أدب الرعب والعام

ساحرة طابيش

بقلم : أحمد محمود شرقاوي – مصر
للتواصل : [email protected]

ساحرة طابيش
رأت ست الناس ملتفة بالسواد وتقف فوق الضريح وتنظر لهمسة

 

ارتفع صوت صرصور الحقل يتلاعب بسكون الليل كيفما يشاء ، لحظات وارتفع صوت الضفدع المجاور ليتحداه في الإزعاج المتواصل ، نعم يا عزيزي نحن في الريف المصري وخاصةً في قرية ” طابيش ” ، لا تتساءل كثيراً عن تلك القرية حتى لا تنال ما نال الأخرين والأن أصمت ولا تتحدث . شعر الصرصور والضفدع بالتوتر حينما سمعا صوت موتور قوي ، إنها سيارة مسرعة تشق الطريق الترابي وهي تتأرجح بفعل الطريق الغير ممهد ، سيارة من النوع النقل تحمل فوقها الكثير من المتاع ، تثاءبت همسة بكل كسل وهي تنظر إلى الأراضي الزراعية من نافذة السيارة بشرود ، شعور غريب كان يغازل روحها من الداخل ، شعور الحزن والفرح والتيه ، امتزجوا معاً ليكونوا حالة من اللامبالاة الشديدة ، رغماً عنها تتوالى الذكريات وتطفو بسلاسة لتعصر قلبها وتمزقه ، ولكنها الحياة ، الحياة التي تتلاعب بنا كما يتلاعب اللاعبون بالكرة ، توقفت السيارة أمام منزل متوسط يتكون من طابقين محاط بسور تتوسطه بوابة حديدية قد عفى عليها الزمن ، ترجلت همسة من السيارة يعقبها أخيها الصغير آسر ووالديها ، بدأت رحلة نقل المنقولات من فوق السيارة إلى داخل المنزل وأغلبكم يعرف كم هي قاسية تلك الرحلة ، مرت ساعة كاملة ولازالت همسة تحمل المنقولات مع أبيها وأمها ، لفت نظرها هذا الرجل الذي يقف أمام المنزل ينظر لهم بثبات ، شعاع الضوء المنبثق من عمود الإنارة بالخارج يُظهر هيئته ، شعرت برعشة خفيفة تجتاح جسدها وهمست لوالدها لينظر تجاه الرجل ، نظر أبيها للرجل بتعجب ثم ذهب ناحيته ، لا تدري لما شعرت بالقلق وكادت أن تمنع أبيها من الذهاب إليه ، اقترب أبيها من الرجل بهدوء وقال :

– السلام عليكم ، هل هناك شيء يمكنني أن اقدمه لك ؟.

نظر له الرجل بغضب شديد وقال له :

– هل أذنت لك ست الناس لتسكن في تلك البلدة ؟.

نظر أبيها للرجل بدهشة وقال :

– ومن تكون ست الناس تلك ؟ ثم أنني قد اشتريت هذا المنزل فما شأن ست الناس بي ؟.

لم يكد يقولها حتى انقض عليه الرجل بكل قوة وأمسكه من تلابيبه وهو يصرخ بكل غضب :

– ستموت ، ستموت أنت وعائلتك وستكونون عبرة لمن يعتبر ، أنصحك بأن تنقذ ما يمكن إنقاذه وتحاول أن تطلب الصفح من ست الناس .

في تلك الأثناء وصل السائق إليهما راكضاً وحاول أن يفض النزاع وينزع يد الرجل من رقبة أبو همسة التي لحقت بالسائق وهي فزعة ، وصل إلى مسامعهم صوت آسر الصغير وهو يقول :

– اترك أبي يا مجنون وإلا سأقتلك .

في النهاية استطاع السائق أن يفض النزاع القائم ويقف حائلاً بينهما ، في حين استمرت كلمات الرجل الغريبة .

– لا تتجاهل حديثي ، حاول أن تترجى ست الناس لكي لا تؤذيك.

دفعه السائق بقوة وقال له :

– اذهب من هنا قبل أن أضربك الأن .

جذبت همسة أبيها وهي تترجاه ليدلف من البوابة إلى الداخل ، و لا زال الرجل يصرخ بكل عنف : ” ستموت ” ” ستموت ” حتى ابتعد تماماً ، ضرب والد همسة أخماساً في أسداس وهو يشكر حظه السعيد على تلك البداية في تلك البلدة التعيسة ، و يا لها من بداية أن يقول له أحدهم أنه سيموت هو وعائلته ، ساد الصمت المكان وحاولت همسة أن تلطف الجو فقالت :

– يبدو أنه فاقد للعقل ، هيا بنا يا أبي فقد اقتربنا من نقل جميع الأغراض.

مرت نصف ساعة أخرى وانتهى الأمر تماماً وغادر السائق بسيارته المكان ، وقفت همسة تتفحص المنزل بعينيها لأول مرة ، دلفت من الباب الداخلي لتسقط عينيها على تلك الشقوق الكبيرة الموجودة في الحائط ، تجاهلتها سريعاً حتى لا تجرح والدها بأنه اشترى بيتاً رخيص الثمن فهي أكثر من تعرف حاله وما مروا به من أزمات مُسبقاً ، كان الإرهاق يتغذى على ملامحها البريئة . قررت أن تذهب للنوم قبل أن تفقد الوعي من التعب ، وضعت مرتبة صغيرة على الأرض وسقطت بين براثن النوم ، وما أدراك ما النوم ؟.

هناك في عالم الأوهام والرؤى والأحلام كانت هناك تتفقد هذا الجمع بتعجب شديد ، عشرات من الناس يطوفون حول غرفة خشبية ومن حولها تتراص الجماجم المُفزعة ، كانوا يطوفون كالحجاج في موسم الحج وهم يغنون ويضربون الدف ، كلماتهم كانت غريبة ” ارضي عنا يا ست الكل ، نحن فداكِ يا ست الكل ” ضرب الدفوف مستمر والصياح يتعالى ” ارضي عنا يا ست الكل ، نحن فداكِ يا ست الكل ” ، ” نطلب الصفح يا ست الكل ” ، ” راضينا يا ست الكل ” ، شعرت بالتقزز الشديد وهي ترى هذا المشهد الذي لا تقبله الفطرة النقية إطلاقاً ، إنه الشرك في أعتى صوره ، الأغرب والأفظع هو سجود البعض وتمسحهم بتلك الغرفة العجيبة وكأنهم يتلمسون الدفء من البرد القارس ، وقفت تستشيط غضباً من تلك المناظر المقززة ، الأكثر بشاعة هو خروج الدماء الساخنة من أفواه الجماجم بغزارة وسقوطها على الطوافين الذين صرخوا بنشوة عجيبة حينما تساقطت فوق رؤوسهم الدماء ، تراجعت خائفة من هول ما ترى ، انتفض قلبها حينما سمعت صرخات وعواء وصيحات قادمة من كل مكان ، الدفوف لا تزال تضرب بقوة والنشيد مستمر كما هو ، الدماء تتساقط كالسيول من فوقهم ، الأجساد تتمايل بمجون ، صياح ، صراخ ، دماء ، صراخ ، دماء ، انتفضت فزعة من نومها وقد تشبع جسدها بالعرق الغزير و راحت المرتبة تمتصه بنهم شديد ، قلبها أوشك على القفز من مكانه من شدة ضرباته ، جلست على المرتبة تلهث بشدة وتملأ رئتيها بالهواء العليل ، اقتربت من النافذة وهي تحاول أن تقاوم الدوار الغريب الذي راح يقتحم دماغها بعنف ، وقفت أمام النافذة تتلمس الأمان من الشارع بعد ما رأت ، نظرت من النافذة وبدأت تبكي بحرقة شديدة حتى تُفرغ بكل ما في قلبها من هموم ، ولن تجد ذكرياتها الحبيسة فرصة أنسب من تلك للخروج من مكمنها ، تذكرت إجبارهم من قِبل صاحب البناية ليرحلوا وسط إحجام كل الأهل والأصحاب عن المساعدة ، تذكرت صديقاتها اللاتي فارقتهن للأبد ، توقفت عن البكاء بعد مدة وشردت بنظراتها إلى الخارج ، لفت نظرها هذا الظل الذي يقف قبالة الشرفة بثبات مخيف ، اقشعر بدنها وانتفض قلبها معاً ، دققت في ملامحه بخوف فلم ترى شيء ، ظل أسود ضخم ذو شعر طويل ، صرخت بفزع حينما التمعت عينيه ببريق الموت وسمعت صيحة مخيفة ارتج لها كيانها تقول :

” ست الكل لا تسمح للغرباء بالسكن هنا ” .

لحظات واختفى هذا الظل من المكان ووقفت هي وقد تبعثرت شجاعتها وتناثرت على شاطئ الخوف  وأدركت بحدس الأنثى الذي لا يُخطئ أن الأيام القادمة ستحمل الكثير والكثير جداً من الرعب والألم ، وكم كانت صادقة في هذا .

لا تعلم كيف مرت تلك الليلة التي استمرت كأعوام ، فما أسوأ لعبة الزمن فهو يركض كالحصان الجامح حينما نهمله  ويتأنى كالسلحفاة حينما نتعجله ، فما أطول دقيقة ما قبل الإفطار ، في النهاية لقد مرت الليلة وأشرقت الشمس بنورها العليل تداعب أعين قد تورمت من فرط الخوف والسهر ، سقطت مكانها لعلها تنال بعض الراحة بعدما طمأنتها أشعة الشمس الذهبية ، لم تمر الساعة حتى استيقظت فزعة حينما لامسها أخيها الصغير آسر ليوقظها من سُباتها ، نظرت له بخوف وسرعان ما ابتسمت له حينما رأت نظرات الخوف في عينيه ، تناهى إلى مسامعها صوت أمها من الخارج تناديها فخرجت إلى الصالة ليبدأ اليوم الأكثر مشقة وهو وضع المتاع في مكانه الصحيح ، الثلاجة هنا ، الغسالة هناك ، الملابس في الخزانة وهكذا ، انهمكت في العمل وتناست ما حدث لها بالأمس حتى سمعت صوت الجرس الخاص بالبيت ، تقدم والدها ” النعمان ” ليفتح الباب ليرى من هو القادم وهو لا يعرف أحد من تلك القرية ، فوجئ بخمسة من النسوة يلبسن السواد الكامل يقفون أمام الباب ، اقشعر بدنه من طريقة ملبسهم فهو ليس النقاب المعتاد ولكنه البرقع غريب الشكل ، ابتسم بتوتر وقال :

– مرحبا بكن ، تفضلن

تحدثت إحداهن بحدة وقالت :

– لما لم تأخذ الإذن من ست الناس أولا قد المجيئ إلى هنا ؟ .

فاض به الكيل وقتها وارتفع صوته وهو يجيب : لقد اشتريت هذا المنزل ومعي ما يثبت هذا ، ولم أتعرض لأحد من تلك القرية مطلقاً ولن يحدث ، ما لي أنا وست الناس تلك ؟.

تحدثت أخرى بسخرية حينما رأت آسر الصغير :

-فلتراقب ولدك جيداً فلا ندري لربما لا تراه ثانيةً.

صرخ فيها بكل غضب : هل تجرئين على تهديدي يا معتوهة ؟ .

هنا تدخلت الزوجة سريعاً وقالت : اذهبن من هنا قبل أن نتصل بالشرطة.

ضحكن ضحكات عالية ثم غادرن المكان ، جلس الوالد مهموماً يندب حظه الذي أتى به لتلك البلدة الملعونة ولكن نظرات آسر البريئة جعلته يبتسم له وينهض لتكملة العمل .

حل الليل سريعاً وجلست الأسرة لتناول الطعام بعدما انتهوا من وضع كل شيء في مكانه الصحيح ، نهضت همسة من مجلسها وصعدت للأعلى لتهيئ غرفتها للنوم ، سمعت صوت أخيها يركض ويضحك في باحة المنزل ، نظرت له من الشرفة فرأته يركض خلف أحد الفراشات وصوت ضحكاته تملأ المكان ، ابتسمت في حنان له والتفت لتغادر الشرفة ، شعرت بالدهشة لوجود فراشات في الليل ولكنها لم تهتم ، ولكن ما جعلها تهتم هو صوت آسر الذي كان ينادي عليها ، نظرت له وهي تجيبه فرأت آسر يركض من البوابة الخارجية ويخرج من المنزل كله ، شعرت بالذعر ونهش هذا الشعور بقلبها حينما رأت نفس الظل الذي كان يقف بالأمس يركض خلف أخيها ، انتفضت مصروعة وانطلقت للأسفل تنادي على أبيها صارخة :

– يا أبي النجدة.

هرول نحوها أبيها متسائلاً :

– ما الأمر؟.

– آسر ، أين آسر ؟.

صرخت أمها قائلة :   لقد كان هنا منذ لحظات و ، ركضت تبحث عنه .

أما همسة لم تتمهل وانطلقت كالصاروخ نحو الخارج ولم تهتم لصرخات أمها التي كانت تناديها.

ركضت كما لم تركض من قبل ، وأمام البيت كانت تلك الأرض الزراعية تنظر لها بتحدٍ ، هل ستجرؤ على الولوج لتلك الأرض وعيدان الذرة تقف شامخة كالمحاربين العظماء ، ظلت تنادي على أخيها دونما رد ، لم تتمهل وانطلقت تخترق عيدان الذرة تبحث عنه ، صوت لهاثها غطى على صوت تحطم أعواد الذرة جراء اصطدامها بها ، احتكاك الأعواد بوجهها كان يؤلمها بشدة ، تراجع سريعاً شعور الخوف على أخيها داخل قلبها وبدأ شعور الخوف يحتل المكان بأكمله ، إنه المجهول يا عزيزي ، التفكير المرعب في من قد يتربص بك هنا ، فقط ضوء القمر هو من يبدد عتمة الليل التي تلتف حول جسدها وتتخلل من بين أعواد الذرة ، شعرت بالألم الشديد حينما جُرح وجهها وتوقفت لتستمد بعض الشجاعة والهدوء من نفسها ، قلبها كاد يثب من صدرها والدماء تتقطر من فوق جبينها ، وقفت وسط العتمة والعيدان تصرخ ” آسر ” ” آسر “.

وما من مجيب ، شعرت بالرعب حينما لمحت من يركض بين أعواد الذرة وتتفاعل الأعواد معه بصوتها واهتزازها العنيف ، الأفكار المفزعة تراودها ، هل هو مجرد كلب ضال ، ذئب ، أم شيء أخر ؟.

أياً يكن فهي تخشى الثلاثة ، انتفضت فزعة على حركة ثانية بجوارها ، حركة ثالثة من أمامها . العيدان تهتز بعنف وكأنها تضحك ساخرة على تلك الوديعة ، بدأت تتراجع سريعاً ولكن  يا للمصيبة !.

أي اتجاه ستسلكه لتخرج من وسط هذا الهول .

ركضت للأمام خائفة ، تعثرت وسقطت ، بكت ، صرخت ، نهضت و ركضت من جديد ، الخوف يلتهم هذا الجسد بشراسة ، هتفت بصوت ضعيف ” يا رب “.

أعواد الذرة أخذت تهتز من كل مكان حولها ، وقفت تتلفت يمنة ويسرة في فزع حقيقي ، سمعت أصواتاً مرعبة أصابت قلبها بالجنون ، أصوات زمجرة وضحكات غريبة ، همسات من بين الأعواد تناديها باسمها ، تلتفت ناظرة في كل مكان ، الجنون هو سيد الموقف هنا ، ستموت بعد قليل ، حتماً ستموت ، صرخت صرخة فزع حينما شعرت بلمسة في قدميها ، لم تنظر وإنما راحت تركض صارخة وأعواد الذرة لا تمل من جرح وجهها و ذراعيها ، أصوات تحطم العيدان من خلفها أخبرتها بأن أحدهم يطاردها في إصرار ، الألم تملك منها ، تريد النجاة من هذا الهول ، تعثرت للمرة العاشرة لتسقط وسط الطين ويتسخ وجهها ، بكت بضراعة ، مسحت عن وجهها الطين ورفعته ، تسمرت نظرة عينيها حينما رأته ينظر لها ، رغم الظلام الدامس كانت ترى وجهه بوضوح ، إنه رجل مشوه الوجه ، جلد وجهه قد انتفخ كثيراً أسفل عين واحدة بينما لا يتواجد جلد أسفل العين الأخرى ، مسخ بكل بمعنى الكلمة ، لم تقوى على المقاومة حينما حملها بين يديه ، لم تقوى على الصراخ حتى ، تجمع العشرات من حولها في تلك اللحظة وحملوها وهي تغيب عن الوعي ولم تسمع من أصواتهم سوى كلمة جملة واحدة : إلى ست الناس .

صيحات غاضبة ، ضحكات ، أنين وبكاء ، مشاهد مبهمة ، أصوات ، حديث ، وكل هذا ينتهي بقدوم ست الناس ، تظهر على هيئة ظل يقترب بعد كل مشهد .

منزل تشتعل فيه النيران وتتأجج ، صياح وصراخ ثم ظهور ست الناس ، شجار عنيف وأحدهم يحمل سكين ويقتل الأخر ، ثم تظهر ست الناس ،

المشوه يصيح وقد احترق وجهه ويركض بلا هدف بين الطرقات ثم تظهر ست الناس

، ظلت تلك المشاهد تراودها حتى أفاقت من غيبوبتها ، كانت تشعر بصداع يمزق رأسها بلا هوادة ، فتحت عينيها في إرهاق وحاولت أن تنظر أمامها ولكن دون جدوى ، الرؤية أصبحت حمراء ، هناك ضغط قوي على قدميها ، نظرت ثانية ولكنها لم تدرك كنه هذا الألم وتلك الرؤية الغريبة ، بدأ عقلها يصفو رويداً رويداً حتى فطنت للأمر بأكمله وهنا اتسعت عينيها في فزع ، أنها معلقة من قدميها في سقف غرفة ومن اسقلها أناء كبير تغلي فيه المياه ، الدماء قد تجمعت في رأسها بسبب هذا الوضع لذلك كانت تشعر بهذا الصداع القاتل .

صاحت بوهن لعل أحد يسمعها ” النجدة “

ولكن ما من مجيب ، تقطرت أدمع الخوف والألم من عينيها البريئة فزادت من بؤس الموقف. لحظات وانفتح الباب ودلف منه رجلين وامرأة تلتف بالسواد الكامل ولا يظهر شيئاً من جسدها ، قام أحدهم بقطع الحبل وامسكه بهدوء وبدأ يتركه قليلاً فيهبط جسدها نحو الإناء المحتوي على مياه مغلية ، فتصرخ برعب فيمسك الحبل ، ثم يعاود الكرة ثانية و ثالثة و رابعة وهي تصيح .

بالله عليك لا تتركني ، أرجوك ، ماذا فعلت لكم ؟

هنا انطلقت ضحكة مجلجلة من فم المرأة ، ضحكة جعلت جسدها يهتز بعنف ، ثم أشارت إلى الرجلين فدفعا الإناء بعيداً وانزلوا همسة أرضاً فأصبحت مقيدة اليدين فقط وتركوها وذهبوا ، جلست همسة تحاول أن توازن جسدها محاولة منها لدحر هذا الدوار الغريب الذي اجتاح رأسها ، هدأ جسدها كثيراً ونظرت بحدة للأمام حيث المرأة وقالت :

من أنت ، ولما أنا هنا ؟.

…………

– اخبريني وإلا قتلتك في الحال.

سمعت صوت رقيق جداً يقول : وهل ستفعلين هذا وحدك ؟.

– ولما لا ؟.

– حسنا سأخبرك ، أنا ست الناس.

ثم كشفت عن وجهها فشهقت همسة انبهاراً بهذا الوجه طاغي الجمال ، ظلت تنظر لها في انبهار حقيقي ، إنها حورية من الجنة وليست من بني البشر .

– ولكن … ولكن.

ضحكت المرأة ضحكة عالية وقالت : لا تستطيعين مقاومة جمالي أليس كذلك ؟.

– يبدو أنه جمال خارجي فقط ، لما تفعلين كل هذا ؟.

– القصة طويلة يا عزيزتي والوقت ليس في صالحي.

– حسناً ، ولما أنا هنا ؟.

– أنت هنا لأظل أنا مكاني هنا .

– لا أفهمك.

– لقد تجرأ أبيك وسكن في البلدة دون إذن مني.

– ولماذا يأخذ منك الإذن ؟.

– لأنه ما من أحد يفعل شيئاً في تلك البلدة دون إذني ، فأنا هنا الحاكم والآمر والناهي.

– سوف أبلغ الشرطة عنك.

ضحكت ضحكة كادت تهز الأرض من شدتها تلك المرة وقالت : صدقيني لن تفعل الشرطة شيئاً ، إنها قوانين البلدة.

– ولكن كيف تحكمين كل هؤلاء وتؤثرين عليهم بتلك الطريقة ؟.

إنه الوهم يا عزيزتي ، الوهم الذي يجعل البشر يخضعون دون شرط أو قيد ، الوهم الذي يجعل الفرد على يقين أن حياته لن تسير دون وجود أصحاب المناصب على عروشهم وأنه بدونهم لا شيء ، إنها لذة العبودية والاستسلام التام .

– ولكنهم قد يتحدوا ضدك يوماً ما.

– ربما قد يحدث هذا ولكن بعد مماتي ، لقد تيقن الأهالي هنا أنني من يدير شئون حياتهم ، أنا من اجعلهم ينامون ، يستيقظون ، ينجبون ، بل وأنا من تجعلهم يموتون ، وهم من يساعدونني لفعل كل هذا ، ألم أخبرك بأنه الوهم وحب الذل والعبودية ؟. كيف لشعوب تحيا تحت كنف أنظمة طاغية تتكون من أفراد ومع ذلك هم من يعاونوهم لقمع بعضهم البعض ، أين الفكر السليم ؟ لقد توفى منذ زمن.

سوف افضح أمرك أمام الجميع .

هذا إذا خرجت من هنا .

ثم صاحت بصوت عال : قصوان .

دلف الرجل صاحب العين المنتفخة ونظر لهمسة بشراسة جعلتها ترتجف رعباً .

أشارت إليه فانقض عليها وقيدها بالحبال وساقها حيث المجهول .

ظل يسوقها إلى الأسفل وهبطوا درجاً ضيقاً حتى وصلوا لغرفة تحت الأرض ، صرخت الفتاة بفزع حينما علمت أنه ليس إلا قبراً ، فتح الباب ودفعها في قسوة جعلها تترنح ثم تسقط بالداخل ، أغلق الباب وذهب إلى حال سبيله ، بينما همسة كانت تنتفض كطير جريح ، الظلام هنا خانق والرائحة فظيعة .، تحسست الرمال من اسقلها ثم نهضت وهي تنتفض وقد تحجرت الدموع في عينيها.

– مرحبا بك .

ما إن سمعت هذا الحديث حتى صرخت صراخاً لا نهاية له ، ولكن أصوات أخرى جعلتها تهدأ ولو قليلاً حينما سمعت من يقول : لا تخافي نحن مساجين مثلك .

تحدثت بصوت قد فارق الحياة وقالت : ماذا تقصد؟.

– لا تخافي قولي لي ما اسمك ؟.

تحدثت وسط الظلام وأجابت : همسة.

– حسناً يا همسة أنا عمك مسعود ومعي هنا تسعة أخرين فالمكان هنا واسع جداً فلا تخافي.

– ولما نحن هنا ؟.

نحن من وقفنا لظلم الساحرة وحاولنا أن نوقظ الناس من غفوتهم ، ولكن و يا للأسف الناس أنفسهم هم من قبضوا علينا بحجة اتهام ست الناس الطاهرة ، وبالاتفاق معها قاموا بحبسنا هنا ، وننتظر الحكم علينا .

– ومن تكون ست الناس تلك ؟.

– لم يحدث أن رأى أحداً وجهها من قبل .

– ولكني رأيته.

حقاً ! وكيف هيئتها ؟.

شديدة الجمال بطريقة لا تُصدق وكأنها ساحرة ، عينان واسعة زرقاء ووجه مشدود أبيض كوجوه ساحرات الأفلام .

تحدث الرجل مبهوراً وقال : نهلة.

– و من تكون نهلة تلك ؟.

– صفي لي وجهها أكثر .

– هناك علامة كجرح قديم على خدها الأيمن.

– يا الله إنها هي.

– ومن تكون ؟.

– إنها امرأة شديدة الحسن والجمال تزوجت رجلاً فقيراً منذ سنوات ، ولكن طمع بها رجلاً من قريتنا له نفوذ وعائلة وترصد بها لشهور وزوجها لا حول له ولا قوة ، وفي ليلة لم يطلع لها قمر سمعنا صراخ و وعيد من نهلة تتوعد به الكل ، حينما قُتل زوجها على يد بعض الرجال الملثمين ، وحينما دافعت عنه ضربها أحدهم في وجهها وهرب ، ومنذ ذلك اليوم هربت نهلة ولم نراها أبداً ، سمعنا عنها فقط ، هناك من قال أنها قد ماتت ، وهناك من قال أنها قد فقدت عقلها .

– و لكن كيف أصبحت ست الناس تلك ؟.

كل ما نعرفه عن ست الناس أنها امرأة قد عقدت عهود شريرة مع الشيطان وساعدت كبار القرية في التنقيب عن الأثار كل هذا كان يحدث دونما يراها أحد ، مع الوقت ذاع صيتها بعدما بدأت أحداث دامية تحدث أمام حجرتها الخشبية ، دماء كثيرة ، صراخ ، ضحكات ، لم يجرؤ أحد أن يقتحم حجرتها وقتها ، لأنها كانت في حماية كبار عائلات القرية ، مع الوقت تفننت في عمل الأعمال السفلية ، يمر الوقت وتتسع سطوتها أكثر وأكثر حتى أصبح كل من بالقرية يتجنب شرها ويقدم لها الهدايا حتى كبار عائلات القرية ، اتسع نطاق شرها أكثر وأكثر حتى أن من كان يهاجمها في مكان كان منزله يحترق في الليلة الثانية ، أصبحت كلمتها نافذة على الكبير قبل الصغير ، حتى لقبوها بست الناس ، الطاهرة ، الشريفة ، وهكذا من تلك الأسماء ، اصبح لها جنود من أهل القرية يخدمونها بأعينهم وينفذون طلباتها مهما كلفهم الأمر . وبالطبع جنود من الجن قد سخروا لها ، والأن لقد فهمت سبب مقتل السبع رجال .

– السبع رجال ؟.

نعم ، أنهم من قتلوا زوجها ، فهم رجال الحاج الذي كان يريدها لنفسه وكنا جميعاً نعلم انه من فعلها ولكننا لم نجرؤ على اتهامه ، لقد اشتعلت النيران في أحد الأيام في منزل الحاج واحترق هو وكل من كان بالمندرة وكانوا سبعة من الرجال ، كانت نيران سوداء ليس لها دخان جعلتهم كالفحم .

– ولماذا لم تنتهي بعدما أخذت بالثأر ؟.

– الانتقام ينتهي حينما نأخذ بالثأر ، ولكن على ما يبدو أنها قد خشيت أن يطمع فيها أهل القرية ثانية وهي في مركز قوة لذلك قررت أن تكمل الأمر ، كما أنه من يعقد مثل تلك العهود الشيطانية لا يمكنه التراجع أبداً .

– ماذا سيفعلون بنا إذا ؟.

تحدثت فتاة في الظلام ولأول مرة وقالت :

لقد سمعتهم بالخارج يقولون أننا سنكون اللحوم التي ستقدم للناس في مولد ست الناس الذي سُيقام غداً . – يعني أنهم سيذبحوننا ويطعموننا لأهل القرية .

اقشعر جسد كل من كان بالقبو ، وهنا سمع الجميع صوت الباب وهو يفتح من الخارج وانتفضت القلوب بعنف ، كل القلوب.

انفتح الباب بهدوء وكأن من يدفعه يتعمد إثارة فزع الكل ، تسلل شعاع من الضوء على استحياء إلى الغرفة فظهر ظل صغير يقف في ثبات ، انتفضت الأفئدة في رعب وظلت الأعين واجمة تحملق في الواقف هناك ، الكل يتخيل أسوأ السيناريوهات ، الكل يتخيل نفسه وقد أصبح قطعاً مشوية من اللحم يلوكها أهل القرية في تلذذ ، تحدث الواقف بصوت خفيض وقال : همسة هل أنتِ هنا ؟.

صاحت همسة بكل فرح الدنيا : ” آسر أهذا أنت ؟.

– نعم إنه أنا ، لم تتمهل أو تتروى وانطلقت راكضة نحو الباب الصغير واحتضنت أخيها بكل ما تملك من قوة ، نظرت إليه بكل لهفة وكأنها في حلم .

– كيف جئت إلى هنا يا صغير ؟.

– ليس هذا بالوقت المناسب ، هكذا قالها عم مسعود وهو يندفع ومن معه إلى الخارج ، لم تكتمل لحظة السعادة حينما انفتح باب أخر من الجهة المقابلة واشتعل الضوء في المكان وظهر عشرة من الرجال ينظرون لما يحدث بكل غضب ، ومن الجانب الأخر وما إن توارت همسة وأخيها في النفق المجاور حتى ظهر ذو الأعين المنتفخة وهو يحمل خنجر ذو بريق أخاذ و وقف أمام الباب ليمنعهم من الخروج ، ثم وبكل عنف أغلق الباب ، وقفت همسة على بعد خطوتين من المسخ في النفق المجاور واضعة يدها على فمها والأخرى على قلبها لعلها تخفف من صوت ضربات قلبها الفاضح ، نظر المسخ نحو اليمين واليسار وتبقت له خطوة واحدة ليراهما ، ولكنه انطلق إلى الناحية الأخرى ، ما إن غاب عن الأعين حتى ركضت همسة وأخيها ليخرجوا من المكان كله ، انطلقوا بين الممرات حتى وصلوا لباب خشبي عتيق ، ضربته همسة مرة ثم ثانية وثالثة حتى انفتح لتجد نفسها في حفرة صغيرة ، حملت أخيها وأخرجته من الحفرة ثم تعلقت بحافتها وخرجت منها وانطلقت على الفور لتبتعد عن هذا المكان المشئوم .

في صالة المنزل كان الأبوين يجلسان فاغري الفاه في ذهول بعدما انتهت همسة من سرد ما حدث لها ، لم يعقبا ولو بكلمة ، فتابع آسر وقال :

– لقد دلفت إلى عيدان الذرة وشعرت بالكثير من حولي ، سمعت صوت همسة كثيراً ولكني خشيت الرد ، اقتربت منها ولمست قدميها بهدوء ولكنها فزعت وركضت بعيداً ، تابعتها في حذر فرأيتهم يقبضون عليها ، ظللت أسير من خلفهم وسط الظلام حتى رأيتهم يدخلون بها إلى غرفة خشبية ، انتظرت ساعة كاملة ثم دلفت من النافذة المحطمة وهبطت الدرج وظللت أبحث في كل مكان حتى فتحت باب حديدي فوجدتها ، احتضنته همسة وأجهشت بالبكاء ومن وسط دموعها قالت :

– و نعم الرجال أنت يا صغير ، ثمانية أعوام ولكنك بشجاعة رجل في الأربعين.

تابعت حديثها : ماذا سنفعل ؟ ربما يقتحمون منزلنا قريباً.

تحدثت الأم سريعاً : سنهرب من البلدة بأكملها ولن نعود مرةً أخرى .

– ماذا عن الأسرى ؟ ستقتلهم الساحرة.

– لا شأن لنا بهم يكفينا ما حدث .

– لا يصح أن نتركهم يموتون دون أن نفعل أي شيء.

ساد الصمت المكان بأكمله وبدأ الأب يشرد بعينيه بعيداً عن المكان ثم نهض فجأة وأمسك هاتفه واتصل بالسائق وطلب منه الحضور على وجه السرعة وأن يبلغ الشرطة بإمر طارئ ، ثم انطلق ناحية الخزانة وأخرج منها سلاحاً نارياً ، شهقت الأم حينما رأته كذلك ، ولكنه نظر لها نظرة حازمة منعتها من أي كلمة ، تحدث إليهم بعبارات سريعة وقال :

– اغلقوا الباب جيداً ولا تفتحوا الباب لأي مخلوق سوى السائق أو أنا ، إذا جاء السائق قبل أن أعود ارحلوا على الفور ، فهمتم على الفور .

وبدون مقدمات انطلق نحو الخارج وهو يسحب همسة ثم أغلق الباب بالمفتاح من الخارج وسط صيحات الأم الملتاعة .

ركضوا بين أعواد الذرة في سرعة شديدة وتحدث الأب من بين لهاثه وقال : سترشدينني للمكان وترحلين على الفور وتعودي للبيت.

– وأنت ماذا ستفعل ؟.

– سأحاول أن أخرج هؤلاء الناس فقد تربينا منذ نعومة أظافرنا على مساعدة المحتاج حتى لو كلفنا هذا حياتنا ولن أتخلى عن مبادئي اليوم ، ولكن عاهديني أن تعودي ولا تفتحوا الباب لأي مخلوق فالمكان بالخارج غير آمن لنا.

أومأت برأسها أن نعم ، في تلك اللحظة أخرجت يديها من بين أعواد الذرة وأشارت حيث الغرفة الخشبية ، أخذ والدها نفساً عميقاً وأشار لها لتتراجع بينما تقدم هو .

ناقصات عقل ، لم يقلل هذا الحديث من المرأة إطلاقا  بل زادها تشريفا لأن عاطفة القلب تفوز على رجاحة العقل ، لذلك لم تعين قاضياً لأنها إنسان حساس يفكر بقلبه قبل عقله ، ولذلك أخلفت همسة بوعدها وتابعت والدها دون أن يشعر بها فهي لن تقبل مطلقاً أن تتركه ولو كلفها الأمر حياتها ، إنها عاطفة الأنثى التي حيرت الكل ، وكانت المواجهة الأخيرة .

خرجت تتسلل من بين أعواد الذرة وجلة ، اقتربت من الغرفة الخشبية وكان الصمت سيد الموقف ، اقتربت من النافذة المحطمة وتسللت منها بحذر حتى وقفت داخلها في قلب الظلام ، بدأ شعور أن أحدهم معها يجثم على أنفاسها ، الهواء بالغرفة قد أصبح ثقيلاً وكأنه يرفض التحرك ، شعرت بأطياف تهيم من حولها ذهاباً وإياباً ، انكمشت فوق نفسها وهي ترتجف كطائر قد فقد جناحيه ، سمعت صوت جلبة بالأسفل وصياح ، فزعت إلى الدرج وهبطت كالصاروخ ونظرت من بين الأنفاق فإذا بأبيها مقيد بين يدي رجلين وذو العين المنتفخة ينظر له بغل ، انفطر قلبها من هول ما ترى وقررت التضحية ، ولكن لن تضيع تلك التضحية هباءً ، كادت أن تندفع نحوهم ولكنها لمحت السلاح ملقى أرضاً على ضوء الممرات الضعيف ، شعرت بالأمل يتمثل لها من جديد ويلوح لها ، زحفت أرضاً مقتربة من السلاح بينما ذو الأعين يكيل اللكمات للأب في وجهه ، التقطت السلاح بكل هدوء ثم صاحت فيهم : ابتعدوا وإلا قتلتكم جميعاً.

نظروا لها بتعجب وكان الأب هو أكثرهم تعجباً ،

نظر ذو الأعين نحو السلاح وابتسم ، بدأ يقترب منها وهي تنتفض ، هل تضغط على الزناد ؟.

أنها أضعف من أن تفعل هذا ، ولكن سيكون ثمن الضعف غالياً ، حياتها وحياة أبيها ، ذو الأعين يقترب بخبث وكأنه يدرك ضعفها ، صاح فيها أبيها  : اضغطي على الزناد يا همسة .

ارتجف أصبعها السبابة وانتفض مرات ولكنها في النهاية ضغطت ولكن لم يحدث شيئاً ، شعرت بالفزع المطلق وهي تنظر لذو الأعين المبتسم . صاح فيها أبيها : اهربي .

ولكن قدميها قد خذلتها ، اصبح على بعد خطوة واحدة منها ، سمعت صيحة تقول : زر الأمان .

– أي زر أمان هذا ؟ ،  نظرت لذو الأعين وكان هي الثانية الفارقة في حياتها ، تحسست السلاح كالبرق بعدما اندفع الأدرينالين في دمها فاكتسبت قوة وشجاعة ، شعرت به وتذكرت رؤية مكانه في أحد الأفلام ، ضغطت عليه واطلقت الرصاصة في نفس اللحظة التي انقض فيها ذو الأعين ، كان القدر رحيماً فقد انطلقت الرصاصة ، رصاصة الرحمة ، اقتلعت الرصاصة الرجل من مكانه وألقته أرضاً ، تدفقت الدماء الحارة من كتفه بغزارة ، اشتعلت عينيها ببريق الدماء والغضب وصوبت السلاح نحو الأخرون ، صاحت بصوت متهدج : اتركوه وإلا ستموتون.

ابتعدوا سريعاً وتقدم أبيها نحوها وأخذ منها السلاح ، ما إن تلقفه منها حتى انهارت باكية ، ربت على كتفها وصوب السلاح نحوهم ، في تلك اللحظة صدرت أصوات غاضبة من كل مكان ، أصوات صراخ قادم من قلب الجحيم المستعر ، انتفضت همسة أكثر وأكثر وتمسكت بأبيها الذي صاح فيهم بغضب : افتحوا باب القبو وأخرجوا من بالداخل وإلا ستموتون حالاً .

هرعوا إلى تنفيذ أوامره ، انفتح باب القبو وخرج عم مسعود ومن معه يركضون غير مصدقين لفكاك أسرهم ، وفجأة أهتز المكان بأكمله ، ومن قلب الجدران خرجت تلك الأطياف السوداء ، انتاب الفزع كل من كان بالمكان وركضوا بلا هدف يتخبطون ويتساقطون كالذباب ، ضرب المنزل في تلك اللحظة زلزال عاتاً جعلهم يسقطون لعشرات المرات ، صرخت همسة لتدلهم على الطريق ، ومن خلفهم ارتفعت صيحات ست الكل ” لا تتركوهم يهربون وإلا سأقتلكم بنفسي ، اطلق الأب عدة رصاصات عشوائية نحو الرجال الذين خرجوا من كل مكان ، الزلزال لا زال يضرب البيت حتى وصلوا للباب الخشبي المحطم فخرجوا منه جميعاً يهرولون لعلهم يفرون من الموت .

خرجوا من المكان بأكمله يهرعون خلف همسة وأبيها ، ومن قلب أعواد الذرة خرجت أياد من الجحيم تحاول أن تقبض عليهم ، صيحاتهم المستنجدة بالله جعلتهم يتخطون أعواد الذرة بمعجزة حتى وصلوا إلى بيت همسة ، دعاهم الأب للدخول ودلف الجميع وأغلقوا الأبواب .

وقف الجميع في صالة المنزل غير مصدقين أنهم نجوا من الموت ، ولكنهم كانوا قد تسرعوا في الحكم ، فما إن مرت ساعة حتى سمعوا صياحاً وهتافاً ، نظروا من النوافذ فإذا بالمئات من أهالي البلدة يحملون المشاعل يتقدمون ناحية المنزل ، عم الهلع أرجاء المكان ومشاعل النيران تقترب وارتفعت الأيادي لتلقي بالمشاعل ونطق الشهادة كل من كان بالمنزل ، توقف الزمن تماماً بالنسبة للكل وجلسوا ينتظرون الموت المحقق ، جاءت العناية الإلهية على هيئة أبواق سيارات الشرطة ، تنفس الجميع الصعداء وركضوا نحو عربات الشرطة ،

في الصباح كان المتاع كله محملاً على العربة وتستعد همسة وأهلها لمغادرة القرية تحت حراسة رجال الأمن ، وكان قد غادر كل من كان معهم القرية أيضاً ، تحدث الوالد للضابط وقال :

هذا كل ما حدث يا سيدي ، وحينما تقبض على ست الناس تلك ستتأكد من حديثي.

– يا سيدي أنت لا تعرف ، ستدخل القوات في ملحمة إذا اقتربت منها ، الناس هنا يبذلون أرواحهم لأجلها ، العدو الأول لنا هنا هو الجهل قبل أن يكون متمثلاً في تلك المرأة ، الناس مستعدون لقتلنا كلنا لأجلها ، نصيحتي لك غادر ولا ترجع إلى هنا أبداً.

نظرت همسة من نافذة السيارة فوقعت عينيها على ضريح كبير يطوف حوله العشرات وهم يهتفون

” نحن فداك يا ست الكل ، ارضي عنا يا ست الكل”.

اتسعت عينيها ذهولا حينما رأت ست الناس ملتفة بالسواد وتقف فوق الضريح وتنظر لهمسة ، ومن حولها ترتفع الأصوات ” نحن فداك يا ست الكل “

، تحدثت همسة لنفسها وقالت : لن تموت ست الكل إلا حينما يموت الجهل.

واستمرت السيارة تشق طريقها في هدوء .

النهاية……..

 

تاريخ النشر : 2018-11-01

guest
19 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى