أدب الرعب والعام

ذكريات قاتلة

بقلم : روح الجميلة – أرض الأحلام

أرجوكِ دعيني إنكِ تعذبينني بصنيعكِ هذا

 
كان يترقب دخولها إلى غرفته في المستشفى في مثل هذا الوقت من كل يوم ..سأل نفسه : هل ستأتي اليوم أيضاً؟؟ليتها لا تأتي …قالها متمنياً ولكنه كان متيقناً أنها ستأتي .. خاب أمله مثلما كان يخيب كل مرة وعندما دخلت الجميع يومئ إليها بابتسامة فهي تتردد على هذا المكان منذ سنوات في مثل هذا الوقت من كل يوم لزيارة أبيها المقعد الذي فقد النطق والحركة التامة لجميع أطرافه(شلل كامل) إثر ذلك الحادث

شارفت على الدخول إلى غرفته فاتجه سواد عينيه إلى أطرافها ، حيته بابتسامة وشدت على يديه الباردتين وقبلت رأسه

– حان موعد دوائك يا أبي

رفعت رأسه بيدها لتساعده على تناول الدواء وقعت عيناه على عينيها حاول الهروب من هاتين العينين لكن لم يكن لعينيه مرمى إلا عينيها ..
كانت خصلات شعرها تداعب جبينه وهي تسقيه الدواء .. نظر إلى عينيها نظره خجل وندم… تذكر تلك الليلة الباردة من ليالي السنين العقيمة ، وهي في السنة الثانية من الدراسة الجامعية عندما أمسكها من شعرها وهي تبكي عند قدميه

– أرجوك يا أبي أنا ابنتك الوحيدة وليس لي في هذه الدنيا سواك
لوى عنقها وصرخ في عينيها
– سوف تتزوجينه شئتِ أم أبيتِ
-أرجوك يا أبي إنه لا يكبرني بثلاثين عاماً فقط بل أنه سكير وعربيد ذا سمعة سيئة… الكل يعرف ذلك

ترك شعرها نافضاً ما بيديه من خصلاته وقال بصوت غاضب : لا أريد كلاماً في هذا الأمر … الزواج بعد شهر ..

أخرجه صوت الممرضة من بحر الذكريات
– عفواً سيدتي حان وقت تنظيف جسد أبيك
– عنك أنت .. سوف أقوم أنا بالمهمة
بدأت بالتنظيف وهي مبتسمة .. لا تخجل مني يا أبي فأنا ابنتك .. اختلطت المشاعر في نفسه وبدأ صدره يعلو ويهبط وهو ينظر إليها معقود اللسان عاقد الحاجبين

لماذا تفعل معي كل هذا ؟! .. ليتها تتركني .. أرجوكِ دعيني إنكِ تعذبينني بصنيعكِ هذا .. انا لا أستحق كل ذلك منكِ .. أنا الذي دمر شبابك و وأد أحلامكِ اليافعة … ليتها تسمعني وليتني أستطيع أن أقول لها هذا الكلام وليتني أستطيع منعها من الاقتراب مني … ترى هل تريد الانتقام مني بأفعالها هذه !

استمرت في التنظيف … وانتقل هو إلى عالم الذكريات .. تذكر ليلة زفافها كانت ليلة صاخبة الكل لاهٍ في الأكل والشرب و الرقص والغناء .. إلا هي فلم يكن لها في تلك الليلة إلا هدف واحد ..عيون أبيها.. كانت عيناها لا تفارق عينيه أينما ذهب تلاحقه في كل ناحية وهو يهرب إلى كل مكان ولا يرد البصر إليها إلا وقد سبقته إلى عينيه .. بعينين لا تطرفان وابتسامة ميتة على شفتيها … توقف عن الهروب وواجه عينيها وتساءل ..لماذا تنظرين إلي هكذا ؟!.. ماذا تريدين أن تقولي لي ؟.. أسئلة كثيرة لم يجد لها جواباً على ذلك الوجه الملائكي المحنط

قامت من مكانها … فتحت ستارة النافذة .. أحس بأشعة الشمس على أعتاب عينيه … نظر إليها وتأمل في جسدها المحاط بنور الشمس متأوهاً
كيف لهذا الجسد الجميل أن يحمل بين جنباته قلباً يتحمل جور كل تلك السنين ؟؟… وكيف لا تعتل هذه العيون الباسمة من التحديق في الأحزان .. اقتربت منه ومسحت جبينه المتعرق وقبلت يده ومدت غطاءه ..
– أراك في الغد يا أبي

أدبرت .. ولكن الذكريات أقبلت وأقلته إلى تلك الليلة العاصفة التي لن ينساها .. عندما أتى بها ذلك الرجل الخمسيني إلى بيت أبيها وهو قابض بشدة على عضدها (يديها) .. نهرها أمام أبيها ودفعها بقوة حتى جثت على ركبتها .. نهضت بهدوء ولم تبكِ .. لم تدمع عيناها .. وجهها كان شاحباً وبائساً … رفعت خصلات شعرها المتدلية تتحسس مخدعها القديم .. فرأى أباها لأول مرة في تعبيرات وجهها الحزين ربيع عمرها المسروق ..

زمجر الخمسيني : ما هذه المرأة لا تأكل ولا تشرب .. لا تتكلم ولا تتألم لا تضحك ولا تبكي .. لا ترغب في الذهاب إلى أي مكان ليس في حياتها إلا الصمت والظلام .
الأب : صدقت … ماذا تنتظر من ميت إلا الصمت والظلام … لقد اشتريت جسداً ولم تشترِ روحاً .. لقد بعتك فتاة ميتة ..

أغمض عينيه حاول الهروب إلى النوم … النوم هو الملاذ الوحيد له من هذه الآلآم .. لن ينقذه من هذه العذابات إلا النوم

**

يأتي الصباح الجديد ولا جديد في حياتها … تشق طريقها نحو ذلك المستشفى لتزور ذلك الرجل المقعد

لكن الابتسامات اختفت اليوم من طرقات المستشفى ولف الصمت جميع الحاضرين ولم تجد ذلك الرجل الممدد على السرير الأبيض ولم تجد تلك العيون الشاردة في بحور الماضي الأليم … بل وجدت سريراً فارغاً مرتباً … والطبيب ينتظرها داخل الغرفة .. ببساطة وهدوء أبلغها النبأ

أغمضت عينيها الذابلة من أحزان الماضي .. وعضّت على شفتيها المرتجفتين … وذرفت دمعة عرفت خط سيرها على ذلك الخد ..

ورفعت يديها وبصرها إلى السماء وقالت : يا رب اغفر له فإني قد عفوت عنه

ملاحظة :

إهداء لكل من باع ابنته ، لكل من تخلّى عن روحه الطاهرة بأبشع الصور ، هنيئاً لك و ابشر بعذاب الدنيا قبل الآخرة ، فهذه نهاية الظلم في حق الانسانية فكم من فتاة تعاني اليوم …فالله عز وجل يمهل ولا يهمل

( القلوب الصافية هي من تصفح عن أخطاء الآخرين وإنما أقرب الأشخاص إليه … مع أن القلب لا ينسى أبداً من قام بإيذائه مهما تظاهر بذلك ستظل هناك نقطة سوداء في حياته يتذكر فيها الماضي )

-تمت-
روح الجميلة ❤️

تاريخ النشر : 2018-04-22

guest
38 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى