أدب الرعب والعام

ذئب بابل

بقلم : عمران بوجلال – الجزائر
للتواصل : [email protected]

ذئب بابل
عند كل قذيفة تسقط كان يسمع صداها في كل الأرجاء

 حملوا المقاليع وأمطروهم ، لا تهمني شكواكم بنفاذ القذائف .

– هل انت جاد في ذلك يا أبي ؟!

– هل أنت أصم أم تتذاكى علي ؟

هيا تحركوا لقد سمعتم الرجل، أجمعوا ما أمكنكم من أغراض وضعوها في المنجنيق .

أي أغراض يا سيدي ، فلا يوجد على السفن أي حمولة ثقيلة تستطيع أن تحطم جدرانهم أو تصيب رجالهم بسوء !.

هه هه ، ربما سنقطع رأسك ونلقي به اليهم فأني أراه يابساً لا يصلح لشيء.

حسناً ، حسناً سنرى ما علينا فعله يا سيدي.

– فعلاً ، كم هي قلعة حصينة ! ربما سنضطر لحصارهم عدة أشهر ، فالشعب المرجانية والصخور الكثيفة تجعل الرسو هناك مستحيلاً.

– هل تمزح يا أبني ؟ ولو لزمني الدهر كله لما طاب لي عيش ولا شرب إلا بسقوط جدرانهم هذه وحرق الجرذان التي تختبئ خلفها ، الأمر الذي يحيرني ويغضبني أكثر أنه كيف لهؤلاء الرعاع السفلة التطاول على سيدهم ؟ وأنا الذي كنت أزودهم بالطعام وأوفر لهم الحماية ، أنه هو عمك ذلك الجشع لم يكفه أن جدك أعطاه مقاطعة بأكملها ليحكمها ، لطالما كان حقوداً ، لأن الملك كان من نصيبي وها هو ذا مرة أخرى يسبب المشاكل.

– اعرف ذلك ، وفي كل مرة تذكر سيرته أمامي كل ما وقعت مشاكل في حقيقة الأمر ، لقد أثقلنا كاهلهم بالضرائب ، كما زادت طلباتنا على مدخراتهم لإطعام جنودنا ، أضف إلى ذلك أنهم قومنا على كل حال فلا يجوز منا أن نعاملهم كما نعامل أعدائنا ، لسنا نحن من نطعمهم فتلك حقبة أكل عليها الدهر وشرب .

أتراني جباراً ظالماً بقولك هذا ، هل أنت في صفي أم معهم؟

– لا معك ولا مع ذاك ، أنا مع الصواب ، هل تناسيت القصص والمواعظ التي كنت تلقيها علي في سريري يوم كنت صغيراً ؟ كنت تحدثني عن جدي وبطولاته ، ألم يكن رجلاً شهماً ذا مروءة ونزاهة في تعاملاته مع شعبه ، ألم توصيني كما أوصاك بأن أتحلى بأخلاقه وحكمته ؟.

– اه ، أولم أقصص لك أيضاً عما كان يفعله عندما يتجرأ عليه أحدهم ، لن تتصور ما كان يفعله؟

– لتكن عاقلاً يا والدي ولنحل تلك المشكلة بحكمة وعلى الطريقة الديبلوماسية ، دعني أتصرف هذه المرة .

– أراك مصراً كل الإصرار على حل سلمي في هذا الشأن ، وأنا الذي كنت أرسلك لحل المهام القذرة ، فجأة تغيرت وصرت تكرر على مسامعي ذكريات وبطولات ، أتراك نسيت ما قمت به في حصارك على أثينا ، ألم تحرق المدينة كلها ألم تقطع رؤوس الاطفال والنساء ، أولم تعلق جثثهم على الاسوار والرماح ، أكان ذلك حلاً دبلوماسياً في رأيك ؟ ولكن لا عليك دعنا نسمع منك هذا الاقتراح الذي كلمتنا عنه ، حدثني بما يدور في ذهنك وكيف تريد تحقيق هذا المبتغى ؟

– كان لي ثأر مع اليونان وشفيت غليلي منه وأنتهى الأمر ولا تنسى هم ، هم من بدأ الأمر وقاموا بغزو إمبراطورتينا العظيمة وقتل شعبنا ، فلست نادماً عما فعلت ولو تسنت لي فرصة تكرار ما حدث لفعلت ، لذا في المرة القادمة عندما يتجرؤون على غزو بلاد فارس مرة أخرى فسيتذكرون جيداً بصمتها في الانتقام ، زد على ذلك فنحن الآن نتعامل مع جزء من شعبنا وذلك يغير مجرى الاحداث ، لذا لا تحاول الخلط والتحجج فلست أقل مني وحشية فيما يبدو!.

– إذاً أختصر وكفاك تبريراً ، فلست في مزاج جيد.

– أرى أن هذه المقاطعة لها عدة مزايا دفاعية أكثر منها معيشية ، وبحكم أنها شبه جزيرة وقريبة من سواحلنا فعندي اقتراح ربما يرضي كلينا 

– إذا ما هو هذا الاقتراح الذي يُرضي كلينا أيها الولد الغبي؟

– سأقترح عليهم أننا سنعفيهم من دفع الضرائب ونمنحهم حكماً ذاتياً لجزيرتهم تلك.

– اه أهذا هو حلك العجيب ، أتظن أنهم سيوافقون بعد كل ما حدث ؟ إضافة إلى ذلك نحن نعتمد على ملئ خزائن المملكة من هذا المكان بالذات، فليذهبوا للجحيم لن أوافق حتى وأن وافقوا هم .

صبراً ، صبراً يا والدي العزيز ، ليس هذا كل ما في جعبتي.

– ماذا هناك أيضاً؟

سنجعل من تلك الجزيرة حصناً عسكرياً يعزز دفاعاتنا البحرية ، وهم من سيدير شؤونه ، إضافة إلى ذلك تعلن مرسوماً ملكيا يسقط الجزية عنهم ويتضمن ذلك عفواً رسمياً تعفوا به عن الجميع ، بما فيهم من رفع السلاح ضد فخامتك ، ولقد أرسلت منذ حين أقصد مسبقاً رسولاً يخبرهم بمقترحاتنا ، كنت أعرف أنك لن توافق بكل حال من الأحوال ، كما لدي اقتراح أخر وأخير قد يبهرك ، سأرى ان كان بوسعنا أن نقوم بب…

– صمتاً أيها الثرثار أن صبري ينفذ من ترهاتك وتدخلاتك العقيمة تلك ، وتتجرأ كذلك على أرسال رسول بدون استشارتي ، إنك ستجبرني على فعل ما لا أود فعله .

– أما أنا فقد نفد صبري فعلاً من معاملتك لي على أنني رضيع في مهده ، فلماذا أذن تنصبني أميراً وتجلبني معك ، أليس لأتعلم منك وأكون لك مستشاراً في مواقف مثل حالتنا هذه ؟!

في حالة هيجان منه التفت الملك غاضباً إلى جنوده وأمر بألقاء القبض عليه ، كبلوا هذا الحثالة وضعوه بعيداً عن ناظري.

صُدم الولد من أوامر والده وصرخ مندهشاً : فليبتعد الجميع عني هيا إليكم  عني ، سل الأمير الخائف سيفه وبدأ يشير به إلى الجنود الذين يتربصون به محاولاً صدهم ، كان محاصراً من كل جانب على مؤخرة المركب ، فلم يكن له حل أخر إلا أن يسلم نفسه ، فجأة ألقى بنفسه دون تردد من على السفينة مختفياً بذلك في عمق المحيط.

– اللعنة ! أين أختفى ؟ الحقوا به أيها الحمقى عديمي الجدوى ، أريده حياً أو ميتاً ، أرموه بالنبال.

صاح جندي الاستطلاع ينادي من فوق السارية : لقد أختفى ، ربما توجه سباحة نحو الشاطئ ، لا نستطيع رؤيته يا سيدي في هذا الجو المظلم .

كان مرتعباً من أن تلتهمه أسماك القرش أو أن يعلق في إحدى الشعاب المرجانية ، و ما كان يشوش فكره كثيراً هي تلك الأساطير والخرافات التي تحدث وسط البحار التي قد سمع عنها في صغره ، كان الظلام حالكاً فلا يمكنه لا العودة لأبيه ولا التوجه نحو الجزيرة .

– في أخر الامر لقد قرر مصيره ، سيتجه لأعدائه وسيلقي عليهم اقتراحه ، وأن كان يعد هذا الامر بلا فائدة الأن وفعلاً ساذجاً منه .

أنهار الأمير الصغير من شدة التعب والسباحة في لحظات تجديفه إلى بر الأمان ، فكر في أكثر من لحظة أن يستسلم ، لكن كان هناك شيء ما بداخله يشعر به يحرضه على النجاة والمثابرة على الوصول لهدفه ، أخيراً وصل لبر الأمان فيما كان يسير على الشاطئ ، لاحظ قارب الرسول الذي أرسله ، اقترب فوجد أن كل من كان عليه مذبوحاً بطريقة بشعة ، صُدم مما رأى وأدرك أن حظوظه في النجاة جد ضعيفة ، استلقى بعدها على الأرض يلتقط أنفاسه ، فيما هو مستلقى على الأرض يتأمل السماء المرصعة بالنجوم أنفجر ضاحكاً بطريقة هستيرية لا يعلم هو مغزاها !.

لم ! ماذا ، ماذا فعلت ؟ كم أنا احمق ، لقد كنت قبل حين على رأس أكبر جيش والأن أنا عدو ، ربما عدو ضعيف بلا قوم ولا هدف ، ما الذي سأفعله الأن ؟ اه يا رب .

استجمع الفتى رباطة جأشه وتحرك من مكانه ، كان قد سمع خطى ووقع أقدام مضطربة تتجه صوبه ، فكر في نفسه أنهم قاموا برصده عندما كان يسبح نحو البر .

– اللعنة لقد كُشفت ، يجب أن أتصرف بسرعة ، تباً يجب أن أنزع عني هذه الملابس والحلي وإلا عرفوا ما يكون شأني .

مزق الشاب ملابسه واخفى باقي أغراضه الثمينة تحت الرمال وأتجه نحو فرقة البحث ينادي و يصرخ :

– النجدة ، انقذوني أنجدوني .

توقف الكشافة واتخذوا وضعية الدفاع ، أجابه قائدهم : قف مكانك يا هذا ، من أنت ، عرف عن نفسك ؟

– لا أحد ، أنا مجرد عبد مملوك لا حول ولا قوة لي فلا خوف عليكم أني وحيد وأحتاج للمساعدة.

– لا بأس عليك تقدم نحونا بهدوء ولا تحاول القيام بأي حركة وإلا قطعت رأسك.

فيما كان الجند يقومون بتقييده وعصب عينيه حتى لا يرى شيئاً من حوله ، أعطى الاشارة لرجاله بالتحرك في هدوء فلا زال الخطر محدقاً والحصار قائماً فيتوجب الحذر في كل تصرف يقومون به ، هكذا فهم الجنود الأمر من نظرات قائدهم .

– أفتح البوابة يا كروسيوس لقد جلبنا معنا اليوم صيداً ثمين ربما سنتناوله على العشاء ، أراهن على أنه سيكون وجبة كافية للجميع .

أُصيب الأمير بنوبة ذعر وهلع مما سمعه ، كان وجهه يدل على ذلك فيما كان الرجال يتغامزون عليه ويضحكون.

– أتفضل أن نشويك على نار هادئة أم تغلى في ماء ساخن ، هيا أجب الأولاد جائعون و قهقه ضاحكاً.

– اللعنة ، ما بالكم هل أنتم جادون ؟ انزعوا عني هذه العصبة عن عيني.

– حسناً ، حسناً لا عليك فكوا قيده وأفتحوا عينيه ، سيكون كل شيء على ما يرام.

كان الجميع يراقبه وينظر إليه بشيء من الريبة والتساؤل ، فتح الأسير عينيه ليجد نفسه في ظلام شبه دامس عدا بعض المشاعل التي يحملها المقيمون هناك ، كان المكان أشبه بدهاليز وأنفاق ، سرعان ما أدرك أن الموقع صُمم في حالات الحرب يلجأ إليها السكان لدى الحاجة

 كان المكان جد ضيق ، النساء يحتضن أطفالهن في ركن خائفين والرجال واقفين ينتظرون وعلى وجوههم علامات اليأس والحيرة ، عند كل قذيفة تسقط كان يسمع صداها في كل الأرجاء ، كانت التربة والحجارة تتساقط من جراء الاصطدام ، كانت الألواح الداعمة للسقف تتحرك من مكانها وكأن المكان سيتهاوى عما قريب ، كان المشهد مأساوياً لا يطاق والظاهر أن الناس في محنة كبيرة

 شعر الفتى تلك اللحظة في نفسه بعار كبير يملأ نفسه وهو الذي كان يعد نفسه محرراً منتقماً ، كان ما يرى أمامه إلا مجتمعاً صغيراً من الصيادين وعائلاتهم التي تريد العيش بهدوء وسلام ، أدرك في تلك اللحظة أنه قام بارتكب جرم شنيع تجاه قومه أسقط بذلك كل بطولاته التي كان يفخر بها سابقاً ، تحدث معه القائد بشيء من السخرية وأشار إليه : اسمع يا هذا ، لماذا تلتزم الصمت ، هل انت نادم على قدومك معنا ؟ أراهن أنك تتمنى لو بقيت خارجاً على أن تأتي لهذا الجحر المظلم ، أأنا محق في ما قلت ؟ أخبرني هه لا تكن خجولاً

– لا ،  لست نادماً ، لقد كنت جائعاً وخائف وأنا ممتن لكم على ما قدمتموه لي من صنيع .

– لا ، لا أظن أننا قدمنا لك إلى حد الآن أي شيئاً بعد ، ما هاته الوقاحة منا ! احضروا له شيئاً ليأكله ، تفضل أشرب ، كما ترى نحن لا نملك الكثير والطعام ينفذ منا بسرعة بسبب الحصار لذا لا تؤاخذنا ربما تعلم أن معظم قوتنا نجنيه من البحر لذا ..

– أولستم تزرعون أو تقايضون ما تصطادونه بطعام أخر من خارج الجزيرة ؟!

– لا ، أنت لا تعلم شيئاً ، نحن ممنوعون من تنويع مصادرنا ، كما أننا ممنوعون من المتاجرة مع مدن أخرى ، ولما في رأيك سبب هذا الصراع ؟ لم نعد نحتمل أكثر هذا الذل والطغيان ليس بعد اليوم ، حتى أن دخلنا المتواضع هذا من الصيد يشترط علينا تقاسمه مع هذا الملك الحقير .

– لكن أسمح لي عذراً ، أني لم أرى هذا الفعل الشنيع وتلك القوانين الدنيئة تطبق على أماكن أخرى أبداً ، حتى أني لم أسمع عن الملك مطلقاً أنه فعل بقوم هكذا فعل!.

ألتفت إليه أحد الرجال ممن وجدوه مندهشاً وصرخ في وجهه : من أنت أيها الحقير حتى تعرف عما يحدث وما لا يحدث ؟ ألم تقل أنك عبد مملوك نذل لا تساوي شيئاً؟

فجأة أنجذب جميع الحضور إلى هذه المحادثة وكأنهم تذكروا على حين غرة سبب وجود هذا الشخص أصلاً على جزيرتهم ومن يكون هو ، وكيف وصل ؟ كانت جملة الزائر الأخيرة كشوكة اصابتهم و ايقظت كل انتباههم وتساؤلاتهم حوله.

– نعم ، نعم معه حق ، كانت قد تكلمت إحدى النساء من زاوية مظلمة ، ربما يكون جاسوساً أرسله الأعداء ، يجب قتله .

بدأت الصيحات تتعالى من هنا وهناك : نعم  يجب أن نعدمه ، اقتلوه ، حل فزع عظيم وفوضى عارمة داخل الدهليز .

– هدوء ، هدوء ، فليهدأ الجميع رجاءً ، أعدكم أنني سأجد حلاً له ، لكن لا يجب أن نحكم على الرجل بسرعة ، سأقوم باستجوابه وسنرى ما سيقوله وبعدها سنستخلص الحكم من قصته .

– أذن يا هذا أخبرني بصدق من أنت وكيف وصلت إلى هنا ؟

– أنا عضو من طاقم المجدِّفين ، لقد اصطدمت سفينتنا بإحدى الصخور المحيطة بجزيرتكم فتحطمت ، أظن أن الجميع غرق بمن فيهم ربانها ، لقد كنت فزعاً وكنت محظوظاً لخروجي من هناك.

– حسناً ، لا بأس سأقول لك أولاً أنا أُدعى أرسميس ، ثانياً أنا أحب الصراحة والصدق بلا شك ، وثالثاً أنا مستجوب جيد وحذق جداً ولقد تعاملت مع الكثير من أمثالك ، لذا لا تحاول استغبائي ، أتعرف لماذا ؟ لان شكلك لا يدل على أنك من العبيد أو مجدف كما سبق وأن ذكرت ، هل تفضلت ونزعت قميصك هذا ؟

– ولكن.

– لا تجادلني

– امرك يا سيدي ، حسناً .

– أترى ، لا توجد هناك أي أثار للجلد أو الضرب على ظهرك.

– ما تعني بقولك هذا ؟!

أنا أعرف القائمين على التجديف وكيف يُعاملون في جيش الملك داريوس ، لقد عملت في البحرية لسنين عدة وأعرف ما يحصل هناك ، بصراحة لقد كنت أحد جنرالاته قبل أن أعلن انقلابي عليه منذ سنوات.

– لماذا قمت بالانقلاب ضده ؟

– على الارجح لن يهمك الأمر في شيء ولا تستحق أن أخبرك بذلك ، ومع هذا سأخبرك ، فنحن نملك الليل بأكمله للدردشة.

لقد كان هذا الذئب الخبيث جشعاً لدرجة أنه قام بنفي أخيه إلى هنا ، أقصد إلى هذه الجزيرة المقفرة بعدما قتل والده العجوز ، لكي ينفرد بالحكم وحده ولكي لا يسبب له شقيقه المشاكل قتل زوجته وانتزع منه ولده الصغير كتهديد له لكي لا يحاول مقاومته أو قلب الشعب ضده ، وطوال تلك المدة ونحن ننصاع لسلطانه وجبروته بدون أن نقدر على فعل شيء.

– ولماذا انتظرتم كل هذه المدة لتقولوا في وجهه كفى؟

– للأسف أن أخاه وقائدنا من كان يمنعنا عن ذلك ، قُتل في هذا الحصار متأثراً من شدة جراحه ، لقد أُصيب في القصف ونحن نبقي الأمر سراً حتى لا تضعف عزيمة الرجال والسكان .

تغير حال الفتى وبدى يتصرف بطريقة هستيرية ، أبيضت شفتاه وتحول وجهه كوجه الاموات وبدأ يهمس لنفسه بكلمات لا تكاد تكون مفهومة : لا..لا.. لا اصدق ذلك ، أنك كاذب لعين لا ، أتقول الحقيقة ، أيعني ذلك طوال هذه الفترة وأنا أعيش عند ..أتعني بقولك هذا أن كنت صادقاً أنني كنت أعيش عند قاتل والدي طوال هذه المدة وهو الذي رباني على حقد وكره أبي على أنه هو عمي ويريد تحطيم الامبراطورية والاستيلاء عليها كيف لي ..

نزلت صفعة من أرسميس على وجهه أعادته لصوابه ، تقريباً عم الصمت والهدوء المكان ، كان الجميع مندهشاً من المشهد والكلام الذي قيل من طرف الزائر .

– قل لي من أنت و  إلا قطعت حنجرتك أيها الخبيث ، تكلم أجبني ، ثارت ثائرة أرسميس وكانت ملامح الجد بادية على وجهه.

– أُدعى شاهنشاه ، أما الى من أنتسب ، فلست متأكداً بعد الأن أأنا أبن القاتل أم أبن المقتول؟

تعالت الأصوات والهمسات بين الناس : أنه الوريث الشرعي ، أنه هو شاهنشاه ابن الملك الشرعي !

ما لبث أن أنحنى له جميع من كان فالدهليز يهللون فرحاً وسروراً ، أبعد عنه ارسميس خنجره وهو مصدوم من الموقف وبالكاد أستطاع التحدث : لا أصدق أنك كنت حي طوال هذه الفترة ، لقد افترضنا أنك ميت ، لم نكن لنصدق أن عمك سيتركك تعيش ، لقد كان سفاحاً لا يعبأ بأحد .

بعد صمت طويل من الأمير كان يتفحص بنظراته الحزينة ضعف قومه ومعاناتهم ، فجأة تحدث : أأقول لكم شيئاً ، أتعلمون أمراً ؟

ألتفت إليه الجميع مستغربين .

سينتهي كل شيء ، هذه الليلة ستنتهي معاناتكم قبل طلوع الفجر ، اليوم ستنتهي حياة هذا الطاغية ، أعدكم.

رد عليه ارسميس بقليل من الأدب عذراً أيها الأمير أظن أنك لا تدرك الوضع ، أنظر جيداً حولك ، أترى كتائب وجحافل من الجيوش تقف امامك ! كيف لك أن تقتله قبل الفجر، ونحن لا نكاد نستطيع الاقتراب من شواطئنا ، هل تظن أن أحداً يستطيع أختراق بابل العاصمة ؟

أبتسم شاهنشاه بشيء من الخبث وأجابه : لا ليس كذلك ، أنا أدرك جيداً ما اقوله ، لن نضطر للذهاب إلى العاصمة لأنه هنا أمامنا ، لقد كنت معه على السفينة ، لقد أشرف بنفسه على قيادة الجيش ، وأراد مني مرافقته ، لقد حاولت أن اقنعه بأن نحل الأمر بطريقة سلمية بدون أهدار المزيد من الدماء وهناك وفي ثورة غضب منه علي ، أمر الجنود بالقبض علي واحتجازي ، فقمت بالفرار منه وها أنا بينكم .

– إذاً أنت من أرسل إلينا بمبعوث سلام ؟

– نعم ، فعلت ذلك ، لقد سئمت من القتل والدمار لذا ارتأيت الحل سلمي.

– لقد شكننا بأنها قد تكون خدعة من طرف عمك ، ولكن قد فات الأوان على ذلك ، المهم الآن أننا نريد أن نعرف كيف تريد أنهاء الأمر و إلى الأبد كما قلت .

– لقد أخبرتكم ، سنقوم بالتسلل إليه وقتله وينتهي كل شيء ببساطة .

– ببساطة ! وماذا عن حاشيته وجيشه المحيط به؟

– نعم ، نعم أعرف أنك ستسألني عن هذه النقطة تحديداً ، ولكن بالنسبة لي ذلك أسهل فيما سنقوم به أن قمنا بقطع رأس الافعى فجسدها لا يهم بعد ذلك ، و لأطمئنك وأوضح لك أكثر، فأن الرجال يميلون إلى قيادتي أكثر منه ، أنهم يحتقرونه لقد رأيت ذلك في أعينهم ، أنهم يعتبرونني أخاً في السلاح ، لطالما قاتلت معهم في الصفوف الأولى ونزفت معهم ، بينما هو يعاملهم كالعبيد عنده ، أذن من منكم معي ؟

مرت دقائق صمت في المكان ، كان الجميع يحدق فيه ممن كان هناك في صمت وتردد ، بعدها بلحظات تقدم أولهم فثاني فثالث ليلتف حوله جمع كبير من فتية ورجال يصرخون حاملين سيوفهم وهراواتهم : نحن معك ، نحن معك ، فلنقضي على هذا الطاغية و إلى الأبد .

تكلم أرسميس واستدار للجميع : لقد قُضى الأمر وبما أننا مقبلون على مهمة خطيرة فمن واجبي أن أعلمكم أن ملككم توفي منذ ساعات ، لقد قاوم الأنزال بضراوة وقاتل ببسالة في سبيل شعبه ، وها هو ذا وريثه اليوم يحل محله وسيكمل ما سعى والده لتحقيقه ، لذا أيها الامير شاهنشاه سنعلنك ملكاً علينا منذ اللحظة وليكن اليوم يوم أفراح وأمل جديد لشعبنا .

هلل الجميع فرحاً وسعادة ، كانت تلك مرحلة جديدة بالنسبة لهم ، شعروا ولأول مرة أنهم تذوقوا من كأس الأمل أخيراً بعد سنين طويلة من العذاب والقيود.

– أريد كبار السن والنساء أن يلزموا مكانهم ويتحصنوا جيداً ريثما نعود ، وأنت يا أرسميس من اليوم فصاعداً أعينك مستشاراً وناصحاً لي ، سأثق بك كما وثق والدي بك ، لذا أريدك أن تختار أفضل ما عندك من رجال لرفقتنا والبقية قم بتكليفهم على حراسة الجميع والاعتناء بهم.

أنطلق شاهنشاه ورجاله بهدوء في ثلاثة قوارب صغيرة ، أمرهم بالتجديف بهدوء وسلاسة لكي لا ينتبه لهم أحد من الحراس ، كانت سفن الأعداء راسية وسط ظلام حالك ، و لا يبدو على سطحها أي نشاط ، ما عدا المشاعل المثبتة على أطرافها ، كان الوضع مثالياً لهم ليمروا بسلام للسفينة المنشودة .

أشار ارسميس للرجال بتثبيت الحبال والصعود للسطح ، كانوا قد وصلوا للسفينة الموعودة فلم يصعب عليهم ذلك ، كانت ضخمة وجداً واضحة للعيان حتى في تلك الليلة المظلمة ، وصل الرجال للسطح بسلام ، كان معظم الحراس نائمين ما عدى المراقب أعلى السارية الذي يترنح هنا وهناك من شدة النعاس ، كان قد صعد إليه بالفعل أحد رجال شاهنشاه للقضاء عليه بما في ذلك حارس أخر من الجهة الاخرى يراقب مقدمة السفينة ذهاباً وأياباً ، الذي كاد أن يكشفهم لولا تنبه أحد أفراد المجموعة المتسللة ، فأطلق عليه سهماً قاضياً من على قوسه ليرديه قتيلاً

 تسلل البقية لأسرة الحراس النائمين لذبحهم فيما أتجه الملك الشاب مباشرة إلى مضجع عمه ليبحث عنه ، فيما هو كذلك يقلب المكان مصدوما بأن المكان خالي من أي أحد ، أنيرت حولهم أضواء من كل جانب ، لقد التفت بهم سفينتان من الجانبين وعلى رأس أحداها يظهر عليها عمه ضاحكاً مستهتراً بعدما ألقى رفاقه أسلحتهم ، أجتمع حولهم رجال داريوس شاهرين رماحهم ، فقط شاهنشاه لم يلقي سيفه ، كان يتحدى الجميع بنظراته الغاضبة .

– أهذا كل ما قدرت على فعله أيها الولد الأخرق ، أن تسلل في الظلام الدامس وتقتل والدك بسهولة وترحل.

– والدي أم عمي ، أم العجوز الخبيث ؟

– اهاه ! رائع جداً ، ما الذي يجعلك تقول ذلك ؟ متأكد بأن الاوغاد الذين هم معك ملأوا رأسك بالعديد من الترهات والأكاذيب عني.

– نعم أنت محق ، لقد فعلوا ، ها تعلم شيئاً ؟ لقد صدقت كل ترهاتهم وأكاذيبهم كما ترى وأني لقاتلك اليوم قبل الفجر .

انفجر ضاحكاً : أتصدق ما أنت قائله ، هل تستطيع ذلك حقاً ؟!

– أؤكد لك ذلك ، لأنني أتحداك وهنا أمام رجالك .

– كفاك تخريفاً وعد إلى رشدك ، وأنا الذي كنت سأعتمد عليك في مواجهة الإسكندر ، أتعرف أنه يتجه نحونا للانتقام على رأس جيش جبار ، وصلني الخبر بعد لحظات من فرارك لذا لنترك خلافاتنا جنباً ولنركز على من هو قادم إلينا .

– تتحدث عن الاسكندر وكأنك أهلاً لمجابهته ، جبان وقاتل مثلك ، لا يصلح لشيء ، من يقتل أهله لأجل سلطان وجاه لا يمكنه أن يحقق شيئاً لغيره ، وها أنا أعلمكم جميعاً أن هذا الحيوان الذي يدعي أنه سيدكم ، هو من قتل والده وأخاه الذي كان والدي بعد أن أقنعني وأقنعكم بأن من قام بنفيه ، أنه هو من فعل ذلك طمعا في السلطة ، لذا انني أخاطبكم اليوم كأخ في السلاح قبل أن ادعي أني الوريث الشرعي بدلاً منه ، يجب أن تهتدوا إلى الصواب كما اهتديت إليه أنا ، وأن تساندونني على ارجاع الأمور لنصابها لذا لن أمركم بل أنني اترجاكم لأجل أنفسكم ولأجل بلدكم .

صُعق الجند بالخطاب الذي القاه عليهم شاهنشاه ، لكن لم يكن لأي أحد منهم أي شك فيما قاله ، لم يعد ذلك في معرفتهم له على أنه نزيه وأن كان متوحشاً ، بل ما كان يصل إلى مسامعهم من العامة من إشاعات عديدة حول قضية الانقلاب هذه ، رفع الرجال السلاح على الملك الشاب وأصحابه بعد أن انحنى له بقية الجيش معلنين بذلك عن ولائهم له .

– هذه خيانة ، نعم أنها خيانة عظمى منكم أيها الكلاب السخيفة ، ستندمون ، سأشنقكم وسأشرد عائلاتكم ، صاح داريوس في ثورة جنون وذهول وهو يصرخ في وجه الجنود ويضربهم بسوطه .

لم يكن ليرد عليه أحد فقد انكشف كل شيء ، تقدم نحوه الضابط الأول فالجيش ودفعه وسط السفينة وألقى إليه بسيف .

– ما قصدك بهذا ؟ لن أقاتله ، لست مضطراً لذلك ، أنا الملك ، أنا الملك !

اجابه شاهنشاه أنت نكرة ، أنت لا شيء ، ولا يشرفني أصلاً أن أبارز إمعة مثلك ، أتدرك أمراً ؟ لقد تغيرت الخطة لذا أحزر ما أريد القيام به ، أترى جزيرة الجرذان القاحلة تلك كما تحب أن تدعوها ؟ أنت تلك التي كنت تحتجز بها والدي ، أتعرف ، هناك ستقضي بقية أيامك الحقيرة في أعماق دهاليزها وأنفاقها القذرة ، سأجعل منها سجناً لك ، فأما أن تُجن أو تدرك مع الوقت أن الشعب هو سلطان نفسه ، وما تدعي ملكه هو مالكه من الأساس ، على الاقل ستجد هناك بعض الجرذان لتواسيك ، أما الأن يا أرسميس قم بأخذ سفينة إلى الجزيرة وأخرج جميع من هناك وضع هذا الحثالة مكانهم.

بعدها قام يتأمل ممن حوله قائلاً :

في النهاية يا أخواني لطالما أحببنا أن نعرف أقدرانا ووجهتنا مسبقاً ، ولكن الحقيقة أنه لا يوجد سوى طريق واحد طوال الوقت وهو محدد سَلَفاً منذ البداية .

النهاية…..

ملاحظة :

– أثينا هي عاصمة اليونان قديماً وحاضراً وتعد من أقدم المدن في العالم .

– بلاد فارس أو الإمبراطورية الفارسية ، تُعتبر من أعرق الحضارات القديمة ، تقع في أيران و تمتد على أجزاء واسعة من العراق .

– بابل هي مدينة في العراق كانت عاصمة البابليين قديماً في حكم حمورابي ، بعدها استولى وتعاقب عليها عدة ملوك وحضارات ومنهم الامبراطورية الفارسية.

تاريخ النشر : 2018-04-27

guest
43 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى