أدب الرعب والعام

رهان القاتل (1)

بقلم : البراء – مصر
للتواصل : [email protected]

رهان القاتل (1)
لا توجد طريقة، النافذة أيضاً أُغلقت من الداخل، أي قاتل هذا؟!

 من الأشياء المزعجة في عمل المحققين هي تلك المكالمة التي تصلهم في منتصف الليل و هم يستعدون للنوم، إنها تلك المكالمة التي يكون صوت من بدأها غليظاً بارداً حتی أنك لتتخيل أن الرجل يقف في الإسكيمو و يتصاعد البخار من فمه مع كل كلمة ثقيلة تخرج من حلقه.. و كذا كان صاحب الصوت في مخيلة كوبريك.. يتخيل البخار و هو يتصاعد من بين شفتيه :

– “جريمة قتل.. عليك أن تحضر حالاً، لقد أرسلنا لك السيارة بالفعل، يجب أن تكون في طريقها الأن” قال الكلمتين و كأنه يبصقهما في وجه كوبريك ثم أغلق الهاتف بدون كلمة وداع واحدة، إن ذلك الصوت الغليظ يحمل بعضاً من الصبيانية.

كوبريك لم يعترض لأنه لم يُسمح له بإبداء رأيه حتی، منصبه ليس من ذلك النوع الذي يمكنه أن ينقذه في مثل هذه المواقف، رغم أنه أكثر المحققين فاعلية في المدينة بأكملها، ورغم أنه يستحق أن يكون علی رأسهم.. الرتبة الأعلی بينهم، إلا إنه كان غبياً.. من النوع الذي يصر علی أن يكون غبياً، لم يدرك في تلك اللحظة التي رفض فيها الرشوة لتبرئة ابن شخصية مهمة أمام الناس أنه قد فعل فعلة شنيعة ستؤثر عليه مستقبلاً، أو في تلك التي قرر فيها إدانة ابن هذا الشخص في الصحف أن أبوب الجحيم ستُفتح عليه.. لسوف يظل في أدنی مرتبة ممكنة و يحصل علی أكثر قضايا متاحة.

وهاهو ذا كوبريك يحدق في نافذة السيارة بغباء، يفكر، ما الحكمة في أن تُكتشف كل جريمة قتل بعد الساعة الثانية عشر ليلاً؟!.

***

– “من الأشياء المؤثرة هنا هي وضعية الجثة، الهاتف كان بيده، يبدو أنه كان يحاول الاتصال بشخصٍ ما.. الشرطة ربما”. قالها ثم نفث دخان سيجارته، نظر لكوبريك الذي كان مهتما بالرسم التخطيطي للجثة أكثر من اهتمامه بكلمات روماريو، عاد روماريو يقول :

– “ما رأيك إذن؟”.
– “أنت تلوث مسرح الجريمة”.
أطفأ روماريو السيجارة و هو يقول:
– “ماعهدتك هكذا مشتتاً”.
رد كوبريك متنهداً:
– “كل شيء حول هذه الجريمة” ثم دار حول المكان قبل أن يردف:
– “أعني كل شيء…فعلياً كل شيء غريب و غامض، لا أداة جريمة لا أحد سمع أي شيء، لا بصمات، لا شيء”.
– “معك حق، تری هذه النافذة؟”. قالها روماريو ثم أشار بيده نحو النافذة المعنية، أردف:
– “الفريق الذي وصل يقول أنها كانت مغلقة”. ثم صمت للحظات ثم عاد يقول:
– “من الداخل.. لقد اضطروا لكسر الباب”.

ركع كوبريك بجانب الجثة وأخذ يشتم ماحولها وهو يقول:
– “ثم ماذا؟. ما الذي تريد إيصاله؟”
– “جميع منافذ الشقة كانت مغلقة من الداخل”.
انعقد حاجبا كوبريك ثم وقف قائلاً:
– “هاه؟!. ماذا تعني؟!”
– “هل سمعت عن قصة السيدة ويلي المشهورة؟”.
قال كوبريك وكأنه يتذكر:
– “أه نعم، السيدة ويلي ماتت في غرفتها التي بها مخرجين فقط لا غير.. الباب والنافذة، السيدة ويلي ماتت مقتولة والنافذة مغلقة من الداخل والباب مغلق أيضاً من الداخل، وهنا السؤال.. من قتل السيدة ويلي إذا كانت جميع مداخل ومخارج الغرفة مغلقة من الداخل؟!. هذا مانسميه.. لغز الغرفة المغلقة”.
– “الآن ألازلت تراها حكاية سخيفة أخری من التراث البولندي؟”.
– “بالطبع لا…. ليس من البولندي حتماً، اسمع روماريو، ألا توجد أية كاميرات مراقبة هنا؟”. أشعل روماريو سيجارة مرة أخری وقال:
– “في شارع بيتوس؟!. هذا مستحيل، صفر بالمائة”.
– “لا أحب هذه الثقة المفرطة، سأبحث صباحاً بنفسي”. ثم صمت قليلاً ليعود ويردف بصوت عالي:
– “وأطفئ هذا الشيء اللعين!”.

***

قال كوبريك بقليل من العصبية:
– “تأخرتم للغاية.. لو كان شخصية مهمة لكان التقرير في يدي بعدها بساعة”.
رد عليه الرجل الماثل أمامه:
– “ما باليد حيلة.. المشرحة مكتظة”.
– “نعم هذا ما يقولونه دائماً”. ثم صمت قليلا ليسترسل قائلاً:
– “إذن من هو؟”.
– “جثة الميت تعو.. “.
قاطع المتحدث صوت كوبريك وهو يقول:
– “القتيل”.
تنهد الأول قائلاً:
– “تعرف عليه أحد السكان.. جثة القتيل تعود لـ كينان حكيم، في العشرينات.. تركي الجنسية، مغترب ويعيش هنا.. في مكان حدوث الجريمة.. يعيش هنا يالإيجار، تقرير المعمل يقول أن هناك من طعنه طعنتين في ظهره، الطعنات أصابت أماكن حيوية.. لم يساعده أحد فمات إثر تعطل وظائف الجسم المهمة.. وإثر فقدان الدم بالطبع، واحدة أصابت الكبد.. وواحدة أصابت… “.

توقف لوهلة ثم أردف:
-“هاك كل شيء مذكور هنا”. قالها ثم مد يده بملف صغير نحو كوبريك .

التقط كوبريك الملف ثم فتحه وبدأ يتفحص المعلومات الخاصة بالقتيل، توقف فجأة ونظر نحو رفيقه قائلاً:
– “أين بطاقته الشخصية؟. جواز سفره؟. أي شيء”.
– “لم نجد شيئاً بعد، المعلومات عنه قليلة فعلاً”.
– “مثير، هذا يصعب الأمور”. قالها ثم راح يكمل تصفحه للملف الذي بيده، توقف أمام صفحة معينة ثم نظر لزميله متسائلاً:
– “كان عامل نظافة؟”.
– “نعم، المقر الرئيسي لشركة رافا، تبعد بضعة كيلومترات من هنا، كان يستقل القطار يومياً ليذهب إلی هناك”.
– “عدا يوم الأحد.. العطلة”.
رد عليه الرجل متنهداً:
– “نعم والذي بالطبع سيكون يوم وفاته، القضايا كلها هكذا”.

قال كوبريك بعد أن صمت لوهلة:
– “سباستي.. أنت ذكي وأنا أحب العمل معك، لماذا لا تترك فريق المعمل وتكون محققاً معي بدلاً من روماريو الأحمق”.
– “روماريو ليس أحمقاً”.
– “إنه أحمق بطريقته الخاصة، يا فتى .. أنا فقط أعتقد أن شخصاً بمثل إمكانياتك لا يجب ان يُفني عمره في تفاهات مثل إحضار التقارير للمحققين، أنت أكبر من هذا، لازلت يافعاً، يمكنك أن تكون شيئاً في المستقبل”.
– “هذا ما يقولونه سيد كوبريك، لكن أتضمن لي أنني لن أكون مثلك؟”.
– “مثلي؟!”.
– “نعم مثلك، الجميع يعلم أن مكانك أنت أيضاً ليس هنا، أنت من الصفوة ويجب أن تعمل معهم في القضايا الثقيلة المهمة”.
ثم توقف ملقياً نظرة علی الرسم التخطيطي الذي يبين وضعية الجثة، قال مضيفاً وهو يشير بإصبعه نحو الرسم:
– “لا في قضية تخص مغترب لا يهمهم موته من عدمه”.
– “لهذا بالضبط أردتك معي.. أنت تقرأ المواقف بطريقة ذكية”.
– “ألازلت لا تريد إخباري ما الذي حدث ليعاملوك بهذه الطريقة؟!”.
– “من يعلم.. قد أغير رأيي إذا غيرتَ رأيك”

تنهد سباستيان وأعلن استسلامه، رحل متمتاً:
– “إنه يبتزني لأنني فضولي”.

رحل تاركاً كوبريك وحيداً يقرأ الملف ويجول في المكان.

***

نفث روماريو دخان سيجارته وقال بصوت عميق:
– “كانت قضية اغتصاب.. و كان كوبريك متعاطفاً.. مع الحق و مع الفتاة”.
– “ومن أين كسب تعاطفه هذا؟”.
– “تحدث معها وأخبرته أنه ابن رجل الأعمال فلان الفلاني، وكان أن ظهرت بعض الدلائل التي تدين الفتی بالفعل، عرف الرجل المهم بهذا فقرر رشوة الجميع.. بما فيهم الفتاة نفسها، الغريب أن الفتاة وافقت، مبلغاً مهولاً بالنسبة لشخص فقير يمكنه بكل فاعلية أن يذيب كرامته.. أو يحطمها إلی فتات شيء كهذا، لازلت أذكرها.. ما قاله كوبريك لي آنذاك”.

تمتم سباستيان قائلاً:
– “مثيرٌ للغاية، كيف كان رد فعل السيد كوبريك بعد هذا؟”.

قال روماريو بعد أن رشف من قهوته:
– “تحدثت إليه حينها، هناك شيءٌ ما أثار غضب كوبريك في كل هذا، مبدأياً هو رجل ذو كلمة قاصرة.. إما أن يسمعوها و يصدقونه.. و إما أن يسمعوها ولا يعملوا بها، رجل القانون وحده هو من يطبق العقوبة.. في النهاية القرار يكون دوماً بيد القاضي، ثانيا: الجميع متواطئ.. و ربما بما فيهم القاضي الذي سيحكم في القضية.. إذن الوضع ميؤوس منه هنا، ثالثاً : لقد سحبت الفتاة البلاغ الذي قدمته بالفعل، لقد انهار الحق أمام ناظري كوبريك وهو من أكبر مؤيديه”.

– “نعم.. أتفق معك في هذا، حس العدالة لدی السيد كوبريك يذهلني في بعض الأحيان، ماذا حدث بعد هذا؟”.

رد روماريو بثقة:
– “ثم أتته تلك المكالمة المبهمة، لا تخبر أحداً عن الأدلة و الأوراق التي لديك ولتبقي الأمر سراً عن الإعلام و لك منا مبلغ سخي للغاية، أما كوبريك فكان رده.. تباً لكم!. بالطبع حينها كان كل شيء قد انتهی سلفاً، لم يعد كوبريك ذاك التهديد الخطير الذي يجب أن يخافوا منه، لقد سحبت الفتاة أقوالها برضاها و لم يعد هناك ما يخيف الفتی، اتصالهم بكوبريك كان فقط محاولة منهم لتنظيف الأمر تنظيفاً عميقاً، و ربما لمجرد حماية سمعة الفتی”

– “بالطبع السيد كوبريك لم يستطع أن يصمت”.

– “نعم، لقد قدر أن الأمر الذي بإمكانه أن يفعله هو إخبار الإعلام حتی يعرف الجميع”.

– “وهل غير هذا شيئاً؟”.

– “لا.. ليس بالطريقة التي أرادها كوبريك، لقد ظلوا بين مؤيد و معارض، أنت تزرع في أرض قاحلة هو ما قالوه له، في النهاية فهم كوبريك الدرس و استوعبه جيداً.. لا تعبث مع مجتمعك الفاسد، إن الأمر أكبر منك، ومن يومها وتتم معاملة كوبريك علی أنه محقق مبتدئ وغير مهم.. تم تهميشه بشدة.. فقط لأنه لم يتقبل الواقع”.

تساءل سباستيان بصوت أشبه بالهمس:
– “برأيك ما الذي كان سيحدث لو تقبل السيد كوبريك الأمر”.

– “يافتی أنت لا تفهم، إن الفتاة سحبت أقوالها.. تراجعت عن اتهاماتها.. هذا يعني أن كل شيء انتهی، إذا كان صاحب الحق لا يريده فمن سيطالب به؟!. كوبريك كان عليه أن يتقبل الأمر سواء أراد أم لا.. عدم تقبله ليس خياراً”.

– “ولكنه لم يتقبل الأمر.. أليس كذلك؟!”.

– “لم يتقبله لا.. لكن مجدداً.. ألسنا نقول أن هذا هو ما جعله ملتصقاً بهذه المكانة طيلة هذه السنين ؟!”.

– “هاه.. أتعلم كم ساعة قضيت في محاولة إقناعه بأن يخبرني ما الذي حدث؟!”

– “وهذا مايقلقني، أنت لم تصل إلی هذه المرحلة قط يا سباستيان، لماذا الآن تسألني بدلاً منه؟”.

– “لأنني اكتشفت شيئاً مهماً بشأن هذا الصدد”.

***

– “عزيزي روماريو.. هذا لغز !. هذا حقاً لغز!”.
قال روماريو متنهداً:
– “أيهما؟. حقيقة أن الشقة كلها مغلقة من الداخل أم حقيقة أنك -كوبريك العظيم- لم تجد الفاعل بعد”
رد عليه كوبريك وهو يتفحص النافذة:
– “بل حقيقة أنك لاتزال واقفاً مكانك منذ نصف ساعة، لماذا يجب علي أن أقوم بكل شيء بنفسي؟!”.
– “أنا في نفس مرتبتك.. لذا لا يحق لك أن تأمرني، وعدم مساعدتي لك يمكنك اعتبارها اعترافاً رسمياً مني بأن القضية من المستحيل حلها”.

توقف كوبريك عما كان يفعله ثم نظر ناحية كوبريك قائلاً:
– “هذه هي المشكلة، أنا في أدنی مرتبة مع أدني محقق في هذه المرتبة، لا مساعدين في العمل ولا مساعدات من رفيق، إستسلامك السريع وعقلك الصغير هذا هما ما جعلاك تظل معي طيلة هذه السنين، أنا لدي سبب.. أما أنت ما السبب الذي يمنعك من الترقية؟”.
– “واين كان عقلك الكبير عندما أصريت علی موقفك في تلك القضية القديمة؟. أنت كان يجب أن تكون هناك القمة”.
تنهد كوبريك مبتسماً ثم عاد لما كان يفعله بالنافذة وقال:
– “كانت قضية مبادئ، لست أظنك بفاهمٍ لهذه الأشياء يا روماريو، قد تحاول يوماً لكنك لن تفهم أبداً”.

صمت روماريو وقد بدت عليه علامات التفكير، كان يحاول أن يفهم الأمر، مرت بضع ثوان قبل أن يبتعد كوبريك عن النافذة وهو يغمغم لنفسه:
– “لا توجد طريقة، النافذة أيضاً أُغلقت من الداخل، أي قاتل هذا؟!”
سمعه روماريو فعاد يقول:
– “أخبرتك، لنُغلق ملف القضية وليرتح كلانا”.
قال كوبريك متسائلاً:
– “ما الأمر؟!. صباح اليوم سألني سباستي عن القضية القديمة، اليوم أنت تذكرني بها، ثم فجأة تحثني علی نسيان أمر هذه الجريمة، حتماً أنا أفوت شيئاً ما”.

ابتسم روماريو ساخراً وقال:
– “لازلت لا أفهم حتی الآن كيف لاتزال تصارع في القاع!. أنت لا تفوت شيئاً أبداً، سباستيان زارني اليوم صباحاً بعدما أعطاك ملف القتيل، كان يسأل عن القضية القديمة، أخبرته بكل شيء”.
– “غريب!. هو لم يسألك قبلاً قط، لماذا سألك هذه المرة بالذات؟”
– “لأنه وعلی مايبدو هناك جريمة قتل أخری.. وقعت البارحة، وقعت تقريباً قبل وقت هذه الجريمة بساعة، والقتيل كان ذلك الفتی الثري إياه، الذي اتهمته في قضية الاغتصاب”.

انعقد حاجبا كوبريك وقال:
– “حقاً ؟!. أتی اليوم أخيراً!. إذن هم لم يخبروني لأنها قضية تخص المحققين الكبار”.
– “نعم بالطبع لكن.. إذا كنت تقرأ الجرائد لوجدت الخبر في الصفحة الأولی.. الجميع يتحدث عن ابن رجل الأعمال الفاسد الذي قُتل في مقر شركته.. شركة رافا”.
– “مقر شركته؟. مهلاً تعني شركة رافا.. الشركة نفسها التي يعمل بها كينان؟”.
– “نعم هي بعينها”.
– “ما هذه الصدف ؟!. غريب، لم أعرف بشأن جريمة الفتی الثري لأنني كنتُ مشغولاً طوال اليوم بمحاولة إحصاء مداخل ومخارج هذه الشقة اللعينة”. ثم صمت لوهلة قبل أن يستدير لروماريو مردفاً:
– “لكن مهلاً، سباستي لم يكن يعرف شيئاً عن القضية القديمة، كيف ربط بين القضيتين؟”.
رد روماريو:
– “لقد أحضروا ذلك الشخص.. من الشرق الأوسط، كان في زيارة للولاية وصادف وقوع الجريمة بجانبه، لم يمانع في إلقاء نظرة”.
– “أي شخص؟!”.
– “يقولون أن اسمه هو القبعة السوداء، محقق مشهور للغاية، يحل القضايا بغمضة عين، هذا ما يقولونه علی أي حال”.

تسمر كوبريك مكانه لوهلة ثم عاد يقول بابتسامة:
– “مثير، وهل حلّ السيد -قبعة سوداء- هذا القضية بغمضة عين؟!”.
– “هنا الجزء الطريف.. لم يستطع حلها، أو هذا ما قاله”.
– “ما الذي قاله؟”.
– “قال أن القضية أكبر منه.. وأنه لن يستطيع حلها، إن القضية تحتاج لبضعة تدابير أخری، يبدو أنه مخادع”.
– “وهل صدقت ما قاله؟”.
– “ماذا تعني؟!”.
– “أعني ألم يخطر في بالك أنه وجد أن الفتی يستحق كل ما حدث له لذا لم يرد التدخل في الموضوع؟!”.
– “هاه.. لم أفكر في الأمر بهذه الطريقة ، ما الذي يجعلك تقول هذا؟”.
– “لأنني كنت سأفعل هذا لو كنت مكانه”.
– “حسناً نعم هذا إذا افترضنا أنه لم يكن صادقاً في كلامه”.
– “ثق فيَّ هو يكذب”.
– “كيف تأكدت؟”.

– “ااه روماريو، أنت لا تفقه شيئاً عما يسمی بإحساس المحقق، أياً كان.. لم يُجب هذا علی السؤال الأساسي لو كنت تذكر”.
– “نعم تذكرت.. القبعة السوداء أخبرهم بأنك الوحيد الذي يمكنه أن يحل هذه القضية، لست متأكداً إذا كان يعرفك أم لا ولكنه يقول أنك الوحيد القادر علی تجميع كل الخيوط معاً، بالطبع رفض والد الفتی أن يفعل شيئاً كهذا، لازال يذكرك ويذكر ما قلته أمام الإعلام، حينها عرف سباستيان بالأمر وعرف أنه رغم توصية القبعة السوداء عليك إلا أنهم لم يستدعوك.. خمن أن للأمر علاقة بالقضية القديمة وازداد فضوله”
– “ذلك السباستي.. أتمنی لو يعمل معي”.
قال روماريو بسخرية:
– “أتريده أن يسير في نفس الطريق التي سرت بها؟”.
تجاهله كوبريك وقال بفضول:
– “سؤال أخير يا روماريو، هل رأيت القبعة السوداء من قبل؟!”.
– “لا.. ولكن الإشاعات حوله تقول أنه يرتدي معطف أسود طويل وقبعة سوداء دوماً”.
رد كوبريك وهو يحك ذقنه بحيرة:
– “أذكر شيئاً مثل هذا، كانت هناك قضية قديمة منتشرة، شيء مثل أسطورة نتناقلها نحن المحققون، أسموها حينئذٍ قضية القبعة السوداء”.

****

– “سباستي.. يا للمفاجأة!. ما الذي تفعله في مسرح الجريمة، إنها الثامنة صباحاً.. يجب عليك أن تكون في السرير الآن”.
– “أخبروني أنك هنا، سيد كوبريك.. لقد قررت.. سألتحق بمكتب التحقيق”.
تثائب كوبريك قائلاً:
– “حقاً؟!”.
رد سباستيان بنبرة استغراب:
– “نعم ولكن… أين تفاعلك؟!. ظننتك ستفرح بهذا كثيراً”.
ابتسم كوبريك وقال:
– “صدقني أنا فرح، الأمر فقط أنني لست في مزاج يسمح لي بالتفكير في حسنات انضمامك لي.. ليس الآن علی أقل تقدير”.
– “لماذا؟”.
– “كما ترى يا سباستي لقد سهرت طوال الليل أحاول معرفة لغز هذه القضية، تفقدت المكان برمته، لا توجد منافذ لهذا المكان.. ولو وُجدت فهي مغلقة من الداخل.. كلها، مما يعني أنه لم يكن هناك أي شخص مع هذا الرجل أثناء موته.. أو بالأحری أثناء طعنه”.
– “أنت تعرف أن هذا غير منطقي، من قتله إذن؟!”.

تثائب كوبريك مرة أخری وقال:
– “ظننت هذا في البداية أيضاً.. الأمر ليس كما يبدو لنا”.
– “ماذا تعني.. أنه انتحر؟. من المستحيل عليه أن يفعل هذا.. إن الطعنات في ظهره في أماكن لا يمكن أن تصل يده لها”.
– “ومن تحدث عن الانتحار هنا؟!. هناك من قتل هذا الرجل”.
– “بالضبط.. هذا هو ما أقوله أنا أيضاً، لابد من أنك غفلت عن مكان أو اثنين سيد كوبريك.. القاتل لايمكنه أن يتبخر”.
– “لا.. أنا لم أغفل عن أي شيء.. المداخل والمخارج كانت كلها مغلقة وقت حدوث الجريمة.. وظلت مغلقة بعد حدوث الجريمة”.
– “أتريد أن تقول أن هناك من تمكن من طعن هذا الرجل في مكان سكنه بهذه الكيفية ثم هرب عن طريقة بوابة سحرية من العالم الآخر؟!!”.

قال كوبريك شارحاً:
– “الخدعة الحقيقية يا سباستي ليست في طريقة هروب القاتل من هنا.. بل في كيفية قتله للضحية، بالتفكير بالأمر هو قاتل عبقري فعلاً.. لقد استخدم ذعر الضحية لمصلحته.. لم أر شيئاً مماثلاً لهذا طوال حياتي”.
قالها كوبريك ثم توجه ناحية كرسي قريب وأخذ من عليه معطفه وهو يردف:
– “علی أي حال هل أنهيت أوراق انضمامك لمكتب التحقيق؟”.
– “نعم.. كنت أعمل علی هذا منذ البارحة، أنا الآن رسمياً محقق متدرب، لم يجدوا محقق أقل مكانة منك ليجعلوه يعاني مع متدرب جديد مثلي.. لذا هانحن ذا.. تماماً كما أردت”.

رد كوبريك باسماً:
– “هم لا يعرفونك يا فتى ، دعك من هذا.. الأن هذه هي مهمتك الأولی كمتدرب معي ، جِد الطريقة التي استخدمها القاتل في هذه الجريمة”.
ارتفع حاجبا سباستيان وقال مندهشاً:
– “ماذا؟!”.
– “اعثر علی طريقة قتل هذا الرجل”.
– “ماذا عنك؟.. ألن تساعدني؟!”.
ارتدی كوبريك المعطف ثم قال:
– “لاا.. لقد وجدت الطريقة بالفعل، هل ظننت أنني سأبقی هنا طوال الليل بدون أن أصل لشيء؟!. كنت لأعتزل التحقيق يافتی”.
– “ماذا؟!”.
– “هيا ابتهج يا سباستي.. هذه هي قضيتك الأولی”.
– “هل ستتركني حقاً هكذا؟!”.
– “مضطراً للأسف، تمنيت لو علمتك شيئاً أو اثنين.. لكنك تعرف كل شيء بالفعل.. أنت لست بغريب علی عالم الجرائم أعتقد، وهاك مساعدة بسيطة مني، القتلة كانوا اثنين.. ليس واحداً”.
– “علی الأقل أخبرني إلی أين أنت ذاهب”.
– “أنا ذاهب لأحظى ببعض المرح مع معطف أسود وقبعة سوداء”. قالها كوبريك ثم تحرك ناحية الباب.. أردف قبل أن يختفي :
– “يمكنك الانضمام لي إذا انتهيت هنا.. سأشارك المرح معك”.

ثم رحل تاركاً سباستيان يفكر فيما قاله، يفكر في معنی جملته قبعة سوداء ومعطف أسود، لم تمر سوی ثوان حتی فطن إلی أنه يتحدث عن المحقق الشهير إياه، ما علاقتهما ببعضهما البعض؟! نفض سباستيان هذه الأفكار عن رأسه وبدأ يفكر في واقعه وفي الجريمة المطلوب منه حلها..

أخرج مفكرة صغيرة من جيبه وأخرج قلماً من جيبه الآخر ثم شرع في الكتابة.
«« الملاحظة الأولی : لا تضيع وقتك في البحث عن المداخل والمخارج.. السيد كوبريك لا يُخطئ في هذه الأشياء.. خصوصاً وأنه أكد تفحصه للمداخل أكثر من مرة.

الملاحظة الثانية : القاتل ليس واحداً.. هما اثنين.. مرة أخری معلومة مؤكدة من السيد كوبريك.

الملاحظة الثالثة : لم يذكر السيد كوبريك أي شيء عن القاتل.. قال فقط أنه قد عرف طريقة القتل، مما يضعني أمام احتمالين، الاحتمالية الأولى هي أن السيد كوبريك قد عرف القاتلين بالفعل ولكنه ترك أمر ايجادهما لي.. تماماً كما ترك أمر إيجاد طريقة القتل لي، وفي هذه الحالة فإن السيد كوبريك يبدو واثقاً من أن القاتلين لن يهربا أبداً.. احتمالية ضعيفة. الاحتمالية الثانية والأهم.. وهي أن السيد كوبريك يسعی خلف القاتل الآن مع مساعدة من صاحب القبعة السوداء.

الملاحظة الرابعة : أعتقد أنها الأهم.. قال السيد كوبريك بدون أن ينتبه أن القاتل قد استخدم ذعر الضحية ضده.. لقد أعطاني أهم خيط هنا.. مع أنني ماأزل لا أعرف معناها ولكن أشعر أنه شيء مهم للغاية.

الملاحظة الخامسة : العلاقة بين السيد كوبريك والقبعة السوداء؟»»

أغلق سباستيان المفكرة ووضعها في جيبه ثم توجه نحو ملف القضية ليتصفحه.

*****

– “ألا يزعجك الأمر؟!. إنه لا ينفك ويتحدث عن غبائك وقلة عقلك”.
– “نعم ولكن كما تری يا سباستي لا يوجد شيء يمكنني أن أفعله، كوبريك دوماً شخص قاسي”.
– “إذاً لماذا لا تثبت له أنه مخطئ؟!. لماذا لا تثبت له أنك ذكي وربما بمثل ذكائه؟!. روماريو أنت تعرف كما أعرف أنك ذكي للغاية وأن كوبريك يظلمك بكل هذا الكلام”.
– “نعم.. رغم ذكائه أحياناً يكون أحمق ومتسرع، ولكن كيف أفعلها.. كيف أثبت له أنني جدير بالثقة وأنه مخطئ، لا أريده أن يحدثني كل يوم عن غبائي”.
– “اليوم صباحاً أخبرني أن الجريمة ممكنة وأنه قد وجد القاتل”.

قال روماريو مندهشاً:
– “حقا؟!. كيف هذا؟!”.
– “لا أعرف.. لكن هل سبق وأن كذب السيد كوبريك في مثل هذه الأمور؟!”.
قال روماريو مفكراً:
– “لا.. قطعاً لا”.
– “إذن؟!. هل تفكر بما أفكر به؟!”.
ظهرت علامات الغباء علی وجه روماريو وقال متسائلاً:
– “بماذا تفكر؟”.
قال سباستيان بحماس:
– “أفكر أنه سيعترف بك إذا عرف أنك وجدت طريقة القتل في هذه الجريمة المستحيلة”.
لمعت عينا روماريو وصمت مفكراً لثواني قبل أن يقول:
– “نعم.. أنت محق، لنفعلها.. لنجعله يعترف بي”.

ابتسم سباستيان وقال:
– “إذن إليك أول شيء يجب ان نفعله.. يجب علينا أن نبحث في حياة الضحية.. إذا فعلنا هذا سنخرج بقائمة تحتوي علی أسماء المشتبه بهم، بعد ذلك سيكون من السهل أن نبحث في طريقة القتل، إذا كنا سنفعل شيئاً فيجب أن نساعد بعضنا البعض ياروماريو”.
– “في الغالب أنت محق.. اترك لي أمر البحث في حياة الضحية.. أنا جيد للغاية في هذه الأشياء”.
قال سباستيان متعجباً:
– “تبدو متحمساً للفكرة!”.
– “نعم أريد ان أثبت لهذا الوغد أنني لست غبياً”.
– “جيد.. أری أن الدافع موجود، افعل مابوسعك إذن”.
قال روماريو وهو يغادر:
– “بكل سرور”.

ابتسم سباستيان بعد رحيل روماريو.. ها هو الآن يجد الطريقة الصحيحة للاستفادة من مساعدة روماريو، الشيء الذي لم يستطع السيد كوبريك أن يفعله طوال فترة عمله، حتماً سيندهش به السيد كوبريك.

*****

في مكان آخر بعيد عن روماريو وعن سباستيان كان هناك رجلين نادري الوجود يجلسان بجانب بعضهما البعض في أحد الأماكن العامة، أحدهما يرتدي معطفاً أسود اللون والآخر يرتدي معطف رمادي اللون، الأول هو كوبريك والثاني هو القبعة السوداء، كانا صامتين لا يتكلمان قبل أن يقطع كوبريك الصمت قائلاً:
– “لم أتخيل أبداً أن إحساس المحقق خاصتي سوف يكون خاطئاً في يوم من الأيام”.
رد عليه الرجل الجالس بجانبه بلكنة إنجليزية رديئة:
– “إحساس المحقق؟!. هراء، كله هنا”. قالها ثم أشار بإصبعه نحو عقله، رد عليه كوبريك بشيء من السخرية:
– “نعم نعم يقولون هذا كثيراً، يمكنك التخلي عن هذه اللكنة الرديئة.. أعرف أنك تتحدث الإنجليزية بطلاقة”.
رد عليه الرجل بنفس اللكنة الرديئة:
– “مخطئ.. مجدداً”.

تنهد كوبريك متعجباً:
– “ما المميز بشأنك إذن؟!. تبدو لي مثل رجال العصابات بهذا الزي السخيف، من أين أتيت بكل هذه الشهرة؟!. رجل مثلك.. بإنجازتك يجب أن يكون عبقرياً في كل شيء.. أعني في كل شيء حرفياً”.
نظر له القبعة السوداء ثم خلع قبعته قائلاً:
– “شخصيتك ظريفة فعلاً بالنسبة لمحقق درجة أخيرة، بلسانك اللاذع هذا لا أستغرب عدم ترقيتك منذ عشر سنوات”.
إبتسم كوبريك وهو يرد:
– “نعم.. ها هو ذا، الرجل الذي أريده رؤيته.. الرجل الذي يعرف الكثير ولكن لا يبدو عليه”.

– “لا أعرف عنك سوی أنك أقل المحققين مكانة في هذه المدينة.. وأنك ظللت في هذه المكانة لفترة طويلة، شخص عادي كان سيترقی مرتبة أو اثنتين علی أقل تقدير، مما يعني إما أنك غبي فعلاً.. أو أنك قررت محاربة الأيادي العليا.. وفي هذه الحالة أنت أشد غباءً ، الغريب أنك لا تبدو لي غبياً من طريقة حديثك.. ولأن لا أحد يمتلك الدافع لأن يكون غبياً ويقف في وجه الأيادي العليا.. لابد من أنك كنت تمتلك الدافع لأن تقف ضد القوانين، ربما حادثة قديمة للغاية.. أو ندبة تأبی أن تلتحم.. شيء جعلك متمسكاً بمبادئك لدرجة أن تقف بوجه القوانين، رفضت الانصياع للواقع فقيدوك في القاع.. وللأسف لا يمكنك فعل شيء”.

انعقد حاجبا كوبريك وقال بعد أن أصبح أكثر جدية:
– “قصة حياة من مجرد معلومة.. رائع.. حقاً رائع”.
ارتدی الرجل قبعته مرة أخری وقال:
– “الآن بعد أن عرفتني.. هل تمكنت من الوصول لحل الجريمة؟. جريمة كينان”.
رد كوبريك وكأنما يتذكر:
– “كينان نعم، توصلت لها اليوم صباحاً”.
– “جيد.. هلا بدأنا إذن؟”

*****

– “وقت وقوع الجريمة هو الساعة الخامسة مساءً، حسب الشهود فإن كينان شوهد آخر مرة في الساعة الخامسة مساءً وهو يدخل بوابة العقار متوجهاً لشقته.. مما يعني أن الجريمة وقعت بعد دخوله لشقته مباشرةً، والشيء الجيد أن الشهود في الشارع يؤكدون أن لا أحد صعد بعده أو قبله.. كما لا أحد خرج بعد موته، مما يعني بنسبة جيدة أن القاتل هو أحد سكان العقار.. وهو أول خيط هنا”.
– “هذا جيد.. جيدٌ للغاية، كل ما علينا فعله هو حصر من كانوا موجودين وقت ارتكاب الجريمة”.
رد روماريو بابتسامة ثقة:
– “و هو ما فعلته”.
– “إذن هيا.. أبهرني”.

تنهد روماريو قائلاً:
– “حسناً لدينا صاحب العقار.. السيد كارل.. يعيش في شقة فيه ويؤجر الباقي.. إحداها تخص كينان، كان موجوداً في شقته وقت حدوث الجريمة، لديه العديد من الشجارات مع كينان بسبب الإيجار، مشتبه به ضعيف”.

– “وماذا بعد؟”.

– “لدينا جاره.. جون.. شاب في العشرينيات أيضاً، انجليزي ويعيش في الشقة المقابلة تماماً، عندما سألت أهل المنطقة عنه قالوا أنه يعمل في مطعم قريب.. نادل أعتقد، حينما سألت مدير المطعم قال أنه أنهی ورديته في الساعة الثالثة مساءً وعاد لمنزله، هو انطوائي تماماً ولكنه كان موجود في العقار وقت وقوع الجريمة؛ لذا هو مشتبه به جيد”.

قال سباستيان وقد بدا عليه الضيق:
– “إن الأمر يزداد غرابة”.

قال روماريو وهو يحك رأسه:
– “تقصد جون؟”.

وقف سباستيان وقال وهو يمشی في المكان جيئة وذهاباً:
– “لا ليس قصدي جون، يبدو لي أن أهل المنطقة متعاونين أكثر من اللازم، نحن نعد في منطقة مكتظة بالسكان من النوع الذي يبيعون فيه المخدرات ليلاً في الأزقة، منطقة شعبية إذا جاز التعبير، وفي هذه المناطق الناس تكره الشرطة.. يكرهونهم بحياتهم أقول”.

– “سباستي.. أنت فقط عملي أكثر من اللازم، معظم الناس هنا لديهم سوابق في عالم الجريمة ويخافون من الشرطة.. إذا سألناهم عن شيء ما فإنهم سيجيبون فوراً، الخوف أقوی من الكره”.

توقف سباستيان فجأة وقال:
– “نعم.. نظرة أخری للأمور ، ربما أنت محق في هذه”.

– “دعني أكمل، الثالث هو لارس، يعيش في الطابق التالي لكينان، في الثلاثين ويعمل في صيدلية قريبة، يقولون أنه لا يعرف شيئاً عن كينان وصداقتهما لا تتعدی إلقاء التحية، كان موجوداً وقت حدوث الجريمة، مشتبه به قوي كما أعتقد. أما آخر الأشخاص هي السيدة رودني.. زوجة السيد رودني، يعيشان في الدور الثالث، زوجين في الثلاثينات.. لا ينجبان ولكن تربطهما قصة حب قوية نوعاً ما لذا ظلا معاً، السيد رودني بحسب الشهود كان في العمل وقت وقوع الجريمة.. من كان متواجداً وقتها هي زوجته السيدة رودني، مشتبه ضعيف كما أعتقد”.

– “إذن لدينا أربعة هنا، كارل المالك.. جون النادل.. لارس الصيدلي ثم الزوجة الغامضة، أريد أن أستدعيهم للتحقيق ولكن قبل هذا أريد أن أفحص مسرح الجريمة جيداً، روماريو.. جهز لي أوراق إستدعائهم ريثما أفعل هذا”.

تحرك روماريو فورها وهو يقول:
– “حسناً”.

*****

««الجريمة تبدأ حيث ينتهي الدفاع عن النفس»»
چورج بوخنر / موت دانتون

*****

كان سباستيان يفكر في كل شيء قاله له كوبريك، يحاول جاهداً أن يدير تروس عقله.. لكن في النهاية كل ما حصل عليه هو بضعة أفكار واهية عن أن هذه الجريمة هي مجرد وهم كبير.. أو حلم يفرض نفسه علی سباستيان نفسه. ثم ظهرت فكرة بديعة في عقله، تذكر كيف أنه في صغره كان يشاهد ذلك البرنامج عن الجرائم التي حيرت الشرطة لفترة من الوقت، تذكر طريقة أحد المحققين بأن يُعيد تكرار ما فعلته الضحية قبل أن تُقتل، هي طريقة شائعة للغاية في عالم المحققين ولكنه لم يفكر بها أبداً.

وهكذا وجد نفسه يصعد درجات السلم متخيلاً نفسه كينان، يصعد درجة واثنين ثم يصل إلی باب الشقة، يمد يده في جيبه ليخرج المفاتيح الوهمية ثم هنا يلاحظها، شيء أسود صغير في زاوية الحائط.. هناك في الركن، يقترب أكثر من هذا الشيء ليتفحصه، يركع علی قدميه وينظر جيداً لذلك الشيء.. وهنا يفطن للأمر.. هذه بقعة دم، صحيح هي صغيرة وبالكاد يمكن رؤيتها.. صحيح يمكن اعتبارها أي شيء آخر، ولكن حينما نتحدث عن جريمة قتل فالفرص الضئيلة تكون كبيرة. بعد ذلك كان من السهل إثبات أن هذه البقعة هي بقعة دم فعلاً، وعليه فإنه لم يكن من المدهش بالنسبة لسباستيان أن يعرف أن هذا هو دم كينان الضحية.. لم يتساءل سباستيان عما يفعله دم الضحية بالخارج إذ أنه وعند هذه النقطة تختفي الكثير من التساؤلات البديهية لتحل محلها تساؤلات أكثر قوة وأكثر أهمية، تساؤلات حول كينان وحول فكرة أنه قد قُتل بالخارج في الأساس ..

شعر سباستيان بالاضطراب لوهلة.. ثم قرر أن يستخدم كلمة طعن مكان كلمة قتل، الضحية تم طعنه بالخارج وتم قتله بالداخل ! السؤال هنا هو كيف ؟!. لعبة بسيطة بخيارات محدودة ، أولاً كان علی سباستيان أن يستثني لمسة الغرابة في الموقف وأن يفكر في دافع يجعل الضحية المطعونة في الظهر تتحرك من الرواق إلی الشقة ، لا جدال هنا.. هو قد فعلها هرباً من مهاجمه، ولكن هنا السؤال، لماذا سمح له القاتل بأن يهرب من الأساس ؟. لماذا تركه طليقاً؟. إذن نحن نبحث عن مؤثر خارجي منع القاتل من إكمال عمله وهو الإجهاز علی كينان.

بقليل من التفكير لا توجد مؤثرات فعلية قادرة علی إيقاف القاتل سوی أفعال آدمية، شخص آخر لمح الجريمة وقرر مساعدة الضحية بأن يهجم علی القاتل مثلاً، لكن مجدداً الأسئلة لا تنتهي ، ماذا حدث بعد ذلك.. أين آثار ذلك العراك بين القاتل وبين ذلك الشخص الذي يريد المساعدة. هنا تهجم جملة كوبريك علی عقل سباستيان.. القتلة كانوا اثنين.. ليس واحداً، حينما سمع سباستيان بالجملة لأول مرة كان ظنه أن جملة القتلة كانوا اثنين تعني شيئاً مثل أنهم تعاونا عليه ثم قتلاه.. لكنه الآن يری كل شيء بوضوح، يمكن أن يری كينان وهو عائد من الخارج ويصعد درجات السلم، وهنا يمكنه أن يری ذلك الشخص الذي يقف علی السلم، لا يعيره كينان أي اهتمام ويكمل صعوده وفي باله أن هذا الشخص يقف هنا منتظراً لشخص آخر، لم يكن يعلم بأنه نصف محق وأن هذا الشخص ينتظره هو !

يصل كينان إلی الرواق المقابل لشقته ويمد يده في جيبه كي يخرج المفاتيح لكنه يشعر فجأة بألم حاد جداً في ظهره.. هي الطعنة الأولی، قبل أن يدري تصل الطعنة الثانية.. ثم هنا يحدث الأمر، هنا يحدث السحر كما يقولون، يظهر ذلك المنقذ.. الشاهد الذي يصل ويری الموقف أمامه. بعدها يسهل تخيل الأمر، الشاهد المزيف يصارع القاتل ويحاول أن يأخذ السكين منه بينما كينان يستند علی الحائط متأثراً بجراحه، ثم بعدها يحدث أمراً من اثنين، إما أن كينان قرر أن يهرب إلی شقته بسرعة وإما أن الشاهد قال له اهرب من هنا ونفذ كينان كلامه، في كلتا الحالتين لن يختلف الأمر كثيراً، أنت مصاب وتنزف بشدة.. باختصار أنت تموت، الأولوية القصوی هي حياتك، وفرصتك قد ظهرت حينما بدأ العراك بين الشاهد وبين الرجل الذي يحاول قتلك.. وهكذا يتم الأمر، يسرع كينان ويترك الشاهد والقاتل يتعاركان علی الأرض ويذهب إلی مكان آمن، المكان الآمن أمامه هو شقته بالطبع، يفتحها وينسل داخلها بسرعة ثم يعود ويغلقها من الداخل هرباً من هذا القاتل المجنون. حتی هذه اللحظة لا يشك كينان في أي شيء، هو فقط يُسرع كي يتصل بالشرطة لتأتي وتری ما الأمر، وهنا يبدأ الجزء الثاني من الخطة..

كينان يمسك بالهاتف ويضغط علی أول رقم لكنه يسقط فجأة علی الأرض، صحيح أنه ضعيف للغاية وأن الطعنات أثرت عليه بشكل كبير لكن هذا لا يعني أن يسقط بهذا الشكل.. لازالت لديه بعض الطاقة الضئيلة التي تمكنه من إجراء مكالمة.. رغم الألم ورغم كل شيء، وأخيراً ينام كينان بعمق وهو يتساءل عما فعله بحياته. في نفس الوقت ينظف الاثنان الشاهد والقاتل مكان الجريمة، الشاهد الذي ظن كينان أنه في صفه لم يكن سوی شريك القاتل، وما رآه لم يكن سوی سيناريو اتفقا عليه ليوهماه ويجعلاه يهرب لشقته حيث يلقی حتفه فيها، لكن ما الفكرة هنا؟. ما الأمر المميز بشأن هذه الخطة؟.

الأمر المميز هو أن كينان تم تخديره.. السكين كانت تحوي علی مخدر من نوع معين، بحيث يبدأ المفعول بعد الطعن بفترة قصيرة، ولأن كينان لم يكن يدري أياً من هذا فقد انطلت عليه الخدعة بامتياز، كوبريك لم يكذب أبداً حينما قال أن القاتل استخدم خوف وذعر الضحية ضده. لكن إذا كان الأمر هكذا فلماذا لم يجد المعمل آثار المخدر في دم كينان؟. الإجابة بسيطة وهي.. بسبب نوعية المخدر، الخدعة تكمن في أن آثار المخدر ستسري في الدم ولكن لأن جثة كينان لم يتم فحصها مبكراً فإن الدم قد هرب من الجسد بالكامل، وهنا يحدث السحر مجدداً، المادة المخدرة تتبخر مع تأكسد الدم وتفاعله مع الهواء، والنتيجة هي دماء طبيعية وجسد طبيعي. لكن هذا لا ينفي حقيقة أنه لو تم التعامل بدقة أكثر مع الجثة كما يتم التعامل مع جثة شخصية مهمة للغاية لوجدوا ربما آثار لهذا المخدر، ولكن لأن كينان يعد شخصية غير مهمة فإن التحليلات المطلوبة تتم بسرعة وبدون التدقيق كثيراً.

والآن من هو الشخص الذي يمكنه أن يجد المادة المخدرة ذات هذه الصفات الدقيقة.. المادة التي يمكنها أن تتبخر من الدم بعد تأكسده، نعم إنه هو.. لارس الصيدلي، هو يصنع الأدوية ويعرف الكثير عن هذه الأشياء، بالإضافة لأنه كان موجوداً وقت وقوع الجريمة.. لكن إذا افترضنا أن لارس هو الشريك الأول في الجريمة.. من هو الثاني؟!

فجأة رن هاتف سباستيان وقطع حبل أفكاره، أخرج سباستيان هاتفه في ضيق ليجد أن المتصل هو كوبريك، يضغط علی زر الرد وقبل أن ينطق بكلمة يباغته صوت كوبريك صارخاً:
– “أين روماريو؟!”.
شعر سباستيان بحدة الموقف فقال فوراً:
– “لقد طلبت منه أن يجهز أوراق إستدعاء المشتبه بهم”.
رد عليه كوبريك بسرعة:
– “جِد ذلك الأحمق وأخبره أن هناك ضحية جديدة سيتم قتلها في العقار.. أخبره أن يحترس وأن يطلب الدعم من مكتب الشرطة لتأمين المكان”.
– “لكنني عرفت القاتل بالفعل.. إنه شخص يُدعی لارس”.
– “من؟!”.
– “لارس.. هو صيدلي ويعيش هنا في العقار ، يبقی فقط شريكه في الجريمة.. أعتقد أنه….”.

فجأة سمع سباستيان صوت خطوات تركض خلفه بسرعة، نظر للخلف بسرعة وبتلقائية كي يعرف هوية القادم، فقط ليجد أن القادم هو روماريو.. قال روماريو وهو يلهث:
– “لارس وُجد ميتاً في شقته!”.

يتبــــــــــــع ..

تاريخ النشر : 2018-09-22

البراء

مصر - للتواصل: [email protected] \\ مدونة الكاتب https://baraashafee.blogspot.com/
guest
16 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى