أدب الرعب والعام

جـرح المـاضي

بقلم : وفاء سليمان – الجزائر

جـرح المـاضي
كانت آية أحد آيات الجمال و بداء على محياها السرور،

 غدر به الزمان وأهلكه جفاء الحياة و تحاملها المفرط عليه ، فحطمت أحلامه وأحرقت آماله لتستحيل رماداً نُسف مع أول هبة ريح ، تبعثرت كلماته هنا وهناك فلجأ إلى عالمه الخاص عل وجع قلبه يخف و يستشعر راحة مبعثها الوحدة و السكون و ذلك الصوت الذي يستهويه الصمت المطبق.

و ها هو الأن جالس ليلاً على جذع شجرة جاف تشبثت جذوره بالأرض وأبت أن تنقطع ، فيما أعجزه كبرياؤه عن وصل جذور استأصلها بيده.

كان ذلك أمام كوخه الخشبي البسيط الواقع على سفح جبل غير بعيد عن إحدى القرى التي كانت يوماً ما مسقطاً لرأسه ، يحيك ثوب العزلة ويتغنى بترانيم على أطلالِ ماض سبق وأن أتعبه وهد كيانه ، تراءت له لوحاته القاتمة كأشباح بعد أن حاول دفنها داخل مقابر بأعماق ذاكرته ، لفحت وجهه نسمات هواء جافة وباردة فانكمش على نفسه و راح غارقاً بأفكاره في سنوات مضت جعلت منه شبه إنسان و أثخنته الجراح وأرهقه الألم.

قبل سنوات.

«القطيعة»

كان شاباً يافعاً تتقاذفه أمواج الحياة المتلاطمة هنا وهناك ، يعمل يوماً ويستسلم لكابوس البطالة أياماً أخرى ، يقضي ساعات يومه الطويلة إما بالنوم أو ممارسة هوايته بتسلق الجبال المحيطة بقريته ، واستكشاف كهوفها والسير بين تقاطعاتها ، فبعد أن قست عليه الأيام وتكالبت على عائلته التي عانت الأمرين من ضيق الحال وضنك المعيشة ترك مقاعد الدراسة وقرر العمل ليمد يد العون لوالدٍ قصم ظهره موت بكره وقرة عينه. ، لا زال يتذكر اليوم الذي قضى فيه أخاه الشاب “عمر” نحبه بعد مرض عضال ألم به ، ولم يجد الطواف به بين المستشفيات شيئاً ، لأن مرضه كان نادراً ويستلزم سفره إلى الخارج ، فتوفي تاركاً والده ينشج فقره وحظ أبنه العاثر.

لم يعد جو القرية ولا الهموم المتراكمة على عائلته يلائمه ، فأخذ إذن والده بالسفر إلى المدينة عله يجد عملاً مناسباً يساعده به ويفتح له آفاقاً جديدة ، لم يكن الأخير متحمسا جداً لفكرة أن يبتعد ، على الرغم من أن القرية لا تبعد كثيراً عن المدينة ، ولكن هاجس فقدان أبنائه واحداً تلو الآخر كان قد سيطر عليه وأضطر أخيراً للنزول عند رغبته بعدما علِم أنه سيقيم لدى جدته لأمه ، والتي أضحت وحيدة بعد أن رحل أخر أبناءها عنها و أستقل بعيداً مع زوجته وأولاده.

غادر عمار قريته يحذوه الأمل بغد أفضل ، وطاب له المقام مع جدته وأعتنى بها واستعان ببعض معارفها لإيجاد عمل بأحد مصانع النسيج القريبة ، كان العمل متعباً وشاقا ، فدخل في جو الروتين اليومي و لكن ذلك لم يثبط من عزيمته ، فكان يعمل بجد ويرسل لوالده معظم أجره ، لم يشتك ولم يكل ، حتى جاء اليوم الذي أفاق فيه على فاجعة وفاة جدته ، كان قد أمضى سنتين معها يؤنس وحدتها ويلبي مطالبها ويسهر ليلاً على حكاياتها الجميلة التي ترويها من أيام الزمن الجميل.

بعد فترة الحداد اكتشف أخواله أن المنزل القديم والأرض التي حوله قد سجلتها الجدة بأسم حفيدها قبل وفاتها ، الأمر الذي أثار حنقهم ، فطلبوا منه إعادتها فأبى وأنتهى الأمر بالقطيعة ، لم يكن يهمه من أمرهم شيئاً فقد كانت مشاعره مزيجاً من الحزن لفراقها والبهجة لأنه خطى خطوة كبيرة نحو المستقبل ، فلا ينقصه سوى أن يثابر في العمل ليوفر من دخله ما يستطيع كي يؤسس لبناء أسرة.

راودته فكرة الزواج منذ بضعة أشهر وبالضبط بأحد أيام عطلة نهاية الأسبوع ، يوم رأها تسير على استحياء جانب والدتها ، حيث أن خالاته الثلاث قد اتفقن بالمدة الأخيرة على تخصيص أيام الأسبوع بمعدل يومين لكل واحدة ، تحرص فيهما على الاهتمام بوالدتها ، وهذا بعد أن وصلت لمرحلة العجز عن تأدية أبسط مهامها.

” آية ” كانت إسماً على مسمى ، أصغر أبنة لخالته الكبرى ، لم يرها منذ سنوات أيام كانت طفلة ، عندما جاءت مع والدتها لتقديم واجب العزاء لأخيه ، وها هي الآن تدخل المنزل لأول مرة منذ أن عاش فيه ، أنبهر لجمالها وحياءها وحسن أخلاقها وسرعان ما وقع أسيراً لسحرها فكان يرقب مجيئها كل أسبوع بشغف ويتمنى لو يستطيع مبادلتها أطراف الحديث ، ولكن خجله إلى جانب صرامة العادات هناك حالت دون ذلك ، فكان ينفرد بغرفته دائماً لدى مجيئها أو يخرج من المنزل نهائياً بعد أن يختلس نظرة إليها.

أسرّ بعد فترة لجدته أنه ينوي خطبتها ، ففرحت كثيراً لذلك وباركته وقدمت له المنزل كهدية لهما ، رفضها لمَا قد يجر عليه ذلك من مشاكل ، ولكنها ألحت عليه وأخبرته أنه من يستحقه ، فأذعن لها بفرح خفي خاصة وأنه ينوي الاستقرار في المدينة.

مرت أشهر بعد وفاة جدته ، كان قد جمع مبلغاً معتبراً يمكنه على الأقل من إتمام مراسم الخطبة ، ولكن قبل ذلك كله لابد من السفر إلى القرية والتحدث مع والديه.

سلك “عمار” الطريق الفرعية المؤدية إلى القرية بمحاذاة الجبل ، بعد أن أوقف الباص على مسافة غير ببعيدة عنها ، كان يستمتع برؤية المناظر الطبيعة الخلابة في فصل الربيع ، جال بناظره حول بيوت القرية و راح يحدق إلى التغييرات الكثيرة التي حصلت في غيابه ، واضح أن عددها بدأ يقل لتنشأ مكانها منشآت صناعية مختلفة ، كان بيت أهله المتواضع يقع على أطرافها ، تتقدمه شجرة تين عملاقة ظلّت ثابتة شامخة رغم مرور الزمن عليها ، دق الباب ليتفاجأ بوالده يفتحه ، لم تبد عليه أية ملامح سعادة لرؤيته ، ترك الباب مفتوحا ثم سار خطوات إلى داخل الغرفة و أعتدل جالساً أمام مائدة صغيرة ليصب لنفسه كأساً من الشاي.

-أرى أنك قد عدت أخيراً ، سأله بنبرة جافية.

-أخذت بضعة أيام كإجازة ، رد عمار بعد أن انحنى ليقبل يد والده ثم التفت حوله وقال: أين الجميع؟.

-ذهبوا لحضور زفاف أبن أحد الجيران ، لم تقل لي ما الذي أتى بك ؟ لم نرك منذ عزاء جدتك حتى كدنا أن ننسى ملامحك.

جلس على إحدى البُسط جانب أبيه وأجاب:

كنت مشغولاً جداً ، فأنا أعمل عملاً إضافياً مساءً بعد انتهاء دوامي بالمصنع ، ولا أجد غير يوم العطلة لأرتاح فيه.

لاحظ بأن والده غير مهتم لكلامه فأردف قائلاً بحماس: ولكنني أتصل أحياناً ، وأرسل لك ما أستطيع توفيره.

التفت إليه والده لدى سماعه الجملة الأخيرة وصاح بغضب: لسنا بحاجة إلى مالك ، ثم هل أرسلتك إلى المدينة لتستولي على أملاك غيرك؟ اسمع ، صحيح أننا فقراء ولكن كرامتنا تعلو فوق كل شيء ، أخوالك غاضبون جداً حتى أنهم قاطعوا والدتك ، و يريدون أن يسترجعوا منزل والدهم ، هذا حقهم.

بهت عمار قليلاً وهو يحاول استيعاب ما سمعه تواً من والده ، هل حدث كل هذا دون علمه ؟ فقال محاولاً التوضيح:

-أخوالي مجرد أوغاد جاحدين تركوا أمهم عجوزاً لتصارع الحياة آخر أيام حياتها ، ولم يسألوا عنها ولا عن صحتها ، لولا معاش جدي التقاعدي ومساعدتي لها لماتت جوعاً ، ثم هل لذلك المنزل المتهالك قيمة أمام ما يملكون؟! ، ذلك حقي أنا ، جدي أورثها إياه و جدتي قدمته لي هدية لزواجي ولا حجر لأحد فيه.

– إذن فأنت تنوي الاستقرار هناك والزواج أيضاً ؟.

– من بعد إذنك طبعاً.

– ولكنني غير موافق ، ستتنازل عن المنزل لأصحابه وترجع إلى القرية ، فُتحت عدة مصانع هنا و ستجد عملاً أخر هذا مؤكد.

لم يتمالك عمار نفسه وهو يستمع لأوامر والده فاندفع قائلاً بلا وعي : عمار إفعل ، عمار لا تفعل ، تركت الدراسة رغم تفوقي لأساعدك ، و لا زلت إلى الأن أتحسر على ذلك ، لم تهتم يوماً لما أريد ، أردتني نسخة من عمر البار المطيع ، أنا لستُ هو ، عمر مات ، عمر أنتهى منذ زمن ، تقبل حقيقة ذلك ، الفقر قتله.

وقبل أن ينهي كلامه لم يشعر إلا بوالده يصفعه بقوة ويصيح به قائلاً: أخرج من منزلي أيها العاق ، لا أريد رؤية وجهك ثانية.

استفز كلامه عمار فأخذ حقيبته و أتجه على عجلة صوب الباب حيث وجد أمه وأختيه واقفات خلفه والدموع تسيل على وجوههن.

سامحيني ، قالها لوالدته بصوت خافت وقبل رأسها ثم دلف منه يتبعه صراخ أخيه الأصغر الذي كان قادماً صوب المنزل : عمار…عمار…عمار…

لكنه تجاهله وانطلق عائدا من حيث أتى ، استقل الباص مساءً وجلس جانب النافذة يتأمل منظر غروب الشمس خلف الأفق ، يفكر بكل ما سبق ، لن يسمح لأحلامه أن تتلاشى وسيقمع أي إحساس قد يختلجه بالذنب ، ردد كثيراً : خسرت الكثير ولن أخسر المزيد.

«الزواج»

أمام المرآة انعكست صورة لشاب بمنتصف العشرينيات يرتدي طقماً رسمياً بعد أن سرح شعره الأسود بعناية ، كانت عيناه الواسعتين تشعان عزيمة و إصراراً ، وسمرة وجهه توحي بالثقة ، إنه على بُعد خطوات من تحقيق حلم لطالما انتظره.

بدأ اللّيل يرخي سدوله وقت سار ببطء تملأ رئتيه أنفاسه الهادئة ، يتأمل منظر النجوم المتناثرة حول القمر في السماء ، أعاد هذا المنظر شريط ذكرياته إلى الوراء ، تراءى له خيال أخيه عمر قبل زمن طويل من وفاته مستلقيا إلى جانبه فوق سطح بيتهم في أيام الصيف الحارة ، يعدد له النجوم والكواكب والأبراج ويذكر أسماءها وصفاتها:

– أرأيت تلك نجمة الدب الأكبر و تلك تُعرف بالدب الأصغر.

هتف عمار بمرح: إذاً ذلك أنت والثاني أنا.

ضحك “عمر” و التفت إلى السماء قائلا بنبرة حالمة: حلمي أن أغدو عالم فلك.

ارتسمت على ملامح عمار ابتسامة ماكرة وقال: أحلامي أبسط بكثير ، وأخرج من جيبه ورقة قدمها لأخيه واسترسل: إنه سر لا أحد غيرك يعرف به.

– لم أرى شيئاً ،الظلام حالك ، أنتظر لحظة.

أشعل عمر عود كبريت ليتبين ماهية ما في الورقة ، وتملكته دهشة عظيمة لما رآه.

قطع عمار حبل ذكرياته و نظر إلى ساعة هاتفه ثم حدث نفسه: لا يزال على الموعد نصف ساعة والمكان ليس بعيداً من هنا.

جلس أمام طاولة في أقرب مقهى ثم طلب فنجاناً من القهوة ، راودته أحاسيس من الخوف والتردد ، وظل على ذلك لبرهة قبل أن يسخر من نفسه ويستجمع شجاعته ردد قائلاً : الغد سيكون مختلفاً.

داخل منزل خالته جلس عمار بالقاعة الرئيسية يحدق إليه كل من خالته و زوجها وأبنهم الأكبر، أحس بالتوتر وتشتت تفكيره ولم يقوى على الكلام ، لاحظت أم سعيد ذلك فتحدثت قائلة: أشرب الشاي يا بني سيبرد.

-يا إلهي ! وجهك مصفر و شاحب ، هل أنت بخير؟ قال سعيد مازحاً.

نظر إليه عمار ببلاهة وأجاب: ها..

انفجر الجميع ضاحكين مم بدد جو التوتر السائد ، فالتفت عمار إلى أبي سعيد وقال: أسمع يا عماه ، أنت تعرفني جيداً و تعلم عني كل شيء ، لم أكن يوماً فتى عاق ولن أكون ، ولكن في نفس الوقت لي الحق أن أختار الحياة التي تناسبني ،أنا لم أخطأ إذ قبلت بعطية جدتي ولا في أنني أنوي الاستقرار هنا ،خالاتي جميعهن يدركن مدى الظلم الذي ألحقه أخوالي بهن و بجدتي ، ووالدي يريد مني مكافأتهم على ذلك!

شعر بجفاف حلقه فشرب جرعة ماء وهدئ قليلاً قبل أن يكمل : لقد جئت لأطلب يد أبنتك “آية” زوجة لي ، فهل أنت موافق؟.

أجابت خالته بهدوء : تحدثت مع والدتك بالموضوع ، فرحت لذلك ولكنها قالت : أن والدك غاضب منك كثيراً، كيف سيتم الزواج دون رضاه؟.

– سينصلح الحال مع الأيام فالزمن كفيل بأن يداوي جراح الجميع.

أجاب عمار متنهداً ثم ألتفت لأبي سعيد الذي قال: لست معترضاً عليك ولكن…

نطقت أم سعيد قائلة: وافق يا أبا سعيد لعل الفرح يكون بادرة للصلح.

وتم عقد القران بعد ذلك بشهرين ، في حفل بسيط لم يحضره إلا القليل من الأهل والأقارب ،كانت “آية” فيه أحد آيات الجمال و بداء على محياها السرور، و راحت تتذوق فرحتها بصمت جانب “عمار” الذي لم يصدق أن السعادة تطرق بابه وأن أحلامه تتحقق أمام ناظريه ، ليلتها أعطى وعداً على نفسه بأن يسعى ليكون سعيداً دائماً.

بعد أشهر..

«الأحلام»

كانت آية فتاة ذكية على الرغم من أنها لم تكمل تعليمها الجامعي شأنها شأن أخواتها بسبب الظروف المادية ، ولكنها عوضاً عن ذلك تعلمت الخياطة بأحد مراكز التكوين وغدت من أشهر خياطات المنطقة ، واستمرت بالعمل بعد الزواج ، عملت وعمار بجهد كبير وأعادوا ترميم جزء كبير من المنزل وقرروا توسيعه وبناء حديقة خلفه ، كانت تعرف كيف تدبر الأمور بحنكة وتتكيف مع الظروف بقناعة ، خططت كثيراً لتصلح بينه وبين أهله ولكن في كل مرة تبوء مخططاتها بالفشل ، فعمار رغم خصاله الطيبة عنيد ولا ينسى بسهولة.

ذات صباح فيما كانت تنظف سقيفة الغرفة ، وهو مكان لم تقربه منذ زفافها ، لفت نظرها صندوق خشبي قديم متوسط الحجم ، فتحته فوجدت العديد من الدفاتر مكدسة فوق بعضهم البعض ، فتحت الواحد تلو الآخر و راحت تتفحص محتوياتهم ،همست بدهشة : غير معقول !.

مساءً لدى عودة عمار من العمل ، فوجئ بالصندوق الخشبي على طاولة غرفة الإستقبال ، والدفاتر منتشرة حوله ، وقبل أن ينبس ببنت شفة علا صوت آية :

-عمار ، ما هذا؟.

-من أين أتيتِ بهم ؟.

-أنت تعرف من أين ، لماذا أردت أن تواريهم عني؟

-في الواقع لم يرهم احد من قبل ، ثم أسر في نفسه بحزن : إلا عمر.

– لماذا لم تخبرني أنك رسام بارع ، يا إلهي ألا تعلم حجم موهبتك ؟ إنك نابغة.

جلس على أحد الكراسي ثم فتح أحد الدفاتر وتحدث ساخراً: و بماذا سأستفيد من هذه الخربشات ، هل ستعيد عمر ؟ أم أيام حياتي الضائعة ، أم ستطعمنا خبزاً ؟ أنسي أمرها وأتلفيها.

قاطعته آية بعد أن مضت بسرعة ناحية الدفاتر

– أنت تمزح ، لن أفعل ذلك أبداً ، ثم جمعتهم و وضعتهم في الصندوق وأضافت: أترك الأمر لي فلدي فكرة مذهلة.

بعد أيام تلقى عمار الخبر غير مصدق ، قالت آية وعيناها تشع سعادة: كانت لي صديقة بالثانوية ، والدها يعمل مديراً لإحدى الصحف الوطنية ، طلبت منها أن تعرض رسوماتك عليه ، فأعجب كثيرا بها وقرر تعيينك كرسام كاريكاتير بالجريدة ، بعد أن تأخذ دورة تدريبية بسيطة.

-هل أنت جادة؟.

-ألا تدرك أنك بيكاسو عصرك ؟ أجابت ضاحكة واسترسلت: عندما ينتشر أسمك ويلمع بين الناس ، سترسم الكثير من اللوحات وتفتتح معرضاً باسمك وتغدو رساماً مشهوراً ، صمتت قليلاً و أردفت : لكن عدني أولاً.

أبتسم عمار لخيالها الجامح وأحلامها الكبيرة وقال مازحاً:

-اطمئني لن أتزوج ثانية.

ضحكت ساخرة وأكملت بجدية: لست أمزح ، عليك أن تعدني أننا سنذهب سوياً إلى القرية بعد أن يتم كل ذلك لمصالحة والدك ، اتصلت بخالتي منذ فترة ، المسكينة حالها لا يسر.

– ولكنني أرسل لها كل شهر المبلغ المعتاد دون علم والدي؟

– ليس المال السبب ، إنها مستاءة منك ومشتاقة إليك ، حتى إنك لم تحضر زواج أختيك ، عمار بصراحة أنت تبالغ ، ماعليك سوى طلب الرضى من والدك وتنتهي المشكلة.

– ولكن..

– لا تقل شيئاً ، سنذهب وكفى.

«اللعنة»

-تعال معي..

-أتمنى ذلك،ولكن لا أستطيع..

-سنكون سعداء سويا..

-لا أريد.

-هاتِ يدك.

-لا..لا أبتعد عني..اتركني..عمر…عمر..أتركني.

-عمار..عمار..صرخت بقوة:عـــمـــار.

أفاق عمار على صوت آية ، أحس بأنفاسه تتقطع و راح العرق يتصبب على جسمه بغزارة ، فأعطته كأس ماء تجرعه بسرعة ، أمسكت بيده وتمتمت ببضع آيات ثم قالت بلطف:

-اهدأ، إنه مجرد كابوس.

– كابوس لعين يلاحقني منذ أشهر ، منذ ذلك اليوم المنحوس.

-لأنك لا تزال تفكر فيه ،عليك أن تنسى ، عد إلى نومك لديك عمل صباحاً.

-هل أنتما بخير؟

ردت مبتسمة : بأفضل حال ، نم الآن.

استلقت آية ثم وضعت يدها على بطنها لتتحسس أن صغيرها يتحرك ، كان الشعور بالذنب يأكلها لأنها من أرغمت زوجها على الذهاب لمصالحة والده ، ولم تكن تدرك أنها فتحت عليه أبواب الشقاء والتعاسة ، لم تستوعب ما حصل ساعتها أمام عينيها ، طرده والده شر طردة بل ليته اكتفى بذلك ، راح ينزل عليه وابلاً من اللعنات اللامتناهية ، ثم أردفها بجملة لا يزال صداها يتردد داخل أذنها: كنت أتمنى لو لقيت حتفك عوضاً عن عمر ، كنت سأكون سعيداً للغاية بأنني تخلصت من ابن عاق مثلك.

بعد أيام قليلة فاجأها المخاض مبكراً ، كانت لم تكمل الشهر الثامن حتى أسرع بها زوجها إلى المشفى الخاص الذي حجز فيه منذ أشهر ثم اتصل بعائلتها ، انتظروا كثيراً أمام قسم الولادة إلى أن خرجت ممرضة وقالت: مبارك ، إنه ولد.

فرح الجميع ما عدى عمار الذي لمس بالنبرة التي تحدثت بها الممرضة شيئاً مخيفاً:

– وماذا عن زوجتي ؟!

ارتبكت قليلاً ثم أجابت: للأسف إنها تعاني من نزيف حاد ، المشكلة أنه لا يتوقف، وهناك هبوط كبير في الضغط ، صدقني نحن نعمل ما بوسعنا لإنقاذها.

شهقت أم سعيد وهوت باكية على الأرض فراح الآخرون يشدون من أزرها ، أما عمار فتمالك نفسه وقال بسرعة و ثِقة:

-يمكنكم أن تستدعوا أفضل الأطباء ، لا تكترثوا للمال فهو موجود ، يمكنني حتى أن أسافر بها إلى الخارج ، المهم أن تبقى على قيد الحياة.

وقبل أن يكمل كلامه لاحظ ممرضة ثانية تخرج من غرفة التوليد و قالت بأسى: البقاء لله.

شلته الصدمة وهوى مغشياً عليه.

مضت أيام الجنازة والعزاء ، بعد أن ووريت جثة “آية” التراب ، محملة بروح “عمار” التي دُفنت معها وأصبح مجرد جثة حية ، شبح إنسان ملقى بإحدى زوايا منزله المظلمة ، تحيط به لوحات من تلك التي رسمها لزوجته ، يتلمس أثاراً من تلك المرأة التي قضى معها أيام سعادة لا توصف، لم يمر يوم دون أن يبكيها، ولم تنفع كل المواساة لإخراجه من حالة اليأس التي تملكته ، وفجأة فيم كان يتأمل وجه “آية” الملائكي الذي خططه بيده ، مر على ذهنه سريعاً صورة لشخص لمحه منذ أيام بعزاءها ، لكنه لم يأبه به وقتها ، فانتفض من مكانه بملامح يستطير منها الشيطان فزعاً.

-أظنك بمنتهى السعادة الآن.

التفت أبو عمر ليجد أبنه عمار على باب الغرفة، بوجه شاحب ولحية كثيفة وملابس متسخة ، كان كالأشباح حتى أنه تعجب كيف استطاع أن يصل إلى لقرية بهذه الحال  ،رثى لحاله وقال بحزن:

-عظم اللّه أجرك يا بني ، إنه قضاء وقدر ، أنت مؤمن و عليك تقبل الأمر ، كلنا على هذا الطريق.

راح عمار يقهقه كالمجنون وتملكته هيسيتيرياً قوية ، وصرخ به قائلاً: تقتل القتيل وتمشي بجنازته ، أنت سبب موتها ، أنت من قتل زوجتي ، أيها المجرم ، سلطت علي لعنات الدنيا بأسرها فقط لأنك رأيتني ناجحاً و سعيداً بحياتي ، استكثرتها علي وألمك ذلك ، أعلم ، أردت حياة كتلك لعمر وليس أنا ، أردت الانتقام مني ، عجباً ! تؤمن بالقضاء والقدر ولم تتقبل موت عمر حتى ! بل تمنيتَ لو كنت أنا مكانه ، أنت مجرم و لا تنفع لأن تكون أبا.

-عمار ، كفى !

صاحت والدته من خلفه وهي تحمل بيدها طفلاً صغيراً ، التفت وراءه فعرف أبنه على الفور ، سحبه من يدها بقوة وأكمل صائحاً:

– لا دخل لأحد بحياتي بعد اليوم ، لا أسرة لدي ، أعلنت براءتي منكم جميعاً و خاصة أنت.

و رمق والده الذي ألجمه الصمت بنظرة حقد وخرج من المنزل.

«العزلة»

أولى عمار العناية بولده لخالته أم سعيد ، لم يكن يكترث له كثيراً ، حتى إنه لم يطلق عليه أسماً، استقال من الجريدة التي كان يعمل بها ، وجمع جميع لوحاته التي كان ينوي أن يفتتح بها معرضه الأول وخبأها في سقيفة غرفة نومه ، عاد للعمل بمصنع النسيج القديم ، ليس لأجل شيء سوى أنه أراد أن يدفن ما تبقى منه بالعمل الشاق  ،اعتزل العالم بأسره لسنوات ، أغلق منزله وقلبه عن الجميع وراح يقضي أيام عطله بكوخ الجبل الذي بناه في نفس المكان الذي أرادته “آية” بيتا صيفيا من قبل.

– عمار..عمار.

– آية ، أنتِ على قيد الحياة !

– إنه مجرد حلم يا عزيزي ، كل ليلة تسألني نفس السؤال.

– ربما تكون الإجابة مختلفة.

– الموتى لا يعودون للحياة يا عمار ، يجب أن تقتنع بذلك.

– لو تقبل والدي بذلك لجنبنا الكثير من العذاب.

– أين ابننا يا عمار؟

– تعلمين ، عند والدتك.

– أنت تظلمه يا عزيزي كما ظلمت أباك قبله ، لا تغرك المظاهر ولا الكلمات الجافية ، أخرج من برجك العاجي الذي شيدته حول نفسك حتى تنكشف الحقائق أمامك ، والدك مظلوم كما ظلمت أنت ، الحياة ليست عادلة ، ليست عادلة.

بدأ الصوت يخف ويتراجع حتى تلاشى تماماً ، أحس ببرودة الليل تنخر عظامه ، فقام من غفوته من فوق جذع الشجرة واتجه إلى كوخه لينام ، كانت تلك المرة المائة الذي يرى فيها ذلك الحلم.

– تُرى ، ماذا تقصد ؟

«كذبة»

طاردت الحقيقة المرة عمار لمدة من الزمن ، تفشى الندم داخله وانتفض قلبه من الأسى والمرارة ، و اشتعل الغضب داخل أعماقه ، إن آخر ما كان يتصور في حياته أن له يداً بمقتل أخيه ، ما زالت صورة والده الذي أنهكه الكِبر وجار عليه الدهر تمثل أمامه وهو يقص عليه حكايات كان يلفها الكذب والخداع.

– لم يمت عمر مريضاً ، بل مات وهو يصارع آلاماً وأوجاعاً نتيجة سقوطه عن سطح المنزل.

-ماذا و كيف؟

-كنتَ صغيراً لم تتجاوز العاشرة من العمر ، لاحظنا أنك تمشي أثناء نومك دون أن تعي ذلك ، لم نكترث للأمر كثيراً ، إلى أن جاء يوم الفاجعة ، أخبرنا عمر وهو يحتضر أنك من دفعه إلى الأسفل وأنت نائم فجراً أثناء قيامه للصلاة ، فسقط مباشرة فوق الجرار الذي استأجرته وقتها لأحرث به الأرض ، و قد أخبرني بهذا السر بعد أن جعلنا نقسم على أن لا نخبرك بذلك.

ثم استرسل والده وعيناه مُغرورِقتان بالدموع:

ماذا كان علي أن أفعل ، هل أخسر كلاكما ؟ أخبرتك أنه كان مريضاً ودفنت وجعي بصدري ، ثم عرضتك على الأطباء لتُشفى ، ومع مرور السنوات تصاعد الغضب بداخلي ولم أستطع كظم غيظي ، ولكن رغم كل ما قلت وفعلت لم أضمر لك السوء يوماً ، كانت مجرد كلمات جوفاء لم تنبع من قلبي بل من مدى حزني وألمي ، أنت فلذة كبدي و لطالما تمنيت لك السعادة والنجاح ، سامحني يا بني ، لقد أسأت التصرف.

مذهولا مما سمعه ترك عمار منزل والده وراح يمشي هائماً على وجهه في القرية ، صعد أعلى قمة جبلٍ عال ، فبعد أن انهالت عليه الاعترافات والصدمات عجز عن تحمل الثقل الهائل لذلك الماضي البائد في روحه.

– عمر ،هل تعلم أنني أستطيع القفز من فوق السطح دون أن أتأذى؟

-أعلم أنك تستطيع ، لكن إياك وأن تجرب الأمر خطر.

– دعك من هذا الأرض ليست بعيدة كثيراً، ما رأيك برهان ؟

-أي رهان؟.

-غداً من يقفز أولاً يكون الفائز ويلبي طلباً للآخر.

-لن أفعل ، وأنا أحذرك ثانية ، إن فعلتها سأخبر والدي.

أيعقل أن الواقع امتزج بالأحلام؟ ، كيف استطاع أن يفعل ذلك بأخيه ولو كان دون إدراك ، كان يحبه كثيراً رغم بعض الغيرة التي تتسلل إلى قلبه كلما لاحظ عناية ودلالاً من أبيه له ، ولكن كان هراءً صبيانياً.

صاح بقوة : يا إلهي ! ماذا فعلت؟

والآن…

مجروحا بسكاكين اللوعة و العذاب ، محاولاً نفض غبار تلك الذكريات المؤلمة ، قرر أن يقف على قدميه من جديد ، الماضي لن يرجع وعلينا السير قدماً ، لن نستطيع تغيير شيء فات وانتهى ، تلك كانت آخر رسائل “آية” التي اجتاحت مناماته بالفترة الأخيرة.

يداً بيد مع “عمر” الصغير واقفاً أمام مبنى راقٍ بقلب المدينة ، خُطت على يافطة تعلوه بالخط العريض “معرض فني للرسام عمار الأمين ” أدرك أن لا شيء يجعله يستعيد ما خسره ، ولكن بالمقابل هناك من يستحق أن نعيش لأجله.

فإن أحلك ساعات اللّيل هي التي تسبق طلوع الفجر.

النهاية ….

تاريخ النشر : 2018-07-27

وفاء

الجزائر
guest
56 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى