي و يفكر في وجه جده و كيف سيكون شكله إن عرف أنه أخذ الساعة بدون علمه، بعد أن وصل نيمو لمحل السيد ماريو.. وقف أمام الواجهة و هو يعتصر الساعة في جيبه أخرجها من جيبه و نظر لها نظرة سريعة ثم تحرك و دخل إلى المحل بثقة..

دخل و وقف أمام السيد ماريو و هو يبتسم، أما السيد ماريو فكان في عالم آخر.. عالم الانبهار، لم يستطع مقاومة هذا الشيء الذي يمسكه نيمو.. هو من خبرته قد عرف أن هذه هي ساعة جيب.. و من الطريقة التي يمسكها بها نيمو فهي قيمة حقاً.. أما المشكلة المتوقعة هي أن البطاريات نفدت و تحتاج لعملية تغيير دقيقة جداً ، أوه أعطها لي سوف أعتني بها كالعصفور الصغير.
و قبل أن يتكلم نيمو قال السيد ماريو و هو يشير للساعة في يد نيمو:
– “ساعة جيب قديمة جداً و تحتاج لتغيير بطاريات بطريقة دقيقة حتى لا تفسد الساعة.. نيمو يا صديقي دعني أخبرك بأني سأعتني بها من كل قلبي و لن أجعلها تصاب بربع خدش.. كما ترى أنا أكثر من محب للساعات.. أنا أقدس الساعات.. لذا دعني أخبرك أن هذا هو المكان المناسب تماماً”

دُهش نيمو من سرعة كلام الرجل، لكنه سرعان ما استعاد توازن عقله و رد على السيد ماريو بحذر :
– “حسناً يا سيد ماريو.. إن الأمر ليس هكذا.. في الواقع هذه الساعة تعمل”
و هنا ارتفع حاجبا السيد ماريو حتى النهاية.. لم يتصور يوماً أنه سيخطئ في تقدير حالة ساعة مهمة.. ثم أيضاً كيف للساعة أن تظل تعمل بعد كل هذا الوقت.. أهناك أحد بارع لدرجة أنه غير البطارية بدون أن يترك آثاراً علی الغطاء الخلفي؟!
عاد نيمو يردف :
– “في الواقع إن هذه الساعة…”
و توقف و هو يفتحها كي يريها للسيد ماريو..
ما حدث بعدها هو أن السيد ماريو لم يعد هناك.. لا هو ولا محله.. كل شيء اختفى ببساطة شديدة ، لحظة توقف فيها الزمن عن الحركة، و بعد أن تحرك الزمن كان أول ما لاحظه نيمو هو صوت الصراخ العالي في كل مكان.. أما عن ثاني ما لاحظه كانت هي تلك اليد المبتورة التي كانت تطير أمامه.. ناثرة الدماء في كل مكان.. تلوح له و هي تطير !!

***

– “مازلت لا أفهم يا سيد نيمو.. كل ما فعلتَه بعد أن فتحت الساعة هو التحديق في الفراغ لمدة ثلاث ثواني تقريباً ثم بعدها استفقت و أنت تشهق بشدة.. و حتى الآن مايزال تنفسك غير منتظم”
نظر له نيمو بعينين زائغتين ثم رد بصوت مبحوح:
– “هذا لأنني كنت أموت يا سيد ماريو.. أرجو منك أن تتفهم هذا”
راق الأمر للسيد ماريو فعدل من جلسته.. هو يحب نقاش الأشخاص الذي يعرف أنهم خاطئين، كان يعتبر هذا نوع خاص من الاستماع إلى آراء المرضى النفسيين، قال و هو يشعل غليونه :
– “إذن أخبرني كيف على الأقل.. كيف كنت ستموت؟”

قالها فبدأ نيمو يتذكر ماحدث بعد أن فتح الساعة،
كان الأمر مربكاً جداً .. صراخ عالي مع صوت انفجارات أعلى في كل مكان.. حدث انفجار بجانبه فتناثرت أشلاء مَّن كان بجانبه.. و طارت يده من أمام نيمو، الانفجار أطاح به أرضاً.. فشعر بألم الارتطام.. ألم حاد في رسغه، أراد بعدها أن يقف لكنه لم يقف.. ليس لأنه لم يستطع لكن لأنه لم يكن هو من يسيطر على جسده، و بعد ثانية أدرك أن هذا ليس هو جسده أصلاً.. كان هذا جسد شخص آخر.. عرف هذا حين تحرك رأسه و وقع نظره على يده.. 

أدرك حينها أن هذه اليد ليست يده.. إن إصبعه البنصر ليس مقطوعاً.. كما أن يده ليست كبيرة لهذا الحد.. والعروق لا تملأها بهذا الشكل، مجدداً أراد النظر للخلف لكنه لم يستطع ، و فجأة وجد نفسه يزحف على بطنه و هو يصرخ بكلمات غريبة، و هنا بدأ نيمو يفهم.. إنه الأن في وضعية المشاهد.. هناك جسد و هناك صاحب هذا الجسد الذي يتحكم به.. و هناك هو.. يرى ما يراه صاحب الجسد و يشعر بما يشعر به صاحب الجسد لكنه لا يمكنه أن يتحكم بالجسد نفسه، مشاهد لكن مع خاصية الإحساس الجسدي

بدأ نيمو-أو صاحب الجسد- يزحف هروباً من الانفجارات و الرصاص في كل مكان ، تتسارع نبضات صاحب الجسد فيشعر بها نيمو.. تصيب رصاصة ساقه فيصرخ صاحب الجسد ألما و يصرخ معه نيمو بأعلى صوته.. إن كان له صوت، توقف عن الزحف و قلب نفسه على ظهره و هو يتنفس بصعوبة واضعاً يده على ساقه في المكان الذي أصابته الرصاصة فيه، استقر على ظهره و هو يئن من الألم ناظراً إلى السماء، و حينها رأى تلك الطائرات القادمة نحوه تشق طريقها بإطلاق النيران في كل مكان، رصاصة من تلك الرصاصات أصابته في صدره فلم يملك صاحب الجسد القوة الكافية كي يتأوه حتى، نيمو أيضاً لم يتمكن حتى من الصراخ ، لقد استسلم لمصيره ..

و بعد هذا إستفاق على صوت السيد ماريو يسأله هل هو بخير ..

و مرة أخرى استفاق من ذكرياته على صوت السيد ماريو و هو يقول :
– “ما الذي تظن أنه حدث؟”
رد نيمو و هو يلوح بيده في تعب:
– “كانت هناك تلك الانفجارات.. و الطائرات أتت و قتلتني.. أعتقد أنني كنت في حرب!”
نظر له السيد ماريو من فوق عويناته وهو يقول:
– “هل رأيت الملائكة؟!.. أعني الحياة الأخری وما شابه”
– “لا أعرف.. ربما رأيتهم ولكن لا أتذكر”
تنهد السيد ماريو وعاد للساعة التي كان يصلحها قائلاً:
– “احرص على زيارة طبيب سيد نيمو.. أنت في أمس الحاجة إليه”

نيمو عرف من طريقة كلام الرجل و نظراته أنه لا يكذب.. كما أن ما حدث لا يمت للواقع بصلة.. و هذا بطبيعة الحال يعني أن نيمو هو من كان يتخيل.. و هذا بدوره يعني أنه لن يصدقه أحد.. و هذا يعني أنه يجب عليه أن يصمت و إلا أتهموه بالجنون، تلك المتلازمة التي تصيب أي شخص يشكون في سلامة عقله.. و غالباً ما يكون هذا الشخص مجنون بالفعل.. و هذا يبدو مبشراً .

قال نيمو بعد أن وقف من على الكرسي :
– “حسناً يا سيد ماريو شكراً لك على الاعتناء بي حينما كنت في طور الصدمة”
رد السيد ماريو و هو ينفث دخان غليونه :
– “تلك الساعة.. انها تعمل بكفاءة، في الواقع أنا مندهش من أنها ماتزال تعمل حتی الآن، إما أنها معجزة.. وإما أن هناك شخص بارع لديه ألف إصبع تمكن من صيانتها وتغيير بطاريتها بدون أن يترك أدنی أثر لذلك.. وهذا مستحيل حتی بالنسبة لشخص قضی حياته كلها بين الساعات مثلي”

أطرق نيمو برأسه قليلاً.. ثم نظر للسيد ماريو قائلاً:
– “أهذا يعني أنك تميل لحدوث المعجزة؟”
أومأ السيد ماريو برأسه إيجاباً.. بعدها صمت قليلاً ثم قال بعد أن بدا أنه تذكر شيئاً ما:
– “أيضا هناك نقوش علی الساعة.. نقوش صغيرة للغاية لا تُری أبداً بالعين المجردة.. ويصعب رؤيتها بالعدسات الكبيرة”
– “نقوش؟! “
مد السيد يده أمامه ثم أخرج الساعة من مكان ما وهو يقول:
– “نعم.. علی الغطاء الخلفي.. وفي الجانب أيضاً ، أتعرف رغم استخدامي لأكبر عدساتي لم أتمكن سوی من رؤية كلمة واحدة فقط.. خرونوس.. أعتقد أن هذا هو اسم صانع هذه التحفة الفنية، ولو أنني لا أملك أدنی فكرة عن كيفية تمكنه من نقش هذه الأشياء الصغيرة جداً ، أعتقد أيضاً أنني لاحظت حرف -M- منقوش علی الساعة بطريقة مزخرفة.. لا أعرف ربما تكون مجرد تهيؤات”

أخذ نيمو يفكر في الكلام الذي قاله السيد ماريو.. ثم تحرك فجأة وهو يقول:
– “آسف لقد أثقلت عليك سيد ماريو”
رد السيد ماريو وهو يمد يده بالساعة لنيمو:
– “أعجبتني للغاية.. أتود بيعها؟”
نظر له نيمو باستغراب و قبل أن يفتح فمه كي يتكلم قال السيد ماريو:
– “أنا أعرف.. غالباً هي ليست لك و لو كانت لك فهي ليست للبيع.. لا ضير في المحاولة على أي حال”
رد نيمو بابتسامة و إيماءة رأس بسيطة ثم شكره مجدداً و رحل، بعد أن رحل وقف السيد ماريو يتساءل » إذا كانت الساعة تعمل جيداً .. إذن ما الذي أتى به إلى هنا «

***

أدرك نيمو أنه لا مفر من سؤال جده.. هو قد ذكر شيئا ما عن رؤيته لبعض الأشياء الكريهة التي تحدث لحاملي هذه الساعة، و للأسف هو يود أن يعرف المزيد عن هذه الأشياء الكريهة.. لأن ماحدث معه كان بغيضا و كريها بكل المقاييس، لكنه فضل أن يؤخر الأمر قليلا.. هو ليس متأكدا حقا مما حدث أو للدقة ليس متأكدا من كيفية حدوث ما حدث.
في ذلك اليوم كان نيمو نائما على سريره يتفحص الساعة و يقلبها في يده.. و بين الحين و الآخر يخرج منه صفير إندهاش، التفاصيل المنقوشة على غطاء الساعة.. الدقة في صنعها.. جودة مواد الساعة.. كل هذه أشياء كانت تسرق عقل نيمو و تجعله مندهشا، لفها نيمو في قطعة من القماش ليعزل صوتها قبل أن يضعها في درج مكتبه و يغلق عليها جيدا.. وبعدها خلد للنوم محاولا أن يزيح الساعة من تفكيره.
في اليوم التالي كان نيمو قد نسي الساعة تماما، لم يتذكرها إلا حينما وجد صوت دقات عالي يصدر من درج المكتب.. فتحه ليتقصی الأمر.. هنا لاحظ قطعة القماش تلك.. أزاحها و أمسك بالساعة.. لكنه لم یكمل ماكان سيفعله.. لأنه لم يكن هناك مجدداً !

***

أدرك نيمو أن هناك شيء مشترك بين هذه المرة و بين المرة السابقة، إنه عامل الذعر.. الصراخ المنتشر و الهرولة في كل مكان، مثل المرة السابقة كان يرى بمنظور شخص آخر لكن ليس باستطاعته التحكم في رؤيته أو في جسده.. و كأنه يعيش هذه اللحظات في جسد شخص آخر، كان الناس يصرخون بذعر و يتحركون بهمجية و غير انتظام، لم يفهم نيمو السبب.. أراد أن ينظر حوله كي يعرف أكثر لكن رأسه أو رأس من كان بجسده توجه لأعلى، و هنا تمكن من رؤية ذلك الشيء .. ذلك الشيء الذي يهبط من السماء ببطء.. ظن نيمو أنه طبق طائر، ثم بعد ذلك انبثق من ذلك الشيء وميض أبيض قوي للغاية.. لدرجة أنه قد أعمى نيمو تماماً .

عرف نيمو فيما بعد أن ذلك الشيء يسمى الولد الصغير.. و عرف أيضاً أنه و بعد ثلاث أيام هناك شيء مشابه له هبط على مدينة أخرى و يسمى الرجل البدين .

***

” كانت هيئات البشر تبدو كالظلال أمامي ، بعضهم بدا و أنهم يمشون كالأشباح، بينما تحرك البعض الآخر و هم يتأوهون في ألم، رافعين أذرعهم بعيداً عن أجسامهم و قد تدلت سواعدهم و أيديهم فبدوا كخيال المقاتة ، حيرني فعل هؤلاء القوم حتى أدركت فجأة أن أجسادهم محترقة و أنهم كانوا يرفعون أذرعهم كي يمنعوا الاحتكاك المؤلم لأسطح أجسادهم المحترقة “

د . متشهيكو هاتشيا عن ضحايا قنبلة هيروشيما.

-heroshima diary: the journal of a japanese physician / 1945 .

***

نظر نيمو ليده التي كانت ترتعش بشدة.. نظر بعينين دامعتين تطلبان الإجهاش بالبكاء.. تطلبانها و بشدة، سيطر نيمو على نفسه و أمسك يده التي كانت ترتعش باليد الأخرى في محاولة بائسة منه لإيقافها عن الإهتزاز و لو قليلاً ، لكن الحقيقة هي كيف له أن يفعل هذا.. كيف له ألا يرتعد بعد الهول الذي رآه للتو ؟!.. كيف له ألا يحزن و يبكي مثل الأطفال ؟!، مارآه للتو كان تجسيداً لمعاني الألم و المعاناة بالمعنى الحرفي للكلمة ، كان درساً علمته الولايات المتحدة للعالم آنذاك.. شيء خارج اللعبة لم يتفقوا عليه، دعك من أن اليابان كانت ستستسلم بجميع الأحوال ولم يك هناك داعٍ لفقدان الأرواح المروع الذي حدث هذا..

علی الجانب الآخر كانت حرباً.. و الحروب تبيح كل شيء ؛ ولهذا يظل الرثاء الحقيقي هنا في المدنيين الذين عانوا من أفعال حكوماتهم..

في ذلك اليوم اختفى سبعين ألف شخص في لحظة واحدة.. ذابوا و احترقوا فورياً ، يقولون أن أوبنهايمر حينما رأى الانفجار ظل يصرخ في هيستيرية: الآن لقد أصبحت الموت.. مدمر العوالم، و صارت هذه هي مقولته الشهيرة، لكن الحقيقة أن الرجل كان وغداً وطنياً من الدرجة الأولى ليس إلا.. لقد سموه بطل حرب حينها.. وهذا هو ما يتذكره تاريخهم ، وستبقی القصة الأخری التي ستتناقلها الأجيال المستقبلية.. الحكاية عن الثانية التي توقف فيها الزمن.. الحكاية عن تلك الثانية التي لم يفرق فيها الموت بين الأرواح اليافعة والعجوزة فصار يحصدهم أجمعين.. الحكاية عن البشر ومافعلوه ببعضهم البعض..

لم يستطع نيمو قط أن ينسى المناظر التي رآها في تلك اللحظات القصيرة، لقد سمع من قبل عن القنبلة و عما جلبته من آلام.. لكنه لم يعر للأمر اهتماماً ، فكرة أنه طالما الضرر لم يطلني فأنا بخير ، هي معتقد شائع لدى البشر.. يفكرون ببساطة.. لماذا أتألم لآلام الآخرين؟!.. لماذا أهتم وأنا بخير؟!
بالنسبة لنيمو كانت تلك هي القشة التي قصمت ظهر البعير.. الحدث المؤكد لما يجب على نيمو أن يفعله، كان متردداً بشأن إخبار جده في البداية لكنه الآن و بشكلٍ مثيرٍ للسخرية لا يرى حلاً إلا إخبار جده.

***

– “هذا سيئ .. سيئ بشكل لن تتخيله يا نيمو”
– “هاه؟!”
– “انظر يا نيمو.. لا أحد يختار الساعة.. الساعة هي من تختار!”
– “إذن لن توبخني أو أي شيء من هذا القبيل”
– “لا.. كما قلت لك الساعة اختارتك أنت.. أنت لم يكن لك يد بهذا”
– “جدي أنا من أخذتها.. بإرادتي، ثم ما قصدك بهذا سيئ إذا لم تكن تتحدث عن سرقتي للساعة؟”
– “لا.. ليس بإرادتك.. ربما تكون قد ظننت هذا لكن إرادتك الحقيقية لم تكن تريد أخذ الساعة.. على الأقل هذا ما يجب أن يكون”

ثم مد الجد يده و أخذ الساعة من يد نيمو.. وضع نظارته على أنفه و أخذ يدقق في العقارب بشكل ملحوظ قبل أن يردف:
– “إنها شيء سحري لم أفهمه أبداً “
رفع نظره من على الساعة ثم أكمل :
– “1945.. حدثت الكثير من الأمور السيئة في هذا العام، أكثرها سوءاً قنبلتي هيروشيما وناجازاكي، هل ذهبت إلی هناك؟!”
رد نيمو بدهشة:
– “كيف عرفت ما رأيته.. أنا لم أحكِ لك شيئاً “

رد الجد و هو يمد يده بالساعة لنيمو:
– “أنا لم أجرب الساعة قط لكن هناك شيء لم يلحظه أي شخص حولها .. تحت العقارب توجد مجموعة صغيرة من الأرقام.. يظنها البعض مجرد زخرفة.. لكنها في الواقع هي السنة التي سينتقل إليها من يحمل الساعة.. أو من اختارته الساعة”
– “ينتقل؟!”
– “نعم.. نوع من الذكريات.. شيء يشبهها.. لابد من أنك تعرف الشعور”
– “إذن هذا الانتقال هو في ذاكرة أسلافي أو ما شابه؟”
– “لا بالطبع”
– “جدي.. أنت تعرف أن هناك العديد من الأسئلة في رأسي.. لماذا لا تبدأ منذ البداية؟!”
– “سأخبرك و لكن عليك أن تعدني ألا تصاب بالذعر”
– “أنا مصاب بالذعر سلفاً ! “

يتبـــــع ..

تاريخ النشر : 2018-03-12

البراء

مصر - للتواصل: [email protected]
guest
37 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى