أدب الرعب والعام

ضيف بلا ميعاد

بقلم : نوار – سوريا

ضيف بلا ميعاد
نهضت متوجِّهاً للخارج ، كانت الغرفة تفضي إلى ممرٍّ طويلٍ في نهايته درج

خرجتُ مسرعاً من بيتي باتّجاه محطَّة القطار لاستقبال صديقي القادم من البلدة المجاورة ، و كالعادة لم أنهض إلا متأخِّرٍ عن ميعادي بالرغم من المنبِّه الذي كلَّما رنَّ أخرسته و منحت لنفسي المزيد من الغفوات ، لذلك تناولت الفطور و أنا واقف ثم أكملت ارتداء ثيابي أثناء نزولي درج العمارة الكائن فيها منزلي .

عندما اجتزت الشارع لم أنتبه لتلك السيارة التي كانت تعبر ، حدث كلُّ شيءٍ بعدها بلمح البصر ، السائق ضغط على مكابح القيادة مصدراً صريراً اختلط مع صوت ارتطام جسدي بالسيارة ، فوجدت نفسي أطير في الهواء ثم أهبط بقسوة على أسفلت الشارع الخشن ، أقدامٌ كثيرة اقتربت منِّي و أصوات أناسٍ من حولي تتأسَّف و تحوقل و تضرب كفاً بكف ، و صوتٌ طغى على الجميع طالباً الإسعاف ، شيئاً فشيئاً أخَذَت هذه الأصوات تخفت في أذني و استسلمت لإغماءةٍ قطعت اتّصالي مع العالم الخارجي .

**

فتحت عيناي لأجد نفسي مستلقٍ على سرير ، نظري مسمّر نحو السقف ، بالتأكيد هذا ليس سقف غرفتي ، هذا أول شيءٍ تبادر إلى ذهني .
استويت جالساً أتلفَّت حولي ، إنها غرفةٌ غريبةٌ ذات طرازٍ عتيق ، الغبار يغطِّي كلَّ جزءٍ فيها .. ما الذي جاء بي إلى هنا ؟!
نهضت متوجِّهاً للخارج ، كانت الغرفة تفضي إلى ممرٍّ طويلٍ في نهايته درج ، تقدمت نازلاً إلى الدور الأرضي بحذرٍ و توجُّس ، فأنا حتَّى هذه اللحظة لا أعرف أين أنا ..

مع وصولي للدرجات الأخيرة صادفت امرأةً خارجةً من إحدى الغرف في طريقها نحوي ، و ما كادت تراني حتى تسمَّرت في مكانها ، عيناها فتحتا على وسعِهما ، يدها رُفِعت إلى فمها لتكتم شهقةً خرجت رغماً عنها ، و في نفس اللحظة سمعت صوتاً قادماً من الأعلى لفتاة قالت :
– ماما من الذي فتح غرفة شقيقي المغلقة ؟!
التفتُّ ورائي ، و إذا بالفتاة تصاب بحالةٍ كحالة والدتها ، لكنها نطقت و وضعتني بصورة ما يجري عندما صرخت قائلةً بكلماتٍ مبعثرة :
– شـشـ .. شبح .. أخي .. كـ..كيف .. غير معقول
و يبدو أن وجود الفتاة قد شجَّع الأم ، إذ تكلَّمت هي الأخرى :
– تيدوا .. لقد عاد ابني تيدوا
قاطعتها ابنتها لتقول بانفعالٍ و خوف :
– أمي ، تيدوا قد مات منذ سنة ، كيف يعود ؟! إنَّه شبح .. شبح

أكملت طريقي نازلاً الدَّرج ، فرأيت الأم تتراجع برعب إلى الخلف ، تلبَّكت و عدتُّ لأصعد ، فبدأت الفتاة بالصراخ ، احترت ماذا أفعل و لم أجد حلَّاً غير الجلوس على إحدى الدرجات ..  أخذتُ نَفَساً عميقاً و قررت أن أكون أنا المبادر فسألتهما :
– من فضلكما أخبراني أين أنا و ما الذي يجري ؟؟ أكملت مطمْئِناً عندما لم أجد استجابةً من أيٍّ منهما :
– اطمئنا لست شبحاً و لن أؤذيكما ..

تقدَّمت الأم باتجاهي و قد حلَّت ملامح الاستغراب و الفضول على وجهها بعد أن كان يكسوه الرعب ، قالت :
– تيدوا ، هل عدَّتَ من الموت ؟!
– من هذا تيدوا الذي تتحدثان عنه ، أنا لست هو !
تكلَّمت الفتاة في الأعلى :
– مستحيل ، أنت تيدوا .. لكن ، لكن تيدوا ميت !
– أنا أُدعى ماهر و لست تيدوا صدِّقاني ، أصلاً لا أعرف كيف جئتُ إلى هنا ! أذكر أنني خرجت مسرعاً من منزلي و عندما قطعت الشارع صدمتني سيارة ، بعدها فتحت عيناي لأجد نفسي في غرفة في هذا المنزل .
– يعني تريدنا أن نصدِّق بأنَّك ظهرت من العدم لتجد نفسك في غرفة شقيقي ، تلك الغرفة التي بقيت مغلقةً منذ وفاته !!
تقدَّمت أمها مني قائلةً بتأثُّر :
– لكنَّك نسخةٌ عن ابني ، بل أنت هو .. يا إلهي لا أصدِّق ، تيدوا عاد للحياة من جديد

– أرجوكِ ، أنا ماهر ..

قطع حديثنا صوت فتح باب المنزل قبل أن يدخل رجل تجمَّد بمكانه عندما وقعت عيناه عليَّ ، طبعاً بات معروفاً السبب بالنسبة لي ، فقد ظنَّني ابنه الميِّت تيدوا ..

**

جلست العائلة حولي في غرفة المعيشة بعد أن تأكَّدوا من أنَّني لست تيدوا ، و قد بدؤوا يلاحظون أنَّني أختلف عن ابنهم بالهيئة ، فتسريحة شعري و ذقني و ملابسي قالوا بأنها غريبةٌ جداً ، و في المقابل أنا أيضاً وجدت ملابسهم و هيئاتهم كما لو أنهم خارجين من زمنٍ سالف !
نهضت قائلاً :
– لا أعرف الطريقة التي أتيت بها إلى هنا ، لكنِّي على كلِّ حال أعتذر على تطفلي .. يجب أن أعود الآن إلى منزلي .
قالت الأم بلهفة :
– أرجوك أعطني عنوانك ، فأنت تذكِّرني بابني و أريد أن أظلَّ على صلةٍ بك .
– حسناً ، أسكن في حي شدوان ، في الدور الخامس من البناية رقم 34
قلب الوالد شفتيه باستغراب و قال متسائلاً :
– حي شدوان !! أعرف المدينة بكلِّ أحيائها ، و لا يوجد حي بهذا الاسم .. اسمك غريبٌ و كذلك الحي ، من أيِّ مكان جئت إلينا ؟!

فجأة تذكَّرت صديقي الذي كنت قد وعدته بانتظاره في محطة القطار ، فقررت التحدث معه و الاعتذار منه  ، أخرجت هاتفي من جيبي لأكلمه فوجدت الهاتف مغلق و لا يعمل ، لذلك قلت للأب :
– هل تسمح باستخدام هاتفك للاتصال بصديق ؟
نظر إليَّ باندهاش :
– هاتف ! ما هو الهاتف ؟
– هل يعقل أنك لا تعرف ما هو الهاتف !
ثم مددت يدي أريه هاتفي ، أمسكه الوالد و أخذ يتفحَّصه ، قطَّب حاجبيه و استغرق بتفكيرٍ عميق قطعه عندما قال :
– يبدو لي أنَّك بطريقةٍ ما لا أعرف ما هي و لا أستطيع توقّعها قد جئت إلينا من المستقبل ! فطريقة ظهورك بيننا و هيئتك و الجهاز الذي تحمله معك لا توحي بأنَّك من عصرنا !!
قلت بعد أن اقتنعت باستنتاجه :
– أو ربما أنا من عدت بالزمن إلى الوراء !!

**

لا أعرف كيف و لا لماذا ، كلُّ ما أعلمه أنَّني سأبقى مع هذه العائلة ريثما أعود إلى زمني بنفس الطريقة التي جئت بها ، حتماً توجد طريقة .. لكن هناك سؤال يدور في ذهني و هو تيدوا ، لماذا يقولون أنَّني نسخةٌ عنه ؟! لماذا جئتُ إلى هذه العائلة التي فقدت ابناً يشبهني ؟! لا أعلم ، هناك شيءٌ يصعب عليَّ إدراكه و لن أرتاح قبل أن أعرف ما هو .

**

قلت لـ ساو بعد أن انتهينا من تناول الطعام :
– هلا أريتني من فضلك صورةً لشقيقك المتوفَّى ؟
نهضت لتجلب لي الصورة فيما تسمَّرت عيناي على شيءٍ معلَّق على الحائط ، لاحظ الوالد شرودي فسألني : ما بك ؟ أجبته :
– تلك ، ساعة أليس كذلك ؟
– أجل ، و هل اختفت الساعات في زمنكم ؟
– لا طبعاً لكن ..
نهضتُّ مقترباً منها و أكملت :
– لكن تقسيم الوقت فيها غريب ، غريبٌ جدَّاً .. و كأنَّ اليوم أكثر من أربع و عشرون ساعة
ضحك الوالد ثم قال :
– لا تقل لي أنَّه في المستقبل ستتقلَّص ساعات اليوم إلى النصف !
قلتُ مشدوهاً :
– هل تعني أنَّ اليوم عندكم يتكوَّن من ثماني و أربعين ساعة ؟!
أومأ لي بالإيجاب فأكملت معترضاً :
– مستحيل .. هذا لا علاقة له بزمن الماضي أو المستقبل ، هذا مرتبطٌ بحركة دوران الأرض حول نفسها و حول الشمس ، هذه الحركة ثابتة منذ الأزل و لا يمكن أن يحدث اختلالٌ فيها و إلا لانقلبت الحياة على الأرض !
– مهلاً مهلاً ، ماذا قلت ؟! الأرض !!
– نعم الأرض .. كوكبنا
قال ساخراً :
– لم أسمع يوماً عن هذا الكوكب ، أين يقع ؟! يظهر لي يا بني أنَّك جئتَ إلينا من كوكبٍ آخر ، إن ذلك أشبه بقصةٍ من قصص الخيال العلمي ..

قلت بصوتٍ منفعل رغماً عني :
– غير معقول ، أكيد أنت تمزح معي .. و هل يوجد حياةٌ خارج الأرض ؟! ما اسم هذا الكوكب الذي نقف عليه الآن ؟
أجابت ساو التي عادت تحمل لي صورة تيدوا و قد سمعت الحديث الدَّائر :
– كوكب جونيم
قلت متسائلاً :
– كوكب جونيم ؟! لم أسمع عنه و لا أظنُّه ينتمي لمجموعتنا الشمسيَّة .. صمتُّ قليلاً قبل أن أسأل فجأةً لأتأكَّد من شيءٍ قفز إلى ذهني :
– هل هذا الكوكب ينتمي لمجرَّة درب التبانة ؟
– درب التبانة ؟! كلا ، كوكب جونيم ينتمي لمجرَّة كونادونيا

عند هذا الحد من الحديث انهرتُ متداعياً على المقعد و أخَذت الدنيا تدور من حولي ، كنت أظن في البداية بأنَّني عدتُّ بالزمن للوراء ، لكن اتَّضح لي بأنّ الأمر أعقد من ذلك بكثير ، أنا خارج المجرَّة بأكملها ، أنا الآن في كونٍ آخر .. أشعر أنني في كابوس !

قال الوالد :
– أنا عاجزٌ عن الفهم ، هل لديكَ تصوّر لما يحدث يا بني ؟
أجبت بلهجة الواثق :
– نعم ، لدي ..
اقترب ثلاثتهم منِّي و قالوا بفضول :
– ما هو ؟
قلت شارحاً تصوري للموضوع :
– لدينا – على كوكب الأرض- علماء خرجوا بنظريةٍ تُدعى الأكوان المتوازية ، تزعم هذه النظرية بوجود حَيَواتٍ كثيرةٍ في عددٍ لا نهائي من الأكوان .. بمعنى آخر أنا في كوكب الأرض أُدعى ماهر ، شابٌّ يتيمٌ أسكن بمفردي في شقّة ، أعمل جاهداً لأكسب قوت يومي و أُكْمل دراستي .. النظرية تقول أنني في كونٍ آخر قد أتواجد في حياةٍ أخرى و ظروفٍ مغايرة ، و ما حدث معي دليل صدق هذه النَّظرية ، فها أنتم تقولون بأنَّني نسخة عن ابنكم تيدوا .. أكملت موجِّهاً حديثي إلى ساو :
– هلَّا أريتني الصورة من فضلك ؟

مدَّت يدها و ناولتني الصورة ، بالفعل كان تيدوا يشبهني ، بل هو نسخةٌ منِّي ، يا الله !! هل هذا معقول ؟ لطالما كنت من المشككين بنظرية الأكوان المتوازية ، كانت بالنسبة لي محض اجتهاد بعض العلماء .. كيف لي أن أتواصل معهم و أثبِت لهم صدقهم ، كيف ؟ و هل سأعود يوماً إلى الأرض ؟ ألا يُحتَمل أنِّي مِتُّ بذاك الحادث و انتَقَلتْ روحي إلى هنا ؟! هل هذا يحدث يا ترى مع كلِّ الذين يموتون ؟ أن تنتقل أرواحهم إلى أشباههم في الأكوان الأخرى ؟ و كيف لنا أن نتأكَّد من ذلك ؟! لا يوجد ميت عاد إلى الحياة ليروي لنا تجربته مع الموت !

قطع استرسالي في التَّفكير صوت والدة تيدوا التي سألت بسرور :
– هل هذا يعني أنَّك ابني تيدوا ؟
قلت لها ضاحكاً :
– لست ابنكِ بالضبط ، لكن بطريقة أو بأخرى تستطيعين اعتباري ابنك ، أنا نسخته من كونٍ آخر
ضمتني إلى صدرها قائلةً بصوتٍ متهدِّج :
– لا تهمُّني كل التفسيرات و الاحتمالات التي ذكرتها ، المهم بالنسبة لي أنك عدتَّ إلي من جديدٍ يا بني .. لا أصدِّق نفسي

أما الأب فقد كان له رأيٌ آخر ، نهض قائلاً :
– سنصبح عائلةً مشهورةً عمّا قريب ، سأبلغ الجهات المختصة بالكلام الذي أخبرتني به و سأريهم الشيء الذي تسمّيه الهاتف ، إنَّه حدث علمي صعب التكرار ، قد نستفاد منك في تطوير كوكبنا ، فعلى ما يبدو أنَّ كوكبكم متطور جداً .

**

عدتُّ متعباً من الخارج ، فقد بقيت لعدَّة أيامٍ أكرِّر ما حدث معي لأكثر من شخص ، حيث اجتمع حولي العديد من العلماء و جعلوني أحدِّثهم عن كوكب الأرض و مجرَّتنا بالكامل ، و عن طبيعة حياتنا و الاكتشافات التي توصَّلنا لها ، لم يتركوا شيئاً لم يسألوني عنه و التقطوا لي صوراً نشروها في الجرائد مرفقة مع صور تيدوا .. تعرَّضت قصتي للتشكيك و اتَّهمني البعض بالكذب و البعض الآخر بالجنون ، و بالمقابل عرفت الكثير عن كوكب جونيم هذا ، إنَّه كوكبٌ بخصائصه يشبه الأرض كثيراً ، له قمر و ينتمي لمجموعة شمسية مشابهة لمجموعتنا ، هم الآن في سنة ألف و أربعة و ستون حسب تقويمهم المؤرخ منذ حدوث زلزالٍ عظيمٍ في الكوكب أودى بحياة نصف ساكنيه ، لكنَّهم وصلوا إلى أشياء لم نصل إليها نحن عندما كنا في ذاك الزمن .

اقتربت منِّي والدة تيدوا و قدَّمت لي كأسَ عصيرٍ أخذته منها شاكراً ، قلت لها بعد تردُّدٍ لم يدم طويلاً :
– كيف مات تيدوا ؟
– مات منتحراً
قلت متفاجئاً :
– منتحر ! كيف و لماذا ؟
– لا أعرف ، لقد كان انتحاره مفاجأة صاعقة لنا ، كان شاباً ناجحاً في دراسته ، افتتحنا له مكتباً هندسياً بعد تخرجه ، خطبنا له الفتاة التي أحبَّها و كان على وشك الزواج بها ، و مع ذلك انتحر !

هممت بالكلام عندما رنَّ جرس الباب ، نهضت الأم لتفتحه فدخلت فتاةٌ سمراء البشرة مليحة القسمات ، تقدَّمت نحوي قائلةً :
– تيدوا ، أنت حبيبي تيدوا
نظرت للأم طالباً التَّوضيح ، فأسرعت تقول :
– هذه أولوري ، خطيبة ابني تيدوا
تابعت أولوري :
– تيدوا ، لماذا انتحرت و تركتني ؟ كيف استطعت التخلِّي عنِّي كيف ؟؟
تدخَّلت الأم قائلةً :
– اهدئي يا ابنتي ، تيدوا مات و لن يعود ، هذا الشاب يُدعى ماهر ، إنه فقط يشبهه ، أوضحت الأمر في زيارتي السابقة لكِ لذا تمالكي أعصابكِ و اجلسي .

جلست أولوري بعد أن اعتذرت لكنها لم ترفع عينيها عني ، كانت تطالعني كما لو أنَّ أحدهم أخبرها بأني سأختفي بعد قليل ، نظراتها فيها لهفةٌ و شوقٌ و عتاب ، يا الله كم تحمل حباً في قلبها لـ تيدوا !!
تكلَّمت أخيراً بعد صمت مشحونٍ بالذكريات :
– ماهر ، هل بإمكاننا أن نصبح أصدقاء ؟ أنت تذكِّرني بخطيبي السابق ، فهل تمانع لو أنَّنا بقينا على تواصل ؟
أجبتها بكلِّ ترحاب :
– لا مانع لديَّ أبداً ، على أن تتذكري دائماً بأنَّني لست تيدوا مهما بدوت لكِ أشبهه .
أومأت موافقة ، ثم نهضت مستأذنة و غادرت .

في الحقيقة تعاطفت معها كثيراً و تمنَّيت لو أنني في حياتي السابقة التقيت بفتاةٍ تحبُّني مثل هذا الحب

**

كان اليوم الواحد طويلاً في هذا الكوكب ، الساعات تمضي ببطء ، هناك وقتٌ لفعل كلِّ شيء ، نظام حياتهم غريب بالنسبة لي ، عِدّة وجباتٍ من الطعام في اليوم ، الليل يمارسون فيه نشاطاتٍ كثيرةٍ من طوله ، و وجدت نفسي أتأقلم مع حياتهم البسيطة بدون هاتفٍ أو انترنت ، و بدون هذا التطور التكنولوجي الذي اجتاح حياتنا على الأرض ، مع أنَّني في حياتي السابقة كنت مدمناً على مواقع التواصل الاجتماعي وجدت نفسي بينهم مرتاحٌ منها ، بل أشعر بالسعادة ..
الوالد طوال النهار في العمل ، يعود يرتاح بعض الوقت و بعدها يطالع الصحف ، يذهب للاجتماع مع أصدقائه و أحياناً هم يأتون إليه ، الوالدة و ابنتها تقضيان الصباح في أعمال المنزل و عند الانتهاء تنشغلان إمّا بحياكة الصوف أو التطريز ، تزوران الجيران ، تطالعان الكتب .. و للأم هواية زراعة الورود ، تجدها دائمة الاهتمام بالحديقة و تعامل زهورها كما تعامل أولادها .

و أولوري ؛ ماذا أقول عنها ، فتاة رقيقةٌ مرهفة المشاعر ، أخذتني معها إلى جميع الأماكن التي كانت ترتادها مع تيدوا ، و قصَّت عليَّ ذكرياتها معه .. أحياناً أتمنى لو قابلتها دون أن يكون لي ارتباط بخطيبها السابق ، دون أن يذكِّرها شكلي و حركاتي به ، هل كانت وقتها ستنجذب نحوي ؟ هل كانت ستنشأ بيننا مشاعرُ خاصَّة ؟ أحس أني بدأت أميل لها ..

كنا ذات يومٍ نسير معاً في أحد الشوارع فواجهتنا مكتبةٌ لفتتني بتصميمها الأنيق ، طلبت من أولوري الولوج إليها و إلقاء نظرةٍ على كتبها خصوصاً التاريخية ، فهذا الجانب تهمُّني معرفته في هذا الكوكب الغريب ، لكن ما حدث معي في الداخل أنساني غرضي من الدخول .. فما كادت عيناي تقعان على صاحبة المكتبة حتى اندفعت نحوها بدون تفكيرٍ و جثوت عند ركبتيها قائلاً :
– أمي ، أمي الحبيبة اشتقت لكِ
ألجمت المفاجأة لسان المرأة صاحبة المكتبة و أُسقِط في يدها ، بينما تقدَّمت مني أولوري قائلةً :
– ماهر ، انهض ما الذي جرى لك ؟!

تداركت الأمر و نهضت معتذراً ، لكنَّ الموقف المفاجئ جعلني أفقد السيطرة على نفسي ، فقد كانت صاحبة المكتبة أمي أو النسخة الأخرى منها .. أمي التي فقدتها منذ الطُّفولة في حادثٍ أليم أودى بحياتها هي و أبي .
تفحَّصَتني المرأة (شبيهة أمي ) و قالت :
– ألستَ الشابَّ الذي قَدِم من مجرَّة أخرى إلى هنا ؟؟ لقد رأيت صورك في الجرائد و قرأت قصَّتك .. بصراحة هي أقرب للخيال منها إلى الواقع .
قلت أطالعها بشوقٍ كما لو أنها فعلاً أمي :
– أتسمحين لي بمناداتك أمي ؟
– لماذا ؟!
– على الرغم من عدم تصديقكِ لقصَّتي إلا أنك النسخة الأخرى من أمي ، لقد حُرِمت منها منذ أن كنت طفلاً ، صورتها معي في ذاكرتي أينما ذهبت ، اشتقت لها كثيراً ، لذلك عندما رأيتك لم أتمالك نفسي .. يا الله كم اشتقت لكِ .
ضحكت (أمي) و قالت بحنان :
– مع أنَّ كلامك غريب و قصَّتك صعبة التَّصديق إلا أنِّي لا أمانع إن ناديتني بـ أمي ، فأنا محرومة من هذه الكلمة لأني لا أنجب .

قبَّلت يدها بسعادة بينما وقفت أولوري تراقبني بصمت و تطالعني بنظرات أعمق من الصَّداقة .. يا تُرى هل أصبحت تحبٌّني لشخصي أم لكوني أشبه تيدوا ؟؟ لا أعتقد بأني سأعرف الإجابة

**

عدتُّ إلى المنزل و قصصت عليهم ما حدث ، فسُعِدوا لأجلي ، قالت والدة تيدوا :
– أظنُّك الآن عرفت شعوري عندما رأيتك أوَّل مرةٍ و ظننت أنّك ابني
ابتسمت لها و سرحت بتفكيري عند والدي ترى أين هي نسخته الأخرى ؟! هل هي هنا في هذا البلد أم في بلدٍ آخر ؟؟ هل هو حيٌّ أم ميت أيضاً ؟ و أقاربي و معارفي هل سألتقي بهم .. قطع تفكيري صوت ساو تسألني :
– ماهر ، بماذا أنت سارح ؟
التفتُّ نحوها و قلت :
– لا شيء مهم ، لكن أريد أن أخبركم بأني سعيدٌ معكم ، لقد وجدتُّ عندكم الأشياء التي كنت أفتقدها في حياتي الماضية ، دفء العائلة ، الأمان ، المحبة و أشياء كثيرة .. أتساءل لماذا تيدوا ترك كل هذا و انتحر ؟! ما الذي كان يبحث عنه و لم يجده ! لو كنتم عائلتي الحقيقية ما كنت تركتكم ، و لو كان عندي فتاةٌ تحبني كما أحبّت أولوري تيدوا ما كنت تخليت عنها لأتوسَّد التراب ..

تكلم الوالد بعد أن كان صامتاً طوال الوقت :
– يبدو يا بني أنَّ لا أحد راضٍ عن حياته ، تيدوا ترك لنا ورقةً قبل أن ينتحر كتب فيها ” أحبكم ، لكن اعذروني لا أستطيع الاستمرار ” .. يبدو أنه لم يكن يشعر بدفء العائلة و الأمان و السعادة التي تحدَّثت عنها أنت ، ربما لأنه لم يكن محروماً منها ، ولِد و وجدنا حوله .. مضت حياته كما يحبُّ و يشتهي ، أو هكذا كنا نظن ، فهو بالنهاية اختار الرحيل و تركنا .

قالت ساو :
– بصراحة أنا منذ اليوم الأول الذي قدمت فيه إلينا اعتبرتك أخي .. ليتك تبقى معنا إلى الأبد
ابتسمت الأم و أثنت على كلام ابنتها :
– بالطبع سيبقى معنا .. نحن عائلته الجديدة

شكرتهم على لطفهم و حسن معاملتهم ، ثم نهضتُّ مستأذناً لأنام ، و قد انتابتني رغبة شديدة للمبيت في غرفة تيدوا التي أصرَّت والدته على إبقائها مغلقةً و خصصت لي غرفةً غيرها لأقيم فيها ..
قلت معترضاً بعد أن رَفضَت فتحها مجدّداً :
– و لكنكِ قلتِ لي بأنني مثل ابنك ، لذلك أرجوكِ دعيني أنام فيها ، ستصبح غرفتي من الآن فصاعداً ، أولستُ شبيه تيدوا ؟ إذاً يجب أن أحتلَّ غرفته
– و لكنها مليئةٌ بالغبار و لم ننظفها منذ مدة
– لا بأس ، سأنام فيها هذه الليلة ، و غداً نظِّفيها

أمام إلحاحي استسلمت و فتحتها لي .. دخلت إليها و بي رغبةٌ شديدةٌ للاستلقاء على ذاك السرير ، رغبة أنا نفسي لم أفهمها .. أغمضت عيناي و قد قرّرت غداً أن أصارح أولوري بحبي لها ، سأطلب منها أن تنسى تيدوا و تحبني أنا ماهر .. الضيف القادم من مجرةٍ أخرى .

**

فتحت عيناي ليطالعني سقفٌ شديد البياض ، حاولت الحركة لكن أجهزة ممتدّة إلى صدري و يدي كبّلتني و منعتني من النهوض ، لمحت زراً متدليّاً جانب السرير فضغطت عليه و ما هي إلا لحظات حتى اقتحم المكان عدّة أشخاص ، سألتهم بوهن :
– من أنتم و أين أنا ؟؟
أجابت امرأة ترتدي الأبيض :
– أنت في المشفى يا ماهر .. لقد تعرّضتَ لحادثٍ جعلك تدخل في غيبوبة و ها قد صحوت منها أخيراً ، فحمداً لله على سلامتك ، سيأتي الطبيب بعد قليل و يطمئن على حالتك .
و فعلاً دخل الطبيب ، قام بفحصي و ابتسامةٌ مطمئنة رسمت على شفتيه ، قال بعد أن نزع بعض الأجهزة عني :
– ما شاء الله أمورك تمام ، سنبقيك عندنا هذه الليلة لمراقبة وضعك و بعدها تستطيع الخروج ..

التفت إلى الممرضة و أعطاها بعض التعليمات ثم مضى خارجاً .

اعتدلت في جلستي و سألت الممرضة :
– كم من الوقت مضى و أنا في الغيبوبة ؟
– أسبوعين
– أسبوعين فقط ؟!
استغربت الممرضة من دهشتي و قالت :
– بالعادة من يصحون من الغيبوبة يظنون بأنهم أمضوا يوماً فقط و يستغربون من بقائهم أسابيع و ربما شهوراً ، إلا أنت أرى أنك توقّعت بقاءك أكثر .

صمتُّ و لم أجبْها ، فالإجابة يطول شرحها ، و ربما لن تصدّقني لو أخبرتها بأني خلال هذين الأسبوعين قد زرت كوناً آخر و عشت فيه أحلى أيام عمري .

**

طرِق باب الغرفة و عندما أذنت للقادم بالدخول تقدّم صديقي سعيد قائلاً : حمداً لله على سلامتك يا رجل ، لقد أخفتنا عليك .. ثم ابتسم و قال بخبث : أم أنك افتعلت الحادث حتى لا تأتي لاستقبالي في المحطة ؟؟
ضحكت من مزاحه ، فقدومه لزيارتي و خروجي مستعجلاً لاستقباله كانا السبب لما حدث لي ..

في الحقيقة ما حدث لي لا أستطيع نسيانه ، بودّي لو أخبر العالم كله بوجود مجرّة كونادونيا ، بودّي أن أحدثهم عن كوكب جونيم و عن عائلة تيدوا .. لكن لو تكلمت سيتهمونني بالجنون أو يقولون أضغاث أحلام ..
يا ترى ماذا فعلت عائلة تيدوا عندما اكتشفوا اختفائي ، سيعيشون ألم فقد ابنهم للمرة الثانية ، و أولوري سيُنكأ جرحها من جديد .. هم أناس طيبون لا يستحقون الألم .

على كل حال ها أنا قد دوَّنت تجربتي مع الغيبوبة و كتبت كل التفاصيل التي مررت بها .. من يدري ، قد يتطوَّر العلم و يثبت صحة رحلتي هذه يوماً ما .

**

أغلق ماهر حاسوبه ثم نهض من على الكرسي و اتجه إلى الصالة ليجلس إلى جانب صديقه سعيد .
قال له سعيد عندما رآه :
– يبدو أنك انتهيت من الكتابة ، و أخيراً ، لقد مللت من الجلوس وحدي ، طيلة هذه الأيام و أنت لم تنفك تتحدث عن مجرة كونادونيا هذه التي رأيتها في منامك و تحبس نفسك في غرفتك للكتابة عنها .
قال ماهر معترضاً :
– ليس منام يا سعيد ، لقد زرتها بالفعل صدّقني ، مازلت أذكر كلَّ شيء و كأنني عشته للتو !
– أظنك كنت من المشككين لنظرية الأكوان المتوازية ، هل تذكر كيف كنت تجادل مؤيديها من أصدقائك ؟
– نعم أذكر ، لكن ذلك كان قبل الحادث الذي تعرضت له .. أما الآن فأنا من أشدِّ المؤيدين لها .

صمتَ قليلاً ثم أكمل :
– أجمل شيءٍ حدث معي هو رؤيتي لأمي ، أقصد النسخة الأخرى من أمي .. لكم سعدت لرؤيتها بعد كل هذه السنين ، هل تعرف الأثر الذي تتركه زيارة شخص عزيز عليك في المنام ؟ تستيقظ و أنت تحس بأنك رأيته بالفعل ! هذا هو شعوري الآن عندما أفكِّر بأمي ، ليتني لم أستيقظ من الغيبوبة و بقيت في كوكب جونيم ، لقد أحببت بساطة الحياة فيه ، أحببت بيوته و ساكنيه .. أحببت وجود أمي فيه .
– و أولوري ؟ لقد كنت تتحدث عنها بِـوَلَه .
تنهّد قائلاً بحسرة :
– نعم ، لقد أحببتها حقاً .. أتمنى لو ألتقي بنسختها هنا ، بالتأكيد هي موجودة في مكانٍ ما على هذا الكوكب ، أو ربما تكون ولدت و ماتت منذ زمن أو لم تخلق بعد .. 
انتفض سعيد في مكانه قائلاً :
– ماهر هذا يكفي .. كفاك أوهاماً ، ما حدث معك مجرَّد حلم ، و حتى لو لم يكن حلماً فهو شيءٌ مضى و انتهى ، التفت لحياتك ، أنت مقبلٌ على امتحانات التخرج ، يجب أن تذهب إلى الكلية و تستدرك ما فاتك من دروس .
قال ماهر مستسلماً :
– حسناً حسناً ، سأصمت .. و سأذهب غداً إلى الكلية

**

بينما ماهر واقف في ساحة الكلية مع أصدقائه تقدَّمت منه زميلته لينا و دعته للذهاب معها لحضور معرضٍ لرسومات إحدى صديقاتها التي ستتخرج هذا العام من كلية الفنون ، لم يمانع ماهر و قبل الدعوة ..

في المساء كان ماهر يتنقَّل في صالة المعرض بين اللوحات ، نادته لينا :
– ماهر ، تعال لأعرفك على صديقتي الفنانة سلوى
التفت ماهر ليسلم على صاحبة المعرض و ما كادت عيناه تقعان عليها حتى هتف بانفعال :
– أولوري !
نظرت الفتاتان إليه باستغراب ، فقال معتذراً :
– آسف ، تشبهين فتاةً أعرفها
تأمَّلته سلوى لبضع ثواني ثم سألت :
– ألم نلتقي من قبل ؟ أحسُّ أني أعرفك منذ زمن !
تدخلت صديقتها لتقول :
– أنت زرتني في الكلية أكثر من مرة ، قد تكونين لمحته هناك .
قال ماهر بغموض :
– أو ربما التقينا في مكان آخر ..
– ماذا تقصد ؟ سألت سلوى بدهشة
– لا ، لا شيء .. لقد اعجبتني لوحاتك ، أنتِ فنانة موهوبة

ابتسم ماهر لنفسه ، فقد وجدها .. إنها أولوري ، هو متأكِّد من ذلك ، لقد قرر التعرف عليها و التقرُّب منها ، في كوكب جونيم لم يُكتَب لأولوري الزواج من تيدوا ، أما هنا فمن يدري كيف ستكون النهاية ..

خرجوا سوياً من صالة المعرض ، عرض عليها أن يوصلها إلى المنزل فلم تمانع .. ساروا جنباً إلى جنب ، التفتت إليه قائلة :
– صحيح ماهر ، من هي أولوري التي ناديتني باسمها ؟
قال مبتسماً :
– قصة طويلة قد أحكيها لكِ يوماً ما ..
– لا بأس الأيام بيننا طويلة .. سأنتظر
تدخلت لينا في الحديث معترضة :
– يبدو أنكما نسيتما أنني معكما ، تتحدثان كما لو أنكما تعرفان بعضكما من قبل ! تذكّرا أنني أنا السبب في لقائكما ، و إن حدث شيءٌ في المستقبل فلي الفضل في ذلك .
قالت سلوى بخجل :
– توقفي ، ما هذا الكلام ؟ 
فيما ضحك ماهر ملء شدقيه .. ضحك كما لم يضحك من قبل ، فالطريق بدا واضحاً أمامه ، و سيسير فيه حتى يبلغ مراده ، و عندها ، سينشر قصة رحلته في كوكب جونيم .. قصة الضيف القادم بلا ميعاد .

 

تاريخ النشر : 2018-05-27

نوار

سوريا
guest
45 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى