أدب الرعب والعام

عندما تُغتال الزهور: الساكورا و التوليب – الجزء الرابع

بقلم : Samer Saleh

عندما تُغتال الزهور: الساكورا و التوليب - الجزء الرابع
لم يطل الأمر قبل أن أدرك بأنها قد هربت

المكان: أوساكا.

الزمان: السادس من مارس 1999 م.

استدار الشيخ “فوشيدا” بعناء و اضطجع على جنبه الأيسر فبات مواجهاً لمخدع زوجته الخالي هذه الليلة و لأول مرة منذ خمسين سنة و وضع كيفيه تحت خده و قال:

ـ كنت موقناً بأن “القائد ميتسودا” سينفذ وعيده ما إن تنقضي أزمة شانشي بسلام ، كان سيعدم “روكو” و يسرحني من الجيش بفضيحة الإهمال في أداء الواجب الوطني ، و ما دام لا مفر من الفضيحة فلأنقذ حياة زوجتي و لتتحول فضيحة الإهمال إلى فضيحة الخيانة العظمى و كما قال الأجداد “إن أكلت السم فلا تنسى أن تلعق الصحن”.

قررت الهرب برفقة “روكو” و لم يكن أمامي وقت كافي ، كانت بضعة أيام قبل أن تقع الفأس في الرأس ، و لكنني كنت بحاجة إلى تدبر هويات مزيفة لكلينا ، تمكننا من عبور الحدود الصينية بسلام بعيداً عن عيون الجيش الياباني و المقاومة الشعبية ، فنحن بتنا مطاردين من الطرفين و تهمتنا جنسياتنا و أوطاننا ، كمان أن “روكو” كانت بحاجة إلى بعض الراحة فمنذ زيارة “متسودا” المشؤومة أصيبت بالوهن و الضعف و باتت غير قادرة على تناول الطعام أو مغادرة الفراش و كلما وقفت فقدت توازنها.

لكن ما قام به “متسودا” و ما كان من أمري معه جعلا “روكو” تلين معي بعض الشئ ، فخف تجاهلها لي و بدأت أرى علامات الامتنان تشع من عينيها المحاطتين بهالات سوداء التي تتزايد شدة سوادها يوماً بعد يوم .

جمعت كل ما يمكنني جمعه من أموال و قايضت سراً كل مقتنياتي الثمينة و لم أبقي حتى على ساعتي اليدوية ، فقد كنت بحاجة إلى كل فلس. حددت موعد الهروب بعد أن لاحظت تحسن حالة “روكو” الصحية و جهزت العدة له فلم أبقي شيئاً للصدفة.

في اليوم المحدد وصلتني رسالة من اليابان ، كانت من والدتي و يبدو بأن القائد “متسودا” قد أعلم أسرتي بما حدث.

كانت تلك أول رسالة تصلني من أمي و كانت حروفها تنتحب و تطلب مني العدول عن حماقتي و الاعتراف بذنبي و التوسل للمغفرة و تعدني بأن القائد “متسودا” لن يتخلى عني و سيضمن لي عقاباً مخففاً ، و لكن علي أولاً التخلي عن الأجنبية.

رغم حبي الشديد لوالدتي و تقديري لجزعها علي لم تثنني رسالتها على عزمي ، فما إن دقت الساعة التاسعة مساءً حتى ركبت سيارة الجيب متظاهراً بالذهاب إلى احدى الحانات القريبة.

سلكت طريقاً فرعياً و حرصت على إطفاء المصابيح ، ما إن ابتعدت عن المعتقل و توغلت قليلاً ثم أوقفت السيارة و نزلت و فتحت صندوقها و نزعت بزتي العسكرية و لبست بذلة جندي حارس ، علقت سلاحي على كتفي و تسللت عائداً إلى المعتقل و زحفت نحو احدى الأجمات القريبة و اختبأت بين أغصانها حتى بدأت حركة الجنود تخف شيئاً فشيئاً و لم يتبقى منهم بعد مرور ساعتين أو أكثر سوى بعض الحراس اليافعين يغالبون النوم فيغلبهم تارة و يغلبونه أخرى.

عندها تسللت ببطء و حذر نحو الجهة الخلفية للمعتقل حث تختبئ “روكو” في انتظاري ، تأكدت من خلو المكان تماماً و تجمع الحراس عند البوابة يتسامرون و يتجرعون بعض الساكي المهرب عله يحميهم قضمات البرد.

ضممت يدي و قربتها إلى فمي و أنا أراقب المكان حولي و أصدرت صوت نعيق خافت لا يكاد يسمع و كانت تلك الإشارة المتفق عليها ، فلم يطل الأمر قبل أن تخرج “روكو” من وراء كومة حجارة و تزحف بحذر نحوي بينما سارعت و حفرت خندقاً تحت الأسلاك لتخرج من خلاله.

كنت أحفر الأرض بمعول صغير جهزته للغرض ثم أسحب التراب المبتل بيدي حتى بدأت يدي المصابة تنزف من جديد ، و لكني شددت عليها  بالضمادة و واصلت الحفر ، فيما كانت “روكو” تكدس التراب في الجهة الداخلية من السلك و كنا نكاد نسمع دقات قلوبنا من الخوف و القلق.

أخيراً تحصلنا على خندق مناسب الحجم يسمح ل”روكو” بالمرور دون التعرض للصعق ، فزحفت عبره سريعاً ، وما إن باتت خارج المعتقل حتى أمسكت يدها و سحبتها و زحفنا عبر الأجمات المحيطة ، و ما إن تأكدنا من أنه لم يفطن إلينا أحد و بأننا قد ابتعدنا بما فيه الكفاية بدأنا بالركض باتجاه مدينة شينغهاي القريبة ، و قبل أن نبلغها غيرنا ملابسنا مجدداً.

كان الاختباء في أحد منازلها و الاختلاط بساكنيها أملنا الوحيد حتى نتدبر طريقة لنقلنا عبر نهر اليانغتسي ، فالسفر براً مع انتشار نقاط تفتيش الجيش الياباني و مع وجود مخابئ غير معلومة لمليشيات المقاومة الشعبية كان مخاطرة مميتة بلا شك.

كانت الفنادق القليلة في المدينة و منازل المدنيين عرضة للاقتحام و التفتيش من قبل جنود الجيش الإمبراطوري بصفة دورية ، و كان الاختباء في أحدها حماقة ، فكان الحل الوحيد تزوير هوياتنا كمتطوعين ، فكانت “روكو” ممرضة ألمانية فيما انتحلت شخصية راهب صيني أخرس حتى لا يفتضح أمري ، و أمّن لنا أحد الصينيين بعد أن دفعت له مبلغاً طائلاً مكاناً في ملجئ للأطفال كتمويه ، و أعلمنا بأن مدة إقامتنا غير معلومة فقد تمتد أياما و قد تتجاوز شهوراً في انتظار تأمين هروبنا عبر النهر ما أن تحين الفرصة.

كان المخبأ عبارة عن غرفة سرية في الجزء الخلفي للمبنى المتهالك ضيقة و عفنة و لا يوجد بها سوى فراش مهترئ و سطل صدئ قذر تفوح منه راحة كريهة.

كانت “روكو” منهكة و شاحبة فتمددت على الفراش ، ترددت قليلاً ثم قررت أن أغفو جالساً في ركن من الغرفة حتى لا أزعجها ، و لكنها التفتت نحوي و أفسحت لي بعض المجال بجانبها و أشارت علي بالاقتراب.

اقتربت ببطء و دقات قلبي يتردد صداها في أذناي، و تمددت ورائها على الفراش و بعد وقت قصير و دون أن تلتفت إلي مدت يدها و سحبت يدي و وضعتها حول جسدها الهزيل و نمنا تلك الليلة متعانقين لأول مرة.

أغمض السيد “ايتاما فوشيدا” عينيه و مد يده على الفراش محاكياً تلك الليلة و كأنه يعيشها من جديد و لكنه لم يلبث أن فتحهما من جديد و قال:

ـ عندما استيقظت في فجر ذلك اليوم لم أجد “روكو”، كانت قد رحلت ، هببت من الفراش بحثت عنها في الأرجاء ، أمسكت بتلابيب الوسيط الصيني العجوز و هددته و لكنه أقسم بحياته بأنه لم يرها.

خرجت إلى الشارع و الرجل يسعى خلفي يتوسل إلي العودة إلى الغرفة قبل أن يرانا أحد و يفتضح أمرنا ، ركضت على غير هدى أتفرس الوجوه و ألاحق كل إمرأة علها تكون هي ، و لكن ما إن تلتفتن إلي و أرى وجوههن حتى يتبخر الأمل.

لم يطل الأمر قبل أن أدرك بأنها قد هربت و ربما تكون الآن على متن أحد القوارب تقطع نهر اليانغتسي نحو وجهة لا أعلمها.

عدت إلى الغرفة لملمت حاجياتي فانتبهت إلى أنها تركت لي رسالة على ظهر الصورة الوحيدة التي تجمعنا ، تلك الصورة التي احتفظت بها لخمس سنوات في جيب سري في محفظتي قبل أن أودعها الصندوق الخشبي عند عودتي إلى اليابان ، كانت رسالة باللغة الألمانية مكونة من 4 كلمات لم أفهمها و لكني حفظتها عن ظهر قلب : Lass uns nicht wiedersehen.

إقتنيت كمية كبيرة من شراب الساكي و عدت إلى المكان الذي ركنت فيه سيارتي العسكرية ، ارتديت بزتي و تقلدت سلاحي و أحرقت لباس الراهب و بذلة الجندي و أوراق الهوية المزورة بعد أن نقعتها في الكحول و جلست أحتسي الساكي و أراقب النيران و هي تلتهم الملابس و عندما خمدت قفلت راجعاً إلى المعتقل ، و حرصت أن أعود على أعقابي سالكاً نفس الطريق حتى تمحي آثار العجلات آثار أقدامنا أنا و “روكو” ، و طوال الطريق لم أقابل حارساً أو جندياً واحداً ، كان الهدوء يعم المكان حتى أيقنت بأنهم لم يكتشفوا الأمر بعد.

و ما إن وصلت حتى وجدت المكان مقلوباً رأساً على عقب ، فقد اكتشف الحراس الخندق و علموا بهرب “ريبيكا فون درمون”. و ككل مرة تحصل فيها محاولة هرب من المعتقل تم احتجاز الأسرى في زنازينهم حتى البت في الموضوع ، فتعالى هرجهم و مرجهم و بدأوا يسببون الفوضى في محاولة للتمرد و العصيان.

أسرع نحوي مساعدي و حياني مرتجفاً و قال بينما أكابد للنزول من السيارة و قد بدأ الساكي يخدر حواسي :

ـ لقد هربت السيدة “روكو” سيدي.

أجبته بلسان ثقيل مصطنعاً الغضب و المفاجأة و السكر:

ـ كيف تهرب و أين كان الحراس؟.

ـ لقد هربت عبر خندق حفرته عبر السور.

قاطعته صارخاً:

ـ لا يهمني كيف هربت،  ما يهمني الآن أن تعيدوها ، كم عدد الحراس الذين أرسلتهم في أثرها و متى غادروا ؟

تمتم المساعد في رعب:

ـ لا ، لم أفعل.

ـ ما الذي كنت تنتظره ؟ ألا تستطيع إصدار أمر بسيط كهذا ؟

ـ في الحقيقة لا نستطيع إرسال جنود للبحث عنها يا سيدي حتى لو أردنا ذلك ، فعدد الحراس ضئيل و إن أرسلنا مجموعة منهم وراء السيدة “روكو” سنعرض أمن المعتقل للخطر و لن يكون لدينا العدد الكافي من الحراس لردع الأسرى إن تمردوا

، ما إن سمعت هذه الكلمات حتى أدركت بأنه سيكون أمام “روكو” الوقت الكافي للابتعاد و النجاة من ملاحقة فرق الجيش و بأنني قد نجوت أيضاً ، فستتكفل الأمطار و سيولها في محو آثار محاولة هربي الفاشلة و ستبعثر أدلتها .

و كتمويه أخير و لأن أصوات الأسرى كانت تقرع داخل جمجمتي ، سحبت مسدسي و توجهت نحو سجن المعتقل و وقفت أمام بواباته الحديدة و أفرغت مخزن الرصاص في الهواء و منذ الرصاصة الثانية أو الثالثة توقف ضجيج الأسرى و خمد عصيانهم القصير ، أعدت سلاحي إلى جرابه و قصدت مكتبي و أعلمت القيادة فوراً بهروب “ربيكا فون دورمون” صبيحة الخامس من يناير 1940.

*****************************

المكان: نيويورك

الزمان: 18 أغسطس 1960م.

كانت عائلة المحامي “فيليب ديبون” تستعد للاحتفال بعيد ميلاد ابنها البكر ” ميلان” الذي بلغ لتوه العشرين من العمر و يستعد لدخول كلية الحقوق في جامعة نيويورك في الخريف المقبل سائراً على نهج والده و محققاً حلمه في أن تصبح عائلة “ديبون” عائلة حقوقية عريقة.

آثر “ميلان” أن يقضي ليلة حفلة ميلاده مع الأسرة ، فكان حفلاً عائلياً صغيراً أعدت من أجله “ربيكا” بعض الطعام و اقتنت كعكة من محل مخبوزات قريب.

كان كل من “فيليب” و “ربيكا” مرتبكين طوال السهرة بطريقة مثيرة للحيرة و الشك في آن و لكنهما كان يجدان في التظاهر بأن لا شيء يحدث.

شارف الحفل على النهاية و أطفئ “ميلان” شمعته العشرين و تلقى الهدايا و التبريكات من والديه و شقيقته “سيلفيا” التي تصغره بسبع سنوات.

اتجهت “ربيكا” إلى المطبخ و انهمكت في تنظيفه و إن كان كل ذلك محاولة منها للسيطرة على نفسها و تخفيف جو الريبة الذي أثاره ارتباكها الواضح اليوم.

لحق بها “فيليب” و بدأ بمساعدتها في صمت و لكنه لم يلبث أن قال هامساً:

ـ هل تراجعت عن قرارك؟.

ـ لا أرى الأمر صائبا الآن.

تأملت “ربيكا” ابنها و هو منهمك في لعبة الشطرنج مع شقيقته و واصلت حديثها و كأنما تحدث به نفسها:

ـ إنه سعيد و متفائل و مقبل على مستقبل لامع ، يحز في نفسي كسر قلبه و تحطيم روحه ، عندما أنجبته ظننت بأنه و عند بلوغه العشرين سيكون قوياً بما فيه الكفاية لأصارحه و أشاركه أعباء الماضي و لكن بالنظر إليه الأن لا أرى سوى طفلاً هشاً و ضعيفاً لا يختلف في شيء عن ذلك الوليد الذي حملته بين ذراعي لأول مرة بين أكوام البضائع و السلع على متن سفينة التهريب ، سفينة الخلاص التي أنقذني و أنقذته من جحيم الصين.

ولادته كانت سعادتي الوحيدة و لا أقدر اليوم أن أكون سبب حزنه الوحيد.

كما أن الوقت الراهن غير مناسب ، يجب علي حمايته من الكراهية التي تتزايد ضد أبناء عرقه. العالم في الخارج يتصرف و كأنه أصيب مجدداً بالجنون.

ـ و هل الادعاء بأنه طفل متبنى هو الحل؟  هل وضعه الآن أفضل ؟.

ـ وهل حقيقة كونه ابن فتاة متعة من سفاح ياباني أفضل ؟.

استاء “فيليب” مما قالته و رد قائلاً:

ـ يبدو الأمر سيئاً جداً عندما تقولينه بتلك الطريقة.

ـ تلك هي الحقيقة التي لن تتغير عندما نستعمل كلمات و مفردات ألطف لوصفها.

قد يكون “فيليب” رجلاً استثنائيا في حبه ل”ريبيكا” ذلك الحب الذي جعله يتقبلها بكلها دون مساومات ، و يجلس هادئاً في بداية تعارفهما بعد الحرب ، ينصت إلى قصتها الحافلة ، سفرها إلى الصين كمراسلة إبان الاجتياح الياباني ، وقعوها في الأسر، اغتصابها من قبل “فوشيدا” و زواجها الغريب منه ، هربها من الأسر و من ثم اكتشاف حملها ، و أخيراً رحلة عودتها إلى الوطن التي استغرقت سنة كاملة.

كيف استطاع رجل في ذلك الوقت أن يسمع كل تلك التفاصيل و يستوعبها و يتفهمها و الأهم من هذا و ذاك يصدقها و يصدق صاحبتها و يواصل جلوسه قبالتها بدل الفرار بأسرع ما يمكن .

كيف استطاع “فيليب” تجاهل كل تلك الندوب الغائرة في ماضي “ربيكا” و احتضنها و احتضن ابنها ذو الخمس سنوات و كأنه من صلبه متجاهلاً ملامحه اليابانية الحادة التي كانت في تلك الحقبة دليل إدانة لا يغُتفر و إن كان صاحبها طفلاً بلا حول و لا قوة و لا ذنب له فيما فعله الآباء و الأجداد؟

و لكن “فيليب” يظل رغم استثنائيته رجلاً ، رجلاً لا يفهم قلب المرأة و لا يدرك تفكيرها و لا دوافعها ، و خاصة إن كانت أماً فقصر عن فهم تردد زوجته و ظل يظن دوماً بأن عليها مصارحة “ميلان” بحقيقة نسبه ، و لكنها أصرت أن لا تفعل.

********************************

المكان: شنغهاي.

الزمان: فبراير 1940م.

في نهاية شهر يناير سنة 1940 م انتهت أزمة شانشي التي كادت تتحول إلى كارثة و استعاد الجيش الإمبراطوري عافيته بالكامل و تعاظم جشعه بهذا النصر، و تزايدت أطماعه فتوغل أكثر فأكثر في الشرق الأقصى.

و في ذلك التاريخ أيضا بدأت معاناة الضابط “إيتاما فوشيدا”، فقد أُحيل إلى التحقيق في قضية هروب أسيرة الحرب التي تزوجها فيما بعد “ريبيكا فون دورمون” و واجه تهماً بتسهيل فرارها و هي تهم تصل عقوبتها إلى الإعدام ، و لكنه سرعان ما بُرئ منها بسبب عدم توفر الأدلة على تورطه فيها.

و مع ذلك تمت محاكمته عسكرياً بتهمة الإهمال و المسؤولية على فرار أسير حرب و تمت معاقبته بالسجن لمدة سنة في أحد السجون العسكرية في الصين و تجريده من رتبته كضابط في الجيش الياباني و من جميع امتيازاته العسكرية و أنزاله إلى رتبة جندي مشاة في إحدى فرق الجيش البري.

و ما إن حل شهر مارس سنة 1941 م حتى صدرت التعليمات بإرسال “الجندي “إيتاما فوشيدا” ذو الإثنين و العشرين عاماً إلى جبهة القتال في كوريا رغم معاناته من إصابتين سابقتين تسببتا له في عاهتين دائمتين تعفيانه من حمل السلاح.

****************************

المكان: اوساكا.

الزمان: فجر السابع من مارس 1999 م.

واصل السيد “فوشيدا” تذكر ما مر به إبان الحرب في الصين و أكمل رواية أحداثه المثيرة على أسماع زوجته أو بالأحرى في حضور صورتها:

ـ في الحادي عشر من مارس 1940 م وصلت إلى كوريا ضمن تعزيزات الجيش لقواعدنا هناك و انضممت إلى الكتيبة المقاتلة 287 ، فوجدت بأن قصتي قد سبقتني ليبدأ فصل جديد من المعاناة.

كانت تلك احدى الطرق المعتمدة في الجيش و التي يسلكها القادة مع كل من يثير سخطهم ، فبمجرد أن يحصل ذلك لا يكتفون بالتأديب العسكري المعمول به في كل العالم بل و إمعاناً في العقوبة يؤلبون زملائك ضدك و يستخدمونهم كوسائل تعذيب لك.

ليس هناك جحيم أشد من أن يعيش المرء داخل مجموعة تنبذه و تتصيده كفريسة جريحة ، حتى على الجنود الذين قضوا سنوات طويلة مع فرقهم فما بالك بضابط مدان تحوم حوله شبهة الخيانة العظمى ، جُرد من رتبته العسكرية و قُلص إلى جندي و نُفي بعيداً عن كتيبته في مهمة قتالية قد لا تنتهي إلا بموته.

قضيت في كوريا قرابة التسعة أشهر من مجمل أربع سنوات على جبهات القتال ثم نُقلت مجموعتي إلى جبهة تايلند لمؤازرة الفرق المقاتلة هناك ، في منتصف شهر ديسمبر 1941 م و بعد خمسة أشهر أرسلنا مجدداً إلى جبهة جديدة و كانت ساحتها هذه المرة الفليبين حيث قضينا قرابة سنة و نصف بسبب النقص في عدد المقاتلين و تأخر إمدادات المجندين الجدد ، ثم تمت تعبئتنا مجدداً في جبهات القتال في سنغافورة في مايو 1943م.

كانت حدة المعارك تهدأ حيناً و تشتعل أحياناً بقوة و عنف يجعلانني أكاد أرى نهايتي بأم عيني ، و ما زاد الأمر تعقيداً و خطورة ذلك العرج في ساقي اليسرى الذي يعيق حركتي و يبطئني و فقداني لخنصر و بنصر يدي اليمنى و التي حدت من قدرتي على استخدام السلاح.

كانت كلما اقتربت نهاية خدمتي أُفاجأ بأنها قد تجددت و بأنه قد تم أرسالي إلى وجهة جديدة ، في البداية عانيت من الإحباط و كدت أنهار خاصة مع استهداف أفراد كتيبتي لي و محاولتهم دفعي لخيارين لا ثالث لهما إما الجنون و إما الانتحار ، ففي نظرهم كنت مصدر خزي لهم و كان وجودي في الكتيبة جالباً  للعار لأفرادها.

لم أستطع طوال الأربع سنوات أن أعتمد على أحد سواي ، ففي فترات الهدوء كان رفاقي يبصقون على الأرض كلما مررت بجانب أحد منهم أو التقيته عرضاً في طريقي ، و كان المسؤول المباشر عني يكلفني بأعمال كثيرة و يضاعف عقوباتي فلا أكاد أعرف طعم النوم.

أما في فترات احتدام المعارك كنت أجد نفسي كالذي يقاتل وحده فلا رفيق يحمي ظهري إن تقدمت و لا آخر يستكشف الطريق أمامي إن تأخرت.

كنت وحدي هناك رغم كثرة المحيطين بي ، و قضيت في الجبهة قرابة 1500 يوم و لا أعرف لي اسماً سوى “محب العبيد” الذي أطلقه علي أفراد الكتيبة بسبب قصة “روكو” أو “الأعرج الخائن”.

كنت وحيداً و لم أكن أبالي لولا أن تخلى عني أبي و انقطع سيل رسائله الشهرية منذ صدور الحكم العسكري في حقي ، إلا من رسالة واحدة أرسلها قبل ترحيلي إلى كوريا بعد خروجي من السجن مباشرة تضمنت جملة واحدة ” أقتل نفسك “!.

فكما تعلمين الأباء في وطننا لا يحبون الأبناء الذين يلوثهم الفشل أو الإعاقة أو الإنسانية و لا يغفرون لهم تلك الذنوب أبداً.

في الحقيقة قد قال والدي بصوت عال ما كنت أفكر فيه ، و لكن كلما هممت بالانتحار يمنعني شيء ما ، ليس خوفاً و لكنه ربما الأمل ، أو لعله العناد و رغبة لا واعية في الانتقام من البلاد و الحكومة و قادة الجيش و الإعلام و حتى الأهل ، من أوهمونا بأننا نقاتل من أجل كرامة الوطن و من أجل حماية بقية الشعوب من هيمنة غربية وحشية قادمة لا محالة ستحاول إخضاع القارة بأكملها ، فاكتشفنا على أرض المعارك بأننا لسنا سوى أدوات قتل غارقين في مستنقع موحل لا خلاص منه نَقتل حتى لا نُقتل و في كل يوم يمر نفقد بعضاً من إنسانيتنا حتى نصبح في نهاية المطاف وحوشاً.

زم السيد “فوشيدا” شفتيه الكالحتين و لمعت الدموع في عينيه عندما أدرك ذلك الجزء الصعب من حكايته و لكنه تحامل على نفسه قائلاً بصوت مختنق :

ـ في منتصف سنة 44 و بينما كنت أناور الموت في سنغافورة لأجاوز الخامسة و العشرين من عمري بسلام و أعيش يوماً إضافياً ، بدأت تنتشر شائعات و أخبار عن هزائم الجيش في بعض جبهاته و لكنها ظلت شائعات في نظرنا لم نصدقها أو لم نرد تصديقها ، حتى بدأت الأمهات في نهاية السنة ترسلن إلى أبنائهن العالقين في الجبهات أحزمة أرديتهن ، عندها فقط أدركنا بأن هناك شيئاً ما يحدث تحجبه عنا قيادات الجيش و تخدعنا ببيانات و مناشير انتصارات معظمها وهمية لم تحصل.

و في نهاية 1944 م وصلني طرد من اليابان بدون عنوان مرسل و لكني ما إن فتحته حتى عرفت أنه من والدتي ، لقد أرسلت إلي حزام ردائها ليحميني و يحرس روحي و كان ذلك أول تواصل لنا منذ ثلاث سنوات.

ما زلت ممتناً لشجاعة أمي و حبها لي و عطفها علي الذي جعلها لا تمتثل لقرار والدي بمقاطعتي نهائياً وتخاطر بأرسال طردها ذاك ، و سأظل ممتناً لها إلى أن أموت.

يُتبع ….

هوامش :

الساكي: شراب تقليد ياباني يُصنع من الأرز.

عادة ارتداء أحزمة الكيمونو: في المعتقدات اليابانية يعتقد بأن ارتداء الرجل لحزام كيمونو والدته يحميه من الأخطار لذلك أثناء الحرب العالمية الثانية ارتدى الجنود اليابانيون أحزمة أردية أمهاتهم في المعارك.

تاريخ النشر : 2018-10-25

guest
12 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى