أدب الرعب والعام

سبورة سوداء

بقلم : أحمد نوري ( L.A ) – المغرب
للتواصل : [email protected]

ذهبت ماشيا بشوارع العاصمة الكبيرة، الشوارع التي تراها ملونة يزيد جمالها ازدحام أناسها بينما أنا أراها متلوّنة

يا أيتها الحياة لطالما سمعت قصصا تصيب العاقل بالجنون عن أفعالك الأنانية التي لا يحكمها العدل، العجوز النائمة بدار العجزة كانت بالأمس مالا وجمالا، إجمالا كل شيء فإني أعلم وتعلمين لكن ما لا أعلم لمَ تستمرين بمنهجك القاسي، هل أنت السبب خلف الظلم أم نحن من أجبرناك لتدعينا نُقاسي؟
السؤال، من الظالم هل هي الحياة أم الإنسان؟ مظهره سؤال أما واقعه لغز لن يتمكن أنْبَغْ النَّوَابِغْ من حلِّه بخلاف طفل رضيع هو لُبُّ الجواب.. إن وجدت الحل فهنيئا لك أن تطلق على نفسك لقب إنسان

…….

الحكاية بدأت بالضبط في 17 مارس من عام 1983..

ببداية وجودك بهذه الحياة لم تُبصر غير ضوء أبيض ساطع أعمى بصرك، ولم تشعر إلا بيد تحملك مقلوبا تتبعها ضربة على قفاك لتبكي كأنما ترغب بالعودة لأحشاء أمك، أنا وُلدت هكذا مثل أغلبكم، وُلدت بَين عناق الأب وقبلات الأم اللّذان أحاطاني بالحنان لأوجد بالوجدان ملاكا لم يعلم بوجود الشر إلا بالأفلام وقصص قبل النوم، وُجِدت بالبيئة حيث تعلمت أن الدين هو الإسلام، تعلمت أن أطيع والدي وأكون الإبن البارَّ الذي لا يعصيهما إلا بالحق، هكذا علَّماني بعدما أخبراني بقصص عن الفردوس المضيء وجهنم الملتهبة، قصص جعلت كياني يضيع وسط زوبعة من الخوف و السعادة لولا أنهما أخبراني عن الله، ذلك الخالق المعبود الذي وازن اسمه الرعب بقلبي لأعلم أن الخوف منه أصلح وكسب رضاه أنجح، أحببته بفطرتي حتى أني كنت أقلد أمي وأحيانا أبي عندما أراهما يصليان له، كم كنت أسعد بمحاولة الصلاة مثلهما وعندما لاحظت أمي ما أفعل أخذت تعلمني فما بدا لي سهلا تعقّد قليلا إنما أحببته، إذ غدوت بعده أخرج وألعب بالشوارع الشاسعة التي تدعى الحديقة، تلك الغابات والصحاري المتمثلة بمكان واحد لأقوم باستكشافها وأجد الأجوبة عن أسئلة لم أطرحها

هكذا استمريت حتى وجدت عدة علماء آخرين يشاركونني بحثي لنكتشف ونلعب بينما علت ضحكاتنا الملائكية وسط عالم ملأته شياطين نحن غافلين عنها، فالشياطين بنظرنا هي التي هربت ما إن سمعنا صوت الأذان الذي على صداه قُمت وبدأت بالصلاة ليقلدني أصدقائي بشكل جميل خلَّفَ منظرا ما إن رأه أولياؤنا حتى ذرفوا دموع الفخر وهم يقولون أولادنا من الصَّالحين، فعلا نحن صالحون فبالرغم من صغر قلوبنا إلا أنها كانت طاهرة نظيفة، كنا أطفال الملائكة الذين أخذو يحلمون بأن يصبحوا أطباء، مدرسين أو مدراء، كنا نتنافس بالدراسة لنرى من منا هو الأفضل، من منا سيغير البلد الجميل إلى الأجمل، كنا ندرس لنفهم لا ندرس لننجح وبهذه العقلية نجحنا عاما خلف عام، كنت ما أن أنجح حتى يأخذني والدي للملاهي بعطلة الصيف التي كنت أضيعها باللهو بين شوارع حينا و الملاهي

مرة ضحكت بعدما لعبت بالطين ومرة بكيت عقب صفعة من أمي لإتِّساخ ثيابي، ضحكت، بكيت، أكلت وشربت، هكذا عشت طفولتي التي تبعتها بداية مراهقتي حيث كنت صغيرا أعرف لكنني أردت تقليد الكبار، أردت أن أكبر لأحقق أحلامي بسرعة فالحياة بخير بمنظور ملاك ساذج لم ينبت جناحاه بعد، مثل ملاك طائش أردت أن أكبر كوالدي فسرقت من جيب معطفه سيجارة تناولتها لأبدأ بالسعال وسط ضحكات الشياطين، استنشقتها ثم نفثت من فمي لأسعل ناظرا للدنيا بدخانها الأسود بعدما كنت أراها زهورا حمراء

مر الوقت فتعرفت على رفاق السوء لأتعلم منهم التحرش بالفتيات زدها التدخين بالسر والهروب من المدرسة إذ هربت أياما وعدت بعدما وصل الخبر إلى والدَي، صرخت أمي بوجهي بعد عدة ضربات من أبي لأدرس فدرست ليس بالضرب إنما بدمعة الأم، الدمعة المقدسة التي يكرهها كل مخلوق، دمعة غالية كلما تذكرتها تألمت وللهروب من الألم درست ونجحت عاما خلف عام لأحصل بامتياز على البكالوريا لتشاركها شهادة الهندسة التي أخذها والدي ليتباها بها أمام أصدقائه وسط فرحة النجاح التي تختفي مع الأيام.

حلمت بطفولتي نائما بغرفتي قبل أن يوقظني صوت هاتفي ليزعجني كعادته بمشكلتي، حملته لأرى من.. طبعا المتصل رفيق الحفاضات محمد فأجبته كالعادة: معك يونس
– لا معي حبيبته من سيكون غيرك يا رجل؟ على العموم هناك شركة جديدة إن أردت طلب التوظيف
– هل تتكلم بجدية؟
– لا أنا أمزح! هيا يا رجل سأرسل لك مكانها برسالة.. سلام
– سلام

بطّال بالخامسة والعشرين والعمر يَجْرِي بي وبرفيقي الذي كان حاله أسوء من حالي فقد ماتت أمه قبل تخرجه بسنة ليزيد همه موت والده بعده، لكن برغم هذا وبرغم كونه خريج قانون إلا أنه كان يساعدني مع ابتسامة لا تفارق محياه، نهضت عن سريري بشق الأنفس لأرى شهادتي المعلقة كديكور ملأه الغبار، حياتي السوداء تميل للسواد وبرغم علمي بذلك ارتديت قميصي الأسود كحداد على ما أنا عالم بحدوثه ثم ذهبت وحملت بملفٍّ أوراقي الذي كان بأحد الأيام حلم طفل صغير أضاعته رغبات بعض الجزّارين، ذهبت قاصدا أحد تلك البارات المغلفة كشركة من الخارج

ذهبت ماشيا بالشوارع مستغربا كعادتي فقد أتيت من القرى المحقورة بالريف إلى شوارع العاصمة الكبيرة، الشوارع التي تراها ملونة يزيد جمالها ازدحام أناسها بينما أنا أراها متلوّنة شبابها مهموم ينتظر ولن يفوت فرصة الهجرة إن جاءت، تلك الشوارع التي جُلْت معظم شركاتها التي كانت تعطي موعدا بالغد الذي تقفل فيه أبوابها بوجهي حتى فهمت لما يسمونها بلد الغد، بِصِحَّتك قلت وأنا أمشي متثاقلا وقد رأيت شابا بعمري وقع تحت جدران أحد الأزقة ثملا فهذا مهربه من ظلم خَلَّفَ الظلام أمامنا، ظلام يحاولون إخفاءه بأنوار قناديل الشارع التي أنارته وسط نور الشّمس، هم نورهم بالصباح بينما بطفولتي عرفت الشمعة التي نجحت تحت ضوئها لأتي للعاصمة آملا بأن يفرحني بها خبر ما، لكن أمثالي مثلهم مثل البعوض يأتون للنور الجميل ليكتشفوا أنه موت أحلامهم.

أخيرا وصلت وجهتي وما إن دخلت حتى وجدت صفا من الأجساد الميتة تقف كأنها تنتظر دورها يوم الحساب، شباب لو تراهم تقول مَا هُمْ ببشر إذ يقفون بلا مشاعر ولا روح محدقين هائمين في شيء ما إن رأيته أمامي حتى قلت سلاما على قوم البشر، ينظرون منتظرين نداء الرَّب موزع الأرزاق بنظرهم، إن كان الفاني الحقير الجالس على كرسي لا أعلم كيف يحمل مؤخرته السمينة ربًّا فسأرغب بأن أكون شيطانا، هكذا فكرت واقفا بصف طويل من مختلف أنواع الخلق مبتسما بين التدافع و روائح العرق، لا أعلم لماذا ولكن ربما لأن هذه المرة الألف التي آتي فيها هنا ولم يتغير شيء.

قاطع حبل أفكاري القدوم المفاجئ لإمرأة من تلك النساء الجميلات بنظر السُّفَهَاءْ فما تلبسه فضح أكثر مِن ما سَتَرت ، وجهها بالمساحيق التي جابهت وجه المهرج، فقط مرت من بيننا هكذا من غير طابور فالجميع أخذ ينافقها معطيا إياها مكانه حتى أنا فعلت مثلهم، لا لشيء إلا لأرى إلى أين تسير الدنيا بمنطقهم فهل سيحدث شيء؟ طبعا لا! فبعد ساعات من الوقوف قالوا لي بعد شهر تعال وعد للصف، وأنا ذاهب مبتسما بسخرية محاولا كتم غيظي لمحت تلك التي تم قبولها وتوظيفها بظرف ثانية وهي تصلح أحمر شفاهها، علها ستطبع على شخص آخر قُبلة ، فَقِبلتهم تلك الشفتين ودينهم المال، هكذا قلت بنفسي وأنا أذهب خاليَ الوِفاض إلى عملي بأحد المطاعم، العمل الذي لم يُؤَمِّنْ لي غير المسكن أما الباقي فمن الباقي ..

عشت على الخبز و الشاي ولم أكن أشتري الثياب إلا كل سنة لذاك لا تسأل أبدا لما يمشي صاحب الشهادة بحذائه المثقوب الذي هَرِمَ من شدة المشي، فلم أكن أملك المال الكافي للمواصلات لأن كل فتاتي كنت أدّخره لأذوق طعم النّسيان المُرْ، آه كم أضعت أياما من حياتي أبحث عن عمل علَّ شهاداتي تصبح لها قيمة بهذه البلد وآه كم تعرضت للسخرية لفقري كأنما هو قميص قبيح و أنا لبسته عندا ! يا ليته كان زيا لأخلعه وألبس ما يغلق أفواههم !!

وصلت بعد شقاء تراكم الأفكار بذهني إلى المطعم أخيرا لأجد رفيقي محمد وهو يبتسم برغم همومه التي فاقت همي سائلا عن حالي:
– كيف مرت المقابلة؟ هل قبلوك؟
أجبته وأنا ألبس المريلة البيضاء اللعينة التي كانت تسبب لي عقدة: ربما عندما يظفر ناديك المفضل بالدوري
– يعني عن ما قريب.. أطلق ضحكة الثقة ثم أردف بعدما صفع ظهري: صدقا لا تكترث يا رجل ربما بالمرة القادمة

لو لم أرى الإبتسامة وقد اختفت من محياه لقلت أنه كان يسخر مني فقد قال المرة القادمة كأنها ستكون عكس المئة التي قبلها، لكنه محق فلو لم نملك الإيمان لما كنا نغسل الصحون و نحن بشهاداتنا! يا له من مطعم فخم هذا الذي يقع بين الأزقة المتعفنة، لماذا؟ لأن هناك محاميا ومهندسا يغسلان الصحون فيه، فعلا هناك أحجار ألماس ضائعة بالقمامة بين الزجاج.

مرت الساعات التي نَظَّفْنَا فيها الصُّحون ببطء شديد كالعادة لكن الوقت هو الوقت فقد أعلن منبه الساعة العتيقة على الجدار نهاية يوم العمل الذي يبدأ ظهرا وينتهي ليلا، الليل الذي يقودني أحياناً مع صديقي لأحد النوادي الليلية علنا ننسى فكم أريد أن أنسى ما لا يُنسى، كم أريد نسيان كذبي على الوالدين حيث قلت أعمل مهندسا بشهادتي بينما أنا مجرد صعلوك متسكع بين حرارة مياه الصحون و برودة طعم الكحول، وكم يتمنى رفيقي نسيان ابنة العمة العالمة بحاله حب الطفولة التي يُمنّي نفسها كل يوم بكلمة غدا ستتبدل الأحوال كأنما سيتبدل شيء ببلد الحالة مَالَة، هكذا كُنَّا نفكر سائرين ليفاجئنا جمع غفير من خلق الله، دفعني فضولي لأرى ما الذي يحدث وليتني ما رأيت، فقد أبصرت شرطيا لعينً يصرخ بوجه إمرأة إشتعل برأسها الشيب، تقدمت لرجل سألته عنها ليخبرني بما صدمني، أخبرني أنها باعت ذهبها ليذهب ابنها الوحيد في حَرْقَة ( هجرة غير شرعية ) وبمجرد ذهابه أنكر الأقرباء المسكينة التي سمعت بخبر غرق القارب الذي ذهب فيه إبنها ليموت هو ومن معه فجُنَّتْ وأخذت تجلس هنا على أطلال البحر منتظرة إبنها، تجلس بهذا الكرسي العتيق منتظرة منذ ثلاث سنوات من حَرْقَتِهِ التي أحرقت قلبها لتنكرها

اللُّطف يا إلهي مما سمعت، نظرت إلى ما يحدث بأسى ليجن جنون شياطيني عندما دفع الشرطي اللعين المسكينة ولم أشعر بنفسي إلا وقد دفعته بدوري ليبدأ بتهديدي و اتهامي بإهانة الزِّي وبإعاقة الأمن، لا أعلم لماذا لكنني ابتسمت، فقط ابتسمت بوجهه كالمعتوه قبل أن يتقدم صديقي مُهدّدا إياه بحقوق المرأة و حقوق المواطنين ليغلق فاه ويذهب ببذلته التي كَرهتها، ذهب بعدما أتى فقط لطرد المسكينة الدّامعة من كرسي عام ! نظرت إلى ما تنظر وهي جالسة لكن لم أفهم السر بالبحر ليقاطعني رفيقي وهو يمشي: كلما احتجت محاميا محمد موجود.. قال ساخرا
– وأنا ألحقه: شكرا يا أخي.. صدقا لا أعلم ما أصابني، تبا لو تعلم كم أكره الشرطة الآن
– لم أفعل شيئا غير إخبار الشرطي بالقانون الذي يجهله وزدها تهديد الشرطة الفاسدة يعطيك شعورا جميلا.. ثم أبدا لا تحكم على الكل من واحد فمهما طال ظلام الشر، الخير دائما معه شُموع

ابتسمت له، ليس لما فعل أو لنصائحه الغريبة لكن للابتسامة التي لا تفارق محياه، هذا الصديق فعلا دفعني للصبر ولا أعلم ما كنت لأفعل بدونه، ذهبنا نَشُقّ الطرقات ونحن نطلق عدة نكات قطعت الوقت لنصل البار الذي زينه بعض جيل المستقبل الذي لم يُستقبل، جلسنا على كراسينا المعهودة لنشرب ونشكي همنا لبعضنا علنا نخرج ما بقلوبنا، فمن كثرة همومنا أردنا أن نرى الحياة ضبابية ولم نرغب بأن نستيقظ لأن الوضع لا يُفرح فالوضع يُحزن، كيف يعيش الآخرون بسعادة ونحن لا؟! هل لأنهم يرضون بأقل من مستواهم؟! نحن لسنا كذلك نحن قتلنا أنفسنا بالدراسة!! نحن إن لم نتوقف عن المحاولة سنجد الفرج الذي بعد الصبر، هكذا كنَّا نَهْذِي ثملين فالفرج الذي يأتي بعد الصبر ما هو إلا أسطورة يؤمن بها الأطفال السُّذَّجْ والبالغون السّكارى، اسأل من صبر ما صبرت ليجد بعده الصحون.

عدت متأخرا إلى الخربة حيث أعيش، حيث لا غرف ولا شيء فخِربتي عبارة عن غرفة صغيرة بها سريري القديم ارتميت فوقه لأستلقي وأنا أسمع عراك القطط و نباح الكلاب الذي يدلُّ على جمال الشارع الذي أعيش فيه، رغم تلك السيمفونية الشّعبية استرسلت في النوم الذي عشقته حتى أيقظني هاتفي صباحا كالعادة لأستقبل ألم ما بعد الثمالة:
– توقف عن إيقاظي يا رأس البطيخة!!
– يونس! هذا أنا يا بني.. اتصلت لأسألك هل يمكنك القدوم إلى القرية بقادم الأيام؟
– سيدي ! أنا لا أعلم فلدي بعض الأعمال، لكن لماذا ماذا حدث؟
– بسعادة: سِهَامْ ابنة عمّ صديقك قُرِئَتْ فاتحتها اليوم وستتزوج، قلت أن أخبرك قبل رفيقك فقد يكون مشغولا.. يونس؟.. يونس!
– بعد لحظة من الشّرود: معك يا سيدي، لقد أخبرني بالفعل لكني اعتذرت فكما تعلم ابنك مشغول
– آخٍ من هذا العمل الذي يُشغلك يا ابني، حسنا في أمان الله

أقفلت الإتصال ومن شدة الصدمة التي شاركها همّي تساهل الكيان فهرب النوم من سجن رأسي لألبس ثيابي السوداء وأتجول مهموما بالشوارع قبل أن أذهب للعمل حيث غسلت الأطباق وأنا ألتهم صديقي بنظراتي، كيف يغسل الأطباق مغنّيا بسعادة؟ بل كيف لا يزال يبتسم؟ أنا وتحطّمت لأجله أما هو فيبتسم، هل يعلم؟ طبعا ! بل هو من أول العالمين ولكنه سعيد:
– ماذا يا رجل لمَ تحدق بي هكذا كأنك ستأكل وجهي؟
– لا لشيء ، فقط كنت أتساءل كيف تبقى مبتسما رغم كل ظروفنا؟
– سهلة، الابتسام مجاني

أطلق ضحكته المرحة صافعا ظهري فما كان مني إلاّ أن أضحك له بدوري مُدَّعِيًا الغباء فما أسوأ من جرح الرّجل هو أن يعرف رجل أخر بجُرحه، وما أسوأ أن تحكم علينا الظروف بما لا نرغب

مر الوقت كعادته معلنا انتهاء ساعات العمل فذهبنا تحت بساط الليل وأضواء الشوارع التي لقطعها تحدثنا كعادتنا محاولين تطبيق نظرية النّسبية لخداع الوقت:
– هل تعلم لما لم يتم توظيفنا إلى الآن يا محمد؟
– مبتسما ببلاهته المعتادة بينما يديه بجيب سرواله: سهلة، نحن فراخ البطة السوداء
– تخيل لو ولدنا بالحرير ونحن نملك تلك الواسطات
– أبداً فالحمد الله أولياؤنا شرفاء اقتنعوا بالحلال وعلموا أن الحياة فانية لذا ربونا رجالا، ماذا أولم يعجبوك؟
قال ساخرا وهو ينظر إلي بحدة لأجيب فأجبته بأسلوبه صافعا ظهره: بلى أعجبوني
– نحن رجال يا رفيقي وبهذا الزمن ما أندر فصيلتنا هذه

أخذ يضحك على نكتته التي أظنها إهانة تشبّهنا بالحيوانات، لكن صمتت قبل أن أرد عليه مغيّرا الموضوع الإنزعاجي من حقيقة كلامه فما نحن إلا حيوانات بغابة تدعى الحياة:
– الزمن حيث الخير صعب والشر سهل
– بعدما ضحك ساخرا: من قال هذا؟ الشر عمل صعب جدا مغلف بالسهولة إلا أنه كاذب، والخير كذالك عمل صعب جدا لكنه مغلف بالصعوبة إلا أنه صادق.. ومنهما سنختار رفيقا
– كف عن التفلسف هنا و أخبرني بسر ابتسامتك يا رجل
– قلت لك قبلا، الابتسام مجاني

أطلق ضحكته الساخرة من عدم اقتناعي قبل أن يردف: كل شيء في هذه الدنيا فاني إلا شيء واحد.. إن عرفته قبل موتك فأعدك بأنك ستموت سعيدا
– وهل حللت هذا اللغز؟
– أبدأ فقد قرأته على قميص شخص ما.. كما أن التفلسف ممتع
أخذ يضحك رغم همومه، لم أفهم سرّ هذا الشخص المجنون الذي سيدفعني للجنون، الشخص الذي لم أزل نظري عنه حتى وصلنا أخيرا حفرتنا حيث مضى الليل كعادته بين قناني الخمر و صراخ السّكارى، ليعود كلٌّ ثملاً لينام مستعدا لبزوغ لعنة ليله المضيء ، وصلت خربتي ونمت كالجميع لأستيقظ مستقبلا ألم الرأس الذي لم يكن ألم ما بعد الثمالة كالمعتاد بل كان ألم ما قرأته بورقة بيضاء كتب عليها بالأحمر وجدتها في جيب سروالي :

” مرحبا يا رفيقي ، عندما ستقرأ هذه الرسالة سأكون قد جربت الذهاب إلى البلد التي ستعاملني كإنسان، أعلم بأنك ستكرهني و ستنتقدني لهذا و لكني أعلم أنك تعلم أن سِهَامْ ستتزوج، قلت بنفسي لا بأس يا رجل فالحب وحده لا يُكوّن أُسرة ثم دعها تفرح، لكن لم أتمكن من الصمود فقد كانت السلسلة التي تربطني بهُنَا ، وتحطمها حطمني، يا رجل أريد حلاًّ لأعيش أريد الإحترام الذي لم أحصل عليه، أريد أن تتم معاملتي بعدل كالعدل الذي أفنيت سنين عمري أدرسه ولم أره يوما، أعتذر يا رفيقي لأنني لم أخبرك بما سأفعل لكن خفت أن تفعل المثل فأنا الآن حر ولا أملك ما أخسر أما أنت فتملك والديك.. يونس أخوك قد ذهب فإما الفوق وإما الأسفل “

صديقي الباسم الرّاضي بمصيره ذهبت بسمته إلى الأبد في محاولة هجرة، طبعا كان لابد للكأس من أن يفيض والثمالة أن تنتهي ليستيقظ بواقع مرارته فاق طعمها مرارة الموت، فعلا اللعنة وتبا لكل من جعل واقعنا مرضا دوائه الكحول.

مرت الأيام التي زدتها من عندي أيَّاما دَلَّ صمت هاتفي فيها على أن أخي قد ذهب بلا رجعة، لقد رحل إلى بارئه و رغم غضبي على ما فعل إلا أني لن ألومه ولا يحق لي بأن أحكم عليه فلم أنسَ أيام الفقر بطفولتنا ولن أنسى الحالة بعدما بذل أولياءنا الغالي والنفيس في سبيل تخرجنا، ها قد تخرجنا لندور بين الأزقة كالكلاب الشاردة! من حقه أن يرمي زَهْرَهْ لكن على ما يبدو حتى الحظ يعاكسنا او بالأحرى بقيت أنا وحدي ليعاكسني الآن، ترحمت على أخ ذهب بلا رجعة لأخرج من خربتي وكلّي حزن وغيظ على روح رفيق أخذته الحياة بعز شبابه

خرجت و مشيت تحت قناديل الشارع ليلا وأنا أفكر بهل سينفع الكحول؟ هل سيُنسيني ولو قليلا؟ مشيت ليلا بكيان ضائع في متاهة التساؤلات قبل أن أرى تلك المرأة المسكينة التي تمسك بيدها طفلين وهي تشحذ من سيارة إلى أخرى، كم ألمتني رؤيتها وقد داست على كبريائها لأجل طفليها، ليزيد ألمي عدم اكتراث أغلب بني البشر بها بخلاف القلّة المعدودة، بعد ذكر إسم المعبود تقدمت لأخرج كل ما بجيبي من المال وناولتها إياه لأذهب بسرعة، لم أرد أن ترى وجهي أو من أكون فالخير لوجه الجبار ثم بضع ليالي بدون طعم النسيان لن تضر كثيرا طالما تناولت هي مع أطفالها الطعام.

عدت لخربتي حيث لم أتمكن من النوم لأن همي قتله ليحاكم بالأرق، فقط بقيت مستلقيا ألعن واقعي و بقلبي غصة، فكلنا شباب ملكتنا غيبوبة الثمالة التي ما أن نصحو منها نجد صفعات الواقع أمامنا، تلك الصفعات التي أرَّقت ليلتي السوداء فذهبت على إثرها للبحر، ذهبت إلى ذالك اللعين أشكو لنفسي همي أمامه علّه يعطف ليأكل بعضه كما أكل رفيقي.
هل بلدي مسخوطة أم أن الحياة ملقوطة أو لربما حياتي أنا فلم دعارة مومس؟ فهل دَرَسْتُ و دَرَسْتُ و دُرِّسْتُ لأُخَيَّرَ بين غسل الصحون بمطعم أو البطالة ؟! هل ببلدي أملك خِربة كراء واجب كراؤها متأخر؟!! أكذب إن قلت لم أكره واقعي ولم أنقم على أصحاب البذلات، نحن نحفر بملعقة لنجد الصخور ، و نسبهم يحفر بمجرفة ليجدوا الذّهب، ها قد ذهب نور شمس المستقبل بوجه أمثالي، أين رفقة الطفولة بهذه البلد؟! مِنَّا من خان ومِنَّا المجرم، مِنَّا من جلس تحت الجدار ثملا مثلي ومِنَّا من رضي بحاله حتى فاض كأسه كرفيق كفاحي الذي قتله البحر بالنهاية ليذهب أخ كما ذهب كل شي يا يونس، ها قد فقدت كل شي فما هو حلك؟ أجابني شيطان البحر الذي خدع رفيقي قائلا حلك هو أنا فإما أن أهزمك لأطعم جسدك لأسماكي وإما أن تهزمني لتنزل بجنة حيث سيعاملونك كإنسان، حيث ستغدو لشهاداتك قيمة تجلب بها اليورو ويصبح لِعَرَقِ جبينك ثمن، حلك ترك هذه الصحراء القاحلة والذهاب لبستان الزهور الحمراء.

الشيطان وما أخبثه فقد أغراني كما أغرى رفيقي ليأكله الغادر الأزرق، أغراني عقد الشيطان الذي حذرني منه الأهل بطفولتي، لكنهم قالوا الحكمة برؤوس الكبار الذين لحقتهم ولم أجد بعدهم غير الألم الذي دفعني لخوض غمار رحلة لن أخسر منها شيئا فلو على الموت أنا ميت أصلا، ولو على الغُربة فأنا مُغترب ببلادي التي فكرة المستقبل فيها أكثر رعبا من عزرائيل نفسه، فعلا صنعت مني الحالة كاميكازي.

كان يجب أن أجمع المال اللعين الذي سيأخذني إلى الجنة، لذالك عدت إلى جحيمي وارتميت أدور العاصمة كالمجنون من مكان إلى آخر بحثا عن تلك الوظائف الصغيرة التي ليست بمستوى تعليمي، عملت بوظائف حتى الكلاب لا تعملها مرة يدفعون لي ومرة يأكلون حقي لأنزعج ذلك الإنزعاج الذي يحثني ويشجعني على الاستمرار، عملت بِصمت و تحطمت حتى كسبت ما يجب كسبه إذ جمعت ما يكفي من المال و لم يبقى إلا أن أبحث عن رفاق الهجرة الذين كان إيجادهم أسهل من إيجاد العدل هنا لنتفق على الهجرة بعد ثلاثة أيام، لم أخبر أحدا بما سأفعل، ستقول من يفعل ويخبر أهله بأنه سيهاجر؟ لأجيبك لم تجرب الموت وبيدك فرصة قول الوداع التي لم تقلها قبله.

انتظرت حتى أتى اليوم المنشود، اليوم الذي حملت فيه أحلام طفولتي لجعل البلد أجمل، الأوراق التي ستجعل بلد الغير أفضل، وضعت كل شيء بحقيبة أثقلت ظهري أسا وأنا أمشي مع من اختلفت أشكالهم وأعمارهم وجمعهم انغلاق أبواب البلد بوجوههم ليقبلوا مثلي بعقد شيطان البحر، فهل لنا من حل غيره؟

كالبعير مشينا مجتمعين بقطيع حتى وصلنا رمل البحر الهادئ وهدوء البحر يا صديقي نذير شؤم، خطونا كل بهمه أما همي كهم أغلبهم، همي بدمع الوالدة إن لم يعد ابنها في رحلة أراد أن يقول بها مرحبا بك يا روما يا عاصمة بلد الرُّومي، أرجوك إن مُتُّ لا تبكي يا أمي فابنكي رجل، همي زاده هَمُّ هل سأعود لأغلق فم الحسّاد و من سخر مني؟ إذ بشهاداتي و لم ترحمني الظروف أو البشر ! أترحم على روحك التي ذهبت يا أخي محمد، ذهبت والآن إما أن الحق بك و إما أن أصل.

كان صمت البحر أكبر دليل على سوء الطقس هذا ما حذرنا به أحد المعتذرين عن الذهاب خوفا على نفسه، الخوف الذي أكذب إن قلت لم نخفه أغلبنا أمّا همنا غلبنا لنلبس ثياب النَّجَاةِ التي لا تُنجي ونركب بها كفنًا مزدحما، أبناء الريف والمدينة لم يكن هناك فرق بيننا فقد جمعنا قارب كزورق الورق الطافي فوق الماء، نظرت إلى الأمام عكس الناظرين للقمر والخلف متسائلين هل سيعيشون أو سيعودون يوما، نظرت إلى الفراغ أمامي الذي هو المدة الزمنية للحرب، فقد صدق كلام من صلّت عليه أمه و أثبت مقولتي أن هدوء البحر شؤم، شؤم خلّف معركة حامية الوطيس جعلت الحياة تحارب الموت الذي تسانده الدنيا لتحطيم مركب صغير مزدحم يتراقص ليلا بين ضربات الأمواج التي أطعمها دمع أغلبنا، كلنا رجال فلم يُبكنا الخوف من الموت بل منا من بكي مشتاقا والشوق لا يشبع الجوع ومنا من لم يقوى على دمع أمه لينزل دمعه قبل دمعها، فعلا اللعنة على زمن ترى فيه الدّمع ينزل على خَدِّ الرّجل، رجال وبكينا فما حال من بحالنا من النساء؟ سؤال ما أن يجول ببالي حتى أكره البشر وتعتلي قلبي النقمة.

كانت كل موجة تضرب القارب المزدحم بمثابة تسونامي بنظرنا الذي أعماه انفجار قطرات المطر الغزيرة السّاقطة من السّماء السّوداء التي شقّتها الصواعق مْنيرة البحار الهوجاء لثوان يَعُمُّ بعدها الظلام، كأنها علامات على اختفاء رِضَا الوالدين، علامات تجعلك تهيئ نفسك لتقبل الموت قبل قدومه فتجلس محنّطا كالمومياء في تابوتك بقلب حزين يعلم أن بمثل هذا المركب غرق أصدقاؤك أمواتاً لكن ما بيدك حيلة ولا تملك غير أن تقول ربي معنا بعدما استيقظت من الثمالة بالبلد لتجد جيبك فارغا وأمك مَهمومة ولا حل أمامك غير روما، قائلا ما قاله من قبلك الرِّجال ” فإما الفوق وإما الأسفل ” الخوف لا ينتهي حتى بوصولنا إلى اليابسة التي ما هي إلا الشوط الثاني من لعبة اسمها الهجرة، فما كان قبلا خوفا من الغرق غدا الآن قلقا من العودة وخوفا من رصاص يستقر بأجسادنا خارجا من فوهة مسدس حرس الحدود، فأمثالنا لا شفقة لهم أو معهم، فأمثالنا بمجرّد لمسهم الأرض المنشودة تصيبهم لعنة ما تدعهم يفتقرون ذاهبين بقانون يا نفسي يا نفسي لا تقل لي ابن عمي من البلد كل لحاله. 

قاسيت وعانيت حتى نجحت و وصلت إلى إيطاليا، وصلت أخيرا لأرض الأحلام واليورو التي اتضح بالنهاية أنها كانت فعلا بستان الزهور الحمراء الذي لم يستحق أي عناء، فجمالها الأخاذ من بعيد يخفي حدة أشواكها، تظن نفسك استيقظت من الثمالة عندما هاجرت ؟ لا يا أخي فالحقيقة أنك كنت ثملا واستيقظت متأخرا، إذ لم تكن روما مختلفة عن الوطن من حيث فرص العمل، فهناك لست من نسبهم وهنا لست من نسلهم، لكن كما يقولون العذاب والتشرد بعيدا عن شماتة أهل البلد أرحم، فعلا يا لها من رحمة أن تنام ساعة وعشرة لا بالشوارع وتحت الجسور خائفا من أن تجدك الشرطة، وهي لرحمة أن لا تجد ما تأكله أو تتستر به عوامل الطقس لأن العمل الوحيد المتاح هو بيع المخدرات الرخيصة، لم ولن أقوم بهذا فعذابي هناك و هنا لا ينقصه عذاب القبر

مرت الأيام التي بحثت فيها عن أية وظيفة تسد جوعي الكافر وتقيني البرد الذي نهش جسدي الفاني لدرجة لم أتمكن فيها من التحمل، لكن لم أستسلم لطريق المخدرات فلو بالحلال حصدت اليورو قد نجحت ولو سقطت بي هنا لن يعلم أحد، فالموت بردا و جوعا على هذه الأرض أرحم من بلد أقسى من الغربة، هذا رأيي الذي شاركني به معظم من قابلتهم من العرب، كم آلمتني رؤية ناطقي حرف ( ض ) كالكلاب الشرسة مع بعضهم، فشجارات تحديد الموقع ستنشب إن ما رأيت اثنين تحت جسر واحد، شجارات تنتهي بأحيان نادرة كنهاية قابيل وهابيل، لهذا كنت أبتعد عنهم وعن مشاكلهم قدر المستطاع لأبقى تحت الرَّادار وأنا مستمرٌّ بالبحث عن لقمة الحلال

وبفضل رضاء أمي الغالية وجدت وظيفة بأحد المقاهي التي يديرها رجل كهل، وظيفة ربُّها كان رجلا سبعينيًّا ذا أصول عربية يدعى كريم بعد أول محادثة لي معه اكتشفت أنه اسم على مسمى، فقد كان طيبا جدا ومتفهما لظروفي حتى أنه أعطاني غرفة مجانية بالمطعم لأنام فيها مما سمح لي أن أتصل بأهلي في الوطن لأخبرهم بما فعلت و يا ليتني ما فعلت، فقد مرضت الوالدة على الخبر إذ قلت لهم الحقيقة عن أن الشهادات بالبلد لا تؤمن غير غسل الصحون لتنزل دمعة الوالدين على حال ابنهما، آلمني هذا لكن لم أشعر بالذنب فقد أتيت لأساعدهم وأحمل همهم كأندادي ، لذلك كنت أرسل معظم راتبي للوطن بفخر، ربما لم يتغير العمل كثيرا فمن غسل الصحون إلى نادل لكن أقله عرقي هنا غدا له ثمن بخلاف أيام الدّراسة، فلا هناك ولا هنا عملت أو سأعمل بشهادتي.

قضيت سنة نظمت فيها أموري وتعرفت على الشوارع واعتدت عملي مع مديري الذي غدا صديقي ، وتعرّفت على ابنته ذات العشرين ربيعا ( إميليا ) التي كانت تعمل معي وتدرس الهندسة، لن أنكر أن جمالها جذبني لأستغل بعض نقاط ضعفها بالدراسة لأساعدها فقط كي أتمكن من تبادل الأحاديث معها، مدتي التي قضيتها بإيطاليا أشعرتني بأنني إنسان و كانت فترة جميلة شوهها النقصان الذي تمثل باشتياقي إلى صوت الأذان كما اشتياقي إلى أجواء بلدي وأعيادها، دموعي غدت جمرا يسيل على خدي كلما تذكرت الوالدة التي كواني شوقي لها، جراحي هذه أحرقت أفراحي كلها هنا، وما زاد الجراح ألما خبر اشتداد مرض الوالدة، لكم وددت أن أعود ولو شاقا البحر بيدي، لكن قبل الهموم بالرجوع وقول مرحبا أيتها البلد، قْتِلت روحي بخبر وفاتها على هاتف كان مستقره الأرض من شدة صدمة حامله..

ماتت روحي، ماتت أمي، جملة متى ما أتت مجيئها يكون على غفلة بحيث لا يمكن أبدا استيعابها، فهل تعرف ما هو شعور موت الأم ؟ إنه الشعور بالملل من التنفس والألم مع كل خفقة قلب، الهَمُّ بكل فكرة بينما العين لا تستطيع التوقف عن ذرف الدّمع، الكيان يموت منتحرا والروح لا تستوعب خسارتها ما كان سبب وجودها، لكن موتها بعيدة عنك لشعور آخر، أقولها باكيا منهارا و أتحداكم أن تجدوا ما هو أسوأ من رؤية رجل منهار يبكي، أقولها راكعا لهذا الهم الذي هدم الرجل الذي هو رجل، أقول تبا للعالم كله فبدونكِ يا أمي هو بلا قيمة!!

لم أستطع العودة ليس الآن ، ليس بعد فوات الأوان فقد تركت سيّدتي حية ولن أعود لأراها بكفن يلحقه التّكبير يقودها لتُدفن تحت ذرات التراب الحقيرة، من بعدها قطعت الاتصال بالوطن، أنكرت وتألمت وندمت مع مرور الأيام التي أثبتت كذبة مقولة أن الوقت يشفي الجراح، فلو خُلِّدْتُ إلى يوم الدِّين لن أنسى والجرح لن يشفى، فأكثر ما يؤلم بعد رحيلها أني لم أفِ بوعدي لنفسي ولم أُلبس سيدتي الحرير، لذلك جلست وسط ظلام غرفتي وأنا أستحضر صورة الوالدة بخيالي لتنزل دمعة خلّفت خلفها مطرا قطع صوته الباب وقد فُتح ليدخل بعض الضوء الذي أرعب العتمة قليلا، نظرت إلى الفاعل الذي لم يكن غير إميليا التي تقدمت وسط الظلمة فحاولت التّماسك دامع العينين:

– هلا ذهبت عني!
قلتها بغضب فقابلتها بما بدا لي غباء وهي تتقدم نحوي: هل أنت تبكي؟
ما أسوأ من أن يراك شخص مُحطما أيها الرجل هو أن تراك أنثى كذلك، أخفى الظلام دمعي لكنه لم يُخفِ نبرة صوتي التي جذبتها لتجلس بجانبي:
– أرجوك إرحلي و اتركيني لحالي
– أنت تتألم، لا أستطيع تركك هكذا

وضعت يدي على وجهي وأنا لا أعلم لمَ ، هل خجلا أم غضبا فقط وضعتها لأنني لم أعد أحتمل إحداهما أو لربما كلاهما و برغم دموعي قلت ببرود: جروحي تؤلمني وحدي ولن ، لن يشعر بها غيري لذا أرجوك إذهبي

عمت لحظة من الصمت كسرتها وهي تقول بنفس برودي ناظرة الأرض كأنما فهمت ألم الرجل الذي يزيد عندما يُكشف: جروحك ستؤلمك وحدك هذا صحيح، لكن هَمُّك إن أفرغته أمام شخص ما فصدقني سترتاح

كدت أضحك ساخرا وسط دمعي كالمجنون فقد ظننت بأنها فهمت ما أشعر به ليتضح أنها لم تفهم حرفا مما ضننت وقبل أن أنبس ببنت شفة تحدثت: كانت أمي
كلمة ” أمي ” آلمتني و دفعتني لمقاطعتها ناصحا إياها بما أتمناه: نصيحة من ذهب أقدمها لكي يا أختي إن كانت أمك حية فاتركيني لحالي وقبِّلي جبينها القبلة التي غدت حلما أدفع ثمنه حياتي لو وجد

– أمي ماتت
قالتها ببرود لأفقد السيطرة على رأسي الذي ارتفع وحده ليرى وجهها وعينيها اللتان لمعتا دامعتين، نظرت بدورها إلي لأشعر بجبال الذنب تهدمني مجبرةً لساني أن يقول: أنا آسف
– وهي تمسح دموعها: لا بأس.. هل تمانع إن أخبرتك ببعض همي؟

شعرت بأني على بعد ثواني من الانهيار أمامها فلم أرد عليها لتُردف ذاهبة بمثل الصمت علامة الرضى:

كان لوالدي عادة وهي أنه يستيقظ بهدوء كي لا يوقظ أمي لأنه كان يذهب للعمل باكرا جدا ولم يرغب بإزعاجها، لن أنسى أبدا تلك الجمعة التي استيقظت فيها من النوم ثم توجهت كالعادة إلى غرفة أمي لأوقظها لكنها لم تستيقظ فمهما حاولت وفعلت بقيت نائمة ( أكملت دامعة ) بعد هذا الحدث لم أعد أذكر إلا اليوم الذي رأيتها نائمة فيه بكفن بينما الجميع يلبس الأسود، كنت بالعاشرة وقتها

صَمَتْتُ قليلا فلم أعلم ما أقول لكن فجأة بدأت الكلمات تخرج وحدها من فمي: شعرتِ بالضياع ولم تستوعبي ما حدث
– وهي تمسح دموعها التي انهمرت كالمطر: صدقني يا يونس إنه شعور لا يوصف، لكن ما حدث قد حدث ولن نستطيع تغييره

فكرة أنها حفرت جرحا عمره أحد عشرة عاما لأجلي أنزلت دمعي، زدها كونها تفهم بعض ألمي ما دفعني لأبكي كالطفل الرضيع فقد شعرت لأول مرة بالضعف والضياع، رحيل أمي جعلني لا أقوى على إمساك نفسي فمن ذا الذي يتحكم بمشاعره ؟ وما زاد انفجاري أنها رأتني أبكي، رجل يبكي لمنظر تعتكف أقوى القلوب رؤيته لكنها رأته:
– بلدي التي أقسى من الغربة دفعت صديق طفولتي ليموت محاولا الوصول هنا! وأنا لا أعلم حتى كيف وصلت أصلا لأجد هذا لا يختلف عن ذاك، مع هذا صمتت وأرسلت المال وفرحت لأنني أساعد أهلي، لكن الموت أخذ أمي أتعلمين لماذا أبكي؟!ّ لأن أمي ماتت ولم أقوى على حضور جنازتها حتى! لم أستطع ولا أعلم لماذا؟!!

أنزلت رأسي على يدي لأخفي دموعي التي سالت كالنهر لدرجة لم أعد أستطيع إيقافها، وما زادها إميليا التي ربتت على ظهري بلطف قائلة بحنان: أحيانا يكون الوداع أكثر إيلاما من الفراق نفسه، لربما شعر قلبك بهذا ولم يتحمله

لم أفهم لماذا تفعل هذا لأجلي؟ لذا لم يكن لي غير أن أسألها وأنا بنفس وضعي: لماذا تساعدينني؟
– نحن صديقان وهذا ما يفعله الأصدقاء، يشكون همومهم لبعضهم

لم أتخيل ولو للحظة بأنها تعني ما تقول قبل أن تثبت بالأفعال إذ طلبت مني أن أخبرها بكل ما مررت به ففعلت أمام صبرها لأشعر ببعض الراحة تعتريني، لكنها بقيت لمدة ثم هربت من جسدي ولم ألحقها لأنها لم تشفِ جرحي، كما أن ثمنها الإنكسار أثمن من أن أدفعه والكبرياء أقوى من أن أكسره مجددا.

مرت أيام أخرى تحولت الأسابيع غدت بدورها أشهر لم تُشفِ جرحا ، عدت للبارات حيث ارتشفت لشفائه دماء الشيطان المسمات بالنبيذ علها تُصْلِحْ لكنها لم تَصْلُحْ ( سامحني يا ربي ) أطلب السماح منكِ يا أمي ، وما يزيد ألمي علمي بأنك سامحتني، كذبت عليك أجل كي لا تحملي همي، هجرتك نعم أما بظني سأعود باليورو لأغلق فم من تحدث عنّي أشعر بأني سبب مرضك بهجرتي .
وأنا جالس مجددا بين السكارى غدت تلك الفكرة وحدها تجعل كل ذرة بجسدي تلعن ما بقي لي من وعيي الذي لعن بدوره حياةً فيها الأصدقاء لا يدومون والموتى لا يعودون، لعن حياةٍ الراحة فيها سبقتنا إلى القبر وتركت الألم رفيق دربنا.

صحيح أن وُجداني توقف لكن الحياة استمرت كاستمراري بالعمل وقد دفعني كبريائي لأن أكون سعيدا أمام إميليا بينما القلب حزين والضحكة تملؤها المرارة ما دفع اكتئابي يزيد لدرجة لا حد لها، فأنا كنت نادلا و قاسيت الأمرّين لأنتهي كما بدأت لكن قبلت بما ليس من اختصاصي لأجل أمي أما بعدما غدرني الوقت وأخدها لم أعد أعلم ما أريد، أجل الراتب جيد وأملك ما يسترني، أجل أُرسل اليورو للوالد رغم أنني هجرته، واقعي قد كرهته فهل هذا هو طموح من سهر الليالي حتى نُسخ ما على الورق بدماغه؟ بل هل هذا ما حلم به مهندس؟

دخلت على المخدرات التي أردت أن انسى بها ما لم أنسه بالكحول و لايحق لأحد انتقادي ما لم يضع نفسه مكاني، ما هو إلا يوم واحد و سيجلس كما جلست بغرفتي وقد أمسكت تلك السيجارة الخضراء اللعينة، سامحني يا إلهي فالواقع حطم رأسي وصبرت ليسانده الوقت الذي أخذ أعز ناسي وغدرني كي لا أنسى فخسرت لكني سأغدره بدوري علّني أنسى، أمسكت السم و بذكرى أول سيجارة عذراء خلف بيتنا استنشقت أوّل سيجارة خضراء بغرفتي لأرى بسمة إبليس أمامي ضاحكا منتشيا، الدنيا دارت والهواء تغير من حولي أمّا لم تُفلح، كيف يمكنني نسيان من اسمها وشم بقلبي؟ كيف أنسى من أنسى اسمي قبل نسيان حرفٍ من اسمها؟

سلاح الإنتشاء أثبت عدم مفعوله بالحرب التي اشتدّت بروحي لذلك قررت تجربة الحل الأخير، فكذلك الذي يجرح معصمه ماسحا الألم النفسي بالجسدي قررت التجربة لكن بطريقة العين بالعين فألم نفسي آخر قد يكون جرعة بنج طبعا مؤقتة لكنها تبقى ولربما تخفف الألم قليلا..
لذالك بعد انتهاء وقت عملي ليلا ذهبت إلى أحد المسارح القديمة بالأحياء الأثرية، الأماكن التي يستخدمها المهاجرين كمصدر رزق، نظرت إلى جدران المسرح المتأكلة بفعل الزمن وأبوابه المتضررة متذكرا رعب طفولتي من أنظار العيون، دخلت واتجهت فوق بساط أحمر مُهترئ فتح طريقا بين الكراسي بلونه ، جلس عليها بعض الناس

وصلت غير مكترثٍ إلى المنصة حيث وجدت شخص يحمل المايكروفون، استعرته منه لأمسكه بيد وباليد الأخرى ورقة كتب فيها القلب كلمات عبرت عن ندمي لتركي أمي وتحطمي لفراقها، فقط غنيت بغضب عدة كلمات عذراء تتناطح قوافيها قبل أن أنتهي ليبدأ الجميع بالتصفيق، لم يهتموا لصوتي الذي خلى من اللحن بل سمعوا كلماتي التي وصفوفها بالقوة والترابط، هممت بالخروج غير مبالٍ بهم ليلحقني رجل ثلاثيني يدعى جان لانوتشي، قال لي بأنه يمتلك شركة تدعى ( rolling stone records ) وهي معنية بنوع الغناء الذي ألقيته ( الراب ) وعرض علي توقيع عقد إن نفذت شروطه سيستمر بالعمل معي لأصل للشهرة، ذكرى أمي لم تفارقني ولكني وافقت علِّي أرفع اسمها في العلالي بعد موتها أو لربما لأن فراغ روحي احتاج ما يملأه.

بعد عدة أسابيع أثبت له تمكني بعدة أغاني تجريبية بالأستوديو التابع لشركته فتم توقيع العقد لأترك عملي بالمطعم وأبدأ بتسجيل ألبومي الأول ( La mère ) الذي يعني الأم، الألبوم الذي وجهته لمن شابهوني بالمصير كي لا يهاجروا ويذوقوا ألم فقدان الأم ، فالبحار أكلت رجالا والغربة حطمت من وَصل، الألبوم الذي غدا بمرتبة متواضعة بترتيب المبيعات بإيطاليا.

بعد ألبومي الأول بدأت الدعايات والإعلانات بالتهافت علي معلنة قدوم الشهرة التي لم تُنسني إميليا، فتاة لم أنسَ كيف واستني وقت سقوطي وكيف كانت أول إنسان يراني محطما ليحاول إصلاحي بقطعٍ منه، لست أبله لأضيعها فمثلها مثل الذهب الذي يكون بجدران المناجم مُمَوَّها كالصخرة فما إن تتعرف عليه كسبت كنزا أما لا تحاول أبدأ غسل صخرة لانها ستظل صخرة، وكي لا يدفعني الأمل الكاذب لغسل صخرة ما، استجمعت قواي وذهبت وحدثتها بحقيقة مشاعري نحوها لتبدأ بيننا علاقة قدّمت بعدها أول حفل هائل لي بمركز مدينة تورينتو، حيث كنت متوترا لكن الهم بقلبي أكل خوفي لأخرج لمنتصف المنصة مغنّيا عن قصة حياة رفيقي الباسم الذي مات مع تعبيري عن ندمي وكرهي للهجرة التي أكلت لحم الشباب أحياءً فلم تكن أبدأ كما تمنينا، وغنيت عن أمي التي فقدتها ولم ولن أنسى ذكراها لتخرج دموعي وحدها أمام المئات من المشاهدين الذين لم يسخر منهم أحد بل فهموا وأحبوا رسالتي ولم يحكموا على دموعي إلا بالتصفيق لأنها خير دليل على صدق كلامي

كم هو شعور حقير وقذر بأن تخبر الناس عن ناس أمامهم وهم لا يرونهم فهذا يجعل النقمة تزيد بقلبي، نزلت من المنصة ليتهافت علي المعجبون من كل جهة جاعلين من ابن البلد التي حطمته ظاهرة، شعور أشعرني بأنني رسول برسالة جعلتني أتذكر النقمة على وضعي الذي عذبني ودفعتني لعذاب أكبر، لذلك دخلت الراب المتمرد حيث تفننت أناملي بكتابة ما نطقه لساني فوق المنصات الكثيرة التي كان جمهورها الغفير يثور فرحا بي، وكما كل مغنيي الراب الذين يلمسون أبواب الشهرة أتتني تلك الجهات محاولة شراء صوتي وعندما رفضتها أتت مكانها رسائل التهديد التي أشعلت نار غضبي ودفعتني لأذهب بقانون ” لا ترعبني كلاب تنبح ولا تعض ” إذ وقفت عندا فيهم بمنصة إحدى الحفلات التي حاولوا إيقافها بباريس في شارع ﻻﺗﻴﻦ ﻛﻮﺍﺭﺗﺮ ﺑﺎﻧﺜﻴﻮﻥ، دخلت بعلم بلدي على ظهري وسط هتاف جمهوري ، أقف مرتديا الواسع الأسود لأن هموم المساكين ضايقتني، أتبختر أمام جموع هائلة حاملا الميكروفون بعد عذاب لأن ظهري حطمه الحمل الذي أثقله، أبدأ طقسي بالوقوف مغمض العينين وجهي إلى الأرض بلحظة ملأها هتافهم لأكسره بنطقي اسمي، الاسم الذي يبتدء كل شيء you-s الاسم الذي قدّمت به للعالم الأغاني الهادفة التي سطرتها و ألقيتها على أشهر المنصات مستمراً بأسلوبي الهجومي الذي أعطاني التميز باختلافه.

بعد الحفلة عادت بي الليموزين إلى الشقة الفاخرة التي اشتريتها عقب نجاحاتي، حيث دخلت من بابها الأسود مسرعا لأفتح البراد الكبير وأخرج كيس الدواء، الماريجوانا هي ما ستنسيني قليلا، لا تحكم علي فذلك الهمُّ الذي تحمله بداخلك ويعذِّبُك أنا مثلك حملته، أعلم أنك احتملته! أنا مثلك لكني حملت غيره، حملت همَّ الفقراء والمساكين، حملت هم الشباب وأمهاتهم، همهم يهدم الجبال وعلقته برقبتي مع همي على شكل خمس سلاسل ذهبية طولها بعدد الأغاني التي تعبت بكتابتها و إلقائها محاولا تغيير العالم، لكن بدل تحقيق هدفي لم أجد غير رؤس و مؤخرات تهتز بوجه قصص الواقع ما أصابني بالإكتئاب، الأن علمت لماذا يُدفع لي الكثير فلا شيء بالمجان، وما أسوء أن يحبك من لا يفهم قصدك.

جلست على أريكتي المريحة الحمراء وقد جَهَّزت سيجارتي التي ما أن أشعلتها حتى ظهرت إميليا فجأة من العدم بنظري، تقدمت بكل ثقة وسحبتها من يدي ليكون مستقرها الأرض تحت كعبها العالي، رفعت بنظري من قدميها مرورا بجسدها المثير إلى فمها الجميل الذي أخذ يوبّخني مما أثار غضبي ليحدث شجاراً بسيطاً ، لا أنكر أنني أخطأت بالصراخ في وجهها وهي خائفة علي ولحسن حظي أني صمتت و نظرت لدموعها وسط كلماتها التي لم أسمعها أصلا، فقط وقفت شاردا فمِنْ بعد أمي مَنْ اهتم لأمري؟ أنا نفسي التي تعيش بجسدي لم تكترث لمصيرها بينما هذه الإيطالية تذرف الدّمع خوفا عليّ من مجرد سيجارة؟ تبا! قلت لكبريائي ونفسي الذان منعاني من الاعتذار وأجبراني على رؤيتها تخرج بدموعها واقفا كالأبله، شعرت أن رأسي تحول لرأس بغل ينهق.. أنت فعلا بغل القرية يا يونس.

الرجل ليس من يلحق كبريائه بمنطق أنه لا يخطئ ولو أخطئ بل الرجل من يهزمه و يعترف بخطئه عند ارتكابه ولغبائي فطنت بهذا متأخرا لأعتذر من إميليا التي صفعت كياني بقبولها اعتذاري الفارغ مشترطة أن لا ألمس المخدرات مجددا، لم تطلب جائزة ترضية أو رحلة إلى الله أعلم أين! لم تطلب أن يتحرك جيبي بل إاشترطت أن أحافظ على صحتي !! شرط جعلني أشعر بالذنب مدة وللأعتراف بخطئي دعوتها إلى أحد أفخم وأرقى المطاعم بروما حيث كانت أبرز الشخصيات من الفنانين والرياضيين، جلسنا على طاولة غطاها الأحمر مستقرها بجانب شرفة تطل على حديقة ملأها الإنسان، أعطيت النادل طلباتنا لتمر علي لحظة ( الديجافو ) وأنا أراه ذاهبا.

– بالأمس كنت مثل ذلك النادل واليوم أنا ظاهرة.. من كان ليتوقع أن أصل إلى هنا؟
– عليك أن تشكر الرب على ما أنزله عليك من نِعَمْ
قالت وهي تنظر إلى مزهرية الورود الحمراء التي توسطت الطاولة، أخذت زهرة وضعتها بين خصلات شعرها البني ذا الحواف الذهبية لأقول: يقولون الدُّنيا دوّارة
– الدنيا غدارة يا يونس، وإن كسبت فيها شيئا فهذا بفضل الرب الذي يجب علينا شكره
غلبتني بهذه ولا كلام يعلى على حرف من ما قالت فرددت باسما معلنًا خسارتي: الحمد الله على كل شيء.. ثم تبدين جميلة بالزهرة
– شكرا لك

صمتت وأنا أرى النادل يقترب مع طلبينا الذي وضعهما لينصرف، المثير للسخرية أنني كنت أعيش بالبلد على الخبز والشاي اللذان مللت طعمهما وها أنا الأن أعيش على اللحم و النبيذ اللذان بلا طعم بعد موت روحي، فطعم هذا اللحم ( شريحة ستيك ) لا يقارن بطعم ما تصنعه يد أمي، غريب الأمر فقد هاجرت محاولا إيجاد السعادة والسعادة كانت بجانبي منذ خُلقت حتى أنها صفعتني على وجهي وأنا طفل.
بهمِّي وموت قلبي كنت أنظر لها وهي كالملاك، إثارتها بالفستان الأسود كعينيها الجميلتين كانا ليمنعاني من إزالة بصري عنها لولا حضور النادل بالتحلية لأبتسم وأنا أرى دهشة ملاكي التي رأت كلمة ( أنا أعتذر منك ) منقوشة بالكريما فوق كعكة الشوكولا:
– يونس لما فعلت هذا؟ أولم أسامحك؟
– لأقول الحقيقة، اثنان لا أتحمل رؤية دمعهما، الوالدة التي كانت الإنسانة الوحيدة التي قادتني إلى طريق الصواب فقد كانت تضربني كلما مِلْتُ للخطأ ( ضَحِكْتُ لأُكمل ) و من بعدها لم أجد من يمسكني، ثم أنت التي أمسكتني و واسيتني وقت سقوطي
– لماذا تتحدث هكذا؟

وقفت على فجأة لأخطف أنظار كل من لبس الأسود الرسمي وإناثهم من حولي لأقول ناظرا لخجل ملاكي: فليشهد الجميع! أنا أحمق وغبي لأنني أغضبت هذه الحسناء!! ترى هل ستسامحني؟
– ناظرة حولها ببسمة صفراء لتخفي إحراجها: يونس أنت تحرجنا
– تبا للعالم كله!! فمثلك أتسلق لأجلها أعلى الجبال فقط لأرى بسمتها، لكن أنت أدخل الجحيم إن رأيت دمعك.. أتسامحينني؟
– أجل.. فقط إجلس
– أجلس؟ من عيوني

بانحناءة الشرف التي يقوم بها فرسان العصور الوسطى عند تكريمهم قمت بالابتسام قائلا وقد أخرجت الحجر الماسي على مرأى الجميع: بعد السماح.. إميليا هل تتزوجينني؟
انفجرت المشاعر المتخبطة بداخلها في لحظة جعلتها تتسمر مكانها لعدة ثواني، كيف أعرف؟ لأنني أحسست بالمثل وأنا أنتظر جوابها وسط نظرات كبار الشخصيات حيث شعرت لأول مرة منذ دهر بقلبي الذي خفق عندما قالت كلمة ( موافقة ) التي تكررت وكل مرة تكون كأنما الأولى، بسبب نفس الأدرينالين الذي دل على رغبتها وقتل خجلها

ابتسمت وسط تصفيق المشاهير غير مصدق، الابتسامة التي لم تفارق وجهي البائس إلى أن رأيتها بعد تخرجها بشهر مرتديا الأسود الرسمي أمام المأذون، رأيتها تتقدم على البساط الأحمر الذي قسم طريقا بين كراسي الحضور الكثيرة، لتصل أخيرا وتقف أمامي بالأبيض الملائكي وهي تبادلني الابتسامة وتسرق بين كل لحظة وأخرى نظرة إلى حيث يجلس والدها السّعيد.
تم الأمر وعقدت قراني بملاكي في واحدة من أكبر الحفلات التي شهدتها مدينة ميلانو و أذاعتها أشهر القنوات، كلي يقين بأن ما أذيع قد وصل البلد حيث سيموت الحساد سخطا ومن حطمني قهرا، لكن رغم ابتسام الحياة بوجهي إلا أنني فقدت الشعور فأين أخي الذي كان من المفترض أن يسخر مني ويفضح مواقفي المحرجة؟ وأين هي روحي التي من المفترض أن تفرح؟ بل أين أمي لترى اليوم الذي انتظرته؟ أنا لا أعلم ولكن أقله عاد القلب يخفق طوال المدة التي أمضينا فيها شهر العسل بباريس حيث منعتني ملاكي من العمل على أغانيَّ القادمة لكن رغم هذا مرت الأيام معلنة زيادة قوة الحب فيما بيننا بأحد أفخم الفنادق بحي ﻟﻮﻓﺮﻱ بلاسي ﻓﻴﻨﺪﻭﻡ.

بآخر أيام شهر عودة قلبي استغليت دخول ملاكي للحمام لأجلس على السرير الكبير متمسكا بدفتري الذي لا أستطيع تركه، فسطر الأغاني عمن عانى بحياته غدا لي عادة لا أستطيع تركها، ظهرت إميليا من العدم بنظري لتجلس بجانبي مرتدية الأسود المثير:
– أنت تكتب مجددا، حبيبي هلا تفرّغت قليلا لنا
ابتسمت لأقول بعدما وضعت الدفتر على الطاولة بجانب السرير: لنا؟ وهل أصبحت اثنين
أطلقت ضحكة على نكتتي السّمجة علها تنسيها ما فعلت لكنها قطعتها بجملة مفيدة حطمت المنطق بواقعي قائلة: يونس أنت أب

تضاربت المشاعر بين عدم المسؤولية والرغبة الأنانية لتفوز الأخيرة التي جعلتني أقول بكل جدية و شك ينتابان الكل عند سماع خبر تشتد عنده الفرحة: ماذا؟ هل انت متأكدة؟ أعني هل.. هل أنت متأكدة؟! إميليا! هل أنا أب؟
بنفس جلستها ونبرتها التي لم تزدهما غير البسمة: أنت أب
– بعدما تجمدت مكاني: أنا أب؟ أنا أب! سأغدو أبا!!
لم أشعر بنفسي إلا وقد قفزت فرحا من سريري وأنا أصرخ ( سأغدو أبا ) بينما الأفكار الباكرة أخذت تتدفق بذهني عن جنس الطفل وحياته ثم أتت فكرة الاسم التي جعلتني أصمت، صمتت قليلا لأتذكر أمي التي لن تسمع باسم حفيدها، لكن استمريت بالفرحة التي دامت حتى اليوم الأسود لأي روح و الأجمل لأي أم وأب، ولادة طفلهما، إذ وقفت بذلك الممر اللعين الذي يعرفه كل زوج دخل مستشفى قبل أُبُوَّتِهْ، كنت أمشي ذهابا وإيابا أمام الباب بينما جلست بعض رفيقات زوجتي و والدها في صمت محدق منتظرين، كنت شاردا ولست بشارد فكل ثانية تمر كنت أشعر بها كأنما ساعة ومع ذالك كنت أصبر إلى ما بدى لي أبد الدهر قبل أن يقطع الدهر صوت البكاء الذي أعلن بعده خروج الطبيب إذن دخولنا، ولد لي طفلي الأول من ملاكي التي حملته مبتسمة على سرير أفضل المستشفيات بفرنسا:
– إيمان حبيبتي قولي أهلا للعالم

لأول مرة ابتسمت من كل قلبي بصدق مع دمع فرحة نزل لأول مرة بحياتي فإيمان اسم الوالدة الذي أطلقته على إبنتي، أشعر بالفخر بعدما أحضرت للعالم روحا وأنا مستعد لأدعها تعيش بالرغد طول عمرها، وأشعر بأني أملك الكون وأنا أرى زوجتي تحمل ابنتي سعيدة محاطة برفيقاتها و والدها.. بتلك اللحظة أقسمت يمينا أن يرى من يمس شعرة منهما ويل جهنم بالدنيا قبل الأخرة.

مضت الأشهر التي كبرت فيها روحي بين السهر و الرعب على مرضها وبين كاميرا تلتقط كل حركة منها، كل ما سلف كان من فعل ملاكي أما أنا فقد كنت مشغولا بين ألبوماتي وحفلاتي التي لم تمنعني من ملاعبتها بكل فرصة.
تخللت بعض أنوار أشعة الشمس ستائر شقتي الحمراء لتعانق وجهي فاستيقضت لأرى ملاكي التي تلاعب روحي بجانبي: أنظري حبيبتي، بابا الكسول قد أفاق أخيرا
– منذ متى وأنت مستيقظة؟ لحظة ، من الكسول؟!
– بعدما ضحكت: لم أنم منذ الرابعة صباحا، فإيمان لم تتمكن من النوم.. ولا تنسَ لديك اليوم مقابلة صحفية
– وأنا مستلقٍ ناظرا للسقف: جدول أعمالي فارغ تماما فقد ألغيتها منذ الأمس
قالت باسمة وهي تحمل روحي بالهواء ملاعبة إياها: لماذا ألغيتها؟
– وهل يمكن لمن ينام بجانب ملاك مثلكي ترك السرير؟
قلت وأنا أنظر إلى زي نومها الأحمر المثير كلون السرير لتلاحظني فقالت بعدما وضعت روحي بسرير الأطفال بجانب سريرنا: هذا الإطراء لن ينقذك من العقاب فقد استخدمت كلمات بذيئة بآخر أغنية لك، ألا تعلم أن هناك مراهقين بفئة جمهورك؟
-تبا كم تبدين مثيرة عندما تلعبين دور الرئيسة
– حقا؟ إذا فإحذر كي لا تقوم الرئيسة بطردك
– لا بأس، فوقتها سأجد رئيسة أجمل
ضربتني مغتاظة بالوسادة الحمراء فأخذت أضحك قليلا قبل أن أقول: أنا أمزح ما بك؟
– بصرامة: لا تمزح معي هكذا
قلت بعدما أبعدت الوسادة: اليوم كله سأمضيه برفقة الأفرودايتي خاصتي و أميرتي الصغيرة إيمان قبل أن نذهب غدا إلى البلد
– لكن حفلك هناك بعد غد
– أعلم لكني أريد زيارة بلدي بحرية قبل وصول الكاميرات

لم يكن منها إلا أن توافق مبتسمة لي فهي تعلم كل العلم أن قدمي لم تطأ أرض أجدادي منذ عشر سنوات ثم قالت مازحة: وأنا قلت لماذا سيقضي يومه معنا؟ أيها الاستغلالي
ضربتني بالوسادة مجددا ما دفعني لأضربها بوسادتي مدافعا عن نفسي لتمر الدقائق التي ملأنا فيها الغرفة ضحكا و السرير ريشا

أمضيت يومي مع ملاكي و روحي بسعادة قبل أن أعود بالغد للبلد إذ عدت إلى ما كانت بلادي إيطاليّاً ، مع روحي ويدي بيد ملاك يحلم بها كل مُلاّك الكنوز، نزلت من الليموزين التي أخذتنا من المطار لتنفجر أضواء كاميرات صحفيّي البلد التي أزعجت زوجتي بخلافي فوجودها يعني أن الحسّاد ومن ظلموني علموا بالكلب الذي ذهب وعاد أسدا، الأسد الذي لم ينسَ وطنه الذي تمثل بهيئة قبر توسط مقبرة مظلمة زرتها حاملا روحي مع أفخم أنواع الزهور لتنزل الدمعة من عيني

ابتسمت باكيا وأنا أتحدث مع قبر متواضع مخبرا إياه برحلتي مُعرّفا إياه بزوجتي التي كانت تواسيني متفهمة ما أمر به، مِن بعد الله مَن غيرك سأشكي له همّي؟ وما يزيد القهر أنك تسمعينني حتى بعد موتك يا أمي

ترحمت على روحها التي لن تعود ثم تركتها بصعوبة لآخُذ ملاكي و روحي إلى الحي حيث تربيت، الحي الذي فاجأني أن الحكومة هدمته لإنشاء طريق سريع، ماكان لي بيتا برائحة فرحة الطفولة غدا ذكرى تدوسها إطارات السيارات وأقدام المشاة، أكذب إن قلت أنني لم أفقد الانتماء لهذه البلد التي ماتت بها أمي وأحلامي مع موت ما بقي لي من وطن، ولم يبقَ ما يربطني بها غير الرجل العجوز ، وللقائه قررت الذهاب إلى بيت عمي حيث لا مكان لوالدي ليكون فيه غيره، سيدي الذي طوال الطريق إليه بالليموزين كنت شاردا، فكيف سأجيب عن أسئلة من شدة ثقلها هدمتني، لماذا هاجرت؟ ولم تركت أمك بعد موتها؟ بل لم هجرتني ولم تتصل؟ أسئلة أمضيت ثمان سنوات أبحث عن حلها الذي لم أجده وكلي يقين أنه يملك غيرها

شردت حتى وصلت لتلك الشوارع التي لا أحد من ذوي الكراسي يعلم بوجودها حتى، نزلت أمام بيت متهالك لأراه، عمي العجوز الذي رآني هو وابنه، ليُبصرا الحقير الذي غطى عظامه اللحم والعضلات التي كساها بالأديداس والغوشتي مع سلاسل من الذهب، ويده بيد ملاك من الخارج غطتها ماركة فيرساتشي حاملة ابنته، أخذ ابنه يفترس وقفتي الثابتة بنظراته غير مصدق، هل هذا يونس النحيل الذي كذب كي لا يزيدنا هما ؟

قطعت نظراته بنظراتي لوالده الجالس على كرسي متحرك قائلا: ما به؟
– لقد مرض و تفاقم مرضه ليصبح مشلولا بالكامل
قالها كأنه لا يعرفني، فقلت لملاكي أن تنتظرني بالسيارة لتذهب بدون نطق حرف فقُلت ببرود: أين سيدي؟
كلمة سيدي التي نطقتها كانت التأكيد الذي جعله يعلم من أكون ليقول بكل برود: والدك قد مات يا يونس، مات بعد موت أمك بسنتين، لهذا تفاقم مرض الوالد

كلماته تلك جمدت الدم بعروقي لأسباب لا حد لها واستحضرت آلاما لا حد لها مع ذكريات لا حد لها، لكن وحتى بعدما أمسكت نفسي لم أجدها إلا وهي تنفجر بوجهه: لماذا لم يخبرني أحد! تبا، تبا، تبا!!
خرجت على صوتي أخته التي تجمدت تنظر لشخصية لم تخطو مثلها شارعهم الحقير فقال بعدما رآها: تفضل معي يا ابن العم لتعلم لمَ لم يخبرك أحد

دخل يجر كرسي والده إلى بيتهم الحقير وأنا خلفه فقادني إلى غرفة صغيرة حيث جلس ليقول بعدما رفضت الجلوس: يونس نحن لم نخبرك بوفات والدك كي لا نزيدك هما، أنا أعلم أن خبر موت أمك لم يمر مرور الكرام على نفسك
توقفت عن الاستماع له لأستمع لكلام شيطاني الذي فضح أصحابه بنظري وأجبرني لأقول: وفر هذا الهراء! فلم تخبرني لأنني كنت أرسل المال أليس كذالك؟! تبا لكم!!
نهض ليصرخ بوجهي: أبدأ يا يونس! أجل احتجنا المال ولكننا لسنا حيوانات لنفعل بك
– مقاطعا: من قال بأنكم حيوانات؟ أنتم عاهرات! أَوَهُناك عاهرة ترفض المال؟!!
– يونس راقب ألفاظك أرجوك.. الوالد هنا

نهض من مكانه محاولا مجابهة طولي الذي فاقه ليقول وهو يدفعني: أرجوك إن كنت ستتحدث بلغتك هذه فلننقل الحديث إلى الخارج
– لا تلمسني أيها اللعين! سأخرج بنفسي
– لا تتصرف هكذا فقد كنا أولاد حي واحد.. لا تقل بأنك غدوت من غاسل صحون إلى مُّبَدِّلِ قشرة!

ما برأسي من هم زادته كلماته فكانت كافية لتسندني عليه الأبالسة، فقبل حتى أن ينطق لكمته لكمة قذفت بجسده الهزيل على طاولة رخيصة تحطمت، فوقفت فوقه وأمسكته من رقبة قميصه القديم لأبدأ بلكم وجهه الذي ازداد احمراره بعد كل ضربة، لم أكن أشعر إذ إاسودّت الدنيا من حولي ولم أكن أرى أمامي غير كيس فارغ سأفرغ فيه جل غضبي المكبوت، ظهرت أخته من العدم لتحاول إيقافي فدفعتها لتبدأ بتهديداتها عن الاتصال بالشرطة بينما أنا ألكم أخوها: أنا غسلت الصحون أجل! لكني ملكت الشهادة التي تجعلني أفضل من أُمِّيٍّ مثلك!! أنا درست يا أيها الحثالة التي تعيش بمالي!! أنا أفضل منك!!

لم يوقفني غير أخته التي قالت كلمة ( نكرة ) لو قالها رجل كنت لأحفر له قبره بمكانه، تركته مطروحا أرضا يبكي بين سببين، سبب الضرب الذي شوه وجهه و سبب إدراكه لجهله، ذهبت لتلك العاهرة الباكية التي أخذت ترتجف خوفا وهي تقول كلاما أكبر من حجمها: لو كنت تتصل بوالدك لعلمت أنه مرض ! أتعلم لم لم نخبرك بمرض والدك الذي قتله؟ لأنك كنت لتهجره كما هجرت أمك! ثم حتى لو أخبرناك هل كنت لتأتي؟ أين كنت عندما ماتت أمك؟ بإيطاليا صحيح؟ إيطاليا التي فضلتها على..

أمسكتها من رقبتها قبل أن تنهي ما كان ليكون موتها لكنها أبت أن تصمت: أبعد يدك! لا يحق لك أن تلمسني! سأتصل بالشرطة!!
تركتها لأرمي لها هاتفي الثمين الذي يشتري عشرة من ثوبها المهترئ وقلت بتكبر الغضب: خذي اتصلي بالشرطة واشتكي! لا بل أفضل البسي القصير وأذهبي للمركز حيث ستجدين من سينافقك ويأتي ليجد أمامه شخص من كبار الشخصيات، لا! وفوقها مواطنا إيطاليا !!
سقطت تبكي عاجزة العجز الذي كان كافيا لأهدّئ به نفسي قليلا، أخذت هاتفي لأسمع ذا الوجه المشوه الذي حاول قول جملة مفيدة بفمه الدّامي الذي سالت فوقه دموعه: قلت.. الحقيقة.. قلت
اجهش بالبكاء كالطفل لأنظر لدموع والده المشلول الذي جلس بلا حراك: عائلة مكونة من عهرة!!

– يونس!!
إميليا أتت تبا! وكأن ما بي لا يكفيني، تقدمت وأخذت تصرخ قائلة أشياء أكذب إن قلت سمعتها فمن تشتتي تركتها وخرجت قبل أن أرتكب جريمة ما، ذهبت إلى السيارة لأرحل بلا تفكير تاركا ملاكي وروحي، ذهبت إلى غرفتي بالفندق حيث وقفت بصمت فبعدما جفت دموعي و اعتادت مشاعري القهر لم تعد هنالك طريقة لأعبر بها عن الألم.
فقط آلمني رأسي لأذهب للحمام لأغسله ثم نظرت إلى المرآة أمامي لأرى انعكاسي، ستقول من الطبيعي أن تراه، لكن صدقني لن تراه كما أراه، فلن ترى شخصك يوبخك خلف المرآة لأنك تدرك ما هي حقيقته:
– هل هذا من ربياه عبد الرزاق وإيمان؟ هل هذا يونس؟
لم أكترث بكيف يتحدث معي بقدر ما اكترثت للدفاع عن نفسي: أجل هذا هو يونس ابن والديه
– ابن والديه؟ وهل يضرب من ربياه والداه ابن عمه ويهين ابنة عمه أمام عمه المعاق الذي لم يحترم حتى هيبة وجوده؟
– فعلتها وسأعيدها فقد استغلوا سيدي بقبره! ولم يهتموا بغير المال!!
– من أخبرك بهاذا بل ما دليلك؟
– دليلي؟
– أجل دليلك، فما رأيت إلا ثيابا مهترئة ومسكناً قديما لذا أين رزقك الذي أكلوه؟

سؤاله جعل رأسي يؤلمني بشدة والعالم حولي يدور فغسلت وجهي مجددا لأقول: ماذا؟

لم يجبني فركزت بالمرآة لأجد إنعكاسا عاديا، هل جننت أم بدأت؟ مهما كان فقد كان وكان للماضي لكنه ترك خلفه تلميحا جعلني أجلس على الكنبة التي توسطت الغرفة شاردا مدة من الزّمان لم أشعر فيها بالوقت الذي أشعرني به دخول ملاكي فجأة، جميلتي التي جعلني صمتها أصمت منتظرا ما أعلم حدوثه، وضعت روحي بسريرها الصغير ثم تقدمت نحوي لتقول بكل هدوء: يونس أتعلم ما فعلته؟
نظرت إليها لتفهم أني لن أجيب، فأجابت عني: لقد تعديت على امرأة لفظيا و ضربت أخاها حتى حطمت أنفه بوسط بيتهم أمام والدهما المعاق
حاولت الكلام فأوقفتني قائلة بصرامة اقترنت بالهدوء كي لا توقظ ابنتنا: ستقول احتالوا عليك ، صحيح؟ لقد تحدثت إلى ابنة عمك التي أخبرتني كل شيء.. لقد أخفوا موت والدك حبا بك، لا أنكر أن ما فعلاه خطأ لكن هذا لا يبرر الخطأ الذي ارتكبته أنت

– إن كانوا صادقين فلماذا أخذوا الأموال التي أرسلتها لوالدي؟

– لأن عمك كان يحتاج لعدة أدوية باهظة لمحاربة مرضه
مجددا .

أوقفتني عن الكلام لتجيب كأنما تتوقع كلماتي قبل حتى أن أفكر بها: لما لم يطلبوا المال منك؟ ضع نفسك مكان أحدهم وستعلم السبب

بمجرد التفكير بالأمر صفعني كبريائي الحقير فعلا إذ أموت ولا أقول أعطني، اختفى شرودي لأدرك أنني ظننت نفسي ذكيا فظهر غبائي جليا بلحظة غضب بمجرد مرورها شعرت بالذنب، شعرت إميليا بانزعاجي لتقول ساخرة: لا تقلق فقد تكفل جيبك بكل تكاليف علاج عمك وإبنه
شعرت ببعض راحة الضمير كما شعرت بغضبها مني فما كان مني غير الاعتذار: أنا آسف لأنني تركتك وذهبت فالأمر هو.. الأمر هو أنني كنت مهموما ولم أرغب بأن تريني غاضبا
مررت يدها على خدي لتقول: حقا؟ أتمنى أن يعجبك النوم على هذه الكنبة الليلة فبيننا حديث طويل صباح الغد
ذهبت لتستلقي على السرير بعدما بدلت ثيابها بينما بقيت أنا شاردا لدقائق حتى سمعتها تقول بحزن: يونس آسفة على موت والدك
– ما باليد حيلة

قُلت بعدما استلقيت على الكنبة التي استحضرت ذكريات عشرة سنوات للخلف حيث كنت أنام بخربتي فنزلت دمعة لا شعورية، لم أعرف هل اشتياقا لما كان أم أسا عليه، إذ تخبطت مشاعري بحرب أعلن هُدنتها النوم الذي أخذني بحضنه لأسترسل به سعيدا حالما بأمي العزيزة حتى صَدَّعَ روحي إستيقاظي لأجد ملاكي جالسة على السرير الأبيض ببرود ممسكة بهاتفي، لسوء مزاجي جلست ببرود فوق الكنبة لأقول رغبة بإنهاء الشجار القريب سريعا: إيمو.. هيا وبخيني بسرعة فلدي عمل

– جالسة ببرود: يونس لماذا لم تخبرني؟
نظرت إلى عينيها لأرى ذلك البريق الذي تخلفه الدموع، لكن ماذا فعلت؟ لأعلم قلت ببرود: أخبرك بماذا؟
رمت الهاتف إلى الكنبة ليستقر تماما بجانبي فتناولته لأجد رسالة تهديد موجهة من إحدى الجهات، قالت ملاكي بعدما نهضت وأخذت تمشي أمامي ذهابا وإيابا من شدة توترها: لا يونس لا يمكنني أن أتحمل! لماذا لم تخبرني؟!!
قالت صارخة وسط بكاء ابنتنا الصغيرة لأجيبها ببرود بعدما فهمت كل شيء: إنه مجرد كلام على ورق
– كلام على ورق؟! هذا تهديد!!
– وهل الشتم كالضرب؟
– يونس! كُتب في الرسالة توقف أو ستموت!! أرجوك ( أكملت دامعة ) أتوسلك توقف لا أريد أن أخسرك

الكبرياء يهزم الحب عندما تشعر زوجتك بأنك شخص ضعيف وتخاف عليك من شخص أخر ما هو إلا إنسان، ولعمري هو لشعور مُهين يجعلك كالديوث اللعين، شعور أخرج غضبي لأنهض مزمجرا مدافعا عن نفسي: لا! لمَ أتركه؟ لأن بعض السفلة الجالسين بالكراسي يهدّدون؟! تبا لهم فهل صراخ الكانيش يفوق نباح البيتبول؟!
– نحن بشر ولسنا كلابا! يونس انا خائفة
– الخوف من الله وحده ولن يصيبنا إلا ما كتب لنا! إن كانت على الموت فلم أخفه قبلا ولن أخافه الآن!!

صرخت بوجهي وهي ترتجف غير قادرة على الوقوف من التوتر: لم تخف الموت بسبب ظنك أنك لا تملك ما تخسره! وأُنظر إلى ما خسرته!! يونس أنت الأن تملك زوجة و إبنة لتخاف الموت وتعيش لهما!!

ما قالته حقيقة مرة ألمتني، لكن لا أعلم لمَ لم يتحرك جسدي ساكنا لإسكاتها، فقط تحرك لساني بغضب: منذ بدأت هذا الفن! وأنا لا أسمع غير كلاب تنبح ولا تعض!! لا أستطيع ترك الناس يتعذبون مثلي فقط لأن شخص هددني، لا أحد يهدد يو إس!!

تقدمت و وقفت أمامي مباشرة لتقول بكل هدوء: أتركه لأنني انا طلبت منك هذا
– هل أترك الفن الذي يتحدث عن أحوال المساكين؟ هل أتركهم يعانون لأجل لا شيء ؟ هل أترك ما أحب؟
– والدمع ينزل من عينيها: لديك عائلة، لديك ابنة يا يونس.. حبك لي ولابنتنا وليس لفن حقير
لم يكن دمعها كدمع الوالدة الغالية، لكنه كان غاليا لدرجة كادت تحطم كبريائي و تطفئ غضبي، فلم أجد نفسي إلا وقد حاولت التهرب قبل حدوث ذالك صارخا: تبا! أنا لن أتوقف وعندا في العاهرات سأذهب لحفلتي الليلة!!

ارتديت معطفي الجلدي أمام ملاكي التي وقفت أمام الباب في محاولة يائسة منها لمنعي من الخروج: يونس لن تذهب إلى أي مكان.. أرجوك لقد وصلت والآن يمكنك التقاعد والعيش بسعادة معنا.. أتوسل إليك لا تذهب
عشت بإيطاليا عشر سنوات! تألمت وفرحت فيها وعثرت على الحظ الذي لم أجده ببلدي التي لم أقضي فيها غير يوم واحد وإذا بالمصائب حطمت ظهري!! بتلك الأفكار التي أجَّجَتْ نار غضبي حاولت الصراخ لكن لساني أبا ليقول بهدوء: ما الفرق بيني وبين المغنين الآخرين؟ الفرق هو أنني ملكت الشهرة و المال، لكني أبداً لم ولن أنسى من عانى

أبعدتها بهدوء عن طريقي لأرى دموعها تنهمر لعجزها عن حماية من تحب بنظرها، صوت بكائها لم يبرح صداه أذُني حتى عند ركوبي الليموزين حيث جعل مشاعري تضرب المنطق برأسي، لم أطمح إلا لأن أكون مهندسا وعندما غدوت تحطمت بالبطالة و طمحت لأجد عملا لإعانة العائلة التي فقدتها، وها قد ظهر من حيث لا أعلم فن جعلني ظاهرة ومع هذا أنا لم أطلبه لكنني عشقته أما عشقي لملاكي أكبر مني ومنه لكن لا خيار لي فهل سأترك عذاب من شابهني بالمصير؟ هل سأترك الشباب الأعمى يفكر بجنة ما بعد البحر؟ للتهرب من أفكاري نظرت من زجاج السيارة لأرى تحت بساط النجوم شابا وقع ثملا بجانب جدار نام تحته، مرت عشرة سنوات ولم يتغير شيء، وبالحديث عن التغيير لم تمضِ غير دقائق حتى وصلت الحفل الذي أتمنى أن أستطيع استغلاله ليفهم الحضور رسالتي، علني أغير شيئا.

وقفت فوق المنصة ممسكا الميكروفون وأنا أرى آلاف من أبناء آدم، فنطقت ( you-s ) ما بدأت به الغناء عن ما كتبت، فقد نطقت كلامي عن آلام البشر كالعجوز التي جُنَّت بسبب هجرة إبن ملّ الثمالة وإمرأة داست كبريائها وطَلَبَتْ، غنيت متبخترا عن الهارب الحارق و المحروق و تحدثت عن من بديبلوم وحذائه مثقوب، الفقراء والمساكين الذين لم يجدوا ما يسترهم ثم شتمت ولُمتُ كراسي المافيا مع الشرطة الفاسدة حاشا من لا يستحق، أفرغت ما بقلبي من ألم والنقمة على حياةٍ نشّالة نشلت أغلا الناس لأختم بغناء قصة حياتي منذ ولدت إلى حيث وقفت اليوم، قلت ما قلت أمام جمهور فهم ما قلت ليهتفوا باسمي عاليا بينما وقفت لا مباليا إلا بالهم الذي ببالي فهل سيتغير شيء بعد هذا الألبوم؟ هل سيعاملون الفقراء والشباب والمساكين بالعدل و الاحترام؟ لقد تركوا لكم الفانية بمالها وما فيها طالبين فقط العدل والاحترام

قطع حبل أفكاري القدوم أصوات غريبة شعرت بعدها بألم عجيب، لقد إستقرت عدة رصاصات بجسدي وأنا حتى لا أدرك ما حدث لي، تفرق الجمهور راكضا بكل مكان ليهجم الأمن الذي أخذ يبحث عن إبرة بكومة قش بينما غدا كل شيء قاتما.. أنا الآن على سرير بسيارة إسعاف بينما تجلس بجانبي إميليا باكية متمسكة بيدي، نظرت إلى دموع عينيها فبدأ الظلام بأكل كل ما هو جلي ليسود السواد..

أنا الآن بسرير يدور حوله عدة أشخاص يلبسون الأزرق أتى من بعدهم رجل يلبس الأبيض، لا أستطيع أن أفهم لم يحاول حتى؟! لابأس أعرف جيدا أن الموت مصيري فقد حصلت على الفرصة لترك هذا الفن المُحتقر الحقير، لكن كيف أترك ما ليس لي؟! أبدا لم يكن الخيار بيدي فقد ولدت بقرى محقورة ولا بد لإبنها من شكوى الاحتقار، الفن الذي لو تركته كنت لأترك أرواح من عانوا أمامي ليعانوا أكثر، أعلم أنه مجرد كلام فارغ لن يهتم به أصحاب الكراسي لكنه كلام يرعبهم يسمعه الشباب، فن كل ما سمعوه زاد وعيهم بالتعلم من أخطاء مغنيه، أعلم جيدا يا إلهي اني أخطأت وشتمت، طغيت وتكبرت، أرجوك لقد تركت خلفي زوجة وإبنة.. لكن فات الأوان على الترجي و التوبة فأنا الآن واقف بمكان أسود صخب بصوت بكاء طفلة صغيرة أرى فيه ثلاثة ..

الطريق اليمنى غرفة مضيئة تجلس بها أمي مرتدية جلبابها الأبيض وهي تحوك لي قبعة كما بأيام الطفولة بينما رائحتها العطرة تكاد تطالني.. هذه جنتي وما أجملها من جنة، الطريق الأيسر به سماء مظلمة بارقة تمطر فوق قارب فارغ يرتطم بين أمواج بحرٍ تكاد رائحة ملوحته تخنقني.. هذا جحيمي الذي ما بعده جحيم، الطريق الثالث به ممر قاتم تبكي فيه زوجتي بين من لم أعد أذكر من هم، هذه حياتي التي إن واتتني الفرصة مجددا لإصلاحها فسأغتنمها .

إرضي عني يا أمي، سامحني يا أبي فابنك طاش، أعذراني يا ملاكي وروحي فقد خذلتكما تابعا جسدي، و ارحمني يا ربي فعبدك لم يطعك.. ما مصيري يا ترى؟

تاريخ النشر : 2018-08-27

guest
100 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى