ألغاز تاريخية

بحر الظلمات و جنة الفايكنغ المفقودة

بقلم : اياد العطار

بحر الظلمات هو الاسم العربي للمحيط الاطلسي في العصور الوسطى , هذا المحيط الذي كان لغزا مجهولا بالنسبة للقدماء حيث كانوا يعتقدون ان نهاية العالم تقع خلفه و دارت الكثير من القصص الاسطورية حول اسراره و مخلوقاته العجيبة , حتى جاء كريستوفر كولمبوس عام 1492 ليكشف للعالم عن وجود قارة و حضارة عظيمة خلف هذا المحيط , لكن هل كان كولمبوس حقا هو الشخص الاول الذي تطأ قدمه ارض القارة الجديدة ؟ هذا هو السؤال الذي سنحاول الاجابة عنه في هذا المقال.

هل كان العرب هم المكتشفين الحقيقيين لقارة امريكا ؟

بحر الظلمات و جنة الفايكنغ المفقودة

صورة لأحدى سفن الفايكنغ القديمة و هي تمخر عباب البحر و على متنها كان يقف مقاتلوا الفايكنغ مع فؤسهم الحربية الضخمة يجوبون العالم بحثا عن المال و الاراضي الجديدة

20 ايار / مايو عام 1506 , في احد القصور الفخمة في مدينة بلد الوليد (Valladolid ) الاسبانية, تمدد رجل خمسيني على احد الاسرة و هو يحدق بعينيه المرهقتين الى السماء الزرقاء المطلة من احدى النوافذ الصغيرة العربية الطراز , كان كريستوفر كولمبوس يعاني سكرات الموت بسبب قلبه المريض , و في تلك اللحظات الاخيرة و الحرجة من حياته يبدو من المستحيل ان نجزم بما كان يدور في رأسه , الا ان انجازه التاريخي الكبير لم يكن غائبا عن باله حتما , فرغم ان الرجل و حتى الرمق الاخير من حياته كان يظن بأنه قد اكتشف الساحل الغربي للهند , لكنه مع هذا يبقى رسميا المكتشف الاول للقارة الامريكية , و ستظل هذه المعلومة التاريخية تدرس للطلاب الصغار في ارجاء العالم و لمئات السنين , الا انه و منذ منتصف القرن المنصرم , و مع ولع الناس المتزايد بقصص ما وراء الطبيعة , كالصحون الطائرة و قارة اطلانطس و الغرائب الموجودة في بعض الحضارات القديمة , اخذ بعض الباحثين يتحدثون عن اناس سبقوا كريستوفر كولمبوس بمئات و الاف السنين في اكتشافهم لأمريكا , و راجت الكتب و المقالات التي تتحدث عن سفن فرعونية و سومرية و فينيقية و رومانية حطت رحالها في امريكا , و ان حضارات امريكا الجنوبية و الوسطى ما هي الا امتداد لحضارات العالم القديم , الا ان هذه الكتابات تظل مجرد حبر على ورق بسبب صعوبة اثباتها , فبعيدا عن قصص الصحون الطائرة و المخلوقات الفضائية و الحضارات المتطورة البائدة , يبقى ادعاء هؤلاء الباحثين يفتقد الدليل التاريخي و العلمي القاطع , و قد حاول بعض اصحاب هذه النظريات الاستناد في ادعائهم الى بعض القطع الاثرية التي وجدت في امريكا و التي تحمل سمات حضارات العالم القديم , الا ان علماء الاثار يؤكدون ان اغلب هذه القطع مزورة , و هناك ايضا من يحاول الربط بين بعض اوجه الشبه بين الحضارات الامريكية و حضارات العالم القديم , كتلك التي يمكن ملاحظتها بين المعابد المدرجة لحضارات المايا و الانكا و الازتك و بين الاهرام الفرعونية و الزقورات السومرية و المعابد الهندوسية القديمة , الا ان هذا التشابه لا يمكن ان يكون دليلا على وجود اتصال بين هذه الحضارات ,  كما انه تشابه غير متكامل و هناك اختلافات جوهرية بين كل من هذه المعالم على حدة , كما ان حضارة الهنود الحمر تختلف في بعض الامور التي كانت تعتبر اساسية و بديهية في حضارات العالم القديم , فمثلا الهنود الحمر لم يعرفوا الخيول حتى ادخلها الاسبان معهم في القرن السادس عشر , كما انهم لم يعرفوا الدواليب و العجلات.
يبقى ان نذكر بأن العلماء لا ينكرون بشكل قاطع وجود اتصالات بين العالم القديم و الجديد , فالهنود الحمر لم يهبطوا من السماء , كما حاول اريك فون دنكن اثبات ذلك في كتابه الشهير “عربات الالهة” , و هم على الارجح ليسوا سليلي حضارة اطلانطس الاسطورية , و لكنهم حتما عبروا الى القارة الامريكية من منغوليا عن طريق الاسكا او من سكان الجزر النائية المتنقلين بقواربهم الصغيرة في المحيط الهادئ , و لعلماء التاريخ و الاجناس البشرية نظريات عديدة في هذا الموضوع لا يسعنا التطرق اليها في هذه العجالة.

بحر الظلمات

المحيط الاطلسي كان معروفا منذ القدم , عرفه الفينيقيين و الرومان و خاضوا في عبابه , و كان يعتقد في ذلك الزمان بأنه بحر لا متناهي و دارت حوله الكثير من الخرافات و الاساطير , و قد اسماه العرب ببحر الظلمات , و في سبب هذه التسمية , يقول ابن خلدون :

“ويسمى بحر الظلمات لما أنه تقل الأضواء من الأشعة المنعكسة على سطح الأرض من الشمس لبعده عن الأرض فيكون مظلماً‏ .‏.‏.‏ وهو بحر كبير غير منحصر لا تبعد فيه السفن عن مرأى العين من السواحل للجهل بسمو الرياح هنالك ولنهايتها إذ لا غاية من العمران وراءه ‏..‏.‏ وهذا مفقود في البحر الكبير لأنه منحصر ومنبعث الريح وإن كان معروفاً فيه فغايته غير معروفة لفقدان العمران وراءه فتضل السفن إذا جرت به وتذهب فتهلك‏.‏ “

و طبقا لما كتبه ابن خلدون , فأن السفن كانت تتحاشى التوغل داخل المحيط و كانت تبحر بمحاذاة الساحل لجهلها بمسالكه و لأعتقاد الناس آنذاك بأن لا شيء خلفه و انه نهاية العالم , و تدل بعض الكتب و الوثائق التاريخية على ان العرب كانوا على معرفة بالمحيط و لعل خارطة العالم العربي الشهير (ابو عبد الله محمد الادريسي) هي خير دليل على ذلك , فقد قام الادريسي برسم خارطته الشهيرة عام 1154 على كرة من الفضة عندما كان يعمل مستشارا في بلاط ملك صقلية جورج الثاني , في شكل هو اشبه ما يكون بمجسمات الكرة الارضية العصرية الموجودة في المدارس , و في خارطته تلك يظهر الادريسي جزء من القسم الشمالي للمحيط الاطلسي حيث تظهر جليا انكلترا و اسكتلندا و ايرلندا و جزر اخرى متناثرة حولهما , و في كتابه (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) هناك فقرات اثارت اهتمام الباحثين حول مدى معرفة العرب بمجاهل المحيط الاطلسي او بحر الظلمات كما كانوا يسموه , حيث كتب الادريسي عن بعثة بحرية عربية ابحرت داخل الاطلسي و وصلت الى جزيرة سكانها بشرتهم حمراء و اجسادهم لا ينبت عليها الشعر (صفة الهنود الحمر).

و في كتاب اخر يدعى (صفة جزيرة الاندلس) لأبو عبد الله محمد الحميري يذكر الفقرة التالية :

“و من مدينة الأشبونة (لشبونة الاسبانية) كان خروج المغرورين في ركوب بحر الظلمات ليعرفوا ما فيه و الى اين انتهاؤه , و لهم بأشبونة موضع بقرب الحمة منسوب اليهم يعرف بدرب المغرورين , و ذلك ان ثمانية رجال , كلهم ابناء عم , اجتمعوا فأبتغوا مركبا و ادخلوا فيه من الماء و الزاد ما يكفيهم لأشهر , ثم دخلوا البحر في اول طاروس الريح الشرقية , فجروا بها نحوا من احدى عشر يوما , فوصلوا الى بحر غليظ الموج , كدر الروائح , كثير التروش , قليل الضوء , فأيقنوا بالتلف , فردوا قلعهم في اليد الاخرى و جروا في البحر في ناحية اثنا عشر يوما , فخرجوا”.

و هذه الفقرة , على الرغم من انها توثق لمحاولة اكتشاف فاشلة , الا انها دليل قاطع على محاولات العرب لأكتشاف المحيط الاطلسي و ربما يكون ما ذكره المؤرخ المسعودي (871) في كتابه مروج الذهب هو اشهر ما كتب في هذا الصدد , حيث يورد بعض الاشارات المقتضبة عن بعض المغامرين المسلمين ممن تحدوا اسطورة المحيط و ابحروا بسفنهم في مياهه لأكتشاف اغواره و اسراره  , و يبدو ان بعضهم قد نجا من الضياع و الغرق في امواج المحيط الشاسع و عاد ليروي للناس قصصا عن اراض نائية تزخر بالثروات , و احد هؤلاء الذين ذكرهم المسعودي بالاسم هو خشخاش بن سعيد بن اسود من مدينة قرطبة , حيث ابحر في المحيط مع بعض الشباب المغامر و عاد بعد فترة من الزمن محملا بالذهب و الكنوز , أي كما حصل بالضبط مع الاسبان بعد حوالي ستمائة عام , و هو الامر الذي حدا بالبعض من المؤرخين الى الاعتقاد بأن كولمبوس استعان ببعض الخرائط العربية القديمة لعبور المحيط الاطلسي و الوصول الى امريكا , فقبل ابحار كولمبوس بنحو بسبعة اشهر , أي في 2 كانون الثاني / يناير عام 1492 , سقطت غرناطة اخر المدن العربية الاسلامية في الاندلس و سقطت بأيدي الاسبان معها الكثير من المخطوطات و الكتب العربية التي احتوت على مواضيع في مختلف مجالات العلوم.

ارض الخمور .. جنة الفايكنغ المفقودة

بحر الظلمات و جنة الفايكنغ المفقودة

الى الاعلى صورة لخارطة العالم الجغرافي العربي الادريسي و قد اثارت لقرون طويلة ذهول العلماء حول مدى دقتها و قربها من الخرائط الحقيقية التي التقطت صورها الاقمار الصناعية من الفضاء , و الى الاسفل صورة لمستعمرة الفايكنغ في جزيرة نيوفاوندلاند الكندية

الفايكنغ هم قبائل بربرية عاشت في شمال اوربا و تركز وجودهم في ما يعرف اليوم بالدول الاسكندينافية , و قد اشتهروا بمراكبهم البحرية الطويلة و بمقاتليهم الاشداء الذين بثوا الرعب و الخراب في ارجاء اوربا منذ مطلع القرن التاسع للميلاد , و كلمة فايكنغ (Viking ) تعني ” القرصان” في بعض اللغات الاوربية , فقد كانوا بحارة ماهرين جابت سفنهم البحار و المحيطات من اجل المتاجرة مع مختلف الامم الشعوب , فوصلوا حتى البحر المتوسط و شمال افريقيا , و كانوا يتاجرون بالبضائع و العبيد , و قد عرفهم العرب و اسموهم بـ (الرس) , و كتب عنهم ابن فضلان في رحلته الشهيرة الى بلاد الصقالبة , حيث ارسله الخليفة العباسي المقتدر بالله في بعثة دينية الى ملك البلغار , و يعد كتاب ابن فضلان واحدا من افضل المصادر التاريخية الذي يعتمدها الباحثون الاوربيون عن الفايكنغ و شعوب شمال اوربا (راجع رحلة ابن فضلان) , و كذلك كتب عنهم الرحالة و الجغرافي الفارسي ابن رسته في القرن العاشر للميلاد.
والفايكنغ هم اول من اكتشف البحار الشمالية و قد شيدوا مستعمراتهم في ايسلندا و جرينلاند منذ مطلع القرن العاشر للميلاد , و رغم ان الفايكنغ لم يتركوا أي كتب او وثائق تؤرخ لرحلاتهم الاستكشافية تلك , الا ان بعض المؤرخين الاوربيين كتبوا عن تلك الرحلات و عن الصدفة التي كانت وراء اغلب هذه الاكتشافات , حيث جنحت بعض السفن عن مسارها بسبب العواصف لتجد نفسها بعد عدة ايام امام شواطيء جديدة , فنزلوا اليها و اقاموا مستعمراتهم فيها بالتدريج , و قد ثبت لعلماء الاثار و التاريخ صحت ما ذكره المؤرخون , حيث تم اكتشاف بقايا مستعمرات الفايكنغ في تلك الاصقاع , الا ان العلماء لم يستطيعوا معرفة و تحديد منطقة اخرى سمتها الوثائق القديمة بفينلاند (Vinland ) او (Wine land ) و معناها ارض الخمور , حيث ذكرت المخطوطات القديمة ان شجيرات العنب كانت تنمو من تلقاء نفسها في تلك الارض الخصبة فيصنع منها افضل انواع الخمور و اجودها , و حول اكتشافها , روت احدى الوثائق (Saga of the Greenlanders ) بأن احد رجال الفايكنغ كان مبحرا من ايسلندا الى جرينلاند لزيارة والده , فداهمت سفينته عاصفة هوجاء قذفت بها بعيدا عن مسار الرحلة , و بعد عدة ايام وجد الفايكنغ انفسهم امام ارض جديدة مغطاة بالغابات الكثيفة الخضراء , لكنهم لم ينزلوا الى الشاطئ لأنهم كانوا على عجلة من امرهم للعودة الى جرينلاند قبل حلول فصل الشتاء , الا ان قصتهم هذه اثارت فضول الناس و جعلت الكثيرون يتشوقون للوصول الى تلك الاراضي الخضراء , خاصة و ان جرينلاند كانت تقريبا ارض جرداء يصعب الحصول على الخشب فيها , لذلك قام احد البحارة المغامرين و اسمه ليف اريكسون (Leif Ericson ) بالأبحار للبحث عن تلك الارض الجديدة في حدود عام 1003 للميلاد , و قد وصلها فعلا و اقام فيها مستعمرة صغيرة و حاول اقناع المزيد من الفايكنغ للقدوم اليها , لكن محاولاته باءت بالفشل و لم تدم المستعمرة سوى لسنوات قليلة و ذلك لأسباب عدة , منها بعد المستعمرة عن المركز الرئيسي للفايكنغ في جرينلاند و كذلك قلة عدد النساء في المستعمرة حيث نشب نزاع بين الرجال حولهن , و ايضا بسبب هجمات سكان الارض الاصليين من الهنود الحمر و الذين اسماهم الفايكنغ (Skræling ) أي البرابرة , لذلك سرعان ما هجر الفايكنغ المستعمرة و عادوا ادراجهم الى جرينلاند.
لسنوات طويلة كان الباحثون يظنون ان فينلاند هي مجرد اسطورة و قصة خيالية من العصور الوسطى , لكن في عام 1960 , تمكن علماء الاثار من اكتشاف بقايا مستعمرة للفايكنغ في جزيرة نيوفاوندلاند الكندية (Newfoundland ) , و هذه المستعمرة تتكون من عدة اكواخ صغيرة استخرج العلماء منها مئات القطع الاثرية التي تدل بشكل قاطع على ان ساكنوا هذه الاكواخ كانوا من الفايكنغ , و قد ادرجت اليونسكو المستعمرة المسماة (L’Anse aux Meadows ) كجزء من التراث العالمي , و حولتها السلطات الكندية الى متحف بعد ان اعادت ترميم الاكواخ و تأثيثها.
و رغم اكتشاف هذه المستعمرة الا البعض يعتقد انها لم تكن سوى مخيم مؤقت و ان المستعمرة الحقيقية تقع الى الجنوب من الجزيرة , بل ان البعض يذهب ابعد من ذلك و يدعي بأنها كانت تقع على سواحل الولايات المتحدة الامريكية , و ايا كان موقع فينلاند الحقيقية فأن المستعمرة المكتشفة في شمال جزيرة نيوفاوندلاند تؤكد بما لا يقبل الشك ان الفايكنغ قد سبقوا كريستوفر كولمبوس و الاسبان بقرابة الخمسمائة عام في اكتشاف القارة الامريكية , و يبدو ان السبب الرئيسي لفشل الفايكنغ في الاستيطان و البقاء في امريكا يعود الى الاحتكاك مع سكان القارة الاصليين أي الهنود الحمر , حيث ان الفايكنغ لم يكونوا يملكون في ذلك الزمان الاسلحة النارية التي مكنت الاسبان فيما بعد من هزيمة الهنود الحمر و استعمار القارة.

هذه القصة نشرت لأول مرة بالعربية في موقع مملكة الخوف بتاريخ 26 /04 /2009

guest
38 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى