أدب الرعب والعام

عندما تُغتال الزهور: الساكورا و التوليب – الجزء الأول

بقلم : Samer Saleh

عندما تُغتال الزهور: الساكورا و التوليب - الجزء الأول
زهرتان التقتا في النار فعاشت إحداهما في رماد احتراق الأخرى

 هذه قصة زهرتان التقتا في النار فعاشت إحداهما في رماد احتراق الأخرى .

المكان: مدينة أوساكا .

الزمان: السادس من مارس 1999 م.

عاد الشيخ الثمانيني “إيتاما فوشيدا” للتو من مراسم جنازة زوجته رفقة ابنته الوحيدة “روكو” و زوجها “اتورو اوتاني”، وضع صورة الراحلة المحاطة بزهر زئبق الماء البيضاء الناصعة و المزينة بشريطة سوداء على منضدة قرب الباب و جلس على الأريكة المقابلة يتأملها في صمت فيما أسرعت “روكو” إلى المطبخ لتحضر لوالدها كأس الماء ليتناول دواءه.

عند المساء أصر “إيتاما” أن تعود ابنته و زوجها إلى منزلهما و وألادهما لأنه يفضل البقاء وحيداً فامتثلا على مضض.

و ما أن غادرا حتى تحامل العجوز على نفسه و قصد قبو منزله العتيق يسير الهنيهة ، غاب نصف ساعة تقريباً ليعود حاملاً صندوقاً خشبياً صغيراً متقن الصنع تزينه نقوش يابانية عتيقة لرجال الساموراي و نساء يرفلن في الكومونو التقليدي.

سحب محفظته الجلدية من جيبه و سحب خنجراً صغيراً يدوي الصنع كان في درج من أدراج المنضدة و طفق يمزق جيباً سرياً مخيطاً بإحكام و مموهاً ببعض الرسمات المطرزة بخيوط زاهية في الجزء السفلي للمحفظة العتيقة التي أهداه إياها والده السيد “فوشيدا” عند نجاحه في الثانوية سنة 1937 م قبل سنتين من مغادرته إلى الحرب ليخرج منه مفتاحاً صغيراً صدئاً ،مسحه بلطف بمنديله.

كابد “إيتاما” عناءً كبيراً لفتح الصندوق بيديه المرتعشتين الواهنتين ، نظر في محتوياته ثم رفع بصره إلى صورة زوجته المقابلة ، تردد قليلاً و لكنه تنهد بحرارة و أخرج محتويات الصندوق و فرشها على الطاولة أمامه.

ارتدى نظاراته الطبية و بدأ يقلبها واحدة تلو الأخرى بعناية شديدة.

تناول في البداية قطعة قماش مهترئة تبدو و كأنها قطعة من رداء كومونو تفوح منها رائحة قوية ، مسح عليها الشيخ برفق و حاول شمها و لكن رائحتها النفاذة منعته ، فوضعها جانباً و أمسك صورة فتوغرافية باللونين الأبيض و الأسود مُحيت معظم معالمها و لكن ما يزال واضحاً أنها صورة لشخصين في مكان يشبه الحانة أحدهما السيد “فوشيدا” شاباً يافعاً مليئاً بالحياة.

تردد الشيخ قليلاً قبل أن يتناول ورقة تحول لونها إلى الأصفر البني كانت ممزقة إلى نصفين تمت إعادة لصقهما بواسطة خياطتهما معاً .

فتحها بأصابع مرتعشة و قرأ محتواها الذي حفظه عن ظهر قلب و هو يصارع بعض الذكريات التي لم تفلح شيخوخته و لا أمراضها العديدة المتكالبة على جسده في محوها ..

عدل “إيتاما” جلسته و نظر إلى صورة السيدة “فوشيدا” زوجته و لوح بوهن بالورقة قائلاً و كأنها جالسة معه و تسمعه :

ـ أتعلمين ما هذه ؟ إنها سري الذي خبأته ستة عقود كاملة ، إنها الإجابة عن سؤالك الذي لم تملي من تكراره لنصف قرن  “ماذا أخفي عنك ؟ ” هذا ما كنت أخفيه.

لقد أردت مصارحتك و لكني كنت في كل مرة أتراجع عن عزمي و أؤجل الأمر قائلاً ربما في الغد ، في الشهر المقبل في العام المقبل حتى مرت خمسون سنة و كبر السر و تضخم و التهم حياتي فعجزت عن النطق إلى أن رحلت و أنت تلحين بالسؤال علي.

لقد صمت لأني أيقنت أن كلامي لن يغير من الأمر شيئاً و لن يعيد الزمن إلى الوراء ، و لن يشفي الندوب و يجلب الغفران أو يمحي الذنوب.

سحب السيد “فوشيدا” نفساً عميقاً و قال بصوت مرتعش:

ـ بدأ الأمر سنة 1939 م بالتحديد في شهر أبريل و كانت قد مرت سنتان على التحاقي بالجيش الإمبراطوري في الصين ، كنت قائد كتيبة صغيرة و أعمل تحت إمرة واحد من أعتى قادة فرق الجيش الياباني “هيراشيرو متسودا” و لم أكن قد أتممت حينها عامي العشرين.

و مع ذلك كنت من بين خمس أكفئ ضباط شبان في كتيبتي و أحظى باحترام و حظوة القائد “متسودا” الذي تجمعه بوالدي علاقة صداقة قديمة تعود إلى أيام دراستهما الثانوية و أعمال تجارية مشتركة و أسرارا أخرى لا يعلمها سواهما ، و لكنها كانت كفيلة بجعل علاقتهما أشد قوة من أخوة الدم.

كان للكفاءة حينها مفهوم مختلف انحسر في مجمله في شدة الولاء للإمبراطور و الجيش و شدة البأس في ساحات القتال و كلما ازداد الجندي وحشية و تكاثر عدد ضحاياه كلما كان أكثر كفاءة و نجاحاً و تسلق سلم الرتب العسكرية بطريقة أسرع و نال الكريم و أوسمة الشجاعة و الامتيازات.

و قد كنت شاباً يافعاً تتقاذفني شعارات القومية الرنانة و الحديث عن أسطورة إمبراطورية الشمس المشرقة التي ستمتد أشعتها لتضيء القارة بأكملها و قد تتجاوزها لتسود العالم! ، و أردت كبقية أقراني أن أكون جزء من هذه الأسطورة التي لم نصدقها فحسب بل و أمنا بها جميعاً إيماناً أعمى و كأنها نبوءة محققة تنتظر الوقت المناسب للظهور.

تسابقنا في حصد أرواح الصينين و تعذيبهم ، لم ندخر في سبيل إبادتهم جهداً ، و كانت القرى و المدن تسقط تباعاً و أحياناً دون مقاومة تُذكر.

أسكرتني نشوة الانتصار و تدرجت في الرتب حتى وصلت إلى مركز قائد كتيبة مكونة من خمسين جندياً ، و لعلي كنت سأصبح قائد فرقة أو فيلق كامل مع نهاية الحرب و لم يكن ذلك عني ببعيد لولا أن تعرضت في أواخر سنة 1938 م لإصابة بليغة في ساقي اليسرى بسبب رصاصة أحد عناصر المقاومة الصينية في أحد هجماتها المباغتة على جيشنا.

فكان ذلك أخر عهد لي بساحات المعارك و بعد أن تعافيت من إصابتي كلفني القائد “ميتسودا” بإدارة أحد المعتقلات الصغيرة على حدود مدينة شينغهاي سنة 1939 م.

لم يكن المعتقل كبيراً و لم يضم سوى 700 أسير معظمهم كانوا من النساء و العجائز و الأطفال الذين ينتظرون تصفيتهم.

في أسوء الحالات كان عددهم يصل إلى 1200 أسير إبان هجمات المقاومة الصينية على مراكز للجيش الإمبراطوري و كان ذلك يتم بصفة دورية و لكنها متباعدة لذلك لم أجد صعوبة تُذكر في إدارة المعتقل رغم قلة خبرتي بإدارة المنشآت العسكرية .

كانت الأيام في المعتقل تمضي رتيبة مملة و كنا نحن المكلفين بإدارته ، لا نقل معاناة عن أسراه بل لعلنا نشاطرهم نفس القلق و الخيبة و حتى الخوف و نحن نتقاسم بعض ألاف من الأمتار المربعة المُحاطة بالأسلاك الشائكة المكهربة.

بل أكاد أجزم بأنهم أفضل حالاً منا فعلى الأقل كانوا ما إن يقبل الليل حتى يخلدوا إلى النوم فيما نصل نحن الليل بالنهار يجافي النوم أعيننا رعباً و قلقاً من أن يهرب السجناء فينالنا من العذاب ما نالهم.

و مع تزايد وطأة القتال و امتداد شهوره و سنواته زاد الطلب على “نساء المتعة” للترفيه عن الجنود و امتصاص مشاعر الغضب و الخوف المتزايدة بسبب كثرة المعارك و شدتها و طول شهور الخدمة و البُعد عن الوطن و الأهل ، فباتت فرق مختصة من الجيش تجوب المعتقلات بحثاً عن النساء و الفتيات من الأسرى الصالحات لهذه المهمة.

و كان لمعتقلنا نصيب الأسد فكانت تزورنا تلك الفرق كل شهر و أحيانا كل خمسة عشر يوماً بحثاً عن ضالتها فتنتقي ما يطيب لها و تترك البقية لزيارة مقبلة لا نعلم موعدها.

في المقابل كان المعتقل يستقبل بنسق متسارع أفواجاً من الأسرى كل يوم معظمهم فتيات مراهقات لم يتجاوزن السابعة عشر و نساء في العشرين أو بداية الثلاثين من العمر و بعض الفتيات الصغيرات و الأطفال ، و نادراً ما كانوا يأسرون الرجال فمعظمهم يُعدم بالسيف أو الرصاص في ساحات القتال.

كنا نستقبل الأسرى صباحاً و نسجّل بياناتهم و نوزعهم على عنابر أشبه بزنازين السجون تسودها الرطوبة صيفاً و شتاءً و لا تدخلها أشعة الشمس إلا بمقدار ضئيل ، و كان معظم الأطفال و خاصة الرضع يقضون سريعاً بسبب أمراض الجهاز التنفسي و الحمى و التعفن.

كان ذلك روتيني اليومي الذي أشرف فيه بنفسي على كل مراحلة و لم ينقذني من وطأته و ثقله سوى تلك الساعة التي أقضيها ليلاً في مخدعي أكتب رسالة إلى أسرتي، كانت تلك الساعة الوجيزة رغم قصرها تمسح تعب و معاناة 24 ساعة.

لم يكن بإمكاني كتابة ما أشاء فقد كانت إدارة الجيش صارمة في ما يتعلق بأسرارها العسكرية و لذلك كانت كل رسالة تحتوي على تفاصيل أو وقائع المعارك تُعدم فوراً بعد إطلاع فرق المراسلة عليها و هو ما جعل معظم الجنود و الضباط يتسلحون بدفاتر مذكراتهم الخاصة يدونون فيها وقائع يومهم و ما لاقوه من هول القتال و يبثون فيها مخاوفهم العميقة و أحزانهم الشديدة.

ابتسم السيد “إيتاما” في مرارة و قال فيما يشبه الهمس:

ـ من قال بأن تلك المذكرات ستتحول إلى وثائق إدانة لأصحابها بعد أن كانت و لسنوات ملاذهم الوحيد في جبهات القتال .

بعد بضع دقائق من التفكير الصامت، انتبه “فوشيدا” إلى الورق العتيقة فذّكرته بهدفه من رواية قصته فتناولها و قال:

ـ تماهيت مع الذكريات حتى كدت أنسى سبب استحضارها ، هذه الورقة و سرها !.

كان يوماً شتوياً قارس البرودة من شهر نوفمبر 1939 م ، لم تتوقف فيه الأمطار عن الهطول طوال الليلة السابقة و في الصباح الباكر وصلتني إشارة لاسلكية كالعادة من مركز شينغهاي بوفود مجموعة جديدة من الأسرى.

خرجت إلى ساحة المعتقل و كانت برك المياه الموحلة منتشرة هنا و هناك ، فيما واصل الجنود نقل جثث من قضى من الأسرى في الليلة السابقة بسبب البرد و الحمى و ألقوها في ركن بعيد من المعتقل و سكبوا عليها الجازولين و أحرقوها.

راقبت ألسنة اللهب و هي تلتهم الجثث الهزيلة و قد بات ذلك مشهداً مألوفاً شهدته مئات المرات طوال السنتين المنصرمتين و لم يعد يثير في نفسي أية مشاعر ، فلا شفقة و لا اشمئزاز و لا اهتمام حتى ، كان عملاً مجرد ، عمل نقوم به و ننسى أمره تماماً و نواصل اليوم.

أذكر أني يومها جلست في شرفة مكتبي أراقب ألسنة اللهب و أفكر في دفئها و لذته و لعل السبب البرد القارس الذي كان ينخر عظامي و يكاد يجمد الدم في عروقي رغم تدثري بمعطفي العسكري السميك.

لم يطل الأمر قبل وصول المجموعة الجديدة من الأسرى ترافقها فرقة من الجنود قدموا التحية فبادلتهم إياها و أمرت الأسرى بالاصطفاف في طوابير من ستة أفراد.

لم أكد ألقي الأمر حتى سارع المعتقلون بتنفيذه ، هذه المرة كانوا جميعاً نساء و فتيات ، بعضهن كانت ملابسهن ممزقة بالكاد تستر شيئاً من أجسادهن و بعضهن تحملن أثار ضرب و جروحاً متفاوتة فأدركت بأن الجنود أو بعضهم قد قرروا عدم انتظار عودتهم إلى مراكزهم و ثكناتهم حيث توجد “بيوت المتعة” و قاموا باغتصاب بعض الأسيرات في ساحة القتال.

وقفت أمام الصفوف أتفرس وجوه الوافدات المرتعبة فيم تمر واحدة تلو الأخرى للإدلاء ببياناتهن الشخصية ، عندما لفتت انتباهي فتاة غربية تقف في وسط الصف الأخير، أشرت إلى قائد فرقة نقل الأسرى فسارع إلي فسألته عنها قائلاً:

ـ ما قصة هذه الفتاة الغربية؟

أجابني بنبرة غير واثقة:

ـ تقول بأنها صحافية ألمانية ، لقد أسرناها في مداهمة لأحد الفنادق الصغيرة في ضواحي شنغهاي و لم نجد معها أوراق ثبوتية تؤكد كلامها و لسنا متأكدين من صحة ما قالته.

تأملتها لبعض الوقت فانتبهت لنظراتي و بدل أن تتجنبها كما يفعل معظم الأسرى فإنها نظرت مباشرة في عيني دون خوف ، و أمام إصرارها أشحت ببصري عنها و واصلت حديثي مع الرقيب:

ـ هل تعرضت للاغتصاب أو الضرب من قبل الجنود ؟

أجاب نافياً بسرعة:

ـ لا ، لم يقترب منها أحد ، لقد خشينا أن يكون كلامها صحيحاً و أن تكون مواطنة ألمانية كما تدعي.

– جيد ، سنتحقق من أمر ادعاءها ، و بعد أن أنهيت توزيع الأسرى على زنازينهم طلبت من مساعدي أن يحضر الفتاة الغربية الغامضة لأحقق معها و أعرف حقيقة ما تخفيه.

يُتبع……

هوامش :

الساكورا: زهرة الكرز تعد رمز اليابان.

التوليب: زهرة ذات ألوان متعددة تشتهر بزراعتها هولندا.

الكيمونو: رداء تقليدي ياباني .

بيوت المتعة : تسمية مخففة لأوكار الرذيلة التي أنشأها الجيش الياباني في مستعمراته و أجبر نساء الدول التي احتلها على العمل فيها كعبيد للجنس و هي من القضايا الخلافية الكبرى بين اليابان و الدول الأخرى مثل الصين و كوريا.

 

تاريخ النشر : 2018-10-17

guest
18 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى