أدب الرعب والعام

حجر من الجحيم

بقلم : هدوء الغدير – العراق

حجر من الجحيم
رفع ويلسون حجراً أسوداً متكوناً من القطيرات المتجمدة التي شذبها بشكل نرد صغير يشع بتدرجات اللون القرمزي

مضت الحياة بلا توقف وهو الذي اعتقد يوماً أن الكون يسير من أجلها ، هي ديناميكيته ما إن تلاشت حتى تزعزعت قوانين حركته ,فلبث ساكناً يتقلقل بين ذكرياتها وكأن الحياة نسيت أن تجرفه معها في تسارعها المهول…

بعد رحيلها لزم (ويليام )البحر الذي كان شاهدا على أحلامهما وصخب ضحكاتهما ، ها هو اليوم يعود مجدداً لصمته الموحش ,وكأنه كان يأنس لهما فيطيب عليله , ويستحيل هديره ترنيمة يعزفها للعاشقين…
حرك أصبعه على الرمال الناعمة ليخط ’’ذكرى وفاتها الثانية’’ فامتدت المياه معانقة ما كتبه ثم تقهقرت بجزرٍ جارفة معها الرمال المنصاعة له بسلام.

* * * * *

_ هل أنتهى من عمله؟
_لا سيدي أنه يطلب مزيداَ من الوقت…
_لو كنت أملك غيره بين ثكنات الحمقى هذه لما ترددت في إزهاق روحه.

اجتاز الباب بعد أن تم تسجيل بصمة وجهه ,فولج إلى ممر طويل محاط بجدران خراسانية صلبة, تسارع في خطواته فتبعه الحارس المسلح ثم دلف عبر باب زجاجي إلى غرفة مليئة بالأجهزة المختبرية ,سار إلى الغرفة مثبتاً بصره على الرجل الجالس في كرسيه منغمساً بكتابة الملاحظات ,وهو يرقب السائل المتقاطر من الأنبوبة الزجاجية…
_كيف يجري العمل معك يا ويلسون؟
_أحتاج بعض ال…
قاطعه ممسكاً بتلابيبه وصر على أسنانه مشدداً على كلماته:
_البضاعة جاهزة ..الزبائن ينتظرون..والحدود عليها حراسة شديدة ,إلى متى ستستمر بالمماطلة..كان يجب أن تنهي العمل منذ أشهر..
_أعدك سأنهيه قريباً , كل شيء اكتمل لم يتبقَ إلا القليل..
نفض يديه عنه ورفع سبابته في وجهه ناظراً اليه والشرر يتقادح من عينيه:
_أسبوع واحد وستنهي كل شيء وإلا سأرسلك إلى السماء قريباً..
ثم أدار ظهره مغادراً الغرفة فانغلق مصراعي الباب الزجاجيين خلفه , شيع ويلسون الرجل ببصره الى أن توارى عنه , ثم عاد ليحدق بأنبوبة التقطير التي تحوي في نهايتها تراكمات من قطيرات متجمدة.

* * * *

بعد مرور أسبوع ..

أخيراً تحقق الحلم..(آنا) (بيدرو) ..أعدكما ستريان النور قريباً.
رفع ويلسون حجراً أسوداً متكوناً من القطيرات المتجمدة التي شذبها بشكل نرد صغير يشع بتدرجات اللون القرمزي..ثم خرج من المختبر مسرعاً قاصداً الرئيس لينهي الأمر بتسليمه الحجر مقابل حريته..
اجتاز الممر الطويل ماراً بالحارسين المسلحين اللذين أومآ له برأسيهما معلنين عن موافقتهما في دخوله الى الرئيس , اجتازهما حتى ابتعد عنهما…

وقف لبرهة عند الباب الحديدية مسترقاَ السمع لما يدور بين الرئيس وأحد مساعديه..
_متى سينهي الأمر يا سيدي ؟ العمل الآن متوقف تماماً..
_من المفترض أن ينهيه اليوم لأني أمهلته أسبوع وها قد انتهى الأسبوع..
تردد قليلاً في السؤال لكنه جمع ما بقي من شجاعته وسأل:
_لكن سيدي هل ستطلق سراحه بعد ذلك؟
_يبدو أنك خرفت يا فيكتور هل نسيت ركائز العمل بالمنظمة؟

أشعل سيجارته ونظر إلى عيني مستشاره (فيكتور) وكأنه يخترقه قائلاً
_هذه المنظمة تعد محطة أُنشئت بين الحياة والموت من يدخلها يستحيل أن يعود إلى الحياة وسيرسل إلى العالم الآخر ما أن يحين موعد رحيله.

أدرك (فيكتور) المقصد من الكلام فازدرد ريقه بصعوبة واعتلته حالة أرتباك حاول إخفائها ..استرسل الرئيس كلامه وهو يدهس عقب سيجارته بقدمه :
_ ثم إنني سأسدي صنيعاً لويلسون بقتله هو لن يحتمل الحياة عقب زوجته وأولاده..
دقت هذه الكلمات في رأس ويلسون الذي مازال واقفاً خارج الغرفة ,فطفق عائداً بسرعة إلى المختبر بعد أن تحجج للحارسين بأنه نسي دفتر الملاحظات الذي يجب أن يريه للرئيس, سار بسرعة ضارباً بلاط الأرضيه بقدميه بقوة, ما أن دلف إلى الغرفة حتى تهاوى منهاراً على كرسيه ,انهارت أحلامه التى مضى ليالي وهو ينسجها علها تتحقق ذات يوم , انتفض بقوة وقد حسم أمره هذه المرة ,أمسك المسلاط الضوئي بيده المرتجفة وجعل الحجر قبالته مستقبلاً الضوء البنفسجي الساقط عليه من المسلاط وسرعان ما استحال الحجر إلى ذرات ملأت فضاء الغرفة ثم تجمعت واخترقت جسده محتضنه كل خلية فيه.

* * * * *

أنسلخ (ويليام) عما حوله وغاص في بحر عينيها الرماديتين المطلتين عليه من نافذة الورقة البيضاء , وبدأ بتحريك قلمه مكملاً عالمه المتجسد في ملامحها ,لايزال يجهل كيف أن العالم الذي جمع قلبيهما ذات يوم هو ذاته الذي قاد شيطان المرض ليسري في جسدها فيستلها منه سريعاً…

أخرجه من عالمه صوت قد تبادر إلى ذهنه لم يسبق أن سمعه ذات يوم من البحر وهو الذي بات عالماً بلغته ,أنه صوت تذبذب شيء ما, استشعر أن هناك تغيراً ما قد طرأ للتو ,التفت للخلف وظن أنه يعاني من هلوسات, رأى تلك الذرات الصغيرة تجتمع معاً في هيئة رجل وقف منتصباً أمامه وقد كست وجهه علامات الفزع ,مد له يده وسحبه خلف أحد البيوت الخشبية التي أقيمت ذات يوم للاستجمام لكنها هجرت وأصبحت مسكناً لبيوت العناكب الواهية,
قال الرجل _ويلسون_ بفزع :
_ليس أمامي الكثير من الوقت
نظر (ويليام) اليه متفحصاً لهيئته:
_لكن , مالذي رأيته للتو , هل حدث الأمر فعلاً ؟
_أسمع يا فتى أنا لست فضائي ولا قادماً من المستقبل ,أنا عالم كيميائي أعمل لصالح أكبر منظمة سرية في العالم وما رأيته للتو اختراع تم التكتم عليه بسرية تامه ليستخدم من قبل المنظمة فقط

* * * * *

قبل ثلاث سنوات ..

خرج منتشياً من المؤتمر العلمي للكيمياء بعد أن نجح في إقناع أحد أكبر المستثمرين بتمويل مشروعه السابق لعصره ,جرت الأمور كيفما أراد وتم افتتاح المختبر بمساعدة طاقم العمل ,استمر العمل لمدة عام ونصف إلى أن حدث الأمر الجلل بالنسبة له ,فقد سحب المستثمر تمويله و أغلق المختبر ,شعر بخيبة كبيرة وقتها لكنه لم يستسلم واستمر بوضع المخططات والمعادلات الكيميائية استعداداً للمؤتمر العلمي القادم ..

في مساء أحد الليالي كان منهمكاً بمطالعة الكتب ووضع النظريات ,قطع أفكاره رنين الجرس المتمرد بصوتٍ عالٍ ، قام متثاقلاً لفتح الباب ..لكن سرعان ما استقبلته ضربة على رأسه أفقدته الوعي….
فتح أجفانه المثقلة ببطء شديد ، كل شيء مشوش حوله , وعندما بدأت الرؤية تتضح جال ببصره في الغرفة ، إنها تشبه غرف المستشفيات لكن يلزمها الضوء والتهوية الكافية..
حاول التحرك فوجد جسده موصولاً بأجهزة نزعها عنه ونهض بصعوبة , سمع عندها رنين جرس أشبه بالمنبه ,فتحت على إثره باب الغرفة وولج منها رجل بزي رسمي يتبعه مسلحين..

_أهلاً سيد ويلسون ..كنت أنتظرك
وتقدم الرجل نحو أحد الكراسي الفخمة جلس عليه واضعاً ساقاً فوق الأخرى بتعالٍ :
سأل ويلسون
_لكن أين أنا ؟
_لا تقلق أنت بمأمن مادمت متعاوناً معنا..
_ماذا تقصد؟
_حسنا سيد ويلسون من أجل تجلية الأمور التي يشوبها الغموض بالنسبة لك لنعد إلى بداية الأمر..حضر أحد رؤساء المنظمة مؤتمر الكيمياء في العام الماضي فأعجب بفكرة مشروعك لكن سبقه أحد المستثمرين للتعاقد معك , استمرينا بإرسال تهديدات له حتى أوقف التمويل بعد عام ونصف, اسمعني سيد سميث الأمر برمته صفقة بيننا, اختراعك سيسهل علينا نقل البضائع البشرية والبضائع الممنوعة بين الدول دون اللجوء لوضع مخططات لتجاوز نقاط التفتيش الدولية وبالمقابل أنت تنجح في تحقيق اختراعك وتحصل على حريتك و…

التقط جهاز التحكم عن بعد الموضوع على الطاولة أمامه وقام بتشغيل الشاشة المثبتة على الحائط …نظر ويلسون إلى الشاشة وسرعان ما جحظت عينيه ، فقد عرضت الشاشة زوجته معصوبة العينين ومقيدة إلى كرسي كهربائي وبجانبها ابنه بيدرو بالوضعية ذاتها ..
ضغط الرجل زر إغلاق الشاشة ونظر إلى ويلسون قائلاً:
_أظنك فهمت المقصد
_تباً لكم ..أجاب ويلسون بحنق شديد
_بالمناسبة لقد قمنا بزرع شريحتين داخل جسدك , إحداهما للتتبع والأخرى ستنفجر بعد نصف ساعة من مغادرتك مقر المنظمة مؤدية إلى انفجار الأوردة و الشرايين ,لذا لا تحاول التلاعب معنا فمحاولات هربك ستبوء قطعاً بالفشل ، قطعاً..

ثم رمقه بابتسامه صفراء ووقف ليهم بالخروج واسترسل قائلاً:
_سأدعك تفكر بالأمر

ثم اندفع مغادراً الغرفة.

* * * * *

أخرج ويلسون الحجر وناوله لـ (ويليام) , الذي أستفهم قائلاً :
_لكن ما الذي سأفعله بهِ؟
_اسمع لم يتبقَّ سوى دقائق قليلة ,هذا حجر انتقال آني , خذ هذا الدفتر يحوي جميع المعلومات عن ماهية تكوينه قم بتدميره , لقد كنت مخطئاً في اختراعه لا يجوز للجنس البشري التلاعب بالقوانين الكونية الثابتة ..
شد على يد الشاب وجثا على ركبتيه وقد جحظت عيناه وبرزت أوردة عنقه الزرقاء ,,ثم سال الدم منهمراً من فمه وأنفه وخر صريعاً على الأرض ..

وقف (ويليام) مصعوقاً مما رآه للتو ..اقترب من (ويلسون) الذي كان متوسداً الأرض ,وجس نبضه ,لقد فارق الحياة!!
نظر يمينه وشماله لكن هذه البقعة من الشاطئ كانت خالية تماماً ..نقل بصره إلى صفحة البحر الممتدة نحو الأفق المخضب بحمرة الغروب ,عله يستلهم منه إجابة عما يدور حوله, خذله البحر هو الآخر ولم يغير من وتيرة هديره شيئاً ..
شقت الفكرة طريقها بين زحام صراعاته المتداخلة , وتمخضت عن عزمه زيارة بروفسور الكيمياء في جامعته ليتأكد من صدق كلام هذا الرجل ..لكن استوقفته الجثة ما الذي سيفعله بها ؟ ..خطر له أن يسحب الجثة نحو البحر ويتركها ليجرفها تيار المياه معه ..قام بذلك سريعاً,ثم غادر الشاطئ على عجل..

* * * * * *

أمعن البروفسور النظر بصفحات الدفتر متفحصاً إياها الواحدة تلو الأخرى
_ ويليام ,من أين حصلت على هذا الدفتر, إن النظريات التي كتبت هنا بعضها مازال محض جدل والبعض الآخر لم يبحث فيه العلماء
_ أذن هل ترجح خطأ ما ورد فيه؟
_ لا يا بني، لا ارجح شيئاً , فقط هذه الكتابات سابقة لأوانها ,لكن لم تخبرني من أين حصلت عليها؟

أخرج (ويليام) الحجر والمسلاط الضوئي ووضعهما أمامه على الطاولة وأخبره بكل ما حدثه به الرجل على البحر .. عندها دهش البروفسور وقد عادت ذاكرته به إلى مؤتمر الكيمياء العالمي قبل ثلاث سنوات , همس بصوت خافت
_ لقد فعلها ويلسون حقاً .
ثم استرسل قائلاً وهو يوجه نظره إلى (ويليام)
_ لكن كيف!! لقد اختفى من ثلاث سنوات , ظننا أنه انتحر بعد أن استبد به اليأس عقب إغلاق المختبر ,لكن اختفاء عائلته كان يرسم هالة من الغموض , رغم ذلك أغلقت الشرطة الملف ولم تحقق بأمر اختفائه , يبدو أن هناك سلطة متخفية تقف خلف ذلك

قال (ويليام) بدهشة :
_يظهر أن نفوذ المنظمة ممتد إلى دوائر الدولة والشرطة,إذن هم مندسين في كل مكان.
_نعم هذا صحيح يا ويليام

صمت (ويليام )لبرهة ثم سأل البروفسور الذي كان مايزال يحدق بأوراق الدفتر التي تحوي على معادلات وشيفرات كيميائية قام (ويلسون ) باستخدامها:
_لكن هل تظن أن ويلسون كان محقاً بشأن تدمير الحجر؟
رفع البروفسور نظره إليه
_ نعم هو محق في ذلك ,وفي هذه الظروف لن يكون سلاح ذو حدين بل نصل حاد في يد المنظمات تحز به أعناق الإنسانية لتستبد بأعمالها الخبيثة,وسيزداد الكون جنوناً.
بادره (ويليام) بسؤاله الذي تردد في طرحه قليلاً :
_لكن هل تظن بإمكاننا تدميره في وقت قياسي قبل أن تجده المنظمة وتعيده لحوزتها؟
لم يكن البروفسور على تمام الثقة أن باستطاعتهم ذلك ,على الأقل سيحتاج أشهراً لدراسة وفك الرموز والشيفرات التي وضعها ليتوصل إلى كيفية تكوينه..أجاب بابتسامه مشوبة بتخوف من المجهول الآتي :
_ لابد أن نفعل ذلك (ويليام)

غادر (ويليام) بيت البروفسور بعد قرابة ساعة تاركاً إياه يحلل ويفسر ما ورد على يد (ويلسون) عله يتوصل إلى طريقة تمكنه من تدمير الحجر كلياً , بالرغم من محاولات البروفسور في إقناعه وثنيه عن موقفه إلا أنه أبى إلا أن يأخذ الحجر معه ..لا يعلم كيف تفتق عقله عن هذه الشكوك ..ماذا لو استخدم البروفسور الحجر وانتقل إلى مكان آخر كيف سيصل إليه حينها !!

ركب (ويليام) سيارته عائداً إلى بيته ، كانت الظلمة توشك أن تحتضن سماء المدينة ..ترجل عن سيارته ودخل البيت الذي كان يسبح بعتمة يتخللها ضوء خافت لا يكفي لتعرية الأشياء ..أضاء مصباح الغرفة ’’يا للهول ..لابد أنهم كانوا هنا ’’ همس في سره مندهشاً من الفوضى التي كان يغوص بها البيت ,لم يلحظ عند دخوله أن الباب كان مفتوحاً رغم أنه غادر البيت بعد إحكام أغلاقه..نظر حوله بتوجس خشية أن يكون هناك أحد ينتظر غفلته ليباغته ، دار في البيت وكأن إعصاراً قد ضربه فلم يذر شيئاً في مكانه,استوقفته أعينها المطلة عليه من الصورة التي تناثرت شظاياها في كل مكان , لم تسلم هي أيضاً من هذا الإعصار الأهوج ..

قال وكأنه أفاق من شروده بأطلال البيت المهشمة
_ البروفسور , علي أن أخبره بما حدث
تحسس جيبه باحثاً عن هاتفه ’’تباً لقد نسيت هاتفي في بيت البروفسور ..علي أن أذهب له الآن ..’’

غادر البيت على عجلٍ ولم يلحظ الأعين المتوارية خلف الشجرة ترقب تحركاته دون أن تحرك ساكناً…
وصل إلى بيت البروفسور بسرعة ..لكن المكان كان يغص بالشرطة والناس المتجمهرة حول البيت ..اشرأب بعنقه عله يلمح شيئاً ما فلم يجد بد من الترجل عن سيارته لمعرفة ما حدث..سار بين الجموع المحتشدة أمام المنزل فتبادر إلى سمعه ” يا له من رجل مسكين , من كان ليتخيل أن تكون نهايته مأساوية هكذا “

سأل مستفسراً عما حدث هنا ” لقد وجدوا البروفسور مقتولاً في بيته ..يزعم البعض رؤيتهم لرجال خرجوا من البيت قبل ساعة ولازالت الشرطة تجمع عينات ساحة الجريمة”
دوت هذه الكلمات في رأسه كانفجار هائل ناسفاً آماله بالهروب أو التملص ” أن كانت المنظمة قد وصلت للبروفسور بهذه السرعة بلا شك أن نهايتي ستكون في الساعات القادمة “

عاد لسيارته مسرعاً وركبها هائماً على وجهه في الطرقات…

* * * * * *

وقف ( رافاييل) قبالة الجثة التي كانت بوضعية الجلوس أمام المكتب وقد كسرت إحدى عدسات نظارته إضافة لكدمات حمراء على وجهه انتهاءً برصاصة اخترقت صدره فأردته قتيلاً..جال ببصره في الغرفة التي كانت تغص بفوضى عارمة مكتسحة البيت بأكمله ولم تقتصر على مكتب البروفسور فقط ..
_ ما رأيك أيها المفتش ( رفاييل)؟
_هل تفقدت غرفة نومه وخزينة الأموال ,لنرى إن كان دافع الجريمة السرقة..
_سيدي خزنة أمواله لم تتعرض لخدش واحد ، فقط كانت الغرفة بحالة فوضى كبيرة وكأن القاتل يبحث عن شيء ما ..
_أذن (ويليام) له دوافع أخرى للقتل ,وكما ترى يبدو أن الضحية كانت قوية كفاية لمقاومة القاتل ,هناك شيء غريب,كسر أصابع اليد اليسرى وعلامات الاحمرار في يده تدل على أن القاتل أخذ شبئاً ما عنوة من يده.
_ لكن ما الذي كان بهذه الأهمية حتى البروفسور لا يتوانى عن تقديم حياته مقابله.
_ لا أعلم يا (ريتشارد)..يبدو أن القضية يلفها الغموض…هل وصلت نتائج تشريح الجثة؟
_نعم وصلت , وأتضح أن أسباب الوفاة هو انفجار بالأوعية الدموية إضافة لوجود شريحة تعقب كانت مزروعة داخل جسده..وتم تحديد هوية الجثة ، إنها تعود للعالم الكيميائي (ويلسون)

نظر ( رفاييل) باستغراب الى زميله (ريتشارد)
_ هل تعني أن (ويليام) لم يكن مسؤوولاً عن مقتله , لكن ما الذي رصدته كاميرات المراقبة عند الشاطئ ؟
سكت (ريتشارد) لبرهة وهو يحاول صياغة ما سيقوله لـ (رفاييل) ومن ذا الذي يجرؤ على التشكيك في صحة تحقيقاته
_ نعم سيدي ,أظن ذلك , لم يكن لـ ( ويليام) يد في مقتله..هناك شئ أخر, التقطت كاميرا أخرى ورغم التشويش في التصوير لكن كان جلياً أن العالم جاء من العدم و استوى واقفاً خلف (ويليام)..هذا ما رأيته فقط , وحتى البروفسور لا أظن لـ (ويليام) يد في مقتله كما ترى الفوضى هنا يلزمها عدة رجال ليقوموا بها وليس رجل واحد يدخل بهذه السرعة وخصوصاً أن سجله نظيف وليس له سوابق إجرامية…

نظر له (رفاييل) بشزر محاولاً كتم غيظه ثم قال محاولاً الحفاظ على هدوءه:
_ويحك اتتهمني بالغبي..ما رأيك أن تتولى القضية بدلاً عني أيها الشرطي (ريتشارد)..ثم ما تفسيرك لوجود هاتف (ويليام), ألم نلتقط إشارة GPS تحديداً من بيت البروفسور , ما الذي كان يفعله عنده وقت وقوع الجريمة؟
سكت (ريتشارد) ..لا جدوى من النقاش مع المحقق العبقري كما يظن بنفسه ,.فظن (رفاييل) أن حجته كانت دامغة وكافية لكبح ثرثرة وتشكيك (ريتشارد) .غمرته نشوة الانتصار ,فالتفت الى طاقم الشرطة الآخرين آمراً إياهم بجمع العينات والأغراض التي أمام البروفسور وإرسالها إلى مختبر التحليل فقط لعمل الإجراءات الروتينية , فالقضية كانت منتهية من جانبه ، إن (ويليام) هو القاتل ….

* * * * *

خرج من البقعة المعتمة خلف الشجرة يرقب خروج (ويليام) من البيت مسرعاً, لازال ينتظر أوامر الرئيس الذي أخبره أن يلزم مكانه مراقباً التحركات حول البيت بعد استلامهم إشارة هاتف (ويليام) الصادرة من بيت البروفسور..تذبذب اللاسلكي في يده مولداً اشارات اتصال من الرئيس
_كارلوس..أجب
_ نعم سيدي , خرج (ويليام) للتو من البيت ..
_ اتبعه ولا تدعه يغيب عن ناظريك
_ حسناً ..عُلم

أغلق اللاسلكي وسار بسرعة نحو سيارته السوداء التي ركنها فور وصولهم على مقربة من بيت (ويليام)..وبدأ يحذو حذو (ويليام) ..الشرطة الآن منتشرة في كل مكان والرئيس ورجاله مشغولين بالتواري عن أعين الشرطة لذا يجب أن يحافظ على مسافة آمنه بينه وبين (ويليام) اجتناباً لإثارة الشكوك حوله…

لمح (ويليام) يترجل من سيارته ويغوص وسط الجموع ..لن يخاطر الآن بالتعرض لـ (ويليام) أمام الشرطة لذا لزم مكانه في سيارته مترقباً ظهوره من جديد ..
_هاي أنت…تقدم أحد أفراد الشرطة باتجاه سيارة (كارلوس) ..اقترب منه إلى الحد الذي استطاع فيه رؤية معالمه..
_لماذا تقف ؟ .. ألا تعلم أن الوقوف ممنوع هنا ..
نظر له (كارلوس) محاولاً تصنع الهدوء
_أعتذر.. فقط استوقفني هذا التجمع وأثار فضولي
قام بحركة خفيفة لإخفاء مسدسه بسترته نجح بإخفائها عن الشرطي ..طلب منه أن يغادر حالاً , رمقه(كارلوس) بنظرة واثقة وأدار مفتاح التشغيل مبتعداً عن المكان .

ماذا لكن أين ذهبت سيارة(ويليام) ” تباً لهذا اللعين لقد أضعته ” ..تفحص الوجوه التي كانت تمور بلا توقف عله يلمحه بينهم , سار في الطرقات القريبة لكن لا جدوى لم يعثر على أثر له ..تناول اللاسلكي :
_سيدي..أجب
_ نعم (كارلوس)..ما الذي استجد عندك؟
_ لقد أضعت أثره بسبب ذلك الشرطي اللعين
_تباً لك أيها الأبله , كيف عساك أن تفعل ذلك .أتدرك فداحة ما اجترحت؟
شعر ببعض التوتر وهو يسمع الرئيس يزأر بصوته الأجش فقال بتلكؤ :
_أعدك سيدي سأجده,,
_اللعنه , عُد الآن إلى الغابة على الطريق الساحلي , سأوافيك هناك..
_عٌلم..

أدرك أن أوامر الرئيس له بالاتجاه إلى تلك البقعة النائية يعني أنه لا ينوي خيراً ,أتجه هناك وجالت برأسه عدة أفكار عن سبب دعوته له لهذا المكان …
وقف الرئيس قبالته متجهم المعالم …خلع نظارته الشمسية فبدت عيناه المحمرتان غيظاً
_ (كارلوس)..أتعلم من هم في الطبقة الدونية من الحياة ,هم الأغبياء,لأنهم لاينتهزون الفرصة المتاحة أمامهم,وأن أعطيت لهم فرصة أخرى سيسحبون غيرهم نحو الهاوية .

أعلن الخوف تجبره فارتسمت قطيرات صغيرة على جبهته تشي باختلاجاته   أدرك ما يرمي إليه الرئيس ..”الحياة لا تعطي فرصتين ” هذا ما كان يردده على مسامع رجاله دوماً,صدرت منه محاولة يائسة وهو يعلم مسبقاً وقعها لدى الرئيس :
_لكن كنت حتما على وشك….
نظر له الرئيس بنظرة ألجمته ورفع يده مشيراً له أن يكتفي بالصمت , تناول مسدساً من رجاله المسلحين خلفه وصوب فوهته نحو جبهة (كارلوس) الذي شحب وجهه وبدأ يتصبب عرقاً..
_الحياة لا تعطي فرصتين
ثم أعقبها برصاصة كاتمه استقرت في جبهته ..أدار ظهره تاركاً جثة(كارلوس) لتكون مرتعاً للذباب ووليمة لوحوش البراري ..وأمر رجاله قائلاً :
_أبلغوا فريق الاختراق ..أن يخترقوا جميع أنظمة كاميرات المراقبة في البلاد ..لا بد أنه لازال قريباً ..

* * * * * *

استمر (ويليام) بالتجول في الشوارع هائماً على وجهه يلعن في قرارة نفسه تركه للدفتر عند البروفسور ، فقط لو كان عنده الآن لتمكن من استخدام الحجر وولى بعيداً عن هذه الدوامة التي سرعان ما ستجرفه نحوها , اجتاز شوارع المنطقة الارستقراطية فاستقبلته البيوت الواهية التي عاش في ربوعها حتى استوى عوده , ودع أمه مغادراً بعد أن نالت منه المغمات وغطس في بحر الضياع بعدها لكنه أدرك أنه يهرب منها إليها ..

أوقف سيارته في بداية الأزقة الضيقة ,وسار متوغلاً فيها ..يعلم الآن أن هذه آخر لحظاته أراد فقط أن يطلب السماح قبل أن يغادر , بلا شك أنهم سيجدونه قريباً ولن يكون بأحسن مآلاً من البروفسور ..

ها هو الآن يقف على عتبة البيت مقابلاً لها وقد رسم الشيب خطوطه البيضاء واكتست ملامحها بؤساً بعد أن غادرها فلذة كبدها ومن كدحت لأجله دهراً, فقد أدركت وقتها أنه يحتاج لخلوة مع نفسه لتجاوز ما ألم به بعد وفاة خطيبته عله يجمع شتات نفسه ويرمم روحه المتصدعة ..
استقبلته بروحها المهشمة ,كاتمة لهيجان مشاعرها,فسارعت لمسح دمعة شقت طريقها بصعوبة بين تغضنات وجهها المتعبة ..
جلست قبالته بشموخها المعتاد, لمحت الوهن الذي سرى بجسده, حتى طريقة جلوسه لم تكن كما ألفتها , كيف لا وهي من خبرت معالمه حتى اشتد ساعده .

_كنت أعلم أنك ستعود
لم تكن نظراته قوية كفاية لتواجه نظراتها الشامخة
_ نعم ,ها قد عدت ..أدركت أن النهاية آتية لا محالة وأردتها أن تولد من منطلق البداية. 

شحبت فور سماعها لكلماته استفهمت عما يقصده فبرر لها أن الهواجس قد أخذت منه مأخذاً فلم يعد يقوى على مقاومة الوحدة الموحشة
بعد فترة وجيزة من المثول أمامها كل ما فيها كان يقول أنها سامحته ,أما هو لم يمتلك القوة الكافية لإخبارها بما يحدث معه لذا أستأذنها للذهاب إلى الغرفة التي احتوت يوماً مشاغبات صباه وطيش شبابه,جلس على السرير وأخرج الحجر والمسلاط الضوئي واضعاً إياهم قبالته ..
” لأجرب ذلك , عل الأمر ينجح معي “
نظر إلى المسلاط الذي كان يحتوي على عدة أزار مدرجة بترقيم يمثل الأطوال الموجية للأشعة فوق البنفسجية, تذكر كلام البروفسور ’’يبدو أن ويلسون استفاد من قابلية الزئبق على الانتشار لمسافات طويلة فخلطه مع مواد أخرى قابلة للتأين بتسليط الأشعة فوق البنفسجية من المسلاط الضوئي ” ..ضغط على أحد الأزرار وانتظر لبرهة دار بصره في الغرفة ” تبا, مازلت في البيت” عاود الكرة ولكن لم تختلف عن سابقتها , ” يبدو أن المسلاط تعطل عندما أوقعته و أنا مغادراً بيت البروفسور, يا للحظ السيئ “

سمع صوت طرقات على الباب فاستوى وافقاً وغادر الغرفة بسرعة..أشار لوالدته التي كانت تسير باتجاه الباب تنوي فتحه للطارق لكنها توقفت عندما نظرت لـ (ويليام), تقدم نحو الباب بخطوات حذرة ونظر من فتحته , كان هناك ثلاثة رجال بزي رسمي يقفون خارجاً..
اتجه نحو والدته وهمس لها
_هل تنتظرين أحداً.؟
هزت رأسها نفياً, فاستأنف كلامه قائلاً :
_سأغادر الآن , افتحي الباب و أنكري رؤيتكِ لي, أخبريهم بالقطيعة بيننا…

توجه نحو السلم فارتقى درجاته واثباً حتى وصل إلى العلية ,ثم منها اتجه نحو سطح المنزل , اقترب من حافة الشرفة ونظر للأسفل . رأى الرجال وهم يدخلون البيت , فأدرك أنهم في غضون دقائق فقط سيصلون إليه, راح يجول ببصره باحثاً عن طريقة للتملص من هذه الورطة, مشى ناحية السطح الشرقية ، كان يفصلها عن بيت جاره العجوز الخرف مسافة متر ونصف , استعمل لوح خشبي تستخدمه والدته في صناعة الرفوف الخشبيه لبيعها , استخدم اللوح كجسر يصل بين المنزلين, سار عليه بتوجس وانتهى إلى السطح الآخر..ثم سارع بسحب اللوح معه إلى السطح الآخر رغبة منه في إبطاء حركة بحثهم

تلفت حوله ليجد مخرجاً آخر لكن كان بيت العجوز آخر بيت في الزقاق ولن يجازف بالقفز قرابة خمسة أمتار , “حمداً لله” قالها وهو يلمح باب العلية مفتوحاً ,,فهذه عادة العجوز ، ولمَ يحتاج لإقفالها ؟ هل يمتلك في بيته غير جسده الواهن الذي نسيه الزمن فلم يطوِ صفحته بعد…

دلف من العلية إلى الطابق السفلي , كان المكان يغط في ظلام موحش كل شيء كان ساكناً إلا صرير الكرسي الهزاز شاقاً حبل الصمت ..سمع العجوز صوت وقع الأقدام.. “من هناك !! ” توقف (ويليام) ثم أكمل مشيه ..
_ هذا أنا ويليام , أردت الاطمئنان عليك
_وأخيراً عدت لوالدتك أيها المشاغب
اتجه ويليام نحو مفتاح الضوء فتجلت له معالم الغرفة..لم يتغير منها شيء مازالت مقفرة جدباء ,تفوح برائحة الماضي السحيق.. هاله منظر العجوز الذي بدا أشد تكوراً, كان يتحسس اتجاه الصوت , ها قد جرفت عجلة الزمن بصره إمعاناً في إضعافه..

توجه (ويليام) نحو الشماعة التي كانت تحتوي على بعض ملابس العجوز الرثة من معاطف طويلة وقبعات مهترئة, استبدلها (ويليام) بملابسه وتوجه نحو الباب بعد أن ودع العجوز , عندما هم بالخروج لمح عصا العجوز التي كانت على مقربة من الباب , نظر للعجوز بعطف لكنه الآن أشد حاجه لها منه….

خرج متوكئاً على العصا , بظهرٍ منحنٍ وقبعة مسدلة على وجهه . لمح خروج الرجال من بيته فزاد بتقمص الدور حتى اجتازوه ، فكر بالعودة لسيارته لكنها بالتأكيد الآن تخضع لمراقبة شديدة..
لذا انعطف خلف بيت العجوز مجتازاً الساحة الترابية وصولاً للشارع المعبد , لاحت له سيارة أجرة من بعيد فأشار لها بالتوقف ..
استقل السيارة وكان ينتوي الذهاب إلى كويابا قاصداً صديقه (مارسلو) ليشركه معه في أمره عله يهتدي الى الصواب,

اجتازت السيارة الأزقة فذرت خلفها عالم الفقر المدقع لتعود إلى الشوارع الارستقراطية بمبانيها الشامخة ومضاءة بإنارات متمردة على العتمة الكونية, أجتازا عدة شوارع ثم مشت السيارة بطريق مستقيم واسع تطل على جانبيه المحال والبارات الليلية بإضاءاتها الخافتة الحمراء وتعبق منها رائحة الصخب العبث…
توقفت السيارة عند ازدحام مروري نتج عنه طابور يحوي عشرات السيارات, استفهم (ويليام) عن سببه فأخبره السائق أن الشرطة قد كثفت البحث عن قاتل بروفسور الكيمياء وأقامت نقاط تفتيش في كل مكان ” لا أصدق أنهم عرفوا القاتل في غضون ساعات قليلة لابد أنه إحدى كذباتهم لإثبات قوة الأمن فقط” قال السائق ذلك وعاود النظر نحو الزحام الطويل

أشاح (ويليام) ببصره جهة النافذة , وسرعان ما فتح عينيه على وسعهما , قد وضعت صورته كمطلوب ، صعق مما رآه للتو..
_ هل تتهمني الشرطة بمقتل البروفسور !!
بدأت السيارة تسير بحركة حثيثة فأخبر السائق عن رغبته بالتوقف هنا وأكمال طريقه مشياً, علم وقتها أن الوصول لكويابا محال بما أن نقاط التفتيش قد وضعت صوره, قرر البقاء في برازيلية ومحاولة التواري ريثما يحضر (مارسلو) إليه لاسيما أن له معرفة ببعض المزورين سيساعدونه على الخروج من البلاد ..مد يده ليناول السائق أجره فتحسس وجود شيء ما في جيب المعطف ,كانت هناك نظارة سوداء تعود للعجوز الخرف ,استبشر لوجودها ستساعده الآن في التخفي لبضعة ساعات أخرى..

ترجل من السيارة وعاد لتقمص دور الكهل الضرير فتحسس طريقه بالعصا وانعطف من الشارع الرئيسي إلى أزقة متفرعة عنه لم تكن أقل شأناً من الأخير ، لكن على الأقل لا تحتوي نقاط تفتيش…
دخل أحد البارات الهادئة ..خلع نظارته وجلس قبالة النادل الذي سارع لسكب مشروب له بناءً على طلبه,نظر إلى الساعة كانت تشير إلى الرابعة صباحاً ، سأل النادل إن كان بإمكانه استخدام الهاتف
_ بالطبع يمكنك ذلك سيدي.. قال ذلك مناولاً إياه الهاتف.

اتصل على صديقه (مارسلو)
_ (مارسلو)..أين أنت الآن؟
_(ويليام).. يا رجل ما بالك تتصل في هذا الوقت..ما الذي حدث ؟!
_اسمع لا أستطيع الحديث الآن الموضوع طويل ..عليك أن تأتي إلى برازيلية الآن ..سأوافيك قرب جسر جوسيلينو.. أريدك أن تأتي حالاً
_لكن ما الذي فعلته؟
_لا مزيد من الأسئلة الآن ..عندما تأتي سأشرح لك كل شيء

أغلق سماعة الهاتف وعاد لاحتساء مشروبه .. سيأتي (مارسلو) خلال فترة يسيرة وينتشله من هذه الورطة , عليه الآن التفكير في كيفية هدم هذا الحجر , استذكر محاولته في استخدامه التي باءت بالفشل .. كان المسلاط وقتها يحتوي على أطوال موجية معينة وهي أقل بكثير مما يصل للأرض من الشمس وقت التعامد الشمسي ,ماذا لو تعرضت لأشعة أكبر ! بالتأكيد ستسبب عمليات تأين أكبر وبالتالي تسخين الحجر وهدم البنية الذريه له . هذه كانت الفكرة الأكثر قبولاً التي طرأت له … و ألهمه حدسه أن هذه هي الطريقة للتخلص منه..

* * * * * *

مازال جالساً في غرفته . الوقت يمضي ولم يجدوا بعد أثراً لـ (ويليام) ، ” تباً ..كيف لمنظمة عدد رجالها بالعشرات لا يمسكون شرذمة صغيرة” أمسك كوب الماء الذي بيده ورماه بقوة ليصطدم بالجدار ناثراً شظاياه في الغرفة..
_سيدي لا تقلق , سنجده قريباً, منذ أن سمع الرجال بمقتل (كارلوس) والجميع يحاول تلافي الأخطاء قدر الإمكان ,وهم الآن منتشرون في عموم برازيلية ,ثم هناك خبر آخر ,الضابط الذي كلف (رفاييل) بقضية مقتل البروفسور , وأصدر أمر إلقاء القبض عليه لجميع نقاط التفتيش في عموم البلاد ,وقام كذلك بوضع صوره كمطلوب للعدالة , رغبة منه بمساندتنا في البحث

تراخت عضلاته المشدودة شيئاً فشيئاً ونظر ناحية مستشاره (فيكتور)..
_إذا لم يتم العثور عليه اليوم ,سيكون حساب هؤلاء الخونة عسيراً
قاطعهم الصوت الصادر من اللاسلكي :
_سيدي ..أجب
التقط اللاسلكي من مستشاره بحركة غاضبة
_تكلم معك الرئيس ..
تلكأ في الكلام قليلاً وقال:
_ سيدي التقطنا إشارة اتصال من بار يقع على بعد عدة شوارع من نقطة التفتيش الحدودية ,الترددات الصوتية فيه مطابقة تماماً للترددات الصوتية لـ (ويليام),,كان يتصل بأحد أصدقائه يدعى (كارلوس),,يطلب منه يوافيه عند جسر جوسيلينو
_ أرسل رجال إلى البار ليتأكدوا من وجوده ..وأرسل آخرين لينتشروا على الجسر
_عُلم سيدي..

* * * * * *

مضت قرابة نصف ساعة على تواجده في البار الذي بدأت الحركة فيه تخفت نوعاً ما ..لمح دخول عدة رجال تباعاً كانت نظراتهم متفحصة للمكان ,فأسدل قبعته أكثر لتخفي أكبر جزء من وجهه ,انتبه لوجود شخص كان يجلس أمامه ,شعر أنه يسترق النظر  ليه من حين لآخر ..

قام متوجهاً إلى النادل ليعطيه الحساب ,وقد كانت إحدى الغانيات ماتزال تجلس هناك وتحتسي الكؤوس منذ دخولها حتى ثملت تماماً,فنظرت إليه وبدأت تتكلم معه بغنج ,اقترب منها قليلاً وهمس في أذنها
_ لن آخذ ما يقع عليه نظر رئيسي .
نظرت له باستغراب تستفهم عما قاله فأخبرها أن الذي يجلس قبالته هو رئيسه في العمل وقد أعجب بها منذ دخولها ,كان يحاول جعلها غطاءً حتى يستطيع التسلل من البار دون أن يلاحظوه, ابتسمت له ابتسامة ثملة ومشت بتمايل نحو الرجل , وبدأت تحادثه بلهجة مغرية..حاول الرجل إبعادها , فأغتنم (ويليام) الفرصة وتسلل مغادراً البار دون أن يلحظه أحد من الرجال ويبدو أنه لم يكن محط شكوك سوى للرجل الذي كان أمامه..

كان الشارع امامه طويلتً لن يستطيع اجتيازه بهذه السرعة, تلفت حوله ,فوقع بصره على مكان ضيق مجاور للبار ,حشر نفسه به

* * * * * *

أبعد الرجل الغانية التي كانت تلتصق به و تهذي بكلمات أشبه بمواء قطة , لكن ويليام كان قد اختفى,,حزم أمره على الخروج إلى الشارع لإلقاء نظرة عله مازال قريباً , مشى عدة خطوات , ففوجئ بضربة شديدة على رأسه أسقطته مغشياً عليه…

* * * * * *

شعر ويليام بوقع أقدام تقترب من المكان لابد أن الشخص قد خرج عقب خروجه من البار , تحسس المكان الضيق بقدمه فاصطدمت قدمه يقضيب حديدي ,انحنى ليلتقطه وبحركة مباغته هوى به على رأس الرجل الذي كان على بعد بضعة إنشات منه..سحبه نحوه ..وخلع معطفه ورمى العصا والنظارات واستبدلهم بسترة الرجل الرصاصية ونظارته الشمسية ,تحسس أذنه وهو يخلع نظارته فلمس سماعة محشورة بأذنه ,علم أنه من عملاء المنظمة..ففكر بالابتعاد فوراً من المكان ..

بدأ يتلوى في أزقة الأبنية بعد أن تكشفت معالمها وبدأ النور يشق أستار الظلام, استأجر سيارة لتقله الى جسر جوسيلينو, يعلم جيداً بصديقه (مارسلو) والتزاماته بالمواعيد ، بلا شك أنه سيأتي متأخراً حتى بأحلك الظروف, اجتاز الساحة الخضراء ذات المنظر الخلاب وسلك طريق الجسر , بدأ يجتازه بهوادة وثقة تامة, وقد استغل وجود بعض السائحين هناك ليقف معهم ويبدي دهشته بهذا المعلم السياحي الرائع.

علت الشمس لتتوسط السماء معلنة عن دخول فترة الضحى , لعن بسره صديقه(مارسلو) ، ووقف يرقب صفحة الماء الهادئة , تذكر للتو الحجر , ها هي الشمس توشك على التعامد ولم يتبقى عليه سوى وقت قليل جداً, حان الوقت الآن..
أخرج الحجر من جيب سترته ووضعه في راحة يده ووضع المسلاط في اليد الأخرى
” لا أعلم من أين أتيت, لكن العالم الآن على شفير الهاوية , وستكون اللمسة الأخيرة التي تودي به إلى قعر الجحيم”

شد قبضته عليه ثم رماه بقوة ليستقر في الأعماق و أتبعه بالمسلاط ….

* * * * * *

غارت عيناه من شدة التوتر وغاصت في بحر من الهالات السوداء التي تكونت خلال هذه الساعات الأخيرة ..سمع تذبذب اللاسلكي أمامه تتخلله أنفاس متلاحقة
_سيدي ..أحمل نبأ سيئ ..
_ هل ستزداد الأمور سوءاً أكثر, هات ما عندك
_ رصدت الكاميرات (ويليام) على جسر جواسيلينو لكن للأسف لم ننتبه لوجوده إلا بعد أن أخرج الحجر من سترته….
قاطعه وهو يزأر بشدة:
_ هل امسكتموه؟
_ سيدي لقد رمى الحجر والمسلاط في البحر , لم يسعفنا الوقت لإيقافه رغم رجالنا المنتشرين إلا أنه استطاع التواري مع جموع السائحين ..

استشاط غيظاً وكأن شياطين الدنيا قد استقرت في نفسه فصاح بشدة :
_اقتلوه حالاً

ثم رمى باللاسلكي بعيداً , وهوى على كرسيه ينتفض غيظاً

* * * * * *

نظر في ساعته التي كانت تشير عقاربها إلى العاشرة والنصف , يبدو أن صديقه (مارسلو) لن يأتي , بدأ بتفحص وجوه المارين عله يراه متجهاً نحوه.. لمح رجلاً يتجه نحوه ,قطعاً هو ليس (مارسلو)..شعر ببعض القلق يداهمه , حافظ على رباطة جأشه واتجه نحو نهاية الجسر الأخرى..ما أن وطأت قدميه الأرض الخضراء حتى لمح رجلاً آخر يتجه نحوه , استدار ليغير مساره , شعر بشيء حار اخترق رأسه ثم شلت حركه فوقع أرضاً..

ها هي تظهر مجدداً كما اعتاد رؤيتها بفستانها الزهري القصير تشع أنوثة, اختفت معالم المرض من وجهها واستعادت رونقها , أمسكت بيده وهي تبتسم بخجل ثم سارت أمامه بخفة …

* * * * * *

حدق ( رفاييل) بالجثة الملقاة أمامه وقد اخترقت جمجمتها رصاصة من الخلف ,لقد ضربت آراءه عرض الحائط وكم يبدو الآن احمقا أمام الشرطي (ريتشارد)
_ أرأيت يا رفاييل هناك شيء مفقود في هذه الحلقة .. إن كان (ويليام) القاتل فمن قتله الآن ؟!
_اصمت ..حبذا لو شغلت نفسك بالعمل بدلاً من محاولة تثبيط صحة نظرياتي ,اذهب إلى ذاك الذي يزعم أنه صديقه وخذ اقواله..

كان ( مارسلو) مصراً على أنه لا يعلم شيئاً عن البروفسور وقد أتى من كويابا لبرازيلية بعد أن ورده اتصال من (ويليام) يطلب مجيئه ..
تلقى (رفاييل) اتصالاً فابتعد عن ريتشارد مشعراً إياه أن الاتصال الذي ورده مهم ..لكن ملامحه قد تغيرت و اكتست بسحنة غريبة فور انتهائه من الاتصال.. سحب ريتشارد من يده بعيداً عن التجمهر..
_اسمع ، لقد تلقيت للتو اتصالاً من الضابط أخبرني فيه أن نغلق التحقيق في قضية البروفسور و إسنادها إلى عملية سرقة..

لم تكن معالم (ريتشارد) الذي فغر فاه عند سماعه لما قاله ( رفاييل) بأقل استغراباً من الأخير ، لكن عليهم تنفيذ الأوامر فقط .

* * * * * *

التقط سماعة الهاتف الموضوعة أمامه واستمع إلى الطرف الآخر
_ سيدي ..آمل أن يسعدك هذا ويخفف عنك وطأة ما حدث, لقد أمرت رفاييل بإغلاق التحقيق في قضية البروفسور و
أن تعزا إلى سطو من أجل السرقة.. أما ( ويليام) لا تقلق بشأنه سنتدبر بضعة أدلة توجه أصابع الاتهام لصديقه (مارسلو) , لذا ستكون المنظمة بمنأى عن كل ما حدث خلال الساعات الأخيرة ..

أثنى الرئيس على ما قام به الضابط وأن مكافأته ستصل له حالاً.. ثم قام بإشعال سيجارته ونفث الدخان في الهواء
“سأعيد رص صفوف رجالي، الإنتكاسة التي اصابت المنظمة كشفت من يشكل موضع ثغرات ومن يعمل كدرع حامي ولم يتبق الآن سوى مرحلة الغربلة”

قال محدثاً نفسه.. ثم رفع سماعة الهاتف :
_جهزوا البضاعة، غداً سيتم تسليمها إلى الزبائن.

* * * * *

عاود ترتيب أوراقه على طاولة اللعب ، لم تنتهِ جولته بعد ما لم يعلن انسحابه أو يثور غريمه قالباً موازينه الواهية.

ــــ تـــــمــــت ـــــ

تاريخ النشر : 2018-09-02

guest
73 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى