أدب الرعب والعام

قتال الشيطان

بقلم : أبو عيسى – مكة
للتواصل : [email protected]

فتحت باب الغرفة فإذا بالصحراء أمامي لا تنتهي..

الخوف يتدفق من داخلك .. كل الخوف كذلك …
مخطئ إن ظننتَ أن الخوف يتسرب إلى نفسك من الخارج ..
الخوف ثوب ثقيل ..
حين تتدثر به يُعمي عينك فتصير أعمى ولو كنت مبصرا ..
عندما يصير ابتلاع ريقك أمرا شاقا .. واستنشاق الهواء عسيرا .. ويدق قلبك حتى يسمعه من حولك فاعلم أنك خائف ..

اعلم أن الخوف خرح من داخلك فَخِفْتَ مما تراه أمامك .. ألا ترى أن غيرك يرى ما تراه ولا يخاف؟!

لكن ثَم شيء أكبر من الخوف .. نعم .. لأنه بذرة الخوف ، وماءه الذي يسقيه ، وتُرْبَتُه التي تحتضنه ، وشهوته التي تُلقِّحه … تعالَ فإني مخبرك !!

حكيم!

هذا اسمي وصفتي معي..

كان جدي لأبي هو الذي تولى تسميتي ، واختار لي هذا الاسم عمدا لأنه أصر على احتضاني بعد ولادتي بقليل ليعلمني الحكمة كي أخرج رجلا حكيما يملأ العين!

وقد كان!

صدقني.. إن جدي كان مَحْشُوَّا بالحكمة!
لكنه نسي شيئا هاما جدا فكانت قصتي هذه!

حكيم بن فهيم الحكيم!

هذا اسمي.. وهو أمر لم يأتِ عبثا..

مات أبي قبل أُولد بأيام قليلة.. قد جبر ربي كسري بجبيرة اسمها *الحكيم*.. جدي لأبي.. الحكيم!

لست هنا لأقص عليك كيف اشتد عودي في حجره.. لا.. أنا هنا لأخبركم بالشيء الذي نسي أن يقوله لي قبل موته!

حين هَجَر جِفْني العلوي أخاه في اليوم الذي تبدلت فيه حياتي لم أجد شيئا غير عادي للوهلة الأولى إلا أن الحرارة المرتفعة أوشكت على سلخ جلدي فتعجبت إذ أعي جيدا أنني حين أويت إلى فراشي كنا في فصل الشتاء!

التفت عن يساري فإذا امرأتي نائمة.. وهذا شيء يريح قلبي كثيرا..

لكن وقفت كل شعرة في جسدي عندما أَدَرتُ وجهي إلى الجهة الأخرى!
لن تلومني إذا تعجبتُ من أنّ نافذة غرفني تطل على الصحراء!!
إن بيتي وسط المدينة!

اتكأت على ذراعي الأيمن وقمت رويدا رويدا وأنا مشدوه!

انفتح فمي ببلاهة.. تساقطت قطرة عرق حارة من جبهتي فانزلقت على عيني ثم هَوَت!
دعِ العرق فإن أمره هين!

دنوت من النافذة دون أن يطرف جفني مرة واحدة!
لفح وجهي سَمُومُ صحراءَ حارقٌ!… إنها الصحراء حقا!

استدرت ببطء أنظر إلى *وفاء* لعلها تقول لي إنها تمزح معي بطريقة أو بأخرى فوجدتها غارقة في بئر النعاس..
من وفاء؟!

زوجتي طبعا!.. أخبرتك أنها كانت نائمة بجواري!

عدت أستدير فوجدت الصحراء كما هي!
قلت لنفسي هل أحلم؟!

يبدو أن هذا الأسد ليس جائعا لأنه لم يكترث حين أبصرني!
نعم.. تحت بيتي أسد،..

أنا حكيم!.. لا يبطئ عقلي في فهم شيء أبدا.. أقف اليوم حائرا..

أكثر ما تعجبت منه أنني أسكن الطابق الرابع لكن بيتي الآن في الطابق الأرضي!
جَررْتُ قدمي جرا ثقيلا وعدت إلى السرير..

وفاء! استيقظي!
لم ترد!

وضعت يدي على صدرها.. قلبها ينبض.. هي حية.. وفااااء! .. صرخت فيها وهززتها هزا عنيفا فلم تستيقظ!..
تحت بيتنا الذي لم يكن في الصحراء أسد يا وفاء!

سأخرج! .. هذا ما عزمت عليه .

لا بد لي من الفهم فأنا حكيم طيلة عمري… وضعت في رأسي كل احتمال بينما أحاول خلع جذوري من السرير لأقوم!
كأنني شجرة تحاول هجر أرضها!.. إن رأسي ثقيلة وبدني لا يطاوعني!
ازدادت حبات العرق واتصل بعضها ببعض وأسرعت تسابق بعضها إلى الأرض!
دعها!

أخيرا قمت..

فتحت باب الغرفة فإذا بالصحراء أمامي لا تنتهي.. يبدو أننا وقت الظهر لأن الشمس في كبد السماء…
أخرجت قدمي ثم صرخت وأدخلتها مرة أخرى… الرمال!
ملتهبة.. كأنها ستذوب!

أين الحذاء؟ … حشرت قدمي فيه كيفما اتفق لي ثم خرجت..

لن أطيل عليك في وصف ما وجدت مع أنني أحب أن أخبرك … نظرت عن يميني فرأيت بابا.. هذا جيد.. لا بد للباب من بيت ولا بد لكل بيت معمور من عامر… إذن فهنا بشر..

طرقت الباب ثم عدت إلى الخلف.. انتظرت.. العرق.. الشمس.. الحرارة… رأسي تزداد ثقلا.. أغضمت عينا واكتفيت بالأخرى…
طرقت الباب مرة أخرى بقوة.. تحرك قفل الباب… أصدر الباب صوتا مزعجا كأنه لم يفتح منذ سنة كاملة!

خرج إليّ رجل جِلْفٌ عبوس!… ماذا تريد؟
أجبته بسؤال أين نحن؟
ضحك!
ألا تعرف؟

هززت رأسي نافيا ذلك فاستدار عائدا إلى بيته!
صرخت فيه.. انتظر!

استدار… لم تفارقه الضحكة الساخرة… يا حكيم! لقد انتظرت هذه الساعة عشر سنوات!.. مرحبا بك في بيتي وأرضي!

لم أفهم شيئا،.. من أنت؟

قال لي:ستعرف حتما! هل ترى هذا الجبل الأصفر؟.. أشار بيده فأَتْبعتُ بصري يده..
نعم.. أراه..
اذهب إليه يا حكيم فهناك دارك وجواب سؤالك…
أغلق الباب في وجهي!

اندفعت نحو الباب كي أحطمه ثم أحطم رأسه الغبي لكن يدي توقفت حين سمعت صوتها!

– لا تصدقه يا أبي!

هنا سَكَنَتْ كل ذرة في بدني إلا عيني!.. اختلط دمعي بالعرق الذي يتصبب… أغمضت عيني ثم فتحتها لأزيح الدموع كي أرى جيدا..
إنها *وردة* ابنتي!
لماذا أبكي؟!

ويحك،… إن وردة ماتت قبل ستة أشهر!

التفت فرأيتها.. ناعمة.. وَضِيئة.. صافية.. صفية! ناديتها!
أقبلتْ تسعى فبَرَكْتُ وتَلَقَفْتُها بين ذراعي وشممت رائحتها.. صفية!

– نعم يا أبي!

– ألم تموتي؟
لم تُجب..

– لا تصدقه يا أبي!

– من هذا يا صفية؟!

فتحتْ شفتها لتجيبني لكنها صرخت حين سمعت زئيره!
الأسد أعني!

وجهت وجهي قِبَل الصوت فرأيته يهرول ناحيتي فوقفت بينه وبين صفية!

حكيم!
حكيم!
الأصوات التي تخرج من البئر تكون ضعيفة ومشوشة!.. هذه معلومة لك..
حكييييييم!
الصوت الآن أقوى.. يبدو أن الذي في البئر يصرخ!

حكيم.. استيقظ!
ضرب الصوت داخلة أذني فاستيقظت أصرخ!

– أين أنا؟

كانت تبكي…

– لماذا كنت تنادي باسم وردة في النوم؟!.. هل رأيتها؟

دموعها،… لا أحب أن أراها تبكي…
كررتْ سؤالها فكررت صمتي!

دَنَتْ مني أكثر وألصقتْ رأسي بصدرها… همستْ:
– لقد كنت تحلم وتصرخ وأنت نائم… لا عليك!… لقد مضى بما فيه من شر!

أخرجت رأسي من حضنها ونظرت إلى النافذة عن يميني!

– هل أفتحها لك؟ سألتني!

هززت رأسي رافضا..
هرولت وأحضرت لي عصيرا كنا قد شربنا منه قبل النوم… سقتني بيدها… هذه المرأة لو لم تكن زوجي لكانت أمي بلا ريب!

– نَمْ!

أغمضت عيني فانهمر الدمع منها فبكتْ معي!

– لماذا تبكي يا حكيم؟ .. ولماذا لا ترد عليّ؟!

– وردة! خرج صوتي مبحوحا متحشرجا!

– رأيتها في المنام؟!.. هل قالت لك شيئا؟!

هنا وقف شعر رأسي لأنني تذكرت الحلم العجيب، ولأنني نظرت إلى قدمي فرأيت الرمال الصفراء الحارة!..
زحفت على بطني وجعلت رأسي موضع قدمي ، وقدمي موضع رأسي… لما رأت وفاء ذلك أفسحت لي المكان متعجبة!

– ماذا تفعل؟
– انظري! ..

مسحت بيدها وغَزَا العجب وجهها .. فكَّرتْ عشر ثواني ثم قالت:
– ربما علق هذا الرمل في قدمك قبل أن تنام!

– وفاء! اغتسلت البارحة!

– الأمر لا يستدعي كل هذا القلق.. قد أكون قد قصرت في تنظيفه.

حكيت لها الحلم كما رأيته فانزعجت وحاولت عبثا أن تخفف عني ثم نصحتني بالعودة إلى النوم.
– كم الساعة؟
– الثالثة!

أرجعت رأسي إلى موضعه وأغمضت عيني .. هذه المرة غلب سلطان النوم جنود الخوف فلم أشعر بشيء..

عندما فتحت عيني شممت رائحة البيض فبيتنا صغير وتصل الرائحة من المطبخ…

في مرآة الحمام رأيت وجهي مُتعَبا .. في عيني نظرة لم أعهدها على نفسي.. وددت لو أنك رأيتها ساعتئذ لأن بعض الأشياء يضيق اللفظ عن وصفها أحيانا …

جلست معها على الفطور لكن لم آكل.. كنت شاردا .. وفاء ذكية.. تعرفني جيدا.. والذكاء في الزوجات قليل.. هي تعرف متى تسأل ومتي تسكت…

رفعت الأطباق فلم أَنْهَها عن ذلك… لما عادت وضعت يدها في شعري ودلكت رأسي حتى أغمضت عيني… هنا تكلمتْ..

– حكيم! .. ألم تقل لي كثيرا إن الأمر الذي يستغلق عليك وتعجزين عن فهمه بعد كثرة تفكير ومشاورةِ عاقلٍ يجب عليك تركه لأنك لم تفهميه إما لأنه ناقص ولم يكتمل بعدُ أو أنه تافه لا يستحق التفكير فيه؟

ابتسمتُ للمرة الأولى منذ رأيت الحلم!

– لا أذكر أنني قلت لك هذا!

رأيت الانزعاج في وجهها!

– حكيم!.. هل أنت بخير حقا؟ .. لم أرك تنسى شيئا من قبل وقد قلت لي هذا كثيرا!

– حقا! .. لا أذكر شيئا لكن لهذا الكلام رائحة مألوفة في عقلي.

سلمت عليها كما يسلم رجل يحب زوجه وخرجت إلى عملي..

لم تنتهِ القصة التي دعوتك لتسمعها!.. في الحقيقة بدأت القصة من هنا!

أعمل في شركة تشتري الحبوب من المزارعين وتطحنها وتبيعها .. شركة ناجحة أسسها صديق قديم اسمه عصام.. بين بيتي وعملي سبع دقائق مشيا ..
خرجت إلى الشارع ورفعت يدي مُسَلِّما على إبراهيم الذي يبيع الفاكهة أمام بيتي على الجهة الأخرى من الطريق .. رد التحية لكنه أشار بيده أَنْ قِفْ ففعلت..
جاء مهرولا وترك المرأة التي كان يزن لها الفاكهة.. حين دنا مني همس في أذني:
منتصف الليل .. نفس المكان .. وجدت لك ما طلبت بعد تعب شديد.. لا تتأخر رجاء..

تركني وانصرف مهرولا كما جاء.. كونه يجد ما طلبت منه يسعدني حقا لكن الذي أحزنني أنني لم أطلب منه شيئا إطلاقا!
كدت أن أُوقفه لأسأله لكنني خشيت أن أتأخر عن عملي وأنا لا أتأخر ثانية واحدة عن موعدٍ ضربته لإنسان..

مررت على حلاقٍ أعرفه في حارتنا .. لا أحلق إلا عنده.. أسعد الله صباحك يا توفيق!
أعرض عني ولم يرد!
هذه صدمة حقيقية.. الرجل يحترمني جدا ويبجلني ، وهو محترم في نفسه ويتصف بالذوق!

لعل سهام الدنيا أصابته بغم أو هم!

عندما دخلت باب الشركة تلقفني سعدٌ.. العامل الذي ينظف لنا الشركة.. أخبرني أن المدير يريدني فورا..

طرقت بابه ثم دخلت فورا.. صديقي القديم المخلص..
حييته بالتحية اللائقة ففعل مثل ذلك لكن لاحظت أنه ليس على عهدي به!

– اجلس!
فعلت ذلك..

تنحنح عصام فعرفت أنه في حرج!

– هل حدث شيء؟ .. تكلم يا رجل فأنا حكيم ولست غريبا عنك!
– أنت تعلم أنك أحب أصحابي إليّ ، ولك قدر كبير عندي لكن يجب أن تراعي أنني رئيسك في العمل أمام الموظفين فقط! ..
تنحنح مرة أخرى ثم أكمل:
لست أعني شيئا مما قد تظن وأنا أعرف أن عقلك يسع عشرات مثلي…

أوقفته بحركة من يدي فسكت،
– ما مناسبة هذا الكلام الآن يا عصام؟

– لأنك تغيبت عن العمل يومين متتابعين دون إذن أو طلب!

– هل ترى أن هذا الوقت يصلح لمزاحك البارد يا عصام؟! .. فعلت كل هذا كي تمزح في مثل هذا الوقت؟!

رأيت دهشة حقيقية غير مفتعلة في وجهه.. الرجل لا يمزح.. تسرب القلق إلى صدري!

– في أي يوم نحن يا حكيم؟

– الاثنين طبعا!
فغر فاه ووضع يده على رأسه! .. سكت قليلا ثم ضحك!
– أنت تمزح معي يا حكيم.. أليس كذلك؟

– لا

عاد العجب إلى وجهه.. حين رأيت ذلك منه اقتَحَمتْ جحافل وجنود القلق قلبي هذه المرة ورفعت عَلَمها!
أخرجت هاتفي ونظرت فيه.. ساعتي التي في يدي .. نعم.. اليوم هو الأربعاء لا الاثنين!

قام عصام وجلس في الكرسي المقابل لي..
– حكيم!.. هل أنت على ما يرام؟

– لا أفهم حقيقةً .. لم أغب عن العمل!

– هل كنت مريضا؟

نفيت ذلك بإشارة من يدي فعاد يقول:
عُد إلى عملك الآن إن كنت تستطيع ذلك أو عد إلى بيتك لترتاح إن أحببت ، وعندما تجد جوابا أخبرني رجاء فأنا صديقك!

خرجت من عنده وقد بدأ القلق في نشر جنوده في قلبي.. غزا كل موضع فيه.. بل استعان بالخوف فمَدَّه بجنود أيضا .. أنا خائف!!

حكيمٌ لا يعرف الخوف أبدا .. هكذا قلت لنفسي!

دخلت مكتبي المشترك .. معي ثلاثة من الموظفين.. حاتم.. نصيف.. رضا

نسيت أن أحييهم جين دخلت فسمعت ضحكتهم!
– ما لك يا حكيم؟.. هذه المرة الأولى التي تدخل دون تحية!

المرة الأولى!.. المرة الأولى!.. كم مرة سأسمع هذه العبارة اليوم؟!
اعتذرت لهم عن ذلك بأن بالي مشغول..

تقدم رضا مني ووضع أمامي كأسا بها قهوة فأخذتها منه… نعم.. أنا بحاجة إليها.. شكرته فابتسم ورجع إلى مكانه..
رضا .. معنا هنا منذ عامين.. لا أحبه.. ولن تحبه إذا عرفته..
بعد عشر دقائق اشتد الصداع حتى أوشك أن يفلق هامتي!
أخبرتهم أنني مريض ثم انصرفت..
سمعت كلامهم وأنا خارج يقولون إنها المرة الأولى التي يرونني فيها على هذه الصورة!..
المرة الأولى!.. المرة الأولى!

لماذا لم تخبرني يا جدي بهذا؟
هل كنت تجهل ذلك؟!!
ما شأن جدي بهذا؟
ستعرف.. لا تعجل..

عدت من نفس الطريق التي سلكتها وأنا ذاهب إلى العمل .. دخلت محل الحلاق..
– كيف أصبحت يا توفيق؟
لم يرد!

– هل حدث لك مكروه؟
– لقد كنت أحترمك احتراما شديدا لكن بعد الذي فعلت أمس لا تكلمني ولا تدخل هنا أبدا!.. انصرف!
– لك هذا وزيادة لكن أخبرني ما الذي حدث؟
دفعني بيده خارج المكان.. اخرج اخرج! ..
هذه المرة الأولى التي يحدث لي مثل هذا!

المرة الأولى!

أمسكت يده وضغطت عليها بشدة فأنا امرؤ رياضي .. تألم فصرخ..
– دع يدي!
– توقف يا مخبول ولا تنس مع من تتكلم! .. أنا حكيم .. إن لم تكن تعرفني فَسَلْ حجارة الأرض هنا تخبرك من أنا!
الحق أن كلامي هز الرجل..
الصداع يشتد!

– كنت أحترمك حقا لكن كيف أحترم إنسانا يطلب مني أن أسمح له أن يعاشر امرأتي معاشرة الأزواج؟!!
– أنا طلبت منك هذا؟! صرخت في وجهه!
فتح فمه ولم يرد..

دخل رجل ومعه صبي لا أعرفهما.. يبدو أنه ولده وسيحلق له.. خرحت من المكان ويدي اليسرى ترتعش..
الأمر ليس هَينا إذن!

لا بد من حل.. ولا بد من فهم ما يحدث كي أجد الحل.. عدم الفهم جهل .. والجهل عَمى فأنا لا أبصر الآن!
لم أرفع بصري عن الأرض حتى بلغت باب بيتي… أخرجت وفاء رأسها من المطبخ عندما دخلت ونظرت إليّ ثم تركت ما بيدها وجاءت مسرعة!
هل وجهي مفزع إلى هذا الحد؟!

– حكيم! .. اقعُد.. ماذا بك؟
– وفاء! .. هل خرجت إلى العمل أمس؟
– عفوا!
– لا أريد تعجبا الآن ولا أسئلة رجاء.. فقط أجيبي!..
– نعم
– ويوم الاثنين؟
– نعم
– متى عدتُ من العمل؟
– في موعدك تماما!
– هل شعرت بشيء غريب يوم الاثنين أو الثلاثاء ؟
– لا!.. انتظر! .. نعم.. كنت قليل الكلام جدا ولا تمزح معي كعادتك لكنني عزوت ذلك إلى كثرة العمل هذه الأيام فهي أيام حصاد القمح فلم أكترث!
– عصام يقول إنني تغيبت يومين عن العمل!

شهقت ووضعت يدها على فمها!
– أين ذهبت إذن عندما خرجت؟

– لا أعرف.. لو عرفت لهدأ بالي.. وفاء! .. الأمر ليس سهلا.. الحلاق يقول إنني طلبت منه أن أعاشر امرأته!

بكتْ
– لا تَبْكِي أرجوك… البكاء لن يفيد الآن يا وفاء!
– حسنا.. هل تشعر بشيء غريب في بدنك؟
– نعم.. صداع شديد يمزقه تمزيقا!.. وخوف في قلبي لم أعهده على نفسي من قبل!
– فلنذهب إلى طبيب فورا!

لا أدري سبب ذلك لكنني ارتعبت حين جاءت على ذكر الطبيب ورفضت ذلك رفضا قاطعا لا يقبل الجدال..
– سأكون على ما يرام.. سأنام الآن لعلي أستيقظ دون علة!
اتكأت على كتفها حتى وصلت إلى السرير وتكفلت هي بنزع ملابسي لأنني نمت بسرعة جدا!

– أبي!
– وردة! تعالي يا سويداء القلب.
قَبَّلْتُ يدها الصغيرة فإذا هي كالثلج..
– يدك باردة يا وردة!!
– أبي! قاوم!
– عفوا!
– أبي! .. أنا لست معك.. أنا ميتة.. اسمعني.. قاوم!
– أقاوم ماذا؟
– نفسك طبعا!
– أقاوم نفسي؟! .. ماذا تقولين يا حبيبتي؟

عاد الأسد يزأر فصرخت وردة .. إنه قادم والزبد يسيل من فمه..
– اهربي يا حبيبتي.

– حكيم!.. استيقظ.. قُم..
استيقظت.. كانت وفاء تبكي وتهزني لأقوم من النوم!
– وردة في خطر يا وفاء!.. أين هي الآن؟

– حكيم! ماذا بك؟!.. وردة ذهبت إلى الذي خلقها.. أمانته واستردها.. ليس لنا إلا التسليم.. ألم تكن تواسيني بهذه الكلمات؟
– ماتت؟!! .. نعم نعم.. تذكرت!
– تذكرت؟!.. هل نسيت أن ابنتنا الوحيدة ماتت؟
– أه! .. الصداع.. سأخرج الآن!
– تخرج!.. لا تتحرك من مكانك.. أنت لا ترى وجهك!

– لدي شيء مهم جدا ولا بد من الخروج.. لن أتأخر.. أرجوك لا تقلقي..
ارتديت ملابسي وخرجت إلى الشارع.. لماذا؟
صدقا لم أكن أعلم سبب ذلك!

هِمْتُ على وجهي في الطرقات .. أوقفني ألم شديد في رِجلي.. أظن أنني مشيت كثيرا..
ظننت وقتها أنني رأيت كل شيء عجيب لكن ما حدث بعدها كان أعجب!

أخبرتك سابقا أنني أسكن الطابق الرابع لو كنت تذكر!
حين دخلت البيت انفتح باب الشقة التي في الطابق الأرضي..
خرجت أمي منها!

وضعت يدي على رأسي من شدة الخجل.. نسيت أمي اليوم ولم أُسلم عليها!.. ولم أشترِ لها طعاما!

– كنت ستصعد دون أن تسأل عني يا حكيم؟
– عذرا يا أمي.. إن الذي حدث لي اليوم لم يكن لي على بال ولم أظن يوما أن يحدث لي في المنام فضلا عن اليقظة!
– ادخل!
دخلت إلى بيتها فشعرت بسكينة.. وزال الصداع! .. أمي! .. وجدت فيها دائما حنانا لم أجده عند جدي فكنت آخذ حنانها وحكمة جدي!

وضعت أمي وجهي بين يديها وقالت لي:
هل تعرف؟ قد يكون ما تبحث عنه أمام عينك ولا تراه
– يا أمي! لا تعاتبيني رجاء!.. أخبرتك أنني نسيت فقط لأنني مريض!

– لستَ مريضا!.. انظر فقط في عيون من حولك تجد الجواب فيها.. لكن اقرأ عيونهم دون أن تظن بهم ظن السوء.. اقرأ العيون يا حكيم فهي تتكلم أكثر من اللسان نفسه!
– هل أكلتِ يا أمي؟
– نعم.. سأنام بعد قليل.. اصعد إلى بيتك ولا تنس ما أخبرتك به.

تركتها وصعدت.. كانت وفاء ستموت خوفا عليّ..
– أين كنت كل هذا يا حكيم؟
مشيت في الطرقات حتى ذهب الصداع .. وجلست معي أمي قليلا قبل أن أصعد..

شهقت!
– وفاء! لا تقولي إنك تغارين من بقائي عند أمي،.. أنت لم تفعلي هذا قط!

تقدمتْ نحوي وسحبتني من يدي حتى أجلستني على الأريكة وجلست ثم وضعت رأسي على صدرها … همست:
– حكيم! اسمعني أرجوك واهدأ

هل تذكر عندما مرضت والدتك وكنتَ تصرخ في الأطباء ليلتها.؟
– نعم
– هل تذكر لماذا كنت تصرخ فيهم؟
حاولت نزع رأسي من صدرها كي أنظر إليها لكن ضغطت برفق على رأسي فطاوعتها..
– نعم.. كان الأطباء في المشفى الخاص يقولون إن من الأفضل أن تبقى هناك وكنت أقول لهم إنهم يتاجرون بالمرضى فقط ولا يقدمون لها دواء نافعا لأنهم لم يعرفوا دواء لمرضها إلى الآن
– صحيح .. وماذا حدث بعدها؟
– أخرجتها من عندهم وماتت بعدها بيومين!

هنا تصلبتُ وتخشب بدني كله ، وشعرت هي بذلك فسَقَتْ دموعها شعري!

أخرجت رأسي من صدرها ونظرت إليها.. فمن هذه التي تحدثت معها قبل قليل؟
– لا أدري!.. أين رأيتها؟
– في بيتها.. في الطابق الأرضي!
– حكيم!.. أنت تعرف أن والدتك كانت تعيش معنا في غرفة وردة وماتت فيها!.. والطابق الأرضي يسكن فيه صاحبك الذي يُدرس اللغة العربية.. لا أذكر اسمه!
– عوني.. نعم.. عوني المدرس!.. صدقتِ.. لكن.. لكن… صدقيني.. كانت هناك… لن أخلط بين أمي وغيرها… وفاء! لست مجنونا!
– كل الناس قد يظنون بك الجنون إلا أنا يا حكيم! .. ما تعلمت الحكمة إلا منك.. عندما تزوجنا كنتُ فتاة صغيرة عديمة الخبرة مع أن أهلي جميعا كانوا يقولون إنني كاملة العقل… أصارحك أنني كنت أصدقهم وأظن أنني خير نساء الدنيا عقلا وفهما! .. حتى نزلتْ سفينة عقلي المزعوم بحرَ عقلك الواسع ، وضربتْ أمواج خبرتك وفطنتك سفينتي المتواضعة فأوشكت على العرق!..
لا زلت أذكر يا حبيبي كيف نصحتني بحلم وصبر ، وبينت لي أن أكثر ما تعلمته في صغري لا يعدو كونه أوهاما وأخطاءً حفظتها من أُناس لا خبرة لهم في الدنيا..

سحبتْ رأسي مرة أخرى إلى صدرها… سكتت قليلا ثم أردفت:
في بداية حياتي معك كنت أتعجب من كلامك ولا أصدقك حين تحكم على إنسان بأنه سيئ ثم يتبين لي صدق كلامك بعد شهور…
لا تقل لي إنك لست مجنونا! لأنني على يقين أن الجنون يتحاشاك! … حكيم!.. لقد أجاد جدك لأبيك عمله معك.. لقد أخرجك حكيما!…
– حبيبي!
– مممم؟
– ماذا قالت لك المرأة؟
– أي امرأة؟
– نسيت؟ .. المرأة التي تشبه والدتك؟
– أه.. قالت لي انظر في عين من حولك واقرأ كلامها فإن العيون تتكلم أكثر من اللسان لكن لا تظن ولا تتهم أحدا… هذا معنى كلامها..
– هذا كلامك يا حبيبي!.. ليس كلام أحد ، ووالدتك لا تجيد قول مثل هذا الكلام،!
– كلامي ؟
– نعم.. قلت لي هذا الكلام مرات كثيرة ، وأخبرتني أن اللسان قد يكذب ويُعينه بقية البدن إلا العين والوجه.. العين تفضح! ألا تذكر شيئا من هذا؟!
– لا!

– لا أُخفيك أن الذي نزل بك أمر شديد لكني على يقين من أنك أشد منه… قاوم يا حكيم!

– وردة! .. هذا كلام وردة!
– هل قالت لك تقاوم من؟
– نفسي!
– لست أفهم!.. رجل أعطاه الله الحكمة التي لديك تكون نفسه عونا له لا عليه فكيف تقاومها؟
– لا أدري!

– قمِ الآن واغتسل لعلك تنام قليلا فإنك لا تنام!!
تركتها واغتسلت وقد هالني شَكْلي في مرآة الحمام.. كنت وسيما جدا.. من هذا؟!..

شربت بعض المرق لئلا تغضب ولم أستطيع لَوْكَ الطعام .. لم تُلِحَّ عليّ… لهذا أحبها وأحترم عقلها… هي تعرف متى تجادل .. متى يكون الإلحاح مفيدا ومجديا .. تعرف متى تسكت…

قطع تفكيري رنين هاتفي فالتقطته… كان هذا إبراهيم الذي يبيع الفاكهة أمام بيتي .. كان يعاتبني على أنني تأخرت عن الموعد وأنه اضطر إلى الانصراف لأن الشرطة قد تراه وتفتش ملابسه وتعثر على ما معه…
هذا شأنه لكن ما دخلي أنا؟.. هكذا سألته في حيرة!

ضرب شيئا بيده عندما قلت له ذلك فكسره من شدة الغضب.. وأخبرني أنني طلبت منه شراء شيء ولا بد من أخذه فهو يخاف السجن!

لا أطيل عليك.. بعد طول جدال أَصَرّ على أن يأتي إلى بيتي.. وقد كان.. ناولني لفافة من قماش عند الباب وانصرف متأففا مني.. كان ينظر لي كأنني مجنون… ولا أنسى أنه تمتم بكلمات كثيرة وهو ينصرف لكن ميزت بعض كلامه.. ما كنت أصدقك أن مثلك يتعاطى هذه الأشياء!

أغلقت الباب فوجدت وفاء تنظر لي وعينها تتهم وتسأل وتخاف وتأمل وتتوسل… كانت عينها تثرثر كثيرا جدا…
فتحت اللفافة أمامها كي تسكت عينها!

ما هذا؟ كان ذلك سؤالا مني ومنها في ذات اللحظة!

– لا أعرف!.. يدعي إبراهيم أنني أمرته بشراء هذا ، وأنا أنفي ذلك بشدة!

في اللفافة قطعة من نبات أصفر لم أميزه… لا أعرف ما هذا… لكن لو قيل لي إن هذا مُخَدر لصدقت…
نقلت ظني هذا لوفاء فارتعبت.. لا ألومها.. لن يلومها عاقل أبدا!
– وفاء!.. لم يحدث هذا.. لم أتناول هذا ولا مرة في عمري.. ولا أنوي!
عاد الصداع!
أمسكت رأسي فأسرعتْ تجذبني إلى السرير… نَم .. لا بد أن تنام…

قالت لي بعد ذلك إنني حاولت الخروج من البيت كثيرا.. لا أذكر ذلك… شتمتها كذلك!…
أخبرتني أنها أغلقت الباب وجمعت المفاتيح كلها وقالت لي اقتلني أولا ثم خذها!
أخبرتني أنني بكيت وتوسلت لها كي تتركني أخرج.. بكت لبكائي لكنها أغلقت باب الغرفة ثم انصرفت!
نمت!

كيف عرفت أنني نمت بعدها؟
لأنني استيقظت في الصباح!.. هذا واضح!

الصداع أخف بكثير … وأجد ذهني حاضرا… اتصلت بعصام واعتذرت منه فعاتبني عتابا شديدا لاني أُشغل بالي بمثل هذا الكلام …
خذ راحتك وعُد لنا حكيما كنت… هكذا قال…

لم يحدث شيء غريب قبل العصر..

عند الرابعة عصرا دقَّ باب البيت..
رضا! زميلي في العمل!
هذه معجزة لأن رضا لا يفعل هذا مطلقا .. هذا رضا! .. فقط لو أنك تعرفه لصدقتني!..

– ستتركتي واقفا عند الباب؟
– آسف يا رضا! .. ادخل.. ادخل..

أخبرني أنه خرج من العمل إلى بيته وأكل مع امرأته وعياله ثم بدا له أن يزورني ليطمئن عليّ.. وأن هذا عيب في حقه لو لم يفعل…

– أحضرت لك عصيرا من بيتي.. فيه شفاؤك إن شاء الله.. أعطني كأسا لو سمحت..
عينه!
فيها مكر
هذا الإنسان غير صادق.. ذهني الآن أفضل من ذي قبلُ وأعرف أنه يُخفي شيئا..

– فيما بعد يا رضا.. أرجو أن تتركه.. شكرا لك..
– لن أرحل قبل أن تشرب.. أعني لأطمئن عليك..

– رضا! .. ماذا بك؟.. أنا بخير.. أنا بخير يا رضا منذ أعطيتني القهوة في المكتب..

رأيت وجهه يفور.. هذا الرجل سبب نكبتي لكن عقلي ليس صافيا إلى هذا الحد لأفهم… لا زال الصداع يَدُكَّ رأسي دكا…

تلعثم رضا ولم يسعفه مَكْرُه.. تلجلج.. قال إنه لن يطيل عليّ لأنني مريض!

– رضا! .. ستخرج من الباب ومعك العصير؟
– نعم.. أظن أن هذا العصير قد فسد .. سأحضر لك غيره!

أطبقت على العصير وأمرته أن يدعه.. ابتلع ريقه بصعوبة وسألني عن السبب..
لا أعرف يا رضا لكن قلبي يقول لي إن شفائي في هذا العصير كما قلت..

– لن تنصرف به يا رضا! دع الزجاجة!.. هكذا صرخت فيه

لو اشتبكنا لغلبته بلا شك.. وهو يعرف هذا.. ترك الزجاجة وانصرف مسرعا…

سألتني وفاء عن الصوت العالي فقلت لها أظن أنني دنوت من الحل.. سأعود وأخبرك بكل شيء…

ذهبت إلى آدم.. ابن خالتي. .. مدير معمل تحاليل… أحسنتْ خالتي أنها أنجبت هذا الولد .. وجدت فائدة له..
شرحت له الأمر كله.. أمرته أن يتوقف عن التحديق بوجهي.. نعم نعم.. وجهي ليس على ما يرام…

أخبرني أن في الزجاجة مادة لها اسم طويل.. لا أحفظه.. ليس مخدرا بالمعنى المعروف لكن يجعل الجسد خاملا مستجيبا للمؤثرات الخارجية بسهولة..
– يزيل مقاومة العقل؟

– نعم.. هو هذا.. هذه الألفاظ لا أجيدها كما تعلم..

سأختصر لك ما حدث بعد ذلك لئلا تَمَلّ من حديثي!
قد مللت حقا؟!
فلماذا أجدك في آخر القصة إذن؟!

على كلٍ:
شرحت له ما أريد منه فرَحَّب … أحضر حقيبته ووضع فيها ما طلبت منه… عرَّجت على بيتي وأخذت مسدس جدي…

لدى ابن خالتي سيارة فكانت الأمور ميسرة… لقد أحسنتْ خالتي جدا لأنها أنجبت هذا الولد كما أخبرتك…

لم أجد رضا في بيته كما توقعت… خرج بعياله ومعه حقيبة واتصل بالشركة وطلب إجازة…

أعرف رجلا يعمل في شركة الاتصالات.. طلبت منه أن يعرف لي موضع صاحب هذا الرقم…
الحمد لله.. ليس بعيدا جدا..
ساعة ونصف … نحن عند البيت..

بعد نصف ساعة من الانتظار سألني آدم:
– ربما تكون مخطئا وليس معه من يساعده.. كيف عرفت أن الانتظار أفضل؟

– لأن رضا بلغ الغاية في المكر لكنه ليس ذكيا كي يرتب هذا دون مساعدة… انتظر واصمت!

بعد نصف ساعة أخرى أثبت له أنني حكيم .. أعني الصفة لا الاسم!

صرخ آدم فرحا..

جاءت سيارة وانتظرت دقيقتين فقط فنزل رضا وانطلقت به..
سارت السيارة عشر دقائق فقط ثم توقفت وأطفأت أنوارها.. فعلنا كما فعلوا…
دخلوا بيتا شعبيا قديما… لن أطيل عليك..

اقتحمنا البيت… رفعت سلاحي في وجه الجميع.. كانوا ثلاثة
رضا
والرجل الذي كان يقود السيارة
وثالث.. شيخ كبير

أقسمت لهم صادقا أنني سَأُقتلهم جميعا دون أن تطرف عيني… لقد أوشكوا على تدميري.. وكنت صادقا في كلامي… عيني تخبرهم بصدقي لو كانوا يحسنون قراءة الأعين!

تولى آدم تقييدهم جميعا.. استوثقت من القيد فاستاء آدم من ذلك.. لا أحب الأخطاء وأتأكد من كل شيء بنفسي ..

بحثت عن سكين في البيت فلم أجد! .. فهمت أن هذا المكان ليس سكنا لأحد منهم .. هو مكان اللقاء فقط .. هذا جيد ..

وجدت قطعة من حديد .. هذه تكفي .. جثوت على ركبتي لأجعل وجهي مقابلا لوجه رضا .. أطلت النظر في عينه حتى ابتلع ريقه بصعوبة! .. رفعت الحديدة أمام وجهه

– ماذا ستفعل يا حكيم ؟ .. أنت امرؤ عاقل ! اهدأ!

ابتلع ريقه مرة أخرى بصعوبة أكثر .. هويت بالحديدة فغرستها في فخذه وكتمت صراخه بيدي بسرعة .. عَوَى كما تعوي الذئاب الجريحة !

رفعت يدي فأخذ يستجدي الهواء كي يدخل رئته زُمَرا .. تصبب عرقا …

– سأسألك مرة واحدة فقط .. لن أعيد السؤال … ماذا يحدث؟

التفت إلى الشيخ يستشيره فلم يجبه بكلمة …

نطق الآخر !
أخرج آدم المُسَجل من الحقيبة ليحفظ كلامهم

-أنا فَضْل .. أخو رضا .. هذا الشيخ من قريتنا ، وهو ممن يبحث عن الكنوز ، وقد أخبرني أنه وجد كنزا كبيرا جدا .. أخبره بوجوده الجني الذي يخدمه لكن الجني رفض أن يدله على مكان الكنز إلا بعد الامتثال لشرطه .. وكان هذا الشرط أن نجد له رجلا بلغ الغاية في الذكاء والحكمة لكنه ! .. لكنه!
تلعثم فصرخت فيه .. تكلم يا هذا!

– لكن لا بد أن يكون متكبرا جدا ومغرورا كي يستطيع أن يتغلب على عقله ، وقال للشيخ إن الغرور يُعمي العبقري عن الشر لأنه لا يرى إلا نفسه ويستخف بمن حوله!

– أنا مغرور؟!! أنا؟!!

كِدْتُ أجادل وأدفع عن نفسي هذه التهمة كالعادة لكني شبعت من المكابرة .. نعم .. هذا الذي نسي أن يُعلمَنِيه جدي حين غرس فيَّ الحكمة والعلم وحب القراءة!!
لا تغتر!
نعم
أقر وأعترف .. إن المغرور الذكي أسوأ من الغبي المتواضع لأن الغبي المتواضع إذا نزلت به نازلة يسأل ويستشير فيجد السبيل ، وأما المغرور الذكي فلا يرى عقلا يساوي عقله فلا يسأل إلا نفسه ، ويظن أنه جمع العلم كله والفهم كله فيسهل خداعه!

– أكمل! .. قلتها له وعيني تقدح شررا .

-كان أخي معنا فقال إن لديه هذا الإنسان ، وأحضر بعض أغراضك بعد أيام ودفعها إلى الشيخ ، والذي أعطاها للجني ، وأخبرني الشيخ بعدها أن الجني شَمَّ منديلا جلبه رضا وكاد يطير من الفرح ، وقال إن رائحة هذا المنديل مُفْعَمة بالكبر والغرور لكنه امرؤ ذكي جدا .. أحضر لنا الجني شيئا يسيرا من الذهب المدفون كي يثبت لنا صدق كلامه .. وأخذ رضا من الشيخ ماء ملونا ووضعه لك في مشروب فتناولته ثم سقاك منه مرة أخرى .. وكان يسقيك من دواء أحضره الشيخ كذلك … كان الغرض من ذلك كما أخبرني الشيخ أن الجني لا يريد أن يجد في بدنك مقاومة لأنك ذكي وقد تشعر بما يدور حولك ، وقال إنه بعد أسبوع واحد سينجح فيها يريد ويحتل عقلك تماما وتصير له .. وقد حدث كل هذا لولا أن شيئا حدث لا يفهمه الجني نفسه ، واستشاط غضبا ، وأصر على أن نتولى معرفة ما حدث وإلا فلن نأخذ مثقالا واحدا من الذهب فجاء رضا إلى بيتك ليسقيك من الدواء مرة أخرى .. وأنت تعرف ما حدث بعد ذلك .
– وهل عرفتم السبب بعد ذلك أو فهم الجني لم توقف مشروعه؟

– أنا !
كان صوت أنثى لا تخطئه الأذن .. تلفَّتُ حولي فلم أجد في الغرفة غيرنا .. خرجت حَيَّة من شِقٍّ في الجدار … توسطت الغرفة ثم التّفَّتْ على نفسها ورفعت رأسها وقالت:

-أنا .. أنا السبب .. وأنا من تمثل لك في الحلم على صورة ابنتك .. وأنا من تحدثت معك على صورة أمك ..

– لم؟ ومن أنت؟

– سيملانا .. هذا اسمي .. ما فعله الجني خرق لعاداتنا وقوانيننا ، وأنا ممن يتولى منع هذا .. لكن الجني الذي فعل بك هذا قوي جدا ولا أستطيع مواجهته فلذلك عمدت إلى الحيلة لأنبهك إلى ما يحدث .. هو الذي تحدث على لسانك وطلب شراء المخدر .. وتحدث مع الحلاق .. وفعل غير ذلك … وكل شيء غريب ستعرف أنك فعلته كان هو الفاعل لأنه ملك جسدك حقا كما أراد ..

هو مسجون الآن ، وأظن أنهم سيقتلونه فقد أساء كثيرا …
عِش حياتك فلن يؤذيك بعد ذلك .. عُد إلى زوجتك ..
حقا أنا أحسدها عليك ، وأحسدك عليها .. وددت أني ظفرت من الجن برجل مثلك!

عادت من حيث خرجت ، وأنا في ذهول فلم أستطع أن أنبس ببنت شفة!

بعد دقائق عادت إليَّ نفسي فوجدت أن حالهم لا يختلف عن حالي غير أن رضا فقد وعيه بسبب النزيف الذي أصابه ..
هززت آدم برفق فأفاق من ذهوله ، وطلبت منه أن يُسرع .. أخرج محقنه من الحقيبة وحقن رضا بما فيه ..

تساءل أخوه عن الذي نفعله فأخبرته أن رضا أراد أخذ عقلي ، ودارت الدائرة عليه … لم يفهم فقلت له سترى بعد أن يستيقظ أنه لن يعود بعقله كما كان .. الجزاء من الجنس العمل يا حقير !

– سأرحل .. معي تسجيل بكل ما حدث .. انسَ أنك عرفتني .. إن بحثت عني حفرتُ الأرض حفرا أبحث عنك حتى أجدك .. إن رأيتك بعد ذلك فلا تَلُم إلا نفسك !
-واضح؟
– نعم!

أسرعت أنا وآدم بعد أن حللت قيد الشيخ ، وقد حقنه آدم كذلك ، وكدنا ننصرف لكن أشار آدم عليّ أن نحقن الثالث أيضا لأنه لا يأمن شره ، استجبت له … لن أكتفي بعقلي بعد ذلك … كلام آدم حق .. حقن آدم الثالث ثم غادرنا مسرعين حتى عدت إلى داري بعد أن شكرت آدم شكرا جزيلا ، وأرسلت معه سلاما حارا إلى خالتي التي أحسنت أيما إحسان لأنها أنجبت هذا الولد كما أخبرتك!

كنت أظن أنني حملت لها الخبر العجيب فأخبرتني بما هو أعجب عندي .. قصصت عليها كل ما حدث فحمدتْ الله رب العالمين ثم أخبرتني أنها حامل!

 

تاريخ النشر : 2018-07-29

guest
20 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى