أدب الرعب والعام

حجاب الوهم

بقلم : سامي عمر النجار – الأردن
للتواصل : [email protected]

استيقظت ميسون وكأن الشيطان قد مسها

 

1

كانت تجلس داخل المقهى تشرب العصير حينما أقترب منها شاب وسيم و قال لها : مرحباً ، هل يوجد معك خريطة ؟.

شعرت ميسون  بالغرابة ! خريطة ، لماذا سأحمل خريطة ؟.

ابتسمت و قالت له : أسفة ، لا أحمل خريطة و لكن يمكنني مساعدتك عن طريق هاتفي ، هاتفي مزود بخرائط جوجل .

أبتسم الشاب و قال لها : أذن لو سمحتِ ، أبحثي لي عن الطريق الذي يوصلني إلى قلبك !.

تلعثمت ميسون و أحمَّرَ وجهها ، لم تكن تتوقع أن هذا الشاب يطلب ودها ، شربت القليل من العصير و قالت له : عفواً ، ماذا قلت ؟.

جلس الغريب أمامها ، نظر إلى عينيها العسليتين و قال لها : أسمي احسان ، أنا أسف إذا كنت قد أزعجتك ، و لكني معجب بك ، أرجو أن لا ترتابي مني ، حقاً أنا… لا أعلم ما أقول ولكنني حينما رأيتك تحرك بداخلي شيء ما ، أرجو أن تعذريني لصراحتي ولكن يبدو لي أني أحببتك من أول نظرة، أنا أعلم أن اسمك ميسون وأنك تعملين معلمة وأكثر الأوقات تجلسين في هذا المقهى ، أنا أعتذر إن كنت قد تجاوزت حدودي وسألتُ عنكِ ، ولكني بالفعل أحببتُكِ.

اضطربت ميسون من كلام احسان وتوترت، أوقعت كأس العصير على نفسها، وقفت واستأذنت منه أن تذهب لتنظيف نفسها.

توجهت مسرعة إلى حمام المقهى، وقفت أمام المرآة تنظر إلى نفسها وتقول: ما بك يا فتاة، تماسكي، تمالكي نفسك، لا يجب أن تكوني سهلة المنال، تكبري عليه قليلاً.

فتحت ميسون صنبور الماء وغسلت وجهها، ثم أخذت شهيقاً و زفيراً حتى هدأت وهدأ قلبها.

لم تكن تضع المكياج على وجهها ولم تكن تهتم بلباسها، كانت تعلم أنها لن تتزوج أبداً، فهي لا تملك الجمال ولا المال، وعمرها تجاوز الثلاثين.

أمضت ميسون حياتها بين العمل في المدرسة الثانوية والجلوس داخل المقهى والبيت، توفيت أمها وهي صغيرة، أما أباها فقد مات قبل أن تتخرج ميسون من الجامعة بسنة، وهي الأن تعيش وحدها في بيت صغير يحتوي بعض الأثاث والكثير من الكتب.

خرجت من الحمام بعدما هدأت وتماسكت، توجهت إلى الطاولة التي كانت تجلس عليها، لم يكن احسان موجودا، بحثت بعينيها عنه ولكنها لم تجده في المقهى، أقترب النادل منها و قال : أستاذة ميسون، الشاب الذي كان يجلس معك دفع حساب الطاولة وترك لك هذه الورقة.

أخذت الورقة من النادل وشكرته، فتحت الورقة و قرأت :

أرجو أن لا أكون قد سببت لك الإزعاج ، تمنيت أن أجلس معك وقتاً أطول لكني مضطر الأن أن أغادر، أرجو منك تقبل اعتذاري ولعلنا نلتقي قريباً جداً، المُتَيم بكِ : احسان أدم.

طوت الورقة ودستها في حقيبتها، ابتسمت وغادرت المقهى.

في تلك الليلة كانت السعادة تغمر ميسون، كانت تستمع إلى أغاني أم كلثوم وهي تتخيل نفسها تجلس بجانب احسان وهي ترتدي الفستان الأبيض، لقد أعاد الحياة إلى قلبها المهترئ من جديد، عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل تسلل النوم إلى عينيها ونامت على ألحان أم كلثوم.

الساعة السادسة والنصف صباحا ، نقطة التحول "هي أن تكون انسان بسيط جداً لا تختلط كثيراً بالناس ، كل ما تريده أن يتركوك وحدك في عالمك المنعزل، عالم الفضيلة والسلام الذي صنعته في عقلك، تريد العيش بسلام فقط، ثم تتفاجئ في أحد الأيام وعند استيقاظك صباحاً بجثة نائمة بجانبك ! عندها لن تبقى كما أنت، فإما أن تصيبك اللا مبالاة وبرود غريب وإما أنك ستفقد عقلك، بالنهاية سيكون تغييرك قاتلاً".

على صوت رنين المنبه المزعج استيقظت ميسون وهي تشعر بسعادة غريبة، مدت يدها لتوقف المنبه، ولكنها تفاجأت بشيء صلب يعترض طريق يدها، أدارت جسدها و نظرت له، كتمت صرختها بيدها وابتعدت عن السرير وهي تحدق إلى الجثة النائمة بجانبها، كانت الجثة لرجل في متوسط العمر، وعلى فمه لاحظت وجود سائل أبيض.

اقتربت من الجثة وأمعنت النظر في وجهه ، ثم  شهقت وهي تقول : احسااان.

خرجت من الغرفة مسرعة وأغلقت الباب خلفها.

2

جلست ميسون في الصالة لا تعلم ماذا تفعل! أصابها برود وهدوء غريب، لم تبكي ولم تصرخ ، فقط جلست أمام التلفاز المغلق وأخذت تحدق به، كان عقلها فارغاً تماماً، كانت كالجثة التي وجدتها، ساكنة وهادئة وباردة.

مرت ساعة كاملة وهي على هذا الحال، حتى سمعت صوت رنين هاتفها من غرفة نومها، نهضت لتحضره ، ولكنها ارتجفت عندما خطر في بالها منظر الجثة وهي بجانبها، ترددت في الدخول، أغمضت عينيها وأخذت تمشي نحو الغرفة بكل هدوء وتردد، لم تكن خائفة ولكنها كانت مستسلمة وكأنها اعتادت وجود المصائب في حياتها، وكأنها كانت تتوقع أن تصحو لتجد جثة بجانبها، كانت تشعر وهي تسير نحو الغرفة بهواء بارد، تحسست الباب ووضعت يدها على مقبضه، فتحت عينيها وأخذت نفساً عميقاً وفتحت الباب، حاولت أن لا تنظر إلى السرير، دخلت الغرفة بسرعة وتناولت هاتفها وهمت بالخروج، ولكن شيء بداخلها قال لها : انظري نحو السرير.

أدارت وجهها ببطء نحو السرير، لم تصدق عينيها، اقتربت من السرير وأخذت تتحسسه، الجثة اختفت، لا يوجد شيء في الغرفة، نظرت أسفل السرير لم تجد شيئاً ، فتحت خزائن ملابسها ولم تجد شيئاً ، أخذت تضحك وتقول :

نعم، أظنه التعب، الوحدة ستقتلني يوماً ما.

أزاحت الستائر وفتحت النوافذ، اخذت تسمع صوت العصافير وصوت السيارات التي تمر من شارعهم، نظرت نحو السماء و قالت : الحمد لله كان وهماً.

وما أن أنهت جملتها حتى سمعت من خلفها رجل يقول لها : أنتي لي وحدي.

نظرت خلفها بسرعة فوجدت رجلاً وسيماً يقول لها : من يفكر بالاقتراب منك سأقتله، وذلك الأحمق  الذي قابلتيه في المقهى إذا اقترب منك مرة أخرى سأقتله وأمزقه وسأسحقك أنت أيضاً.

تغيرت ملامح ميسون ، انقلبت ملامحها الهادئة إلى فزع و رعب، عجزت عن الصراخ ، أغمضت عينيها بقوة وهي تقول لنفسها :

هذه أحلام، هذه تهيؤات، لا شيء حقيقي، كلها أوهام، أين ذهبت الأصوات الجميلة، لماذا لا أسمعها ؟ هذه علامات الجنون، الوحدة ستقتلني.

وحينما استطاعت سماع صوت العصافير وأصوات السيارات مجدداً فتحت عينيها فلم تجد أمامها أحد ، جلست على السرير وأخذت تبكي بحرقة.

3

الساعة الثانية عشرة ظهراً.

صوت طرق على الباب، نهضت ميسون من سريرها  متثاقلة وتوجهت لفتح الباب، كانت تلك صديقتها صفاء، دخلت مباشرة دون استئذان كعادتها وجلست على الأريكة وهي تقول : خير يا بنتي ! قلقت عليك ، من الصباح وأنا أحاول الاتصال بك، لماذا لم تجيبي ؟ قلقت عليك كثيراً ، طلبت من المدام كوثر( مديرة المدرسة ) إجازة ساعية، كنت أريد الاطمئنان عليك.

أغلقت ميسون الباب و تمددت على الأريكة مقابل صفاء و قالت : أنا لست بخير، سأٌجن يا صفاء.

ضحكت صفاء و قالت : يبدو عليك التعب والجنون ، دعيني أحضر بعض القهوة حتى أستطيع الاستماع إليك.

توجهت صفاء إلى المطبخ بينما أخذت ميسون تحدق بسقف الصالة.

بعد برهة سمعت ميسون صوت تكسر زجاج في المطبخ، خطر في بالها أن صفاء كسرت إحدى الكؤوس، أو أن فنجان وقع منها، نهضت وتوجهت إلى المطبخ وهي تقول : صفاء، هل أنت بخير ؟

دخلت المطبخ ولم تجد أحداً فيه، حتى أنه لا يوجد شيء محطم على الأرض.

أخذت تبحث في أرجاء الشقة عن صفاء ولكنها لم تجد أحداً.

-أين ذهبت الغبية؟

صوت جرس الباب يرن، توجهت ميسون لتفتح الباب فتفاجأت أن خلف الباب صديقتها صفاء، دخلت صفاء كعادتها دون استئذان وهي تقول :

حبيبتي، قلقت عليك ، هل أنت بخير ؟ حاولت الاتصال بك كثيراً ولكن هاتفك كان مغلقاً !.

لم تصدق ميسون ما يحدث لها ! كانت تستمع لثرثرة صفاء دون أن تستوعب منها حرفاً ، كانت تقف كالبلهاء تنظر إلى صفاء.

ميسون ، ما بك ؟ هل أنت بخير ؟ ميسوون ، ميسوون ، آه صحيح تذكرت، مدام كوثر ترسل تحياتها لك.

الجميع افتقدك اليوم، أنهم يحبونك كثيراً، لا أعلم ما سر حب الجميع لك ؟!.

أخذت ميسون تصرخ في وجه صفاء وهي تقول : توقفي عن الثرثرة قليلاً ، رأسي يؤلمني ، توقفي.

إلا أن صفاء لم تتوقف عن الثرثرة .

توجهت ميسون إلى المطبخ وأحضرت سكيناً ،  واقتربت من صفاء وهي تقول : أخرسي قليلًا وإلا قطعت لسانك ، اخرسي.

وغرزت السكين في صدر صفاء.

عم الصمت المكان، الصمت البارد القاسي المفزع، ذلك الصمت الذي يأتي بعد صراخ طويل.

رغم وجود الدم على يدي ميسون ، ورؤيتها لصديقتها وهي تموت إلا أنها شعرت بالسعادة لأنها استطاعت أن تسكت صوت صديقتها، أن تشعر بالسكينة والهدوء.

صوت رنين هاتفها من داخل غرفة نومها يصدح عالياً ،نظرت إلى جثة صديقتها المكومة على الأرض ثم توجهت إلى غرفتها، أمسكت هاتفها لتغلقه ولكنها تفاجأت باسم المتصل.

"صفاء يتصل بك"

ارتعشت ومدت أصابعها لتجيب .

– ألو، ميسون كيفك ؟ أنا أقف أمام باب بيتك! جئت للاطمئنان عليك.

– ألو، ألو، أجيبي يا ميسون ! ألو.

تركت ميسون الهاتف على السرير و وقفت أمام المرآة تنظر إلى نفسها، لم تجد دماء ولم تجد شيئاً على ثوبها أو يديها، ولكنها لاحظت وجود شخصين خلفها، أمعنت النظر بالمرآة فوجدت أن صفاء تجلس في حضن احسان وتضحك.

أدارت وجهها ولم تجد شيئاً ،  نظرت مرة أخرى بالمرآة و وجدت احسان وصفاء يحدقان بها وهما يثرثران معها و يبتسمان.

كانت أصواتهم الآتية من مكان ما يسبب الجنون لميسون، وضعت يديها على أذنيها و أخذت تصرخ وتصرخ ثم كسرت المرآة بيدها، عندها سمعت صوتاً يقول لها : حجاب الوهم.

4

الساعة الرابعة والنصف صباحاً.

استيقظت ميسون وكأن الشيطان قد مسها، استيقظت مرعوبة وأخذت تبسمل وتحوقل وقلبها يكاد يخرج من مكانه، كان صوت أم كلثوم ما زال يصدح من هاتفها، أطفئت الأغاني و نهضت من سريرها وأضاءت النور، نظرت إلى الساعة المعلقة على حائط غرفتها فوجدتها الرابعة وأربعون دقيقة.

كان رأسها يؤلمها جداً من الكوابيس التي رأتها، أخذت تقرأ المعوذات وهي تقف أمام المرآة تنظر إلى نفسها وتنظر خلفها، لم يكن هناك شيء.

بعدما هدأ قلبها وانتظمت دقاته من جديد، سمعت صوت إقامة صلاة الفجر فتوجهت إلى الحمام لتتوضأ وتصلي الفجر، خرجت من غرفة نومها إلى الصالة، أخذت تتحسس الحائط بحثاً عن زر الاضاءة، أشعلت النور وعندما استدارت تفاجأت باحسان يجلس على الأريكة وبحضنه تجلس صفاء، وقفت مذهولة للحظة ولكنها لم تخف، لم تشعر بالرعب، بالعكس شعرت بالاستسلام والهدوء، شعرت بقوة تجتاحها من أسفل جسدها، شعرت بطاقة غريبة ، بهالة تحيط بها وتحميها، شعرت بأن هناك أحد ما معها يقف خلفها ويحميها.

اقتربت منهما دون تردد، وبرمشة عين لم تجد أحداً.

أخذت تستغفر الله بسرها، أخذت تبكي وتدعو الله أن يحفظ لها عقلها، ظنت أنها تقف على حافة الجنون، كانت قد استسلمت تماماً ، لم يعد بامكانها التحمل أكثر، عندها خطر في قلبها ما سمعته "حجاب الوهم".

تكونت الصورة في عقلها، الأمور اختلفت بعد أن أخذت تلك الرسالة من احسان، الآن فهمت.

رجعت إلى غرفة نومها، أمسكت حقيبة يدها وأخذت تبحث بداخلها عن تلك الرسالة ، أخرجت الرسالة وقرأتها من جديد، لا شيء يثير الاستغراب، الرسالة عادية جداً.

قلبت الورقة فلم تجد شيئاً.

طوت الورقة مجدداً وأرادت دسها مجدداً بحقيبتها ، ولكنها أخذت الورقة وتوجهت إلى المطبخ، فتحت الورقة وقلبتها للخلف ثم أمسكت ولاعة الغاز وأشعلتها ومررتها أسفل الورقة ، عندها لاحظت وجود كلمات غريبة(طلاسم) ورسمة لفتاة.

وضعت ولاعة الغاز جانباً ثم رجعت مسرعة إلى غرفتها، أمسكت هاتفها وجلست على سريرها وبدأت تبحث بواسطة الانترنت عن الطريقة الصحيحة للتخلص من هذا الحجاب.

لم تهتم للأصوات التي تسمعها ، لم تهتم لصفاء التي كانت تجلس بجانبها، لم تهتم لاحسان الذي كان يقف فوق رأسها ويضحك، كانت تعلم أن ذلك كله وهم بسبب الحجاب.

وحينما وجدت الطريقة ، توجهت مرة أخرى إلى المطبخ وقامت بوضع الحجاب في صحن ثم أشعلته وهي تتلو بعض الآيات .

و عندما احترقت الورقة وتحولت إلى رماد ، سكبت ميسون بعض الملح فوقه، ثم قامت بسكب الماء والتخلص منه.

5

الساعة الثامنة صباحاً.

كانت ميسون تقرأ القرآن عندما وصلتها رسالة على هاتفها من صفاء تقول فيها :

"أكرهك بشدة وأتمنى موتك كل لحظة، لا أعلم ما الذي أحبه زوجي فيكي، أنت قبيحة وفقيرة، لا تملكين ما يغري الرجل، ولكن زوجي أغرم بك وهو لم يراك سوى مرة واحدة، عندما جلبتك إلى بيتي وجلس زوجي معنا، رأيت اللمعة في عينيه وهو يستمع لحديثك الجميل، أتعلمين، ونحن على الفراش ناداني باسمك دون أن يعلم، قالي لي أحبك يا ميسون، نسي أسمي وهو في حضني، لقد فتنتيه بحديثك وثقافتك، ليتني لم أجلبك لزيارتي، أتعلمين أيتها العاهرة، دفعت كل ما أملك وبعت ذهبي كله لأصنع لك ما يفقدك عقلك، ودفعت لذلك الشاب ليعطيه اياكي، ولكن، أعلم أنك تخلصتي من الورقة، أعلم أني سأموت، انقلب السحر علي، ضربني زوجي البارحة وترك البيت ،لذلك أردت أن تعلمي أني أكرهك جداً وأحقد عليك وأتمنى تعاستك أيتها العاهرة ، تباً لك".

أغلقت ميسون هاتفها بعدما قرأت الرسالة وأخذت تبكي بحرقة.

في ذلك اليوم وجدت جثة صفاء وعلى فمها سائل أبيض، وعند التحقيق تبين أنها ماتت جراء تناولها جرعة زائدة من دواء السكر الخاص بزوجها.

النهاية….

"هذه القصة اهداء الى طفلتي العزيزة كلارا"

تاريخ النشر : 2018-09-14

guest
24 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى