أدب الرعب والعام

طريق المجد – الجزء الثالث

بقلم : يعقوب السفياني – اليمن

لم يكن بإمكان عفراء الجميلة تصديق أن قائد جيوش الناب الفضي الشهير بنفسه يقف أمامها

عزل مالك المختار أخيه وحيد المختار من قيادة الجيش ، وأراه برقية التحذير التي أرسلها لملك الهضبة الذهبية رشيد المعتد وقد كانت دليلاً قاطعاً على خيانته ، لم يحاول وحيد المختار تبرير الأمر أو توضيح الحقيقة لأخيه الملك وإخوته في المجلس ، كانت الحسرة في قلبه كبيرة ، لم يكن يفكر يوما أن يعامل كخائن أو أن يشك أحد بولائه وإخلاصه لمملكة الناب الفضي .

**

– جناب الملك المختار ، بلغنا أن جيشاً يتجه صوب مملكتنا يقوده الملك فخر الدين المظفر !

أمر مالك المختار بحشد كامل جيش مملكة الناب الفضي فقد ضاق ذرعاً بخطوات فخر الدين المظفر المستفزة ، إنها طبول الحرب دقت وسلالة المختار لم تكن يوما ممن يهربون من الحرب ، حشد المختار جيش لا يقل رعبا وقوة وكثافة عن جيش المظفر ، وأرسل برقيات لكل الممالك المتحالفة معه لتمده بمقاتلين لأجل هزيمة المظفر ، فهزيمة المختار تعني أن بقية الممالك ستصبح لقمة سائغة للملك المظفر ، وبعد اكتمال حشد الجيش خرج الملك مالك المظفر على رأس الجيش ، لم يكن يتوقع جنود الناب الفضي المتحمسون أن يقودهم قائد آخر غير وحيد المختار ، وبدأ التوتر والتململ يظهر في صفوف الجيش قطعه صوت جهوري : أيها الجنود الأبطال ، إننا على وشك الالتحام مع جيش مملكة خنجر الزمرد في معركة مصيرية ، وقد عرفتم بالتأكيد سبب عزل القائد وحيد المختار وسيستمر عزله حتى نتبين من الأمر ، واليوم سأقودكم بنفسي في هذه المعركة ، إنكم يا جنود الناب الفضي لم تهزموا في معركة ولن يحدث هذا اليوم .

ألهب كلام مالك المختار حماس الجيش ، وضربت الطبول واتجه الجيش لملاقاة الأعداء.

أما وحيد المختار فقد كان يطل من شرفة قصره بحزن ، فهذه أول مرة يغيب فيها عن معركة للمملكة ، وكانت صورة عفراء أيضاً لا تفارق مخيلته ، كان يشعر بالغيظ الشديد عندما يتذكر كلام جلال المشروف عندما قال له أن المظفر يخطط للزواج من عفراء ، وفي تلك الأثناء فكر وحيد المختار أن الملك المظفر سيكون غائباً عن مملكته بالتأكيد فهو مشغول بقيادة الجيش في المعركة الكبرى مع مالك المختار ، سيذهب إلى مملكة خنجر الزمرد عبر طريق تجارية ويحاول اللقاء بعفراء .

وفعلا وكما هي صفة وحيد المميزة لا يتراجع فقد أخذ فرسه وانطلق صوب المملكة ، وفي تلك الأثناء وصل جيش المظفر وجيش المختار واصطفا وجه لوجه في سهل “الجماجم” الشاسع المساحة ، لقد كان الأمر أشبه بالتقاء بحرين متلاطمين معا ، وقف القائدان يتأمل كل منهما جيش الآخر بذهول ، ستكون المعركة دموية لأقصى الحدود ، وفعلا التحم الجيشان معاً بعد اصدار الملك المظفر أمر الهجوم.

اعتمد الملك فخر الدين المظفر على تكتيك عسكري فريد من نوعه ، فقد قسم الجيش إلى 7 فيالق عظيمة يشكل كل واحد منها جيش بحد ذاته ، وأكثر من تدريع الصفوف الأولى من الفيالق وتزويدهم بحراب طويلة من أجل اقتحام قلب جيش المختار ، وفي قلب الفيالق وضع المظفر فرق المشاة الضخمة أما المؤخرة فقد كانت صفوف لا تنتهي من رماة الأسهم ، وكان هنالك فيلق بأكمله من الفرسان الأشاوس يهز صدى حوافر خيولهم الأرض ، وفي الخطوط الأخيرة للجيش جهز المظفر سلاحه السري ونصب المنجنيقات المعدة له ..

أما الملك مالك المختار وإن كان غالباً لا يقود الجيش إلا أن هذا لا يعني أنه غير خبير في أمور الحرب ، فقد أعد خطة عسكرية محكمة وقسم جيشه إلى 10 فيالق ضخمة ، واعتمد على وضع الفرق المزودة بدروع سميكة جداً وضخمة في مقدمة الفيالق لصد هجوم المظفر البربري الشرس كما هو متوقع ، ووزع فرق الخيالة في قلب الفيالق فيما فرق المشاة الضاربة كانت في مؤخرة الفيالق تتنظر كشف الدروع في الخطوط الأولى لتهجم بلا هوادة ، واختار الملك المختار أن يكون للرماة فيلق خاص عظيم يمطر جيش المظفر عن بعد ويستنزف جيشه ، ونصب المنجنيقات كذلك في مواقع متفرقة في الخطوط الخلفية ، والتحم الجيشان بعنف ودموية وشراسة .

كان مشهد الفيالق وهي تصطدم ببعضها رهيبا ، تحول لون السهل إلى الأحمر لكثرة ما سال من الدماء ، وتكومت جثث القتلى حتى امتلأ بها سهل الجماجم الشهير ، ولمعت مئات الآلاف من السيوف وهي تتقارع معا كأنها تنهب ضوء الشمس ، زادت المعركة سخونة وحمي الوطيس فيها وكلا القائدان يراقبان المشهد الدموي التاريخي ، كانت الصخور التي تقذف بها المنجنيقات تهشم أجساد عشرات الجنود ، وأمطرت السماء سهاما لم يتوقف غيثها ثانية واحدة ..

استمرت المعركة سجالاً حتى دنت الشمس على الغروب ولكن شهب ونيازك مشتعلة سقطت على مواقع جيش المختار بسرعة خاطفة أثارت فزعا لا مثيل له بين صفوف الجنود ، لقد أحرقت فيلق بأكمله ، لم يكد المختار يستوعب ما يجري حتى سقطت عشرات الشهب الأخرى ، كانت تأتي من مؤخرة جيش المظفر ، جن جنون المختار فقد كان سلاح المظفر هذا صادما وفتاكا إلى درجة كبيرة ، شعر المختار لوهلة بقرب الهزيمة إذا استمرت الحال هكذا فأمر بانسحاب ما تبقى من الجيش تفاديا للهزيمة النكراء وتمويه جيش المظفر بسرايا مخادعة ، فقد كان الوقت مساء ولكن هجوم المظفر لم يتوقف واشتعل السهل بأكمله .

**

تسلل وحيد المختار وهو يضع لثامه على وجهه إلى المملكة في عربة تنقل خضاراً ، لقد أخذ معه ذهباً ونقودا من أجل رشوة الجنود والمزارعين ليتمكن من الدخول ، وسأل عن القصر الذي يقيم به رشيد المعتد ودله شخص ما عليه بعد أن أعطاه بعض النقود ، ثم ذهب إلى القصر وكانت تحيط به حراسة شديدة ، استطاع التسلل إلى القصر في مناوبة الحراس ، كان سريعا وذا لياقة هائلة ولم يتعبه تسلق جدران القصر كثيراً ، ودخل القصر وكانت الشمس تغرب في منظر بديع ، وفجأة لمح فتاة في شرفة القصر تراقب الغروب ، إنها عفراء ، خفق قلب وحيد المختار واتجه بسرعة نحوها .

– عفراء ؟
نظرت عفراء إلى الشخص الذي يناديها وتفاجأت من هذا الشخص الغريب .

حدثها وحيد المختار عن كل شيء وكونه يحبها وأخبرها بمن يكون وقصة عزله بسبب البرقية ، لم يكن بإمكان عفراء الجميلة تصديق أن قائد جيوش الناب الفضي الشهير والشجاع وحيد المختار بنفسه يقف أمامها الآن وقد خاطر بالدخول إلى قلب عدوته اللدودة “خنجر الزمرد” لأجلها ، وأحزنها عزله من قيادة الجيش ولكنها تذكرت بسرعة مملكتها الهضبة الذهبية التي أحرقها جيشه وشعبها الذين أبادهم فبكت وأخبرته أن غزو مملكتها ترك فيها جرحاً غائراً ، شعر وحيد المختار لأول مرة بالحزن بسبب غزوة له ، وعرف شعور الذين يغزوهم بجيشه العنيف وأنه شعور لا يود تجربته أحد .

غادر وحيد المختار المملكة بعد أن عاهد عفراء على إصلاح الوضع والعودة لخطبتها من والدها ، وأحبته عفراء بسرعة فقد كان شخص طيباً ذا قلب طيب وخلف ملامحه القاسية وجلده الجاف الممزق من القتال شخص طيب وصادق ، أما في سهل الجماجم فلم تكن الأمور على ما يرام بالنسبة لمالك المختار ، فقد فقد نصف جيشه تقريبا ، وانسحب لمسافات بعيدة لتقييم الوضع ، أما المظفر فقد شعر بنشوة النصر مبكرا وقرر إيقاف القتال فقد اشتد الليل ظلاما وهطلت أمطار محملة بالبرد والثلج وهبت رياح باردة قارسة ، وعسكر بجيشه في جانب السهل وهو يعد للجولة الحاسمة والنهائية يوم غدا .

لم يكن يفصله عن النصر التاريخي سوى ليلة تعيسة دامسة باردة مضرجة بالدماء ومثخنة بالجراح ، يشق سوادها فارس شجاع ينطلق بخيله كالريح باتجاه مملكة الناب الفضي ليعرف ماذا حدث في غيابه وكيف أبلى جيشه بدون قيادته ، اما الجيش فقد هبطت معنوياته لحد كبير وكان وقع السلاح الجديد والسحري مدمرا على المستوى المادي والمعنوي لجيش الناب الفضي ، وزاد الطين بلة غياب القائد وحيد المختار الذي يكن له الجيش ولاء وتقديرا لا متناهيان .

وبعد منتصف الليل نادى احد حراس الملك مالك المختار في خيمته : جناب الملك المختار ، يوجد رجل هنا من جيش المظفر يقول أنه يود الالتقاء بك سريعا .
أمر مالك المختار بإدخال الرجل ..

دخل رجل يبدو عليه أنه قائد كبير وليس جندي عاديا ، وبدأ الرجل الغريب الكلام : أيها الملك المختار ، أنا ميمون الرافد ، قائد الفليق الثاني في جيش مملكة خنجر الزمرد وقد تسللت إلى هنا سرا ، أنا من أكثر الاشخاص كرها للملك فخر الدين المظفر ، هذا الملك الغشوم والظالم صعد للحكم بالقتل والاغتيال والمكائد والدسائس ، لقد قتل والدي زين الرافد الذي كان مستشار الملك السابق والمغدور به “عبد الرحمن المنير ، وأنا ومجموعة من الرجال الأوفياء والشجعان نخطط منذ مدة للإطاحة بهذا الطاغية ، وقد تأكد لنا أن اليوم فرصتنا الوحيدة لتحقيق تقدم في خطتنا ضد الملك المظفر ، فإذا هزم مملكة الناب الفضي فلن يكون بمقدور أحد الوقوف في طريق هذا المجرم ، إنني هنا لأعلن تعاوني معكم في سبيل هدف مشترك وهو الإطاحة بهذا الطاغية لكن هذا لا يعني خيانة مملكتنا وإنما تخليصها من هذا الملك واختيار ملك آخر من مجلس الثورة .

كان حديث ميمون الرافد منعشا لآمال مالك المختار إلى أقصى الحدود ، لقد كان قبل هذا الكلام متيقن لهزمية نكراء سيمنى بها مع بزوغ فجر اليوم ، إن أمام مالك المختار فرصة يجب استغلالها بشكل تام لأجل النأي بجيشه ومملكته عن الهزيمة والاحتلال لها من قبل قوات الملك المظفر ، مضت لحظات طويلة والملك مالك المختار يفكر حتى قال : أيها القائد ميمون ، يسرني أن أتعاون معكم في هذا الأمر وأعدكم أنه في حال نجحنا في الإطاحة بالملك المظفر فإننا سنعقد اتفاق صداقة طويلة الأمد مع مملكة خنجر الزمرد ونفتح كل مجالات التعاون بيننا ونلغي قيود التجارة ، يجب تخليصكم من هذا الملك الدموي المتهور ، لكن هذا الأمر سيكون صعبا دون أن نعرف نوع السلاح الذي استعمله جيشكم ليلة البارحة ، ما هذا السلاح الناري الذي لا نعرف عنه شيء وكيف بمقدورنا إيقافه ؟

كان ميمون الرافد من قادة مملكة خنجر الزمرد البارزين وممن لا يخفى عليهم الكثير في البلاط الملكي فكان يعرف الكثير من السلاح فقال :
– قبل فترة طلب الملك المظفر من مسؤول التصنيع الحربي جعفر ابن عامر أن يجمع كل سحرة المملكة وأعظم السحرة من كل الممالك ويغريهم بالذهب والفضة مقابل صناعة سلاح سحري مدمر له ، وفعلا بعد مدة صنع هؤلاء السحرة مادة وصاغوها على شكل حجارة تشبه تلك التي نستعملها في منجينقاتنا العادية ، وقد رأيت بعينك الأثر الذي تتركه ، أما المادة وكيف صنعت فلا نعرف عنها شيء لأن الملك المظفر أعدم كل من اشترك في صناعتها عدا جعفر .

كان الكلام محبطا للآمال قليلا بالنسبة لمالك المختار ، فقد كان يطمح لصناعة السلاح ولكنه عرف مسبقا أن قائد خطير مثل المظفر لن يدع مجالا للصدفة أو يتسبب بتسريب صناعة هذا السلاح ، وعندما أراد معرفة مدى ولاء جعفر ابن عامر للمظفر أجابه الرافد : إذا كان هنالك شخص أكثر ولاء للمظفر من نفسه فهو جعفر ابن عامر ،فضلا عن ذلك هو صديق حميم له .

وبينما كان الاثنان يتحدثان سمعت صوت جلبة ضخمة قادمة ، كان مشهد لكتائب كبيرة من المقاتلين قادمة صوب جيش مالك المختار ، لكنها قادمة من الاتجاه الذي جاء منه جيش مالك المختار أي من مملكة الناب الفضي ، كان وحيد المختار الذي عرف بمجريات المعركة فذهب إلى مملكة الناب الفضي وفرض التجنيد الإجباري على شعبها وأخذ عنوة كل ذكر قادر على حمل السلاح ، ولم يستثني المحاربين القدماء والفلاحين ، وعندما عرف مالك المختار بالأمر شعر بحنق كبير فكيف يسمح أخوه زيد المختار قائد الحرس الملكي بهذا الأمر ، فوحيد المختار لا يزال خائنا ، ولكن بعد وصول وحيد المختار وكتائبه الى معسكر مالك المختار بادر أخوه قائلاً :

– أخي الملك ، إننا في موقع لا يسمح باستمرار الخلاف ، مستقبل مملكتنا يوشك على الوقوع تحت براثن المظفر ، أنت تعلم أن من المستحيل علي خيانتك و خيانة مملكتي ، أقسم لك أنك فهمت البرقية والأمر برمته خطأ ، سأوضح لك كل شيء إذا انتصرنا في الحرب ، ليسمح لي جنابك بتنظيم صفوف الجيش إذا وثق بكلامي واقتنع به ، وإذا لم تقتنع سأسلمك هذه الكتائب وأعود إذا شئت مكبلا إلى سجون مملكتنا الحبيبة .

يتبع…

 

تاريخ النشر : 2018-09-09

guest
10 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى