أدب الرعب والعام

بين سماءين

بقلم : مصطفي جمال – مصر
للتواصل : https://www.facebook.com/profile.php?id=100012779294789

بين سماءين
كانت حمراء الشعر هي بياتريس بلا شك بشعرها الأحمر المموج الجميل و بياض بشرتها الشاحبة ، و صاحبة الشعر الشائب هي ماريا

أراكِ كل يوم جالسة في شرفتك تتأملين القمر لا تأبهين بشيء ، لا بلسعات برد الليل على كتفيك العاجيتين اللتين نسي فستانك البهي كساءهما تاركاً إياهما بمواجهة الصقيع ، لا تأبهين لأصوات الذئاب الصادرة من أعماق الغابة و لا بنداء صوت قلبٍ مشتاق يشاهد جلستك المتعالية في أعلى شرفات قصرك الفخم في حين يتألم القلب في أعماق الهاوية يتمنى لو تحسين بآهاته الصامتة .

أعلم أنك تجهلين وجودي ، تجهلين نظراتي المنتظمة إليكِ تجهلين جلوسي وسط الغابة القريبة أشاهدك كل يوم تستمعين إلى صوت الغناء الآتي من الغابة ، لا تهابينه كما يهابه أهالي القرية ، لا تقفلين نوافذك في حين يقفلها الأهالي ، لا تختبئين خوفاً من كلماتها في حين يختبئون هم خوفاً منها ، كنت تخرجين في أوقات الغناء و لا تفوتين موعدها بتاتاً ، في حين يتمنى غيرك لو تزول و تختفي و تتركهم هانئين .

لم أكن أعلم عنك شيئاً غير طلتك في كل مساء ، اسمك الجميل البهي الرقيق بياتريس ، و حبك لصوت الغناء الليلي الجميل ، صوت الغناء الذي تشاركنا في حبه معاً الذي نخرج خصوصاً لسماعه و نخاف انقضائه في يوم من الأيام نتمنى أن يبقى إلى أبد الدهر و في كل وقت حتى لو تطلب الأمر خلود الليل و فناء النهار و انتهاء نور الفجر الذي يختتم به صوت الغناء و إن تقاطعت رغباتنا مع أهالي القرية

كانت ذات الأغنية تصدر من أعماق الغاب و يصل صداها كل المنازل و الدور و كل مكان يمكن أن يعيش بل و يعيش فيه قلب إنسان ، كأنها تعرف أماكنهم و تصل إليهم ، ترغمهم على الاستماع ، كانت بذات الصوت العميق اليائس الحزين و كأنما تمثلت فيه كل إمارات البؤس و الأسى . و رغم جمال الصوت و اللحن الحاضر معه من ذات الصوت لكن كلماتها كانت تقشعر معها الأبدان و تبكي معها العيون و تذرف لها الدموع و يرتجف لها الجسد خوفاً و توجساً ، و لكنها لهذه الأسباب أعجبتني ، كلمات تقول الحقيقة بصوت عذب و جميل توصل العذاب و الآلام .

عند سماعها يرى المرء أوهاماً تؤرقه و أحزاناً مضت عليه تؤلمه يتيبس عند سماعه القلب و يجف كما تجف الأغصان في الخريف و يبقى القلب هكذا يتألم و يشقى حتى مطلع الفجر حتى تناسوا النوم

***

من الجنوب تحيطها الجبال من الغرب تحدها غابات من الصمت ، و من الشرق تقبع مزارعهم و مصدر غذائهم الوحيد تلك الأراضي التي يتوسطها مخزن عملاق لحصادهم ، و في الشمال فراغ طريق يؤدي إلى الساحة الوسطى حيث يتوسطه البئر و يحيطها الدور من كل اتجاه ، كانت قرية قليلة المنازل يمقتون كل ما يمت للجمال بِصلة ، يكرهون الغناء حتى هاجر من يجيده منهم ، يكرهون الموسيقى يكرهون الرسم و النحت .
أتذكر حينما اقتحموا بيت النحات و حطموا كل ما في بيته من تماثيل و طردوه من قريتهم التي تحيطها البؤس من كل اتجاه ، لا يمتعهم إلا الشعر الرديء و لا يعرفون الاحتفلات من معنى يخافون كل من يخالفهم الرأي و حتى الشكل ، فليس من الغريب أن تراهم يطردون كل من لا يحيط السواد شعره ، و من سخرية الأقدار أن يأتيهم العذاب على شاكلة غناء يريهم أوهاماً لما اقترفوه من آثام ، و لك أن تعرف ما يمكن أن يراه الأهالي من آثام في قرية يحيط بها الجهل

***

تواجه كل نفس بالحقيقة التي تبطنها و تأبى الاعتراف بها ، و تتمنى أن تظل حبيسة الأعماق حتى تحصد أرواحهم

***

سمعت كما سمع الجميع أن صوت الغناء يصدر من قصر بوسط الغابة حيث تحاصره الذئاب و تنعق فوقه الغربان أسفل القمر ، و تحيطه الأشجار العتيقة ، فاتجهت نحوه قبل حلول المساء حيث يبدأ صوت الغناء لأشاهد مصدر الغناء قبل أن يبدأه منذ البداية ، لأرى جمالها و الألم المرتسم على شفتيها و وجهها وقت الغناء ، لأرى الملامح التي تبدو من هذا القلب الكئيب و حركات الشفتين الحزينتين أثناء الغناء .

في ذلك اليوم رأيت بياتريس الجميلة تخرج من شرفتها حين ظننتها صاحبة الصوت العذب ، لكن صوت الغناء كان يأتي من بعيد و لم تفعل شيئاً غير الجلوس و الاستماع إلى صوت الغناء الذي صمت له نعيق الغربان و عواء الذئاب و حفيف الأشجار ، تصمت له الحياة و تسكن احتراماً و تبجيلاً للصوت
، حين انتهت الأغنية في بدايات الفجر سمعت صوتاً من داخل القصر يناديها بـ (بياتريس) ، يأمرها بالدخول و يرجوها أخذ الدواء و البقاء تحت الغطاء بجانب النيران ، أن تبتعد عن صوت الغناء قليلاً و تهتم براحة بدنها الواهن .
كان صوت عتاب رقيق يبدو عليه الحزن و العطف كأنما ينادي على روح نائية ترفض الاقتراب منذ بداية الرجاء ، فلبت له النداء قبل أن ترمق الشجيرات التي أتستر خلفها ، كأنما أحست وجودي لكنها سرعان ما دخلت تلبي النداء الثاني الصادر من أعماق القصر ، تاركةً إياي أشاهد رحيلها حزيناً .

كانت تلك الليلة بداية خروجي المسائي للاستماع إلى الغناء مرتشفاً الشاي مشاهداً بياتريس ممتعاً جميع حواسي بتلك الليالي التي ظللت أقضيها مشاهداً مستمعاً متذوقاً و مفكراً بسبيل أتقرب إليها به ، و بقيت ملتزماً بعاداتي و مواقيتي مستمتعاً طوال ليالي شهر نوفمبر مستهل الصقيع و بداية الشتاء .
منذ ذلك اليوم أجلس مختبئاً خلف ستار من الشجيرات أشاهد طلتها المنتظمة من شرفتها العالية نستمع معاً إلى الغناء ، هل يجوز لي استخدام (معاً) ؟ فرغم استماعنا إلى نفس الأغنية و استمتاعنا بها في مكان قريب إلا أن بيني و بينها أميالاً حتى الوصول إلى معنى (معاً ) ، إنها لا تدري عني شيئاً و تجهل اسمي و لا تعرفني .

وددت لو اقتربت منها أن أصارحها بمشاعري التي أكمنها و أبطنها لكنني خشيت الجواب و رضيت الحياة في عالمي الخيالي داخل ذهني تجنباً رفضها و معرفة رأيها فيَّ ، فهي تجهلني و تجهل اسمي و أنا بالكاد أعرفها و لا أعرف عنها إلا ما سلف ذكره ، فماذا بها فاعلة إن عرفت أنني أتجسس عليها من خلف ستار من الشجيرات كل يوم لأستمع إلى الأغنية و أشاهدها في آن واحد ، أفربما تحبني لمشاركتها حبها للأغنية و الصوت العذب ، أجل أجل ستحبني ، فمن غيري هنا في هذه القرية التي تكره كل ما هو جميل ، يحب الجمال و الاستماع إلى الأغاني جميعهم يكرهون الجمال يكادون يكرهون الغابة لا لوجود الذئاب أو تشائماً من الغربان ، بل كرهاً لخضرة الأشجار و بغضاً لزقزقة العصافير

عقدت العزم على الذهاب إليها غداً قبل بداية الأغنية لتوفر لي الفرصة لمحادثتها و مكالمتها ، كان ضرباً من الحمق أعرف و لكني سأمت الاختباء خلف الأنظار ، سئمت الاكتفاء بشملها بعينَي فحسب ، رغم شباعي من رؤيتها فقط لكنني طمعت بالمزيد ، وددت لو شملتها بجسدي و احتضنتها بين يدي ، أن أحدثها رغم تأكدي من طردها لي إن عرفت ما سأقوله لها ، لكنني لن أجد فرصة أخرى للحديث معها ، فلا هي خارجة من قصرها لتمارس الحياة و لا هي باقية في شرفتها لتنظر لي صباحاً لاحادثها و أتقرب إليها متصنعاً عدم معرفتي لها طمعاً ببعض الحديث ، هي باقية في زنزانتها الكبيرة و حصنها الهائل المنيع الذي لا يقربه إنسان و لا يعرف عن أحد ، فلا سبيل للتقرب إليها إلا دخول الحصن من بابه متسائلاً عنها طالباً الحديث بدلاً من البقاء و تبادل النظرات من جانب واحد ، فربما تسعد بمعرفة حبي للأغاني و الاستماع إلى أغنية الليل كل مساء بعد منتصف الليل مثلها ، و ربما أضع الختام لحياتي الرتيبة و بؤس سنوات حياتي الكئيبة .

أتذكر أنه كان أحد أيام ديسمبر الغابر ، اخترت هذا الوقت تحديداً لما تشعر به نفسي من وله لهذا الشهر و بمودة لصقيعه لكي أكمل الجو النفسي الذي أملته طمعاً في تلك اللحظة التي سأصارحها بمشاعري تجاهها ، و أصيح بتلك الكلمة التي أرقتني و أرهقتني ، فإن قبلت صارت لحظة لا تنسى اجتمع فيها أكثر ما أحبه ، فأموت راضياً بعدها ، و إن رفضت عدت لقديم أيامي أستمع لصوت الغناء وحيداً متسمتعاً بلسعات صقيع الشتاء المتمسك ببلدتنا التعسة متلذذاً بارتشاف كوب شايي المعتاد .

ذهبت قبيل بدء أغنية المساء مدندنا لحنها مفكراً فيما سأنعم فيه لو قبلت ، متجاهلاً كل احتمال آخر ناسياً أكيد رفضها مكتفياً بأحلام السعادة التي تراودني ، و بدأت أتردد في الذهاب إليها ، و لاحت لي في ذهني فكرة هجر كل ما خططت له و الاكتفاء بمشاهدتها مستمعاً إلى اللحن ، أن أسجن نفسي في هذا الحلم الجميل و أبقى مكتفياً بغموض مشاعرها خوفاً من المعرفة .

دائما ما كنت أعرف أن المعرفة ليست دائماً نعيماً ، العالمون دائماً ما يعيشون في عالم من الحزن و الكآبة متعذبين بمعرفتهم ، بئس المعرفة التي تحيل أيام حياتك إلى السواد خاصة إذا كنت وحدك عالماً وسط قوم من الجهلة في حين يعيشون هم سعداء مخدوعين راضين لكن يحيط بهم الخوف مما يجهلون ، فيتعذبون بجهلهم و كثير الأسئلة التي تؤرق أذهانهم و أفكارهم ، خاصةً إذا كنت وحدك جاهلاً وسط قوم من العلماء يخفون عنك الحقائق و يرجعونك خائباً حين تهب إلى السؤال راجعاً دونما أن تدرك و لو شيئاً واحداً ، و أنا قد عانيت الأمرين و لم أكن أدرك حينها .
لكن كفة العلم كانت لها الثقل و كان لها القرار لما تسببه من راحة للبال و تقليلاً للخوف .

فعقدت العزم على الذهاب ، كدت أصل لكنني أسرعت الخطى حين تأكدت أن ما شممته كان دخاناً و رماداً ، أسرعت جريت و هرولت حتى وصلت جاثياً على قدمي لهول ما رأيت ، كل الأهالي مجتمعين محاصرين القصر ، ضاحكين و مبتسمين يرمون بسبابهم على الماكثة في شرفتها رغم ما يحيطها من نيران أشعلوها خوفاً من الاقتراب و ظناً منهم أن صوت الغناء يأتي منها .

كانت جالسةً كما اعتدت منها ، تأبى الصراخ ، فلم أرَ منها إلا عبرتين تنذرفان على خديها و هي ترمقني بنظرات لم أعرف كنهها ، كانت أول مرة تتلاقى فيها أعيننا ، لماذا تنظر إلي أنا من بين القوم جميعاً و اختصتني بالنظرات !
حينها تأكد ظني و عرفت أنها كانت تنتظرني أو على الأقل ترجوني إنقاذها ، فانطلقت إلى أبواب القصر الضخمة محاولاً الدخول لإنقاذها متجاهلاً ما قد يحل بي ، لكن الجمع أحاطوا بي و منعوني من الذهاب ، كما حالت النيران و اللهيب بيني و بينها و امتزج جسدها بالنيران و الدخان المنبعث من القصر و لم أسمع منها صرخة تدل على آلامها و عذابها ، فبدأت بالبكاء و النحيب بأعلى صوتي ، و التف القوم بابتسامات تبدو واضحة تعلو وجوههم مهونين علي قائلين :

“لا تحزن فلا حاجة لك للبكاء على من حاولت تعذيبنا بغنائها تلك المشعوذة التي ما أرادت إلا الاستماع إلى صرخاتنا الراجية ، لذا هون عليك فقد ارتحنا م…”

قاطعهم صراخ يبدو عليه علامات البكاء و آثار الأسى و الدموع :

“ليست هي صاحبة الغناء ، حمقى جميعكم حمقى ملعونون لا تفقهون شيئاً ، جميعكم خائفون تجهلون كل شيء و لم تبذلوا أقل جهد حتى تعلموا من أين يصدر الغناء و اتبعتم الإشاعات و الأكاذيب ، و بهذا قتلتموها ، قتلتموها .. آه يا بياتريس المسكينة ، وا حزناه عليك و على زهرة حياتك التي فنت مع الحريق و فنت معك كل آمالك و أحلامك ، شهر…شهر واحد تبقّى لتسعدي ، لولا الحمقى لتم مبتغاك و تم الشفاء وصرت مبتهجة سعيدة ، و لملأت وجهك الغبطة و السرور ، و لشكرتني ، لأحببتني ، لم أنل منها الشكر بعد لم أنله بعد ، لم أستمع إلى صوتها السعيد ، لم تقل لي بعد أنها تحبني”
“حمقى حمقى حمقى جميعكم اغبياء (و هي تمسح على وجه بياتريس) ، سأنتقم لكِ منهم و أجعلهم كل يوم يذوقون نفس العذاب الذي ذقتيه ، أن تعاني الألم دون أن تستطيعي حتى الصراخ”

وقف القوم حينها حائرين و أنا بينهم أحاول العثور على مصدر الصوت الذي أعرفه كما يعرفه أهالي القرية أشد المعرفة ، أراهم و قد شحبت وجوههم و ملأها الخوف و الفزع .

أكملت تقول :

“اقسم بك يا بياتريس لأقلبن حياتهم حسرة و أجعلهم نادمين أبد الدهر على ما افتعلوه ، لأجعلن قريتهم مأتماً يحيطهم الخوف و الظلام حتى تنبت لهم أجنحة يهربون بها إلى الخلاص أو يقطعون من جلودهم حتى يتخلصوا من قدر العذاب الذي سأذيقهم إياه ، أقسم بأحزاني عليك لأذيقهم قدر غضبي و حزني أضعافاً من الحسرة و الكرب ، و أجعلنَّ حياتهم جنازة دائمة لا يستيقظون إلا على أصوات الصياح و لا ينامون إلا على أصوات الأنين”

جحظت أعين القوم جميعاً و بدأوا بالصياح ، لكن الألحان بدأت و صوت الغناء اشتد علواً ، بدأت آذانهم تدمي و تقطر الدماء و صرخاتهم تزداد صخباً و ألماً ، لم تكن ذات الأغنية بنفس آثار الحزن و الأسى بل أصوات غضب و حقد ، حنق و سخط تجمع كلماتها بين بغضائها على القوم و حقدها عليهم و بين أحزانها و شجنها على موت بياتريس .

توقف صوت الغناء فخروا مصروعين شبه ميتين ، فقدوا القدرة على الحراك لكن ظلت أصوات صرخاتهم و أسفهم تعلو و أعينهم مثبتة إلى السماء حيث رأوا النجم البهي يهبط طافياً وسط ما بقي من الحريق يطفئه ، حاملاً جثة بياتريس يحيطه نور لكنه سرعان ما تشكل على صورة امرأة مليحة الهيئة بيضاء الشعر رغم شبابها البادي للعيان فجمال سحنتها لا يمكن إنكاره ، و قالت بصوت بلغ صداه كل حي يعيش على هذه الأرض :

“أنا صاحبة الغناء و مسببة العذاب أخت بياتريس التي لم ترد في حياتها إلا القدرة على الغناء كما أستطيع أنا ، من تدعونها ساحرة هي التي تطفو أمامكم الآن فهيا اقتلوني كما قتلتموها ، حاولوا و لن تستطيعوا ، فما أنتم بقادرين إلا على قتل فتاة بكماء لا تقدر حتى على الغناء ، قتلتموها لذنب لا تستطيع حتى فعله”

ثم بدأت بالضحك ضحكاً يعتريه البكاء قائلة :

“خفتم من صوت الغناء فأحرقتم بياتريس البكماء”

أراد الأهالي أن يقوموا ، أن يهربوا ، أن يختبئوا من وجهها الباكي و صوتها المضطرب ، عرفوا أنها جنت و أنهم لن ينجوا من العذاب الذي توعدتهم به و لن يستطيعوا القيام ليركعوا آسفين طالبين للغفران ، فصوتها حينما لم يؤذوها آلمهم ، فماذا به فاعل صوت غنائها الذي يملؤه الوعيد و التهديد ، لقد وصلوا نهاية الطريق و عرفوا أنهم سيخلدون معذبين .

“ما كانت تتمنى إلا الغناء بصوتها الذي أرادته بهياً كصوتي ، أن تستطيع الصراخ و الصياح و الضحك و البكاء ، أن تحادثني بيسر عما مر به يومها الكئيب و عما رأته من نافذتها و عما قرأته في كتبها ، و ما أردت حبسها في قصرنا العتيق إلا خوفاً عليها و اتقاءً لشركم و غباء تقاليدكم ، إشاعاتكم و ظنونكم ، و تخوفا مما قد تعرفوه عن نسبها و عني مخافة أن تعرفوا حبها لصوت الغناء فتمقوتونها ، و ما كنت لأريد رؤيتها تذوق طعم الكراهية و الحقد ، و رغم ذلك قتلتموها و أنتم لا تعرفون عنها شيئاً “

و بدأ القصر يغرق في بحيرة عظيمة لاحت لي و أنا الواقف وحيداً و الباقي من القوم راقدين غير قادرين على الحراك تبتلعهم البحيرة حيث هم ، دون أن يستطيعوا لها فكاكاً أو حراكاً كأنهم حجارة صماء ، كأنما عز عليهم الحراك ، و امتدت البحيرة حتى بلغت الجبال و المنازل و الغابة وما عرف ضمن حدود هذه القرية و تألقت أخت الفقيدة بياتريس و مصدر الغناء الجميل المحمود عندي المذموم عندهم وسط البحيرة ضاحكة راضية بما اقترفت ، و كنت أنا واقفاً بمفردي على سطح البحيرة العظيمة تأبى ابتلاعي تاركةً إياي واقفاً كالوتد وسط الصحراء .

هبط مصدر الغناء جميل الوجه حاملاً الجثة ، و وقفت أمامي قائلة :

“اراك تجهل كل ما قلت في حين فقه الجميع مجمل كلامي ، فلا حرج عليك فما رأيت أنت مثلما رأوا هم “

“ماذا رأوا ؟ ” قلتها سعيدا رغم ارتعابي فأنا أحادث الصوت الجميل و يحادثني ، ألا أسعد بما أوتيت من فرصة قد لا أبلغها بعد حين ، رغم ما يتملكني من مرارة على موت العزيزة بياتريس

“رأوا القصة كاملة ، ماذا أكون و ماذا تكون هي ، أريتهم كل ما أنا قادرة عليه و ما سيصير لهم ، و أذقتهم عذاب بياتريس الذي كانت تعايشه كل يوم حتى نالت الموت غير راضية به هكذا قبل أن تستطيع الحديث “

“أخبريني بكل شيء أريد أن أروي فضولي”

“سأجعلها بنفسها تخبرك”

و قبل أن أسألها عن السبيل لذلك وجدت نفسي داخل غرفة ضخمة يتوسطها سرير و يلتف على جدرانها رفوف تملؤها الكتب حتى لا تجد مكاناً فارغاً لوضع جديد أو حتى موضع قلم ، كانت خالية من النوافذ إلا من شرفة وحيدة تمدها بالضوء في الصباح و تجلس فيها في المساء .
غرفة بياتريس ، كم تملؤها الكئابة و مرارة الوحدة ، كم عانت من أحزان و كم بكت وحيدة في حين تتنزه أختها بهية الصوت في الغاب ، تحاول عبثاً إيجاد دواء لضحية الصمت فلربما تستطيع وهبها الكلام و القدرة على الحديث .

رأيتها عائدة إلى الغرفة تجلس على سريرها باردة الملامح و المشاعر كما عهدتها دائماً و ظلت هكذا حتى حلول المساء و عندما تستهل أختها الغناء لسبب لا أدركه في مكان لا أعرفه تتجه ببطء نحو الشرفة لتجلس مستمعة إلى صوت الغناء حتى مطلع الفجر ، و حينما تختتم شقيقتها الغناء و يناديها الصوت الحزين مجهول المصدر للعودة إلى داخل القصر تستلقي على السرير و تأخذ دواءً مختلفاً عن الليلة التي تسبقه تقدمه لها فتاة فاحمة الشعر شاحبة البشرة عابسة الوجه صامتة أمامها دائماً في حين تنظر لها بياتريس نظرة يملؤها الحقد ، تلك المشاعر التي لم أتصور أن تظهرها بياتريس هكذا و إن كنت لا أدري عنها الشيء الكثير ، كان حقدها واضحاً على كل إنسان تراه و هذا ما رأيته حين وقف طيفي أمامها..

كانت تلك هي طريقة أخت بياتريس مصدر الغناء لتريني القصة كاملة ، أن جعلتني طيفاً يسبح في مشاهد الماضي من الأيام قبل الحريق أتجول بين أروقة القصر و لا أفعل شيئاً غير الانتظار و المشاهدة ، طيف يرى و لا يُرى ، كالجن ، لكي أعرف عن بياتريس ما لم أكن أعرفه .
كنت طيفا أتبعها أينما حلت ، أشاهد حياتها الرتيبة التي لا جديد يحل عليها إلا نهايتها المأساوية بالقتل حرقاً كالساحرات أو كأصحاب الخطايا و أرامل الهندوس دونما أي ذنب اقترفته.
تتمثل في حياتها جميع عناصر الوحدة و الرتابة لا تفعل جديداً تنتظر الموت أن يحل عليها أو أن يحدث شيئاً يعوضها عما مضى من الأيام ، و كان يجب علي أن أكون هذا الشيء
، تستيقظ من نومها تقوم إلى المرحاض و تعود لتقرأ كتبها و تجلس على فراشها تنتظر حلول المساء وحيدة ثم تذهب إلى شرفتها لتجلس تتأمل القمر حتى تستهل أختها بالغناء من المجهول تستمع لها حتى مطلع الفجر ثم تعود أدراجها مذعنة لذات الاأر الصادر من الداخل ، لتأخذ الدواء الذي تجربه لأول مرة و لآخرها ، لتنام وحيدة و علامات الحقد على وجهها كلما ترى بشرياً .

كانت خادمتها الشاحبة العبوسة من تعطيها الدواء أو كانت والدة الخادمة من تأمرها بالدخول لغرفتها عند انتهاء الغناء أو حتى شقيقتها حين تعود لتبتسم في وجهها و تبادلها الحديث من جهة واحدة منفردة ترسل السؤال و لا تنتظر له جوابا ثم تلقي السلام و لا تنتظر له رداً .
كانت ذات الاحداث تتابع مراراً و تكراراً دون أي تغيير يوصف ، و كنت ألاحظ أن غضبها يزداد وضوحاً على ملامحها كلما مرت الأيام ، لربما تظهره اعتراضاً و حزناً على حبسها و يا ليتها تدرك السبب فما كانت لتنعم وسط قوم من السفهاء و الجهلة لربما حرقوها إن رأوا الأوشام على كتفيها أو لون شعرها الأحمر الذي انعدم وجوده وسط هؤلاء القوم أو شحوب جسدها الذي صار كالثلج لوناً و صفة لقلة طعامها و برودة الطقس ها هنا .

حينما كنت أطفو أمامها و هي تقرأ كتاباً و تقلب صفحاته البالية بعدم اكتراث وجدت صاحبة الغناء شقيقة بياتريس تطفو بجانبي متخذةً نفس الهيئة التي أنا عليها الآن

“اسمي ماريا أخت بياتريس مصدر الغناء ادعوني بما تحب”

“لماذا جلبتيني إلى هنا؟”

“لترى ما كنت عاجزاً عن رؤيته و لتعرف ما كنت تجهله”

“عن ما…”

“آنا أعرف أنك كنت تراقب بياتريس و كنت تحبها في صمت و أعرف أنك كنت ذاهباً لتحادثها في هذا اليوم و أن تخبرها بما كنت تبطنه طوال هذه الأسابيع لكنك تجهل عنها الكثير ، أتيت بك إلى هنا و تركتك لتكتشف بنفسك لكنك كما الباقون أحمق”

“شكراً على هذا المديح فأي من الكلمات ما دامت بصوتك تصبح لي فخراً “

“لدي من هذا الكثير إن كنت تريد”

“أكملي فكلماتك تريح قلبي”

“تقصد أن صوتي يريح قلبك ، أخبرني لماذا تجاملني ؟ “

“و كيف لي لا أجامل صاحبة هذا الصوت العميق الجميل الرقيق الجالب للراحة ، أكون من الحمقى لو لم أكن أحبه”

“إذاً أجبني أتحبني؟”

“أحب صوتك أعشقه ، لا يمكنني العيش ليلة دونما سماعه”

“لم تجبني بعد أتحبني؟”

“قلتها لك إن حياتي مستمرة إلى الآن بفضل صوتك و أعيش فقط لقضاء فترة المساء ، لو انقضى مساء دون أن أستمع لأغنيتك لانتحرت و أنهيت حياتي ، فما شيء فيها يستحق و لا عادت فيها متعة فحياتي في هذه القرية الصمتاء البائسة المنعزلة النائية جداً عن اي تجمع آخر للبشر لا فائدة منها”

“كنت أعلم أنك من هؤلاء الحمقى”

“أحب جنونك كما أحب هدوءك ، أحب انزعاجك كما أحب سعادتك”

“تقصد أنك تحب صوتي حين يهدأ و حين يجن ، تحبه منزعجاً كما تحبه سعيداً “

“أحبه في كل حالاته”

“سأسألك شيئاً آخر ، أتحب بياتريس ؟ “

“بالطبع أحبها ، أهذا سؤال يسأل ؟! “

“لماذا؟”

“و لماذا لا أحبها ، ذلك الوجه الملائكي الرقيق و الجميل ذلك الجسد الممشوق و تلك الملامح الهادئة على الدوام”

“الملامح الهادئة؟”

“تلك الملامح التي لم تحمل إلا الهدوء و الراحة”

“أخبرني كيف و متى كنت تراها؟”

“كل ليلة عندما يعم الظلام حين استهلالك لأغنيتك المعتادة كنت أراها جالسة في شرفتها تستمع لصوت غنائك و وجهها يظهر علامات الراحة و السرور”

“أرأيت ابتسامتها؟”

“لم أرَ على وجهها إلا علامات الراحة و الهدوء لا أحد يخرج كل ليلة للاستماع إلى نفس الشيء إلا إذا كان يحبه”

“كانت علامات الشرود و التأمل”

“إلى أين تريدين أن تصلي ؟ “

“بياتريس أبداً لم تكن تحب الأغاني و لم ألحظ على محياها ابتسامة منذ ولدت”

“لكنها كانت تحبك ، يتضح ذلك حينما ترين التزامها بالجلوس في شرفتها في نفس موعد بدء أغنية المساء ، فبالتأكيد كانت تحب أغنيتك”

“تحبني تحبني أحقا تصدق ما تقول ؟ أهذا الأسبوع الذي ظللت فيه تشاهدها و تتأمل ملامحها حينما كنت طيفاً لم يجعلك تدرك شيئاً من الحقيقة ، ألم ترى ملامح الحقد على محياها ، ألم ترى كيف توجه نظراتها الحاقدة الكارهة إلى أي إنسان تراه ؟ كان يجب عليك أن تدرك على الأقل أنها تكرهني تبغضني و تبغض أي انسان تراه ، هي تكره البشر”

ثم أكملت تقول :

“أخبرني لماذا تحب روحاً حقودة مثلها ، لماذا تحب شخصاً يكرهك لماذا تحب شخصاً تجهله أو فلنقل أشخاصاً “

“أنا أحبكما فهل للحب أسباب و علل ؟ “

“أسأت قولاً ، أنت لا تحبنا بل تحب أشياءً فينا ولدنا بها ، هكذا أحببت القالب الذي ولدت فيه بياتريس لكنك لم ترَ قبح روحها ، أحببت صوتي لكنك حتى لم تعرف لي اسما قبل اليوم ، أخبرني لماذا تحب بياتريس ؟”

“ل…”

“لا تكمل ، لأنك تحب جمال سحنتها تحب جسدها ممشوق القوام تحب كتفيها العاجيتين يديها الرقيقتين رقبتها الناعمة الملساء ، أما أنا فتحب فيَّ صوتي تحب كلماتي لكنك لا تعرف عنا شيئاً و لا تعرف عن نسبنا لا تعرف عنا غير قدر لا يكفي لاكتساب الحب ، اسمينا و أين نرقد ليلاً ، أهذا يكفي لأن تحب فينا شيئاً ؟ قل تحب صوتي و قل تحب وجهنا لكن لا تقل أنك تحبنا و أنك تعشقنا ، لا تمدح فينا أشياءً لا نملكها و لا تنشد فينا الأشعار”

“ما أدراك بما أشعر به و عما يبطنه قلبي و بما يفكر فيه عقلي ؟ لماذا أراك تتحدثين عنها هكذا و لمَ أراك ترين نفسك خاوية عن أي شيء مستحق للحب ، ما أدراك فقد أحبكما أكثر حينما أعرف عنكما أكثر ، و حينما أرى ماضيكما ، إن صوتك الجميل و جمال قوامها و محياها كفيل بأن يجعلني أقع في حبكما”

صمتت ثم نتهدت قائلة :

“حينها لا تلمني عما ستراه ، سأرسلك إلى يوم ولدنا توأمان متشابهان و سأدعك تشاهد حتى تدرك عنا كل شيء ستكون كما أنت طيفاً حتى أراك مقتنعاً “

***

حينما ولدا توأمان متشابهان

***

على مهديهما في ساحة متسعة تملآن الدنيا صراخاً و بكاءً ، طفلتان جميلاتان قد مر على ولادتهما بضعة أسابيع مرت كلمح البصر بالنسبة لي ، كطيف يرى الأحداث تمر كالرياح ، تمر الساعات سريعة فلا أحياها أو أعايشها كأنما يقال لي أنها أحداثاً لا تهم في شيء و لن تثلج صدري أو تروي ظمئي للمعرفة .

مرت السنوات الأولى دونما شيء يذكر ، أرى الطفلتان تنموان دونما أن تريان من العالم شيئاً إلا السماء الصافية و الغابة الرحبة من شرفتهما الصغيرة ، لا يعرفان عن المدن إلا صوراً ملتحقة بكتبهما .

تمر الأيام و أراهما يغنيان بأصوات جميلة ، كانت حمراء الشعر هي بياتريس بلا شك بشعرها الأحمر المموج الجميل و بياض بشرتها الشاحبة ، و صاحبة الشعر الشائب هي ماريا ، مالي أرى بياتريس تستهل الغناء بصوت ضعيف يخلو من قيم الجمال و الرقة فلا تمر لحظات على ختامها للغناء حتى تبدأ ماريا بالغناء بصوتها الرقيق المعتاد و مظاهر الحقد و الغضب تظهر على ملامح ذات الشعر الملتهب .
إن كل الذكريات التي تمر أمامي تخلو من أي ذكر لأبوين كأنما انعدم وجودهما ، لم أرَ إلا خادمتهما الثلاثينية ذاتها التي كانت تأمرها بالدخول عند حلول المساء ، تلك ذات الصوت الحنون الحزين الذي كنت أسمعه حينما كنت أتجسس على بياتريس حينما كانت حية ، و ابنتها في نفس عمر بياتريس و ماريا ، فاحمة الشعر لكنها كانت تبتسم و تشاركهما اللعب تلك التي لم أرها إلا عبوساً أمام بياتريس حينما تعطيها الدواء في حين تبادلها بياتريس نظرات الكراهية ، لكنهما الآن أراهما سعيدتان .

مرت السنين و صارتا في العاشرة ، استمرتا في لعبة الغناء خاصتهما لكن بياتريس ضاقت ذرعاً بخسارتها و بقبح صوتها الضعيف في حين تفوز ابنة الخادمة في الغناء حيناً و ماريا حيناً آخر .
أرادت أن تظفر بمثل تلك الأصوات البهية فلماذا ابتليت وحدها بهذا الصوت القبيح ؟ اعترضت على الأقدار و لم تعد الابتسامة تظهر على محياها و صار الصمت جواباً على من يحاول تبادل الحديث معها ، صارت أسباب الحزن البادي على وجهها لغزاً يحاولون جميعاً حله ، يحاولون استعادة الابتسامة التي كانت يوماً تميز ذاك الوجه التعيس

لم تكن تفعل شيئاً غير الغياب عن الغرفة لأوقات طوال تختفي خلالها عن الأنظار لتعود ثانية و قد ملكها الإرهاق
أرى ماريا تتجه الى بياتريس تحاول تهدئتها و معرفة أسباب حزنها لكن ما من مجيب

***

“هنا بدأت المأساة”

أدرت رأسي لأرى طيف ماريا يطفو بجانبي

“من كان ليظن أن سؤالاً صغيراً سيؤدي لكل هذا البؤس؟”

***

أكملت المشاهدة قالت ماريا الصغيرة لتوأمها :
“أخبريني بما تبتغيه نفسك أخبريني بما يكرب صدرك إن كان باستطاعني أن أفعل لك شيئاً سيعيد الغبطة و السرور إلى محياك سأفعله ، أي شيء لتعودي معنا كما كنا سابقاً “

قالت بياتريس من وسط صمتها و شرودها
“أي شيء؟”

بكل سعادة “أي شيء”

“تعالي ورائي”

ذهبتا معاً تهبطان السلالم بسرعة ، تسرع بياتريس و وراءها ماريا ملاحقة لها أينما ذهبت

كانت غرفة مظلمة أين وصلت بياتريس   تقبع أسفل قبو القصر لا تضيئه إلا شموع دامية و فاحمة و على الأرضية خطت بيديها الرقيقتان خطوطاً متقاطعة و أخرى منحنية و في الوسط كتبت كلمات لاتينية بخط رديء مليء بالانبعاجات و الأخطاء ، كانت دائرة سحر رديئة للغاية و كل ذلك تم حول جسد ابنة الخادمة فاحمة الشعر و قد تم ربطها بالحبال و على وجهها تظهر علامات القلق و الخوف

“استلقي بجانبها”

قالتها بياتريس و على وجهها ابتسامة مخيفة تسبب الرعب لمن يراها على وجهها الرقيق

“م..ماذا سنفعل”

“ستعرفين عندما تستلقين”

“ل..لا ؛ريد سأكتفي بالمشاهدة فقط”

“افعلي ما تريدين لكن ابقي ساكنة و لا تتحركي”

كان منظر الدماء مريعاً لا أحد يعلم من أين أتت لكنها فقط ظهرت من العدم حينما قرأت تلك الكلمات بسرعة و طلاقة

“أيتها الارواح النجسة قومي من كل قبر ترقدين فيه و من كل ركام يرقد أسفله جسد لكم و ابعث من كل رماد تبقى من أجسادكم و من كل رمال تدفن تحتها أجسادكم ، اعطوني أصواتهن و لكم الخلاص”

ظهرت الدماء من كل الأركان و منها تشكلت وجوه تبتسم لنا ما لبثت أن أظهرت أيديها و كفوفها أحاطتهم من كل اتجاه ،
اهتزت الأرض و خرج من أفواه الجميع دخاناً يرى و انحسر في وسط الدائرة و اتجه أين تقف بياتريس ، في هذه اللحظة اكتملت سعادتها تلك السعادة التي يشعر بها المرء قبل أن يصل إلى ما يتمناه ، تلك السعادة التي تفوق سعادة إدراكنا لأحلامنا و حصولنا على ما نبتغيه ، سعادة ثقتنا بالنجاح .
لكن الألم الذي يتبعه يفوق أضعاف تلك السعادة ، ذلك الألم الذي نشعر به بعد فشل خطتنا قبل بداية نجاحها بلحظات و قبل بلوغنا لبمتغانا بخطوات ، كان هذا الشعور هو ما اعترى الصغيرة بياتريس بعدما رأت توأمها تدفعها بكل ما امتلكت من قوة

***

“لم أكن افهم حينها ما يحدث ، ظننت أن أرواحاً شريرة قد ظهرت لتهاجمها فحاولت الدفاع عنها ، لم أكن أعرف أن كل أصواتنا تشكلت في شكل ذلك الدخان المضيء ، كنت السبب فيما حدث لها”

***

دفعت بياتريس بعيداً و سقطت ماريا أين كانت تقف أختها كانت تظن أنها حمتها كانت سعيدة لأنها قدمت شيئاً لتوأمها غير مدركة أنها أخذت منها الكثير

دخل الدخان فيها و بدأت بالتشنج لتتلق تلك الأغنية لا إرادياً لأول مرة في حين تغلق بياتريس أذناها باكية ربما من فشلها أو من الألم الذي تسببه لها تلك الأغنية ، من رؤيتها لأوهام و ذكريات أفعالها الآثمة أو ربما لفقدانها صوتها أو ربما لكل تلك الأسباب مجتمعة

***

“أتذكر ما قالته لي جيداً قبل فقد صوتها (لقد وعدتني أن تعطيني أي شيء لكنك أخذت كل شيء ) جملة تثير التعاطف صحيح لكنني لو عرفت لقمت بنفس الشيء أيضاً “

***

بكت ابنة الخادمة من الألم الذي يسببه غناء ماريا الذي يأبى التوقف حتى بدأت أذناها تقطر الدماء ، كانت ترى هي الأخرى أوهاماً و أشباحاً كهيئتها ، ترى أخطاءها التي أودت بوالدتها خادمة ، ترى البؤس الذي سببته لآخرين دون أن تدرك تلك الأخطاء التي لم تعتقد يوماً أنها أخطاء ، و أخرى قامت بها و هي صغيرة ، رأت ما تعانيه والدتها من أفعال فاحشة و أخرى وحشية و لا إنسانية ، أشياء لا يحتمل قلب طفل صغير رؤيتها ، مشهد لما يحدث لأمها من تحرش و أفعال قذرة ، و مشهد لها تضرب بالسياط و آخر بالعصي و أشياء يخجل أي أحد عن قولها أسفاً و شفقة ، كانت عيناها تأبيان الانغلاق لشدة ما تراه

في النهاية فقدوا الوعي جميعاً و جاء الخدم لحملهم و إدخالهم إلى الغرف بعدما وضعوا اللوم على والدة الخادمة لتركها بياتريس تعبث في الأرجاء كما قالوا ، و أكدت هي حديثهم بأنها من أعطتها كتب السحر مدعية أنها لعبة ، تحملت هي كل العقاب بينما ادعت بياتريس دور الضحية مثيرة تعاطف الخدم بفقد صوتها و بأنها صارت بكماء ، شيء يثير الشفقة حقاً إذ لم تكن تعرف من تكون بياتريس جيداً ،
و من حينها و العائلة تأبى أن تترك بياتريس غرفتها ، أصبحت سجينة القصر وحيدة بعدما رحل الخدم جميعاً إلا تلك التي تحملت مسؤولية ما حدث و ابنتها فاحمة الشعر التي لم أعرف لها اسماً .

أما الأبوين اللذين لم أرهما طيلة تلك الأحداث فقد تركا القصر ، عجباً فقد كانا في القصر منذ البداية لكن ما كان المرء ليراهما و لو راقب المكان على مدار الأيام حتى يحل عليه الممات .
من يكونان أين ذهبا و لماذا تركا القصر ؟ لم أعرف أبداً

**

أظلم المكان لأجد نفسي طافياً على البحيرة هائلة الحجم و قد انعكست عليها صورة السماء بسحبها و بنور شمسها كأنما تمتلك البحيرة شمساً أسفلها ، تنيرها كما تنير السماء ، فكنت و كأنني أطفو بين سماءين متماثلتين . لتظهر أمامي مرتدية ذلك الفستان الأحمر القاني الذي يظهر شحوب بشرتها و كانت تغطي كتفيها بوشاح أسود تمسكه بأطراف أصابعها و قد تركت شعرها الفضي الحريري منسدلاً على كتفها متاجهلاً الآخر تاركا إياه عارياً للشمس منعكسة عليه .

“ما رأيك في الفقيدة الآن بعدما رأيت كل ما رأيته ، هل عرفت لماذا كانت تمقتنا و تكره رؤيانا أو أي شخص تراه إنها حاسدة لمن يمتلك ما لا تمتلكه ، تكره كل موهوب و كل إنسان أفضل منها قدراً و تحاول أن تثبت للجميع أنها تستحق الثناء مثله و أنها لا تقل قدراً عنه ، تحاول أن تمتلك موهبة لا تجيدها أو تحبها فقط كي يشاد لها رغم أنها تجيد العديد من الأشياء التي لا نجيدها”

“هذا ليس سبباً لأكرهها أنا مازلت أحبها كما أحبك”

“توقف عن التقديس الأعمى ، كم مرة سأخبرك أنك تحب قالباً و ليس جوهراً ، لربما لو انعكس الجوهر و القالب لكرهتها أشد الكره”

“و كيف أكره وجهها الجميل ، و كيف أكره صوتك الجميل ؟ “

“إن على وجه بياتريس الجميل لم تظهر إلا إمارات الحزن و البغضاء ، و إن لصوتي عذاباً لا تدركه ربما لأن الحب أعماك و أنساك كل السيئ و القبيح و البغيض من الذكريات لكن غيرك يتمنى لو لم يسمعه لما يلاقيه من سوء العذاب ، إن السبب الوحيد الذي يدفعني للغناء كل مساء هو لإبعاد الفضوليين مثلك عن الغابة حماية لبياتريس منهم و مني كي لا تتأذى”

“لكن بياتريس بعد كل هذا كانت تحبك و قبل وفاتها لم تكن تفوت وقت الغناء لتجلس في شرفتها لتستمع إلى غنائك … كانت تحب الاستماع إايك و أنت تتألقين بصوت غنائك”

“أعلم أنها كانت تخرج للاستماع إلي لكنها لم تفعل ذلك حباً لتوأمها أو حباً لصوت الغناء ، لم تكن تستمتع به بل كانت تعاني أضعاف ما يعانيه الأهالي هناك ، ماذا سترى روحاً آثمة من الذكريات ، أوهاماً ستزيد من عذاب ضميرها و روحها ، كانت بياتريس تخرج كل ليلة بحثاً عن صوتها وسط ملحمة العذاب التي أتغنى بها يومياً و ليس حباً لأختها أو حباً للأغاني كما خيل لك رأسك المريض و المليء بأوهام الحب و الإيمان به”

“ماذا تعرفين عن بياتريس لتفتري عليها كل هذا الكذب ؟ كانت بكماء فهل عاتبتك بكل هذا قبلاً ؟ “

“كنت تشاهدها من الغابة في حين تجلس هي في شرفتها ككل يوم فلن تقدر عيناك الضعيفتان على رؤية أذنيها و هما تقطران الدماء”

“لا يوجد قلب مليء بهذه القتامة فلماذا تتحدثين عما كان يدور بداخل نفسها كأنك تجسد لضميرها النائم”

“لقد عشت معها عشرين عاماً كاملة في حين لم ترها أنت إلا أسابيعاً تعد ، أعرف أنها لم تتغير و تحمل في قلبها أطناناً من الحقد و الكره تجاه كل من تراه ، ثق أنك لو ذهبت إليها لتحادثها معترفاً لها بالحب منسجاً أبهى أبيات الهوى كما كنت تبتغي لكانت سترميك بأول شيء تمسكه و لو كان حجراً ضخماً ليكون آخر شيءٍ تراه قبل السواد”

“و الآن و قد تحول كل شيء إلى حطام و رماد ألن تريها ملاكاً يحلق بجناحيه الأبيضان في النعيم ؟ “

“لا يمكنني كرهها إنها أختي و لو كانت أشد الناس إثماً فلن أمقتها أبد الدهر ما كنت حية “

“إذاً كيف تتوقعين مني أن أمقتها و أفني كل ما لدي من الوله تجاهها ؟ “

” أثبت أنك تحبها و لا تحب قالبها ، أنك على استعداد لتقدم لها كل ما تستطيع أثبت أنك تحب روحها “

“أخبريني بما تستطيع نفسي الحقيرة تقديمه لتلك الروح العزيزة لإثبات ما يشعر به قلبي حقيقة و أنا على ثقة أنني لن أستطيع أن أرضي روحها النقية أبداً “

“إن كنت تحبها مثلما تقول فهل إن استطعت أن تقدم لها الحياة أستفعل؟”

“إن كان هذا يمكنني سأكون أول من يفعل هذا”

“توجد طريقة لفعل هذا”

التمعت عيناها الداميتان بلون فستانها القاني و على وجهها شبح ابتسامة أوقعت الريبة و الخوف في جسدي

“مـ .. ما هي؟”

“فلتقدم لها حياتك لتحيا ، فلتقدم روحك بديلاً عنها في السماء لتعود هي إلى الأرض سالمة كما كانت”

“ماذا؟”

قبضت يداها على صدرها و هي ترفع رأسها الى السماء بابتسامة قائلة :
“الحبيب سيفعل أي شيء لحبيبته ، و إن اضطر لأن يقدم لها حياته فداءً ، فهل أنت مستعد أيها المعشوق لتثبت لها حبك و تقوم بواجبك تجاهها ؟ “

“لكن كيف لي أن أراها إذا قدمت روحي فداءً لها “

“لست مضطرا لهذا ، يكفيك أن تكون قد أثبت حبك و أنقذتها من هذا المصير المشؤوم ، أوَليس هذا هو الحب ؟ يالجماله و شاعريته ، و كأنني سأرى مسرحية حبكما الآن ، أولست محباً للفن أم كنت مدعياً طوال الوقت ! لا تقلق سأغني لك سيمفونية العزاء على تضحيتك النبيلة ، و سألقن القرى المحيطة أغنية حبكما البهية ، أولست تريد خلود هذه القصة المأساوية و أن يعرفها الجميع؟ يا لك من محظوظ ستخلد في أغنية من غنائي و قد حصلت على الحب ، لقد حصلت على أكثر مما كنت تتمناه و لا تقلق سأذكرك بكل خير”

أخرجت خنجراً من تحت شالها الأسود القاتم و رمته أمامي

“و الآن أرق الدماء على جثتها المتفحمة لتعود إلي العزيزة و لأنني أعزك سأرسلك أين يعيش القوم لتولد من جديد معهم خالداً في مأساتهم المستمرة للأبد”

نظرت إلى الخنجر الطافي أمامي ذلك الذي سيحدد إذا كنت أحبها أو لا ، أهكذا هو الحب حقاً ؟ هل إذا قمت بنحر رقبتي سأكون حقاً أحبها ؟ سأكون وفياً لمن لم أره و من لم يحبني أو يعرفني قط ، هل هي حقاً تستحق التضحية بحياتي ؟ الموت ليس بهذه البساطة التي نتصورها ، لماذا سأصدق روايتها من بياتريس و لمَ قد تكون هذه الحقيقة ، لربما هي إحدى ألاعيب ماريا ، لربما تستحق بياتريس التضحية..و ربما لا

نظرت إلى ماريا بنظرة حادة قائلاً بكل ما أوتيت من الثبات
“و لماذا لا تثبتين أنت حبك لها بانتحارك لأجلها ، أوليس حب الأخت أقوى من حب الحبيب ؟ “

“لست بحاجة لإثبات حبي لها ، لو كنت أمقتها لطردتها من القصر بعد ما فعلته و لم أبقها فيه أبداً ، و لم أكن لأتعب قدماي بالمسير و التوغل في الغابة حماية لعقلها و أذنيها”

أمسكت الخنجر و لم أعرف ما الذي وجب علي فعله ، لمَ أيها الحب تأبى أن تنهي حكاياتك بالابتسامات ؟
اختفت ماريا وسط ابتسامتها بينما تركتني تائهاً في قراراتي طافياً بين سمائين متماثلتين ، ممسكاً بخنجر بيده تحديد مصيري و مشاعري معاً ، فهل أفعلها أم أتجاهلها متحملاً الخسارة أمامها مكذبا مشاعري ؟ فهي في النهاية شخص لم أحدثه أبداً و أجهل عنه كل شيء كما تجهلني ، فلن تكون تضحيتي ذات قيمة لديها .

طافياً بين سماءين ممسكاً بخنجر تائهاً بين قراراتي ، بين عينيها اللتين اختصتاني بالنظرات يوم احترق القصر و بين ما أرتني إياه شقيقتها ، لم أدرك أنني كنت تائهاً بين حقيقتين أجهل أيهما الحقيقة و أيهما الوهم ، و ظللت طافياً و سأظل حتى أجد الحقيقة و أعثر على الجواب .

النهاية

تاريخ النشر : 2018-08-10

guest
67 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى