أدب الرعب والعام

Artisto

بقلم : أحمد نوري ( L.A ) – المغرب

Artisto
انقضت بضع ساعات رسمت فيها بجنون عدة لوحات مذهلة

 أموات ، أحياء ، رجال ، نساء ، عواصف و رياح تشتد في السماء ، هكذا أصف شخصيتي التي كرهتها ، أجل كرهت شخصيتي العصبية المهزوزة في أن واحد ، وقبل أن أكمل أنا لست بمجنون ولست بمريض وإنما هذه هي طبيعتي إذ اعتدت أحياناً أن أسأل نفسي لماذا لا أقتل ، ما الذي يمنعني ؟ فطالما رأيت البشر مجرد أجساد من اللحم تمشي بلا هدف فلا يهمهم غير الجنس والمال متناسين أحلامهم ، لعلني كمعظمهم فكلما قررت تجربة طعم حلمي و القتل أجد اسم الله وخوفي الغريزي منه ، وأقسم به لو لم أكن مؤمناً لكنت قتلت وقتلت ، وقتلت ، أكرر لست مجنوناً ولا أتوقع بأنك ستصدق ما سأسطره ﻷني أنا نفسي لا أستطيع تصديقه لغرابته وجنونه ، ولكني أرغب بإزالة هذا العبء اللعين عن صدري قبل مقابلة بارئي، أرغب بأن تتعظ مني أو ربما تتعلم من أخطائي.

منذ سن مبكرة ملكت شخصية منطوية بسبب منع والدي لي من الخروج من المنزل خوفاً علي من رفاق السوء ، و ﻷن الله جعل كل الناس سواسية حصلت على قدرة الرسم بمقابل خسارتي قدرتي اﻹجتماعية ، فقد عُرف عني منذ طفولتي بعشقي للفن والرسم لدرجة أن والداي أخذا يهديانني بين الحين و الأخر اﻷدوات المناسبة للرسم ، فأبهرهما ككل طفل بتلك الخربشات البريئة التي يعدها اﻷهل من لوحات بيكاسو

هكذا غدوت ونموت لينمو معي فني الذي تمكنت من أسسه وأتقنته ، فلا نشوة لي أكبر من النشوة التي يعتريني فيها اﻹلهام ﻷرسم ما لا أعلم فقط الريشة تتراقص على القماش اﻷبيض مظهرةً رغباتي الدفينة التي أنا نفسي أُفاجأ بها أحياناً ، وحدهم الفنانون سيفهمونني ﻷنهم يعلمون نشوة مزج اﻷلوان في لحظة لا يحكمك فيها غير خيالك ، مجابهاً المنطق والزمن محدثاً لوحة غريبة عجيبة تبدو سوداوية و مخيفة أحياناً ، ولكنها بنظر الناقد المحترف قصة تحكي عن طفل محروم أو روح معذبة لشبح حي.

على العموم كبرت وتزوجت زواجا تقليدياً من نادية – ابنة عمي – بعدما تركت المنزل ، و ﻷني من اﻷشخاص الذين يلاحقون أحلامهم قائلين : بئساً للحياة ، رفضت عدة وظائف محترمة وعملت كرسام في الشوارع حتى ذاع صيتي وجمعت المال الكافي ﻷفتتح معرضاً بثمن رخيص هو عبارة عن منزل وقعت فيه عملية انتحار

 كرهت زوجتي المكان عقب سماعها بقصته ، ولكن كبعض النساء اللاتي يعلمن بالظروف ويتنازلن إلى الصمت كانت هي ، ولكني وعلى عكسها أسعداني أجواء المنزل وظلمته التي أخرجت إلهاماً لم أشعر به من قبل ، لذا رسمت عدة لوحات من أبرزها لوحة عرش الشيطان ، كانت هذه اللوحة تظهر الشيطان اﻷسود جالساً بشموخ على عرشه بينما هناك أناس يركعون له وخلفهم سماء حمر لبدتها الغيوم الرمادية، كأنما رغبتي الدفينة لإظهار النفاق أو السياسة سطرت باللوحة هذا ما ظننته ﻷني رسمتها بدون وعي ككل لوحاتي السريالية ، ولكن ما جعلني أستذكرها هو هنري – الرجل المنتحر – إذ قال لي معظم زوار معرضي – القلائل – أنه انتحر بأحد طقوس عبدة الشيطان ، وبقيت روحه بعالمنا كعقد ليخدم سيد الظلمات ، لكن لم تكن تلك القصة ترعبني بل كانت تشعرني بنشوة عارمة من اﻹلهام لرسم عنصر الروح أو الشبحية فلربما هو من ألهمني لرسم سيده ، هكذا سخرت من أمر فكرة روح فنيت ولم تذهب لبارئها،

ولكن على عكس المتوقع مضت اﻷشهر التي فقدت فيها اﻹلهام بل في الحقيقة فقدته عقب رسمي لتلك اللوحة بالذات لوحة إبليس – الشيطان باللوحة – كنت قد رسمة وجهه كرأس عنزة أسود مع عيون حمراء، العيون التي أخذت تطاردني كلما أغمضت عيني، عيني الشيطان اللتان سخرتا مني كأنما تقولان : حرمناك من فنك ، من ما جعل مزاجي سيئاً كيف لا وأنا فنان لا أخرج فناً ؟! غطيت اللوحة كما كانت تلح علي زوجتي دائماً ثم بحثت وبحثت عن حل ، ولم أجد غير المخدرات التي كانت تأخذني الى عالم أخر ، عالم اللاوعي الذي كان بديلاً جيداً عن اﻹلهام لمدة قصيرة ، لم تكن كافية فما هي غير ساعات حتى أعود لمزاجي الذي زاد سوئه لتسوء معاملتي لزوجتي التي كافأت إحسانها وصبرها بالإهانة.

بأحد اﻷيام الممطرة وأنا عائد ثملاً إلى بيتي – الذي هو معرضي – بوقت متأخر من أحد المواخير – أطلب التوبة من الله – رأيت زوجتي المسكينة وهي تبحث عني بالمطر خوفاً علي ، ولكم وددت لو كنت واعياً حينها فقد هاجمتها بأشرس الكلمات وأبذئها ، ولما كانت تعطيني من اﻹعتبار ولا ترد أخذت كمن تبرأت منهم الرجولة أتعامل معها بالعنف الجسدي

هكذا مضت اﻷيام والأشهر التي وجدت فيها عملاً ككاتب مقالات بأحد الجرائد ﻷضع حلمي وشغفي خلفي كما يقتضي على البشر فالخيانة طالت حتى أحلامهم ، هكذا حكم علي أن أمضي سنوات من عمري الفاني ، لذا كيف تتوقعين يا زوجتي الحياة مع رجل طموح فقد حلمه غير سوء المعاملة !.

في أحد الأيام عدت إلى المنزل من نزهة لتصفية ذهني فذهلت باللوحة الشيطانية التي كانت بالقبو لأشهر طويلة نسيتها أثرها معلقة بغرفة المعيشة ترى من علقها ؟ سرعان ما اكتشفت أنها زوجتي التي ادعت بأن باللوحة بها جمالاً وسراً لم تفهمه إلا اﻷن ؟ كيف تقول هذا وطالما كرهت منظرها وسوداويتها ؟

لطالما قيل أن لوحات ذوات اﻷرواح تكون مرتعاً للشياطين و اﻷشباح التي تؤثر على الناظر إليها ، ولا أقول هذا ﻷني من مصدقي هذا الهراء بل أقوله كتفسير غير منطقي ﻷشبع به رغبات النفس البشرية المريضة التي ما تلبث إلا أن تفكر هكذا ، بخلاف العقل الواعي الذي كان يقول لي بأن هذه اللوحة فيها سر بل معنى عميق يصور رغبة دفينة من أحد رغباتي المكبوتة ، معنى لم تخبرني به زوجتي مدعية بأنه سيفقد طعمه ما لم أكتشفه بنفسي

ولكن برغم تعمقي وتفكيري فشلت واستسلمت مباشرة كأغلب بني جنسي ، ولكني لم أرتح للوحة وقد علقت ، ليس خوفاً ولا غريزة بل كبرياء ، فقد أحسست بأن هذه اللوحة تعود للسخرية مني وتقتلني حياً ، فالفنان لا يتوقف إلهامه إلا بعد موته أقله بنظري ، لذلك قررت إزالة هذه اللوحة اللعينة ، ولكن زوجتي اعترضت – كانت أول مرة – كأنما تدافع عن حقوق طفل يتيم رأى أمه وقد ماتت بالسل أمامه للتو، و ﻷنني طالما كنت أحب الفن وأمامي الشيء الملعون الذي جعلني أكرهه اعترضت بدوري وككل ثنائي متزوج تجادلنا وعلت أصواتنا فألقيت بكلمات بذيئة هنا وهناك لتأخذني الدهشة من شتيمة زوجتي – فقد كانت أول مرة كذلك – لقد نعتتني بالفنان الفاشل الذي وضع اللوحة كشمعدان لفشله !

اندهشت لتلك الشتيمة ، لم تكن بقوة وكبر هياجي الشيطاني الذي تحرر من بين سطور تلك الكلمات ، لذلك بدأت بضربها ، و ﻷول مرة ضربتها بتصور وتصميم ضرباً جعلها تصرخ متوسلةً الرحمة كأنما أمامها سفاح لا يرف له جفن عندما يقتل ، تلك التوسلات العقيمة التي تزيد رغبتنا الدفينة نحن كبشر بالمواصلة والمطاولة بعد شعورنا الغريزي بفخر الحصول على تلك السلطة، سلطة تفوقنا على فريستنا التي غالباً ما يزيد نشوتنا لو كانت من جنسنا ، فبنظرنا الصياد ينتشي أكثر بصيد صياد

 وبهذه المشاعر حطمت يدها وبدون رحمة أو اكتراث لبكائها ، أمسكتها من خصلات شعرها وأخذتها إلى المطبخ حيث ضربت رأسها بطاولة غسل اﻷواني ، فزاد من تأجج نار غضبي ذلك الشعور بمقاومتها لي، كيف تقاومني وقد أهانتني بجملة تافهة لا تمت للصحة بشيء؟ هنا وأنا أضربها شعرت بنفسي التي جرحت من جملتها ولو أنها لا تمت للصحة بشيء فكيف جرحتني و جعلتني أفعل ما أفعله ؟

إنها الحقيقة التي تجرح وتحارب كرامة البشر العمياء التي تمنعهم من اﻹعتراف بخطيئتهم، البشر الكسالى الذين لا يجدون النشاط إلا لمحاربة كل ما يهدد ظن غيرهم عنهم ، و ﻷنني لم أكن أرغب أن أصبح مثلهم تركتها و اتصلت بالإسعاف ، و أكذب إن قلت أن فكرة سؤال الطبيب وجواب زوجتي من فعل بها ما فعلته قد أرعبني بقدر ما أرعبني ردها بأنها سقطت أثناء اﻹستحمام

لقد كانت من أولئك النساء الكثيرات ، النساء اللاتي يصبرن على هموم تهد الجبال وهن صامتات كاتمات بقلوبهن ، فحتى إذا ما فاض كيلهن يفرغنه بأنفسهن ، ولكن من المرأة التي تشفع هكذا تعدي ؟ التعدي الذي كان السبب اﻷكثر شيوعا للطلاق ، الضرب الذي يسقط كرامتها أرضاً ويدوسها، لم أجد تفسيراً يرضي كياني اﻷسود غير اعترافها بخطئها على الرغم من كونها محقة!

وبكل أنانية تركتها بالمستشفى التي طالما كانت مرتعاً ﻷرواح اﻷلم والخوف بنظري وعدت لمنزلي لأرى شيئاً باللوحة لم الحظه من قبل ، لقد كان الشيطان يبتسم بشكل غريب وغير واضح ، ركزت قليلاً فوجدت الراكعين له بائسين ، كيف لم ألحظ هذا وأنا من سطره ؟! بل ما الذي عنيته به ؟! هذا ما أرق نومي تلك الليلة المظلمة وجعلني أستلقي كالمريض أحاول تناسي الموضوع مستمعاً للطرقات التي تصدر من سقف غرفتي بعد منتصف الليل ، هل حقاً هذه الطرقات ليست من الهواء بل من ألاعيب الجن كما يظن بعض السذج ؟ ربما وربما هو الوسواس الذي يبدأ بنهش عقل المراء عندما يكون وحيداً في بيت مظلم ، لدرجة أنه يبدأ بتخيل سماع أصوات و وجود أشياء حوله لا أساس لها من الصحة

هكذا أشغلت تفكيري بموضوع لا يزال تحت دائرة اللوحة قبل أن أشعر بالمسك – احتجت الذهاب الى الحمام أكرمكم الله – فعلت ما طلبت الطبيعة البشرية ثم غسلت وجهي ونظرت بالمرآة ساخراً من مقولة أنك إن ركزت نظرك على بؤبؤ عينيك في أخر الليل لمدة عشرين ثانية كفيل بأن ترى قرينك بدل ملامح وجهك ، ولكن يا لدهشة ! لقد لمحت وجهاً أخر و يا ليته قريني ، إنما وجه حالك كوجه الشيطان باللوحة !

تفكيري بتلك الملعونة سيدفعني للجنون ، توجهت لغرفتي فانتابني ذلك الشعور الغريب؟ الشعور عندما تكون بمفردك أخر الليل وتشعر بأن شيء ما قادم نحوك ، وترف نظرك ولكن لا ترى شيئاً ، كأنما تحاول غرائزك إخبارك بأن كيان غير مرئي يلحق بك ، ولكني لم أكن يوماً من مصدقي الخرافات بالرغم من حبي لها ، لذلك عدت لسريري بغرفتي المظلمة ، قضيت ساعات من ليلتي هكذا محاولاً تحدي أساطير العالم اﻷخر ، هارباً من بطش اللوحة التي وددت لو أخذها ﻷحرقها وأتخلص من شرها ، ولكن و ﻷنني أحسست بالامتنان لزوجتي لصبرها وسترها على شخصيتي المتناقضة قررت ترك تلك الغلطة معلقة

سحبت اللحاف فوجدته ثقيلاً كأنما كان شخص ما نائم فوقه ، ولكني لم أكترث و صارعت نفسي ﻷنام تلك الليلة غير مصدق كيف برز جني الرمال المرعب من الجدار ليرش علي رمله ﻷنام بهناء ، ولكني استيقظت من النوم على جسم قبض على صدري وأصابني بشلل غريب رأيت إثره كل شيء مختلف ، كل شيء باهتاً ، وعندما ركزت رأيت إبليس اللعين وهو يجلس – على كرسي مقابل سريري- كما باللوحة تماماً ، بينما هناك من يركع له ، هل هي زوجتي ؟ لا! إنه أنا ! ولكنني مشلول على سريري

 نهض فشعرت باختناق شديد كأنما روحي تسلخ عن جسدي الفاني لتعود صباحاً ، فنهضت راكضاً من شدة فزعي إلى اللوحة ﻷجد إبليس فيها وقد ملأت ملامحه الحزن بينما عبيده الفرح ، كيف حدث هذا؟

لم أصل لدرجة رعب أجبرتني على خيانة أفكاري ، لذلك عزمت ربط ما حدث لي بعقدة منطقية مفسراً اﻷمر على أنه خيال أصابني ، فلو أن روحي أبت الكذب إلا أن عقلي أجبرني على التصديق بأني كنت أتخيل أول نظرة لابتسامته الشيطانية النافرة ، لربما ترجم عقلي هذا الجواب لكي أريح نفسي أو بالأصح أريحه من كثرة التفكير الذي أرقه.

مر اليوم فعادت زوجتي من المشفى مظهرةً جفاف علاقتنا ، فلابد لبعض كبريائها أن يمنعها من الحديث مع من أذاها هكذا ، وهكذا استعددت ﻷكمل ما بقي من حياتي البائسة بين سندان الكره ومطرقة اﻷلم في سبيل إسعادها عاملاً وراضياً بما لا أحب ، لربما كان هذا دوري ﻷتنازل كما تنازلت هي من أجلي بالماضي

 في أحد الأيام جلست أتأمل طعم القهوة السوداء بمنتصف الليل رغبةً مني بمعرفة السر ، أجل سر من يعبث معي ، فكلما تركت قلماً أو سيجارة أو حتى زجاجة شراب تختفي ، طبعاً قفز إلى أفكاري إتهام زوجتي المسكينة التي كانت بدورها تفقد عدة أشياء وطبعاً لربما كان عامل العمر و النسيان ، ولكني قلبت البيت ولم أجد أغراضي ، مما جعلني أجلس هنا بغرفة المعيشة منتظراً اللص العجيب الذي ظهر ظله اﻷسود متجهاً إلى الحمام – أكرمكم الله – فتبعته لتموت كل ذرة منطق برأسي فالمكان فارغ، إذاً من رأيت و لحقت؟

عدت إلى غرفة المعيشة وأنا أحاول تمالك نفسي ولكنها أبت إلا أن تزيد هياجاً بعدما رأيت الشيطان باللوحة يبتسم وعبيده الجزعون مكروبون ، لم أتمالك نفسي وأخرجت ورقة من جيبي كنت قد كتبتها ﻷقطع الشك باليقين – الشيطان باللوحة حزين – إن كان هذا ما كتبته أخر مرة رأيت فيها اللوحة فهذا ما حدث ، اللوحة الملعون لملعونة فعلاً أو ربما أنا كنت قد كتبت هذه الورقة بدون وعي فيستحيل حدوث شيء كهذا ! أنا لا أستطيع تصديق شيء لا يفسره المنطق ، ولكن فقدي ﻹلهامي لا ! بل إلهامي نفسه شيء لم يفسره المنطق وجعلته من المسلمات بحياتي

لقد فهمت اللعبة كل شيء أصبح واضحاً اﻷن ، يجب أن أفهم عما تعبر لوحتك وستستسلم لي يا إبليس الرجيم

 مرت أيامي بسعادة بشرية صفراوية بعدما تقبلت نفسي الفانية مجبرةً بجنون بقاء تلك اللوحة إلى أجل أسود غير معلوم وأنا أجلس أمامها كل يوم كالمخبول أمضي ساعات محاولاً تأملها ، لحظة لقد فهمت! جزعت راكضاً إلى المطبخ ﻷستل سكنية كبيرة وعدت للوحة وأنا تقريباً قد فهمت ما علي فعله بطريقة غير منطقية

وما لبثت حتى وجهت ضربة كانت ستخترق رأس الشيطان لو لم يمسكني مخلوق أسود مرعب ، وبلحظة لا إرادية للدفاع عن نفسي طعنته ليطلق صرخة مدوية قبل أن يسقط أرضاً ، لأطعنه وأطعنه بهستيرية حتى اكتشفت بأنه زوجتي ، لقد ارتكبت جريمة كافية لترسل روحي الخالدة إلى أحلك وأعمق بقاع جهنم

 ولكن جهنم لم تأتي بعد و وقتها بالرغم من قدومه إلا أنه بعيد ، تمالكت أعصابي و بدأت بالتفكير بأفضل طريقة للتخلص من هذه الجثة ، ربما أذيبها بسائل قلوي أو أدفنها أو ربما أقطعها وأطعمها للكلاب الشاردة ؟ لا ! سأدفنها ، ولفعل ذلك قمت بأخذها إلى الحمام فأرضيته كانت من ذلك النوع المرتفع عن باقي أرضيات المنزل ، النوع المجوف الذي يسهل فتحه لذلك بدأت بانتزاع الطوب ﻷجد ما أسعدني فلم يخب أملي بإيجاد الفسحة المناسبة لوضع الجثة ،

لذلك أسرعت بإزالة ألواح الركائز و حشرت الجثة حشراً لضيق المكان ثم أعدت اﻷلواح والطوب ﻷنظف المكان وأتأكد من خلوه من الدماء ، جيد كل شيء مرتب إلا شيء واحد، أخذت اللوحة إلى المطبخ و وضعتها ﻷحرقها بوقت لاحق فقد أردتها أن تذوق عذاب الانتظار قبل الموت الذي هو لعمري أسوأ من الموت نفسه

تركتها وانتهيت وحان وقت الشعور بالذنب وعذاب الضمير والبكاء ، ولكن لحظة واحدة ، أنا لا أشعر بشيء ! بل أشعر بالإلهام ، نعم الشعور الذي غاب عني طويلاً ، أريد أن أرسم.

انقضت بضع ساعات رسمت فيها بجنون عدة لوحات مذهلة ، واحدة لبيت مهجور مسكون و اﻷخرى لحديقة ميتة وطفل على فراش الموت ، ماذا أفعل هذا هو ذوقي بالفن وحلمي بإختراع مدرسة الفن القبيح ، فالقبح له رونقه الخاص من الجمال.

أكملت رسمي حتى قاطعني قدوم شرطيان يستفسران عن سبب الصراخ ، فعلى ما يبدو أن شخصاً ما قدم بلاغاً ، لذلك أخبرتهما بأنني طرقت يدي بالمطرقة خطأ بينما كنت أعلق لوحة من لوحاتي ، ليتوقف الزمن مظهراً صحة نظرية النسبية المجنونة التي اتهم أينشتاين بالجنون بسببها ، عندما سألاني عن سبب بقع الدماء على سترتي البيضاء ، تباً ! كيف لم ألحظها ؟! ولكن لفطنتي فقد ادعيت بأنه من أحد اﻷلوان التي أرسم بها.

بالفعل بزتي كانت متسخة بالألوان ، و ﻷنهما لم يعلما بأنني فنان طلبا الأذن بالدخول وفحص المكان ، وبما أنني كنت متأكداً من تنظيفي لكل موقع الجريمة فقد أذنت لهم بدخول ليتفحصوا البيت وأنا أشعر وكأنني فوق القانون

شعرت وكأنني إبليس اللوحة المتحكم لاسيما عندما رأيت الذهول في عيونهم من شكل وذوق لوحاتي الخلابة التي على ما يبدو أزعجتهم لدرجة أنهم رغبوا بالرحيل قبل التعمق بالتفتيش ، ولكن يرحلون قبل أن أكمل نشوتي بهزيمة القانون؟ نشوتي التي أشعرتني بأنني المتحكم كما تحكم بحياتي وسواس اللوحة الشيطانية.

– يا سادة ألم تلاحظوا لوحاتي الجديدة ؟ لم تجف ألوانها حتى ! لماذا لا تكونون أول من يراها قبل إعادة فتح معرضي غداً ؟

لا أعلم لما خرجت هذه الكلمات من فمي ، لعلني أردت رؤية خوفهم وكذبهم للتهرب ، ولكنهم واجهوا التحدي بشجاعة وأخذوا يتجولون مظهرين شجاعتهم بعدما استشعروا سخريتي من جبنهم.

– أين اللوحة التي علقتها ؟ أرى أن كل شيء بمكانه ، لابد من أنها كانت لوحة ثمينة لتركز عليها هكذا حتى تضرب يدك .

كانت تلك كلمات بمثابة ثغرة بخطتي ، ولكن ولذكائي فقد ادعيت بأنني لم أعلقها ، فبعدما ضربت يدي تناسيت أمرها وبما أنني كنت سأتخلص من تلك الملعونة التي أرعبتني وأنا لا أخاف إلا ما ندر من الحال فماذا ستفعل بهذين الجبانين اللذان أرعبهما فني؟

أصررت على أحدهما أن يذهب إلى المطبخ ليحضرها من الطاولة ، فعاد وهو يسألني باستغراب إن كنت متزوجاً ، ﻷجيبه باﻹيجاب وبأن زوجتي خرجت صباحاً ولم تعد إلى اآن ، وعلى غير المتوقع وبطريقة جمدت الدم بعروقي طلب مني أخذه إلى الحمام ، ولكن بما أنني بشري كذب على نفسه وصدق الكذبة ، فقد أخذته وأنا مرتاح ليحطم صفو راحتي تفحصه للبلاط ، مستحيل هل يعلم بما فعلت؟

وقفت بذعر اعترى قلبي وأنا أتنفس الصعداء من منظره وهو يطرق على البلاط ، حتى سمعنا صوت صرخة مدوية حطمت موازين الطبيعة صادرة من اﻷرض.

علمت بأنني انتهيت وأنا أرى ذلك الشرطي يتناول عصاه لفتح البلاط ، ولكن ما أرعبني أكثر من نهايتي هي تساؤلاتي، من أخذ إلهامي؟ من صرخ؟ من أخبره؟ هل هو الشيطان؟ مستحيل فلو أنه رأى اللوحة لفر هارباً ، إذاً فما باله بالشيطان ؟ وقفت من غير مشاعر بالرغم من روايتي لهم وقد وجدوا جثة زوجتي ذات الدم الذي تيبس.

كبلاني باﻷصفاد ، وبينما اقتاداني لمحت اللوحة الملعونة ملقاة على اﻷرض، كيف وصلت إلى هنا؟ سؤال لم يكن بغرابة ما رأيته عندما تجاوزتها وأدرت رأسي لتنتصب كل شعرة بجسدي ، اللوحة الملعونة ﻹبليس إن قلبناها تصبح لوحة تصورني وأنا أقتل زوجتي بالحمام وعلى بلاطه الدماء.

كيف بحق كل ما هو مقدس سطرت شيئاً كهذا؟! هل ذنبي أنني طالما حاولت مخالفة الغريزة البشرية الخاطئة ؟ هل ذنبي أنني لحقت وأمنت بأحلام طفولتي؟ أم هو ذلك الشعور بالفوقية والغرور الذي يتشبع أرواحنا عندما نصبو مبتغانا، مهما كان السبب فقد أخذني إلى حبل المشنقة الذي سأراه خلاصي من عالم حكمته اللوحة.

تاريخ النشر : 2018-05-12

guest
63 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى