أدب الرعب والعام

روزويل ، أرض الفضائيين – الجزء الثاني

بقلم : كووبر حكيم – المغرب
للتواصل : [email protected]

وما هي إلا لحظات قصيرة حتى ظهر ضوء أبيض ناصع من السماء

حالما حل المساء الهادئ الجميل , ارتديت ثياباً أنيقة تليق بسائح زائر للبلدة , كنت أمام المرآة أتباهى بقميصي الصيفي الجديد و تصفيفة شعري الجذابة ، وصلت لدرجة إعجاب بنفسي أحسست فيها بشعور “نركسوس” وهو يتأمل وجهه منبهراً لعقود عند البركة الملعونة عقاباً له على رفضه للحب , حيث رآه الكل مذنبا لكن هيهات على حب الذات وما يفعله بعشاقه

لم أنتبه للوقت وهو يمر بسرعة حتى سمعت “كريستال “تدق و تنادي اسمي ,فقد تأخرت قليلاً على الموعد المنشود برفقة العائلة للذهاب واكتشاف المنطقة , فتحت الباب و أتذكر أن “كريستال” كان تلبس تي-شورت أسود لفرقة ” بلاك-فيل-برايد” ضحكت وأخبرتها أنه لابد وأن الكائنات الخيالية تسمع لأغانيها , أغلقت الغرفة تم اتجهت لمكتب الاستقبال هناك تركت مفاتيح الغرفة و قد تغير الموظف بواحد أكثر غرابة من سابقه , خرجنا من الفندق لأجد والدي في انتظاري بالسيارة , حيث كان يدخن , واضح أنه منزعج من تأخري , أما أمي فكانت تنظر في هاتفها إلى خريطة المدينة و تبحت عن المناطق التي سبق أن ذكرت كأماكن لعدة مشاهدات لأحداث غريبة و غير طبيعة

فور صعودي للسيارة شغل والدي المحرك و اتجهنا نجوب شوارع “روزويل” , و ما أثار حيرتي حقاً هو “كريستال” التي كانت شاردة الذهن , سارحة بخيالها و تركيزها متأملة سواد المرتفعات الصحراوية البعيدة كأنها تخفي شيئاً في باطنها لا تريد مصارحتنا به , ونحن نقف في إحدى إشارات المرور , في سكون تام , أخبرتنا أنها تعرف أحد الأصدقاء تريدن منا مقابلته , وهو ابن المنطقة وعلى علم شامل بإحداثياتها , ثم قد يدلنا على أماكن لقضاء وقت ممتع وحتى اكتشاف المجهول , صوتنا للفكرة بالإيجاب , و طلبت منا التوقف قرب أحد المطاعم المشهورة هناك لملاقاته , و العجيب نوعاً ما أنه لم يتأخر في القدوم .

كان شاباً يافعاً في سني , يشبه المكسيكيين قليلاً في ملامحه و لهجته و طريقة وصفه للأمور , أخبرنا عن حظنا الوافر و أن الليلة تتوافق مع موعد اكتمال القمر وبالتالي فلابد أن الكائنات الغريبة ستزور المدينة وقد تترك آثاراً وراءها , ودلنا على مكان قريب حيث يتجمع الناس في الخلاء مشكلين دوائر على شكل صحون طائرة كطقس لاستقبال الغرباء , حقيقة لم أكبح نفسي عن ضحك هستيري شديد جراء ما سمعت من خزعبلات, لم أعرف مدى غباء ما اقترفت سوى أثناء توقفي و النظر في وجهه لأجده غارقاً في الدموع وفي إجابة سريعة منفعلة قال” سندم , الليلة سندم” تم أخد يركض و كريستال تتبعه و تصرخ كي يعود , إلا أنه اختفى تماماً في أحد الأماكن المظلمة

لم تخفي غريبة الأطوار تلك مدى انزعاجها مما فعلت , وحتى والدي لم يرقهما تهكمي على كلامه , أخبرتهم أنني أعبر عن اعتذاري الشديد عن تصرفي الغير مؤدب و اللبق , فليس كل يوم تسمع مثل تلك الترهات و ليس كل يوم تلاقي أناساً حساسين ولو لأبسط الانتقادات , لم يجبني أحد منهم , مما جعلني أستغرب طباعهم التي تغيرت تماماً حالما دخلنا الفندق و قابلنا عماله , ثم أنني أتذكر جلياً أن والدي أقلع لسنين عن التدخين , ووالدتي لم تشغل يوماً الخارطة الالكترونية كما أنها لا تفهم كيفية تفقدها و لا حتى الولوج لها , و أما كريستال فليست معتادة على الصمت و هي التي كانت كالببغاء من الصباح حتى المساء لا تنفك تتحدث عن فسلفتها الوجودية , فماذا يحدث لهم بالضبط ؟ أهو تغير الجو أو المناخ ؟ أم أنني أصبحت غير مطاق من طرفهم نظراً لتأخري عن الموعد , واستهزائي من ذلك الشاب ؟ نعم , إنها أخطاء غبية , لكنني لا أذكر أنهم ينزعجون بسبب أشياء بسيطة كتلك ، ثم أننا في إجازة , وجب أن نضحك و نتبادل الحكايات و نستمتع بوقتنا ولو كالعادة , إلا أنهم يتصرفون كبشر آليين تقودهم نية أو قوة ما في كل حركاتهم و ردات فعلهم

لم نتشاور كثيراً في ذهابنا إلى ذاك المكان الذي دلنا عليه ذاك المختل, لكن لحظة وصولنا أدركت أنني المختل و السفيه و الساذج حقاً , قرابة ألفي شخص واقفين في الخلاء على شكل جماعات في دوائر مزودين بأحدث المصابيح و العدة من المأكل و المشرب يغطيان الاحتياج لليلة بالكامل , لم أصدق ما رأيت أبداً , ماذا يفعل ألوف البشر في هذا الوقت من المساء و في منطقة خالية مع معدات البقاء و الصمود الأطول مدة ممكنة , تم ما قصة الدوائر تلك , أهي فعلاً طقوس الترحيب التي حدثتا عنها صديق “كريستال” , والتي صفعتني بضربة طفيفة في خلف عنقي ممازحة إياي , و اندمجت سريعاً برفقة والدي في تلك الأجواء , كأنهما على علم بها و تحضير مسبق لها , لن أخفي عنكم صداعاً شديداً أحكم قبضته بذهني كما يحكمها الآن و أنا أكتب هذه الكلمات , فلا الدموع تكفي و لا حزن يعيد لي فرصة واحدة في الحلول دون حدوث كارثة روزويل ليلة اكتمال القمر الموافق لعام الفين و ستة عشر , وما يؤلمني حقيقة هو عدم تمكني من التحدث لأي أحد بالموضوع , فلا الشرطة قد تصدق حكايتي و لا أصدقائي و لا أي واحد ، و سأرجع في قادم الحديث لهذه النقطة بالضبط لأنها فعلاً هامة في فهم تفاصيل أساسية في القصة ..

على أي حال أدعوك أن تحل مكاني ولو للحظات قصيرة, أعرض عليك أن تبدأ بتخيل ذاك المشهد و تحاول عيشه بتفاصيله كما وصفت , واقف وسط جموع من الوف الناس حاملين لمصابيح عالية الجودة و حقائب ظهرية ممتلئة عن الآخر , لا أحد يكلمك بشيء غير المشاركة في استقبال الزوار , زوار من ؟ و من أين ؟ , لا يجيب , جوابه الوحيد ” مرحباً , انضم لنا , إنهم أوشكوا على الوصول ” ألن تفقد أعصابك وعقلك خصوصاً و بعد أن ترى عائلتك مندمجة تماماً مع تلك الأجواء المخيفة و الغريبة , بل و أصبحوا بدورهم مثل آلات مبرمجة لا تجيب إلا بالعبارة المعلومة , حسناً , إنه ضرب من الجنون أن أنسجم بينهم , ثم إنه غباء شديد أن أحاول منعهم أو حتى سحبهم من وسط الجموع ..

أعرف في ماذا تفكر , لكن الصراخ لن يفيد في شيء , إنهم منومون تماماً , غائبين عن وعيهم , خاشعين في تأملهم للسماء , قد أقتل بدون رأفة أو شفقة , حاولت التوغل بينهم , اقتحمت أحد الدوائر و نظرت في وجوههم , إنهم لا يستجيبون أبداً , كأنهم خاضعين لإحدى تجارب التنويم المغناطسي , حاول التفكير كيف بإمكاني أن أوقظهم , وبينما أنا أمسك بيد والدي أسحبه من مكانه أحسست بشعور غريب ينتابني , يعبر جل كياني , يمسك روحي و يداعبها , لأول مرة أحسست بطعم لساني المر و ثقل أذني و مدة تعب عيوني المتأملة في السماء , شعرت بكل تلك المواد الكيميائية و الإفرازات التي تخلل ذهني و تجوبه .

لوهلة استطعت التحكم فيها , قمت مزج هرمون السيتورين و الاندروفين داخل الأعصاب المغذية للدماغ تعرفت لهما بطريقة ما , استطعت أيضاً تحديد مناطق الضعف في جسدي و أيضاً احتمالية الأمراض التي قد تحدث عنها , فحصت القلب لأجده مجرد محرك لا غير , جهاز كباقي أجهزة المرء من كلى و أمعاء و كبد , لا يتضمن أحاسيس و لا حباً و لا حزناً كما كنت أعتقد , بقدرة عجيبة تمكنت من فهم التركيب العضوي المنطلق من المادة الكيميائي و الطاقة الضوئية النبات القليل المنتشر هنا و هناك

لم أجد مشكلة في فهم الكون و الوجود الذي أصبح مادياً إلى شكل لا محدود شارف على كونه مجرد نتاج بسيط لأشكال عديدة من التفاعلات و التطورات , لست أستوعب ما يحدث بالضبط لكنني أمسيت مدركاً بشكل تام لخفايا الحياة و الكينونة ، اقتربت كثيراً من إيجاد الإجابات العلمية للأسئلة الصريحة و الوجودية التي حيرت البشر منذ نشأة الأرض , كلما توغلت أكثر إلا وفهمت أننا كائنات أشد ضعفاً مما نعتقد على كل الأصعدة مقارنة بنظائرنا على الكوكب ,تطورنا عبر سنين أنشأنا معنى الحضارة في رغبة دفينة للتخلص من صراع البقاء , و الذي بدوره أطر مفهوم السيد و العبد

اختلطت علي الأمور و اشتبك في ذهني الحابل و النابل إلا أنني تأكدت من أمر واحد , و هو أن فسلفة “كريستال ” الحداثية تضمنت جانباً من الحقيقة , حقيقة ما نحن علي , حقيقة أننا لم نفعل شيئاً يفيد الحياة على متن الأرض , حقيقة أن العالم لم يكن ذاك الذي نراه , إننا مقتصري النظر و محدودي البديهة نعيش وسط دوائر اجتماعية سطرناها , لا ننتج شيئاً في مجتمعاتنا غير التكرار و الجهل بأصول الحياة , ومحاولة الحفاظ على ما نسميه إرث الأجداد و الذي يبقينا دائماً خاضعاً لأفكارهم و اعتقاداتهم و أسلوب حياتهم الاستهلاكي المحض , لست أعطي دروساً في الأخلاق أو كيفية الحياة بقدر ما أنقل لكم وجهة نظر لم أكتسبها إلا بعد أن فقدت كل ما كنت أملك و أحب , وأصبحت وحيداً تائها وسط الظلمة باحثاً عن بقايا تلك الليلة الملعونة للأبد ….

بقيت واقفاً خاضعاً لجرعة العلم التي اكتسبتها هناك من طرف مجهول , كنت في تمام وعدي و ادراكي لما يحدث , ولم أكن خائفاً بالمرة بل كنت أتشوق لرؤية و استقبال الزوار الفضائيين , أعطاني أحدهم مصباحاً وأخبرني أنه حان الوقت لتهييء منصة الترحاب ، فمنتصف الليل قد حل و القمر في مكانه المطلوب و سط الدوائر, تمثلت المنصة في رفع الأضواء عالياً في السماء لتشكيل رمز صحن طائر وبالتالي الإشارة للوفود الزائرة بترحابنا بها , منع استعمال الهواتف بتاتاً , والغريب أنها كانت خارجة خدمة التغطية تماماً فقد تأكدت فيما بعد أنني تلقيت عدة مكالمات إلا أنها حولت إلى المجيب الصوتي مباشرة كدلالة على أنني كنت غير متاح , إذن اقترب مجيء الزوار و اقترب أيضاً حدوث ما لم يكن في الحسبان

أتذكر أنني كنت متجمد الجسد و الحركة لم أستطع حتى الالتفات أو التفوه بشيء إلا أنني أحسست بيد مألوفة تمسك بي أظنها كانت يد كريستال” فأصابعها لطالما كانت باردة و ضفائرها طويلة مع وجود خاتم على خنصرها , تلك كانت آخر لحظة أمسك بكيانها , شعرت أنها تخبرني أن كل شيء سيكون على ما يرام من خلال قبضتها المتينة , حاولت الالتفات لرؤية والدي اللذان كانا ورائي وأنا متأكد أنهما كانا ممسكين بأيدي بعضهما أيضاً , لم أستطع ذلك كما لم أقدر تحريك جسدي بالمرة . وما هي إلا لحظات قصيرة حتى ظهر ضوء أبيض ناصع من السماء بدا بعيداً في بادئ الأمر , ثم اقترب شيئاً فشيء حتى أصبح على شفير أمتار من الأرض , هناك كان أول من رفع رغم بعده إلا أنني استطعت رؤية أن رجلاً في الخمسينات من العمر , اختفى فوق السحاب تماماً ,ذهلت تماماً و أدركت أنها ليست لعبة سخيفة إنما الأمر جدي , كل ما كان يروى من طرف سكان “روزويل ” حقيقي , لقد استقبلنا أخيراً سكان الفضاء !

يتبــــــع <<

تاريخ النشر : 2018-08-29

guest
9 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى