عجائب و غرائب

أبراج الصمت .. حيث تنشر جثث الموتى لتأكلها النسور!‏

بقلم : اياد العطار

تختلف طرق التخلص من جثث الموتى باختلاف تقاليد و أديان الشعوب , و ربما تكون أقدم و أكثر الطرق شعبية ‏و انتشارا هي الدفن تحت التراب , لكن هناك من يفضل حرق الجثث و آخرون يتخلصون منها بإلقائها في البحر ‏‏, و البعض يضعها في توابيت معلقة في الهواء على سفوح الجبال , و أحيانا تترك لتجف و تتحول الى مومياء , ‏و هناك من يستسيغ أكلها!! نعم عزيزي القارئ , بعض القبائل البدائية تأكل جثث موتاها بسرعة ما ان يلفظوا ‏أنفاسهم , و هناك أيضا من يفضل وضع الجثث في بناء معزول يطلق عليه “برج الصمت” لتقتات عليها الطيور ‏الجارحة! و هناك طرق أخرى , لكن مهما تعددت الوسائل و الأساليب يبقى الموت واحد , و لله في خلقه شؤون.‏

تترك الجثة لتأكلها النسور و تجففها الشمس لمدة سنة

أبراج الصمت .. حيث تنشر جثث الموتى لتأكلها النسور!‏
الى الاعلى صورة لأحد ابراج الصمت قرب مدينة يزد الايرانية و قد توقف وضع الجثث فيه منذ عشرينيات القرن المنصرم و الى الاسفل صورة حقيقية من احد ابراج الصمت في مدينة بومبي الهندية و يمكنك ملاحظة بقايا الجثث المتحللة

الزرادشتية (1) هي دين قديم , اعتنقه الفرس و غيرهم من الأقوام الآرية في أسيا الوسطى , و ينسب إلى زرادشت و هو ناسك و فيلسوف إيراني (على الأرجح أفغاني الأصل و يذهب البعض إلى انه نبي) عاش في حوالي سنة 1000 قبل الميلاد , و الزرادشتية هي ديانة تقوم على عبادة اله واحد يسمى (آهورامزدا) و هو اله الخير و العمل الطيب الذي يحكم العالم و تقابله قوة شريرة منافسة تدعى “اهريمن” هي أشبه ما تكون بشخصية الشيطان في الأديان الإبراهيمية (2) , و حسب الزرادشتية فأن الخير و الشر سيبقيان في تنافس و تصارع حتى النهاية حيث ستقع المعركة الفاصلة بين الاثنين و التي ستنتهي بفوز اله الخير و أتباعه و بعودة الموتى للحياة على شكل أرواح أثيرية نورانية , و العقيدة هي أشبه بصراع بين النور و الظلام , و لأن النور الذي يرمز لأله الخير مصدره النار لذلك فهي مقدسة عند الزرادشتيين و يحرصون على بقائها مشتعلة في معابدهم , و هي كذلك إحدى العناصر المقدسة عندهم و تشمل الهواء و التراب و الماء و النار , و هم يحرصون على عدم تلويث هذه العناصر الأربعة و لذلك فهم لا يدفنون جثث موتاهم لأنهم يعتقدون بأن جثث الموتى هي نجاسة و مسكن للأرواح الشريرة و يمكن ان تلوث أي شيء تتلامس معه و منها العناصر المقدسة لديهم , مثل التراب في حالة الدفن , و لهذا السبب يلجأ الزرادشتيون الى طريقة غريبة للتخلص من جثث موتاهم , فهم يضعوها في أبراج حجرية لتأكل الطيور لحومها و تجفف الشمس عظامها.

أبراج الصمت هو اسم أطلقه الرحالة الغربيون على الأبنية التي يستعملها الزرادشتيون للتخلص من جثث موتاهم و التي يسموها بلغتهم “دخمه” , و هي بناء دائري الشكل يبنى على جبل صغير او تلة عالية في موقع بعيد عن المدينة , و يدير المبنى مجموعة من الكهنة و لا يحق لسواهم الدخول اليه , و عندما يموت شخص ما من أتباع الديانة الزرادشتية يؤتى بجثته الى البرج حيث يرفعها الكهنة و يضعوها على سطح المبنى الدائري الشكل و الذي يكون محاطا بسياج مرتفع حتى لا يشاهد الناس الجثث و هي تؤكل و تتحلل , و السطح يتكون في العادة من ثلاث حلقات متداخلة , يوضع الأطفال و صغار السن في الحلقة المركزية من الدائرة اما النساء فتمدد جثثهن في الحلقة الوسطى في حين يوضع الرجال في الحلقة الخارجية, و ما ان توضع جثة جديدة على السطح حتى تنقض عليها و تمزقها النسور(3) المتواجدة بكثرة حول سياج البرج لتعودها على تناول لحوم الموتى هناك , و تترك الجثة قرابة السنة لتتحلل أجزائها بشكل كامل و لا يتبقى منها سوى العظام التي يجمعها الكهنة فيما بعد و لا يدفنوها و إنما يضعوها في تجاويف خاصة لحفظ العظام موجودة داخل البرج و تحاط هذه التجاويف بالجير الذي يساعد على تحلل العظام خلال عدة سنوات.

هناك العديد من أبراج الصمت في الهند و إيران , لكن اغلبها توقفت عن استقبال جثث الموتى , بسبب توسع المدن , حيث أصبحت أبراج الصمت التي كانت خارج المدن في السابق جزءا من المدن اليوم كما ان تغيير العصر و الثقافة و المفاهيم جعلت الغالبية العظمى من الزرادشتيون يفضلون دفن جثثهم في القبور , و اخذوا يعمدون الى إحاطة القبر بطبقة سميكة من الاسمنت حتى لا يحدث تماس بين الجثة و التراب , كما ان تناقص أعداد الزرادشتيين في العقود الأخيرة اثر بشكل كبير على نشاطاتهم , فالزرادشتية اليوم هي من الأديان المهددة بخطر الانقراض , فأعداد المواليد في الطائفة اقل من أعداد الوفيات كما ان اغلب أفرادها هاجروا الى الغرب خصوصا بعد ثورة 1979 في إيران , و لأن الزرادشتية أشبه ما تكون بالدين الوراثي لذلك فهي لا تعترف بأبناء المرأة التي تتزوج من شخص يتبع ديانة أخرى كما إنها ديانة غير تبشيرية أي لا تقبل أعضاء او مؤمنين جدد على العكس من بقية الأديان.

اليوم هناك أقلية صغيرة من الزرادشتيون يقدر عددهم بحوالي 150000 نسمة حول العالم يعيش منهم زهاء الـ 70000 في الهند و 40000 في إيران , و هم أناس يتميزون بالذكاء و دماثة الأخلاق.

(1) الزرادشتية : تعرف بالعربية بالمجوسية و لكن الاسم المشهور على مستوى العالم هو مصطلح زرادشتية و هو الاسم الذي يطلقه أتباع الديانة على أنفسهم في إيران و الهند , اما المجوس فهي كلمة مشتقة من أصل يوناني و تعني المنجم او الساحر و هم طبقة الكهنة و رجال الدين في الزرادشتية و منهم المجوس الثلاثة الذين قدموا الهدايا للسيد المسيح عند مولده (قصة معروفة في الإنجيل) , و بعض العرب في الجاهلية اعتنقوا هذه الديانة.

(2) الأديان الإبراهيمية : اليهودية و المسيحية و الإسلام و البعض يضيف إليهم أحناف العرب في الجاهلية , و هي الديانات التي تعتقد بإله واحد و تتشابه بعض معتقداتها مثل الجنة و النار و الملائكة و الشيطان و الثواب .. الخ , و تنسب إلى إبراهيم الخليل (ع) و هو سرياني من مدينة أور السومرية.

(3) النسور آكلة الجيف و تتميز برأسها الأصلع و تسمى بالإنكليزية (Vulture ) و في العقود الأخيرة تعرض اغلبها للانقراض في الهند و إيران.

هذه القصة نشرت بتاريخ 19 /07 /2009

guest
22 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى